وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (7) تحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض جوانب تعامل أهل السنة ...

وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (7)


تحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض جوانب تعامل أهل السنة والجماعة مع قضية ظهور المهدي، من حيث إثبات أئمة أهل السنة لهذه القضية، قبولا للخبر الوارد بذلك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتصحيحهم لبعض الأحاديث في هذا الشأن، وبيان أنه في عقيدة أهل السنة يخرج في آخر الزمان، وأنه غير عيسى ابن مريم، عليه السلام.

ومن يراجع مواقف أئمة السنة من هذه القضية يجد أنها لم تأخذ حيزا كبيرا من كلامهم، ويلحظ فقرا في التصنيف في هذا الباب مما وصل إلينا من كتبهم، بل إننا لا نجازف إن قلنا أن حجم اهتمامهم بهذه القضية لا يتعدى تبليغ ما ورد من العلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأديةً للأمانة، والتحقق من صحة ادعاءات من زعم أنه المهدي، من خلال مطابقة صفاته الشخصية، وصفة ظهوره، والحال التي يخرج فيها مع ما ورد في ذلك من أخبار صحيحة، وكذلك أداء واجب في الرد على بعض من ضلَّ في هذا الباب، خاصة أن هذه القضية لا ينبني عليها عمل إلا بعد تحقق الأخبار الواردة فيها.

أما إذا خرجنا من دائرة أهل العلم هؤلاء وأتباعهم، فإننا نجد عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام اهتماما كبيرا بقضية خروج المهدي، يبلغ عند بعضهم حد الهوس، وصارت عند بعضهم من أصول الدين التي تنبني عليها أحكام مبتدَعة يلتزمونها، وهي الأساس في قيام بعض الطوائف الخارجة عن الإسلام بالكلية.

ومن يراجع التاريخ يرى عجبا، من التأثير الذي لعبته هذه القضية في مختلف جوانب حياة الناس، الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فما من زمن خلا من دَعِيٍّ يزعم أنه المهدي، يجتمع حوله طائفة من الأتباع، يستقل بهم عن الناس، بل سجلت كتب التاريخ وجود عدد من أدعياء المهدوية متزامنين أحيانا في الوقت، بل ومتجاورين أحيانا في المكان، وربما تصارعا على حيازة هذا اللقب المزعوم، وتقاتل أتباع كل منهما ليحقق كل فريق الغلبة لمن بايعه مهديا.
ولعل الله أن ييسر لنا -سبحانه- تفسير هذا الافتتان من الناس بأدعياء المهدوية على مَرِّ التاريخ، وشغف كثير من الناس لتصديق أي مدَّعٍ لهذه الصفة، رغبة منهم في تحقيق هذه النبوءة، ودخولهم فيما تضمَّنته من مبشرات، أكثر من كونها تعصُّبا للأدعياء في بعض الأحيان، معتمدين في ذلك على ما ورد في الأخبار التي تعلَّق بها الناس.


• الظروف المصاحبة لظهوره:

إن الظلم والجور مكروهان إلى النفوس، وخاصة إذا وجد الإنسان في نفسه عجزا عن رفعهما، لأن لا طاقة له بمن سلَّط الظلم عليه أو على قومه، ولذلك فإن النفوس التي تميل إلى الإيمان بالخالق القادر على كل شيء -جل جلاله- تترقب منه النصر على الظالمين، وبما أن من أخبار المهدي، أنه (... يخرج رجل من عِترتي فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا) [رواه أحمد]، فإن الناس في كل العصور، كلما وقع عليهم ما يرونه ظلما لم يقع على أحد قبلهم فإنهم كانوا يتمنَّون خروج المهدي ليرفع الله به هذا الظلم، بل يترقبون ذلك، اعتمادا على التلازم بين فُشُوِّ الظلم، وإخراج الله -تعالى- له.


• صفة حُكْمه:

وبما أن هذا الرجل المهدي يترقبه الناس ليرفع الظلم، فلا يُتصور منه أن يحكم هو بالظلم بعد أن يرفعه الله به، بل سيكون حكمه موافقا لمنهاج النبوة الذي لا يرضى المسلمون بغيره، ويكون حكمه قويا بحيث يمكِّنه الله من بسط حكم الإسلام في الأرض، فإنه (يعمل في الناس بسنة نبيهم، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض) [رواه أبو داود]، ويعين الله -تعالى- هذا الحاكم بما أنزل الله على أن (يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما مُلئت جورا وظلما) [رواه أبو داود]، ويؤتي دولته من الغنى ما لم ير مثله، (فتَنعَم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط، تؤتي أكلها، ولا تدَّخر منه شيئا، والمال يومئذ كدوس) [رواه ابن ماجه]، ويزيد من بركة غنى دولته أنه جواد على الناس، يعطيهم مما أعطاه الله عطاء بغير عدٍّ، (فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني، أعطني، فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله) [رواه الترمذي].

ولا غرابة في أن كل إنسان سَوِيٍّ تطمح نفسه إلى رؤية العدل منتشرا في الأرض التي يسودها الإسلام، وتحكم بسنة خير الأنام، فلا يكون فيها خوف من ظلم، ولا فقر من مال.


• صفاته الشخصية:

وبالإضافة لما ذكرته الأخبار عن صفة حكمه، فإن من صفاته الشخصية ما يدفع طوائف من الناس إلى ترقب ظهوره بفارغ الصبر، لأنها تؤيد ما تعتقده هذه الطوائف في أمور مختلفة، ومن ذلك وصفه في الأخبار أنه: (من عترتي، أو من أهل بيتي) [رواه أحمد]، وهذا ما تعتمد عليه الرافضة في أصل دينها كله، وهو (عقيدة الإمامة)، التي قوامها أنه لا تصح إمامة المسلمين لغير رجل من آل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليحفظوا العدل ويقوموا بالسنة، وعندما لم يتحقق لهم هذا الأمر على مدى قرون، تمسكوا بقضية ظهور المهدي، ليبنوا على الأخبار الصحيحة فيها كمَّا كبيرا من الأكاذيب التي ينصرون بها دينهم، ويؤيدون بها بدعتهم، ويثبِّتون بها شيعتهم.
• صفة النفر الذين يبايعونه:

وكذلك فإن في الأخبار الواردة في تزكية القوم الذين يكونون معه دافعا قويا للناس، يُرغِّبهم في إدراك زمانه ليبايعوه، وينصروا الإسلام في جيشه، ومن ذلك بعض الأخبار الواردة في صفة الطائفة المنصورة، أنهم يقاتلون، وهم ظاهرون على الحق إلى يوم القيامة (فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم لبعض أمير، تكرمة الله لهذه الأمة) [رواه مسلم]، وكذلك الأخبار الواردة في نصر الله لهذا المهدي ومن معه على عدوهم، كما في الحديث: (سيعوذ بهذا البيت -يعني الكعبة- قوم ليست لهم منعة، ولا عدد ولا عدة، يُبعث إليهم جيش، حتى إذا كانوا ببيداء خُسف بهم) [رواه مسلم].


• حشد الأنصار وتثبيتهم على الدعوات:

وبناء على كل ما سبق، فقد وجدت الطوائف والفرق والأحزاب المختلفة على مدى تاريخ الإسلام في أخبار المهدي وسيلة لحشد الأنصار، وتسلية نفوسهم حين تُلمُّ بهم الملمات، ويعجزوا عن تحقيق الغايات، وتثبيتهم عند فشلهم بأن ما يطمحون إليه لا يمكن أن يتحقق إلا على يد المهدي أو في زمانه، وأنهم بثباتهم مع هذه الطائفة أو تلك سيكونون من جنود المهدي الذين يقاتلون في جيشه، فيُمكِّنهم الله في الأرض، فيحكمونها بما يرونه على منهاج النبوة، ويملؤونها قسطا وعدلا، وينالون فيها أكداسا من المال، ومن أراد بهم سوءا فإن الله يخسف به الأرض، وهذا غير منهج أهل العزمات من أتباع المرسلين.


• أهل السنة قبل ظهور المهدي:

إن أهل السنة يطيعون الله فيما أمرهم في كل وقت وحين، فهُم كما قال نبيهم، عليه الصلاة والسلام: (لا يزالون يقاتلون على الحق، ظاهرين، إلى يوم القيامة) [رواه مسلم]، مع الأئمة المسلمين، ولو كانوا من أهل الجور والفجور، وإن عُدموا الأئمة لم ينقطع جهادهم لإقامة حكم الله في الأرض، والسعي في ملئها عدلا في كل حين.
فإن أظهر الله عبده المهدي، حين مشيئته سبحانه، فإنهم يبايعونه ويطيعونه، إذا ثبت انطباق الوصف الوارد في الأخبار الصحيحة عليه، وينصرونه في دعوته للخير، ويسمعون له ويطيعون في المعروف، ويقاتلون معه أهل الشرك، حتى يفتح الله لهم، فما هو في نظرهم إلا إمام من أئمة المسلمين يجب له ما يجب لكل من ولاه الله هذه الأمانة، ومن أبى أن يعطي هذه الحقوق لإمام شرعي، بحجج غير شرعية، فإنه يُستبعد أن يقبل إعطاءها لإمام آخر، سواء كان المهدي أم غيره من الأئمة المهتدين.


• استغلال أهل الضلال لأخبار المهدي:

في حين نجد أن الكثيرين من الأفراد والطوائف قد استغلوا أخبار المهدي لينتصروا بالمتشابه منها لما يزعمون من حق، وما يدعون إليه الناس من دعاوى، فقد كان كافيا بالنسبة إليهم أن يدَّعوا أن قائد دعوتهم هو (المهدي) ليجتذبوا بذلك الأنصار إلى القتال خلف هذا الإمام المزكَّى بزعمهم، الموعود بالنصر على أعدائه، وبالتمكين في الأرض، وهذا ما نجده في كثير من الدعوات الباطلة التي ظهرت على مدى الزمان، تزعَّم كثير منها أدعياء خدعوا الناس بمزاعم كاذبة، وجروا على المسلمين الويلات، بإجرامهم، وبدعهم، وضلالهم.

وفي الوقت نفسه نجد نفرا من الناس زعم أتباع كل منهم فيه أنه المهدي، ودفعوهم بذلك إلى التصدُّر وقيادة تحركاتهم، مرغمين أحيانا، أو لصق صفة المهدوية بهم حتى وإن أنكروها، للاستفادة من ذلك في نصرة ما ينتحلون من الأفكار، وما يطلبون من أهداف.

وهو ما سنضرب عليه -بإذن الله- الأمثلة الكثيرة من التاريخ، في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - قصة شهيد: المعلم عبد الودود "رجل من أهل الخير، هادئ الطبع قليل الغضب ليس ...

الدولة الإسلامية - قصة شهيد:


المعلم عبد الودود

"رجل من أهل الخير، هادئ الطبع قليل الغضب ليس له خصومة مع أحد، صاحب مبدأ وعزيمة وإرادة قوية، يفي بالعهود ولا يُخلفها حتى في أحلك الظروف، ملتزم بقيام الليل" هكذا يصفه أقرب أصدقائه.

إنه الأخ الشهيد -كما نحسبه- المعلم عبد الودود -تقبله الله- واسمه الحقيقي "محسن"، ولد -رحمه الله- في بادية مدينة مانديرا شمال شرقي كينيا، وتربي فيها وأكمل فيها دراسته الابتدائية والثانوية وحفظ فيها كتاب الله، ثم انتقل بعدها إلى مدينة نيروبي حيث أكمل فيها دراسته الجامعية وتلقى فيها العلم الشرعي على أيدي عدد من أهل العلم هناك.

بعد ذلك بدأ -رحمه الله- مرحلة الجهاد، فخرج من كينيا مهاجرا إلى الله والتحق بصفوف المجاهدين في الصومال وتحديدا عام 1429 هـ، وفي نفس العام تخرج -رحمه الله- من معسكر "عبدي طوري" والتحق مباشرة بصفوف المجاهدين في شبيلى السفلى حتى صار أميرا للحسبة في مدينة براوى ثم أميرا للحسبة في مدينة أمبريسا وما حولها من القرى، وبعد فترة قضاها في الحسبة تحول -رحمه الله- إلى الجبهات العسكرية في نفس الإقليم، فتم تعيينه مسؤولا عن الدعوة في الكتيبة التي كان ينتمي إليها وكان ذلك في بداية العام 1430 هـ، وينقل عنه مرافقوه في تلك المرحلة أنه كان مهتما بالدعوة إلى الله فكان يلقي الكلمات في المساجد وكان يدعو الناس -حتى المارة في الشوارع- ويحرضهم على الجهاد، من عرفه منهم ومن لم يعرفه.

ثم نقل مرة أخرى إلى إقليم (بنادر)، وهناك التقى بالمهاجرين وبرزت مهارته في الترجمة، فكان يعمل مترجما بين المهاجرين والأنصار وكان متميزا في ذلك، رحمه الله، إذ إنه يجيد عدة لغات بطلاقة وهي السواحلية والعربية والإنجليزية والصومالية بقسميها "المحاتري والماي" بالإضافة إلى الأورومية، وهي اللغات التي تستعمل في المنطقة التي نشأ فيها شمال شرقي كينيا.

وفي أواخر عام 1430 هـ، اختير لِيَكون من ضمن معسكر تأهيلي للقيادات العسكرية في السرايا فالتحق بالمعسكر الذي استمر ستةَ أشهر متتالية، كان فيه من أمهر الطلاب وأسرعهم فهما واستيعابا، بل كان هو المترجم بين الطلاب والمعلمين أثناء المعسكر بالرغم من كونه طالبا، ولما رأى المعلمون القدرات والمواهب التي حبا الله بها الأخ -رحمه الله- تم اختياره ليكون من ضمن المعلمين في المعسكرات، وقد كان -رحمه الله- متميزا من بين المعلمين ومن أمهرهم، حافظا لكتاب الله عن ظهر قلب وكان يجيد استنباط الأحكام والفوائد من بين الآيات التي يقرأها خلال دروسه وكلماته، كان لينا رحيما بطلابه، حريصا على أن يفيدهم حتى أثناء قيامهم بالتدريبات العسكرية، وكان متميزا في شرحه وتدريسه محبا لعمله ولا يمل من كثرة الشرح والتكرار، يلقي المحاضرات والدروس بكل اللغات التي يعرفها، وكان تخصصه التدريس في مجالات الأمن والإدارة والقيادة وحروب العصابات بالإضافة إلى اهتمامه بالتاريخ عامة، وتاريخ بلاد المسلمين خاصة، وقد ظل -رحمه الله- في قسم المعسكرات معلما ومترجما مساعدا لغيره من المعلمين حتى التحاقه بركب الدولة الإسلامية ودخوله إلى غابات الجنوب متبرءا من التنظيمات والفصائل.
التحق -رحمه الله- بركب الخلافة رغم أنه كان يعاني من مرض الكلى، لكن نفسه أبت الجلوس بين الفصائل وهو يرى نور الخلافة قد أشرق من جديد، فعمل قبل دخوله إلى الغابات على إقناع وتحريض الناس على اللحاق بالدولة الإسلامية، وما أن تجمع الإخوة في الجنوب بعد أن نجاهم الله من مطاردات يهود الجهود حتى اختاروه أميرا عليهم، وكلفوه بقراءة البيان الذين نشر على الإنترنت باسم "بيعة ثلة من المجاهدين في الصومال".

وبعد أشهر من المطاردة والتخفي عن أعين يهود الجهاد، أراد المعلم عبد الودود اللحاق بركب إخوانه من جنود الخلافة في شرق الصومال ليشد من أزرهم ويفيدهم ويعاونهم في بناء صرح الخلافة هناك، فتسلل -رحمه الله- إلى مدينة كسمايو وسافر من مطارها متخفيا إلى مطار مقديشو لكن قدر الله أن يراه أحد عملاء يهود الجهاد العاملين في مطار كسمايو وكانت بينهم معرفة سابقة.

ولما وصل عبد الودود -رحمه الله- إلى مدينة مقديشو واختبأ في أحد المنازل، كان بينه وبين زوجته موعد ليلتقيا وكان في أشد شوقه للقاء ابنه الذي سماه "عبد الله السني"، وكان الموعد بينهما عند عصر اليوم الثاني من وصوله، لكن الأخ تأخر ولم يكن من عادته أن يخلف وعده، وعند المغرب وصل الخبر إلى زوجته أن مسلحين أطلقوا عليه النار بالقرب من سوق "بكارة" وأصابوه بطلقات في بطنه ورأسه نقل بعدها إلى أحد مستشفيات المدينة فذهبت إليه وتأكدت من جثته، رحمه الله، وسرعان ما بدأ يهود الجهاد في الصومال يبشرون بعضهم البعض بأنهم تمكنوا من اغتيال المعلم عبدالودود.

وفارق عبد الودود -تقبل الله شهادته- الدنيا وهو في الثلاثين من العمر مقبلا غير مدبر مهاجرا في سبيل الله مبايعا لأمير المؤمنين الشيخ أبي بكر الحسيني القرشي -حفظه الله- ولا يزال إخوانه مستمرين في طريقه من بعده وسيثأرون له في يوم من الأيام، بإذن الله.




• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 115
الخميس 1 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ مقال: رموز أم أوثان؟! (7) مانزال -يوما بعد يوم- نجد أهمية ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ
مقال:

رموز أم أوثان؟! (7)


مانزال -يوما بعد يوم- نجد أهمية الكلام في تحذير المسلمين من اتباع الرجال على غير هدى، وتقديم أقوالهم أو أفعالهم على كلام الله ورسوله، وهدي السلف الصالح من هذه الأمة المرحومة بإجماعهم على الحق، وذلك لأن الفتنة بالرجال هي من أكبر الفتن في هذا الزمان، بل وفي كل زمان، أودت بخلق كثير من الناس إلى الشرك بالله العظيم، ورد ما أنزله الله من العلم والهدى ليخرج به أولياءه من الظلمات إلى النور، كما قال جل شأنه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، فهم يخرجون من الظلمات باتباعهم النور الذي دعا إليه أنبياء الله، عليهم السلام، أما الذين كفروا فإنهم يُدخلون أنفسهم إلى الظلمات باتباعهم ضلالات رؤسائهم وزعمائهم والمشاهير من الرجال، الذين يتخذونهم طواغيت يعبدونهم من دون الله، بطاعتهم في المعصية، واتباعهم على غير الهدى.
وإن من أخطر ما في هذه القضية، أن أهل الضلالة يجعلون من أفعال "الرموز" الذين يقدسونهم أدلَّة على صحة ما يفعلون، وشعارهم في ذلك أن لو كان في الأمر خطأ ما فعله "الرموز"، فهم في ظنهم الأعلمُ فلا يعتريهم جهل، والأهدى فلا تسري إليهم ضلالة، والأتقى فلا يعقل فيهم اتباع للهوى، وإنهم لا تزري بهم أفعالهم، بل هم يزكون الأفعال التي يقومون بها، فيمنحونها الشرعية، ويكسبونها باقترافهم لها الحكم بالصحة، والمقياس في ذلك كله كثرة المصفقين لهؤلاء "الرموز"، والهاتفين بأسمائهم، والمسبّحين لصفاتهم وأفعالهم، والذين مخالفتهم -عند الضالين- لا تقل بحال عن مخالفة إجماع الصحابة.

فتجد هؤلاء يردُّون الحق، لا جحدا له أحيانا، ولا تكذيبا لمن جاء به، وإنما لمجرد أن في اتباعه مفارقة لما عليه "الرموز" المعظمون، ولما في الإقرار به من طعن في من خالفه من "الرموز"، وهذا الأمر سنة جارية في أهل الضلال على مدى العصور، ولعله من أشد الأمور صدا عن طاعة الله واتباع الهدى، فقد واجهه أنبياء الله -تعالى- المؤيَّدون بوحيه مع أقوامهم، {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10].

فالمشكلة الأكبر عند هؤلاء كانت في مخالفة الآباء، الذين هم "الرموز" المعظمون عندهم، وفي تلك المخالفة لهم عن ضلالهم إقرار بوقوع أولئك الآباء فيه، وطعن في دينهم، بل وحتى في عقولهم أحيانا، ولذلك فإن فِئاماً منهم كانوا مقرين بأن الحق هو غير ما كان عليه آباؤهم، ورغم ذلك أصروا على أن يبقوا على دينهم، كما في قصة الشيخ الضال أبي طالب، الذي مات وهو يردّد: "هو على ملَّة عبد المطلب"، مخافة أن يعيره أشياخ قريش بالرغوب عن تلك الملة الضالة المنحرفة.


• دين على مقاس "الرموز"

بل إننا نجد في زماننا هذا من يسكت عن بعض المنكرات، ويجهد نفسها في الدفاع عن فاعليها، وذلك كله مخافة أن يسألهم أتباعهم عن حكم من وقع فيها، فيضطرهم الأمر إلى أن يحكموا على مرتكبها بما يستحقه، أو يقعوا في التناقض بين ما يزعمون الإيمان به من الأحكام وبين تطبيقها على الأعيان، أو في التفريق -بغير علة شرعية- بين مرتكبي هذه المنكرات، كما يفعل الهالكون (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) [متفق عليه].
بل إن منهم من يشط في ضلاله بعيدا، فلا بأس عنده أن تصبح السرقة من المباحات، بل من الأعمال الصالحات، ولا بأس عنده أن يفتري في سبيل ذلك حتى على الأنبياء، عليهم السلام، فينسب إليهم ظلما فعل هذا المنكر، ليجعل لمن وقع في السرقة من "الرموز" الذين يقدسهم سلفا، ولا يستغرب أحد هذا الأمر، فقد فعلوا شرا من ذلك، إذ اتهموا -كاذبين- أحد الأنبياء، وهو يوسف ابن يعقوب -عليه السلام- بما هو أفحش من السرقة، وهو الشرك بالله، وموالاة الكافرين، ليبرروا ما فعلوه هم و"رموزهم" من شرك الديموقراطية، وموالاة الطواغيت الحاكمين بغير ما أنزل الله.

ومن فهم قولنا، أدرك حقيقة أن كثيرا من أهل الضلال اليوم يسكتون عن أعظم المنكرات، فيَوَد لو أن أحدا لا يسأل عن حكمها، أو يجهد نفسه في إعذار من فعلها بأعذار ما أنزل الله بها من سلطان، ليجعل دون "الرموز" الذين وقعوا فيها سدا وحصنا من الشروط -التي ليست في كتاب الله- لتنزيل الأحكام على أعيانهم، والموانع البدعية التي اخترعوها، ليمنعوا الحكم عليهم بما أنزل الله، وما قضية إعذار من فعل الشرك الأكبر بالجهل والتأويل والتقليد وغيرها من الأعذار -غير المعتبرة في هذا الباب- عنا ببعيد.
• طاغوت مرتد.. ولا كرامة

ولنا اليوم في النزاع الحاصل حول طاغوت الإخوان المرتدين (أحمد ياسين) خير مثال؛ فالرجل رأس من رؤوس الكفر في فلسطين، خرج من الإسلام بنواقض عديدة، ليس أقلها انتماؤه إلى طائفة كفر وردة هم الإخوان المرتدون، ودعوته إليها، بل هو رأس من رؤوسها، وقد أقر على نفسه بقبوله بكفر الديموقراطية، وبرضاه عن مشاركة أتباعه فيها، بل وبأنه يريد "دولة ديموقراطية، السلطة فيها لمن يفوز في الانتخابات"، واحترامه إرادة من "يرفض إقامة دولة إسلامية"، فمن كان على حاله، أو قال بمقاله، فهو طاغوت مرتد، ولا كرامة لمن يعلن الرضا بحكم غير حكم الله ورسوله، كائنا من كان، كما قال ابن القيم، رحمه الله:

فَإِذا دعوك لغير حكمهمَا فَلَا
سمعا لداعي الكفر والعصيان
قل: لَا كَرَامَة، لَا، وَلَا نعما، وَلَا
طَوْعاً لمن يَدْعُو إلى طغيان

ولو أن رجلا من عوام الناس نطق بمثل ذلك الكفر، لما اختُلف في تكفيره كما نرى اليوم، ولكن لكونه "رمزا" مشهورا بين الناس، وخاصة بين طائفة كبيرة العدد هم الإخوان المرتدون، فإن من يتصدى لتكفيره سيعرض نفسه لردَّة فعل كثير من الطوائف التي لا تقبل بهذا الحكم فيه.

فمنهم الجهلة الذين لا تحتمل عقولهم السفيهة أن يكون رجل قاوم اليهود لعقود من الزمان يكفر بكلمة تخرج من فمه، وهذه من خزايا أهل التجهم والإرجاء الذين يخفون عن الناس حقيقة حبوط أعمال المشركين التي هي من أهم مسائل الإيمان وثوابت الاعتقاد، هذا عدا عن موانع التكفير الأخرى التي اخترعها الأبالسة وراجت بين السفهاء، كشيب لحيته، وانعدام حركته، وطول مدة سجنه.

ومنهم أنصاره وأتباعه، الذين لن يرضوا بتكفير "رمزهم"، وسيردون على من فعله باتهامه بأنه عميل لليهود، أو أنه يضعف صف المقاومين الذين يتبعون هذا "الرمز"، أو أنه بتكفيره لهذا الطاغوت يشق صف المسلمين، أخزى الله من غضِب لأمثاله... ومنهم... ومنهم...


• ظلمات بعضها فوق بعض

والمصيبة لا تقتصر على التوقف في الطاغوت (أحمد ياسين) وأمثاله، فالساكت عنه ينبغي عليه -وبلا شك- السكوت عن كل من فعل فعله من المشركين أو شابه حاله، لأنه مضطر أن يعدل بينهم في الحكم، فلا يقبل منه بحال أن يكفِّر من يعلن رضاه بالديموقراطية من قادة الصحوات في الشام، وهو يعذر من قال بذلك من طواغيت الإخوان، ولذلك لجأ بعضهم إلى حيلة أن يثبت الحكم بالتكفير ثم يمتنع عن إطلاقه على فاعله، بأن يجترح لهم عذرا عاما يبرؤهم جميعا به من هذا الوصف الذي استحقوه.

وليس فيما نقوله افتراء عليه، بل هو السبب الغالب في كثير من الحالات المشابهة، كقولهم بإعذار طواغيت البرلمانات بالتأويل، لأن ممن اقترف هذا الكفر "رموز" كبار لا يجرؤ أئمة الضلال على تحكيم شرع الله -تعالى- فيهم، بتكفيرهم، هم وعبَّادهم، من أمثال (حسن البنا) و(مصطفى السباعي) وغيرهم، فإذا وسعنا البحث في حكم من أباح لهم ولأمثالهم هذا الكفر، أو أعلن الرضا به، أو دعا إلى إعانتهم عليه، فإن قائمة "الرموز" المرتدين ستصبح أطول، وحشد من سترعد أنوفهم لأجلهم أكبر، ولذلك لم يكن عند أئمة الضلال إلا أن يعذروا من ترشح للبرلمانات بالتأويل، ليخرجوا "الرموز" المرتدين وأولياءهم من دائرة التكفير التي أحاطت بهم.

بل امتد إعذار بعض هؤلاء للطواغيت إلى استباحة ما فعلوه من كفر وشرك، تخلصا من التناقض بين ما يعتقدونه وبين ما يحكمون به، ولا زال من يقترفون هذا المنكر يستدلُّون على صحة فعلهم بفعل أسلافهم من "الرموز" الذين اتخذوهم جُنَّة يتصدون بها لإنكار كل منكِر عليهم، ممن ترعبه أسماء "الرموز"، ويحسب ألف حساب قبل أن يقول فيهم كلمة تسخط أتباعهم، وإن كانت من رضا رب العالمين.

إن المسلم الحق يجعل نصب عينيه قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فلا يجد في نفسه حرجا من الحكم على الناس بما حكم الله -تعالى- فيهم، وإن خالف هواه، فإنه يسلِّم لحكم الله -تعالى- لا لحكم هواه، ليكون على مراد الله لا على مراد نفسه.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 115
الخميس 1 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً