أدرك وقتك يا مسلم الحمد لله مصرف الدهور والأزمان، العالم بما يكون وما قد كان، مرسل الرسل ...

أدرك وقتك يا مسلم


الحمد لله مصرف الدهور والأزمان، العالم بما يكون وما قد كان، مرسل الرسل ومنزل الكتب هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحبه في كل حين وآن، أما بعد:

فإن الوقت هو هذا الزمن الذي نعيشه وتمضي بسرعة أيامه وشهوره؛ قال ابن فارس -رحمه الله-: "الواو والقاف والتاء: أصل يدل على حد شيء وكنهه في زمان وغيره، منه الوقت: الزمان المعلوم". [مقاييس اللغة]

ولأهمية الوقت وعظم شأنه فقد أقسم الله به في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، والعصر هو الوقت الذي نعيش فيه، والدهر الذي تقع فيه أعمالنا.

قال ابن فارس: "العين والصاد والراء أصول ثلاثة صحيحة: فالأول دهر وحين..." [مقاييس اللغة]

وقال ابن كثير رحمه الله: "العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم، من خير وشر". [التفسير]، وقال القرطبي رحمه الله: "أقسم الله به عز وجل، لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع". [التفسير] وقد جعل الله هذا الوقت، وما فيه من تعاقب الليل والنهار؛ تذكرة لمن يتذكر، وحجة لمن أراد أن يستبصر؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}.

قال الطبري رحمه الله: "جعل الليل والنهار، وخلوف كل واحد منهما الآخر حجة وآية لمن أراد أن يذكر أمر الله، فينيب إلى الحق، {أو أراد شكورا} أي: أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار". [التفسير]

نعم أيها الأخ الحبيب، إن في عمرك، وسرعة انقضائه؛ آيةً قائمة وذكرى بالغة، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ} قال ابن كثير رحمه الله: "أي: أو ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟". [التفسير]

واختلفوا في مقدار هذا العمر، والصحيح أنه ستون سنة لما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله، حتى بلغه ستين سنة).

وقال فضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تبلغ!، فقال الرجل: يا أبا علي إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلم ما تقول، قال الرجل: قلت إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الفضيل تعلم ما تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: قولك إنا لله، تقول: أنا لله عبد، وأنا إلى الله راجع، فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فليعلم بأنه موقوف، ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة، قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي". [حلية الأولياء]

وللأسف فإن أغلب الناس اليوم مضيعون لأوقاتهم، مقصرون في طاعة ربهم فيها؛ وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

قال ابن كثير رحمه الله: "ومعنى هذا: أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون". [التفسير]

وفي المقابل فقد كان حال الصالحين من عباد الله الاهتمام بالوقت، وعدم تضييع القليل منه فعن محمد بن مبشر الكرميني، قال: انكسر قلم محمد بن سلام البيكندي -وهو شيخ البخاري- في مجلس شيخ، فأمر أن ينادى: قلم بدينار، فطارت إليه الأقلام [سير أعلام النبلاء]

فانظر يا رعاك الله إلى اهتمامه أن لا يفوت عنه شيء من وقته، فآثر أن يبذل دينارا من الذهب -وهو مبلغ غير يسير- حفظا لوقته، وأن لا يفوت عليه شيء من درس شيخه.

وقال ابن الجوزي رحمه الله: "لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ... فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير...، فصرت أدافع اللقاء جهدي: فإذا غلبت، قصرت في الكلام، لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغا، فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد (أي: الأوراق)، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر، وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم!!، لئلا يضيع شيء من وقتي. نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه". [صيد الخاطر]. وكما قيل:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
وأراه أسهل ما عليك يضيع

والصالحون من عباد الله يسعون دائما أن يكون يومهم أفضل من أمسهم، وغدهم أفضل من يومهم وهكذا.

قال ابن رجب رحمه الله -في لطائف المعارف-: "قال بعضهم: كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس! يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقْد ذلك ويعدونه خسرانا كما قيل:

أليس من الخسران أن لياليا
تمر بلا نفع وتحسب من عمري"

أيها المسلمون إن أغلى أوقاتكم هي أوقات شبابكم، فبه صحتكم وقوتكم، وهو بين ضعفين الصغر والكبر، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}، قال البغوي رحمه الله: " أي من بعد ضعف الطفولة شبابا وهو وقت القوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا هرما وشيبة" [التفسير]

واعلم أخي بارك الله فيك أنك ستسأل عن عمرك -لا سيّما شبابك في حال صحتك وفراغك- فاغتنمه في عبادة الله فهي وصية نبيك صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)، قال الحاكم في المستدرك [صحيح على شرط الشيخين].

وعن الحسن البصري أنه قال ذات يوم لجلسائه: "يا معشر الشيوخ: ما ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد، قال: يا معشر الشباب: إن الزرع قد تدركه العاهة قبل أن يبلغ". [الزهد للبيهقي]

فإياك أن تسوف وتؤجل فالموت أقرب من الأمل؛ وكان بلال بن سعد يقول: "عباد الرحمن يقال لأحدنا: تحب أن تموت؟ فيقول: لا، فيقال: لم؟ فيقول: حتى أعمل، فيقال له: اعمل، فيقول: سوف، فلا يحب أن يموت ولا يحب أن يعمل!! وأحب شيء إليه أن يؤخر عمل الله عز وجل ولا يحب أن يؤخر عنه عرض دنياه" [المرجع السابق]

ولا تشغل نفسك بما لا يفيد فتضيع عمرك فيما لا نفع فيه لك في دنياك وآخرتك، ولا تغتر بتضييع الكثير لأوقاتهم؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعا عجيبا: إن طال الليل، فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر!! وإن طال النهار، فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق! فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة، وهي تجري بهم، وما عندهم خبر!". [صيد الخاطر]

وقد ودعنا عاما هجريا وها نحن في مستهل عام جديد والموفق من رسم لنفسه هدفا فيه حتى لا تضيع عليه الشهور والأسابيع وتتفلت من بين يديه فيفجؤه العام القادم بلا فائدة تذكر.

أخي المسلم، لا يوفّق إلى معرفة قيمة الوقت ثم استغلاله إلا القليل القليل؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج! ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين والغلاء والرخص، إلى غير ذلك: فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا مَن وفقه وألهمه اغتنام ذلك، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}" [صيد الخاطر]

فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن يعرف للوقت قيمته، فيستغله في زيادة إيمانه وطاعة ربه والجهاد في سبيله، والنصح لخلقه، والصبر على ذلك، لينجي نفسه من الخسارة الأبدية، والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 300
الخميس 10 محرم 1443 هـ
...المزيد

محاصرة الذنوب! خلق الله الإنسان وخلق معه الخير والشر، وجعل بينهما صراعا ممتدا إلى قيام الساعة، ...

محاصرة الذنوب!

خلق الله الإنسان وخلق معه الخير والشر، وجعل بينهما صراعا ممتدا إلى قيام الساعة، كل منهما لا يكل ولا يمل من مدافعة الآخر، ويشن إبليس حامل لواء الباطل وأتباعه من الإنس والجن هجمات مكثفة لاستهداف أهل الحق وإضعاف صفوفهم، ومن أساليبه في ذلك؛ تزيين الذنوب في أعينهم وتهوينها في نفوسهم حتى يقعوا فيها، فإن أتوها سهُل عليه اختراق دفاعاتهم بعدها.

لأجل هذا كانت الذنوب وما تزال ركنا أساسيا من أركان جيش الباطل وآلة حرب يستخدمها إبليس وجنوده في مهاجمة جيش الحق وتقويض بنيانه وزعزعة أركانه، وهو ما يحتّم على المسلمين التنبه لها والتوقي منها ومعرفة أساليب مواجهتها.

ومن بين أنجع الأساليب القتالية التي تدرّسها المعسكرات الحربية؛ محاصرة العدو بغية إضعافه وهزيمته، ويكون ذلك بإغلاق جميع المنافذ وطرق الإمداد التي ترفده بالذخيرة والمؤن، فينهكه الجوع والعطش، وتنفذ ذخيرته وتتحطم معنوياته وتخور قواه، فيكون مصيره الاستسلام أو الموت، وكلما كان الحصار محكما، كانت نتائجه أكثر فتكا وأثرا في صفوف العدو، ومن المناسب اتباع هذا الأسلوب في محاصرة الذنوب وتطويقها وتجفيف منابعها وتضييق مجاريها استقاءً من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ) [أخرجه الشيخان].

فقهيا، يُعرّف العلماء الذنب بأنه: كل فعل يُستقبح شرعا ويستحق فاعله العقوبة من الله تعالى، وهو يتراوح بين مخالفة الأمر أو النهي الإلهي، بمعنى: فعل شيء محرم أو ترك شيء واجب.

وقد قسّم جمهور الفقهاء الذنوب إلى قسمين اثنين: كبائر وصغائر وكلاهما وبال على المكلّف لا ينبغي الاستهانة بأي منهما، ولقد شاع في زماننا أن يجتهد العبد في اجتناب الكبائر بينما يتساهل في الصغائر ولا يحترز منها، في حين كان السلف يجتنبون صغائر الذنوب كما كبائرها ولا يحقرون شيئا منها، روى البخاري في "باب ما يُتّقى من محقرات الذنوب" عن أنس رضي الله عنه قال: "إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ المُوبِقاتِ" يعني المهلكات، وقال ابن القيم في المدارج: "وقد يقترن بالصغيرة -من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها- ما يلحقها بالكبائر!"، ونُسب إلى بعض السلف قوله: "مثل الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقيه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه!".

والذنوب أصل كل شر وبلية قديما وحديثا، ويكفي للدلالة على خطرها أنها كانت سببا في إخراج أبوينا من الجنة! لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}، وبالجملة فالذنوب سبب الخروج من كل خير والولوج في كل شر، ومؤلفات السلف والخلف تكتظ ببيان عاقبة الذنوب وأخطارها على العبد في الدارين ما يضيق المقام لسرده هنا، غير أن شؤمها وشرورها وحصادها في واقع أمتنا لا يكاد يخفى.

ومن بين أخطر نتائج الذنوب في الدنيا أنها تكون سببا في تسلُّط العدو أو تأخُّر النصر وحجبه عمّن ينتظره أو ضياعه بعد نزوله كما حدث -مثلا- يوم أُحد لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، قال ابن كثير: "أي ببعض ذنوبهم السالفة" وقال البغوي: "بشؤم ذنوبهم". وهم مَن هم في الطاعة والتقوى، فكيف بزماننا وأحوالنا؟ اللهم سلّم سلّم.
ومن أخطارها الصامتة القاتلة حرمان الهداية إلى الحق، وقد دلت السنة الصحيحة على أن مراكمة الذنوب تجعل القلب: (أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا) [مسلم]، حيث تتكاثر الذنوب عليه وتطغى حتى تحجبه عن نور الحق فيرى المعروف منكرا والمنكر معروفا، فتنتكس فطرته وتعمى بصيرته وهذا هو "الران" كما روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلو قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}).

إن أنجع السبل لمحاصرة الذنوب، هي اعتزالها وسد الطرق إليها وقطع العلائق بها ومفارقة أصحابها وهجرة مواطنها، ولذا كانت الهجرة إلى مواطن الإيمان من أسباب النجاة، والبقاء في مواطن الكفر والفسوق من أسباب الفتنة والهلاك، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}، قال القرطبي: "فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم".

إن محاصرة الذنوب مهمة فردية وجماعية معا، ينطلق بها الفرد المسلم من نفسه بمجاهدتها وإيقافها عند حدها، وإدراكه أنّ ذنبه مهما صغُر خرق للسفينة برمتها، وكذلك فإن محاصرة الذنوب مهمة تقودها الجماعة المسلمة داخل صفوفها عبر ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، وهذا ما يميّز المجتمع المسلم الذي تعلوه الفضيلة وتقوده الشريعة، عن غيره من المجتمعات الجاهلية التي تغشاها الرذائل والموبقات من فوقها ومن أسفل منها.

نسوق هذا الكلام في صدر الصحيفة لا زواياها، تذكيرا لإخواننا المجاهدين الذين تشتد حاجتهم إلى محاصرة الذنوب والانتصار عليها بصفتهم دعاة إلى الحق بالسنان والبيان، يجاهدون لإعلاء الملة واستعادة مجد الأمة، ولا يمكن النجاح في هذه المهمة المقدسة حتى يكون المجاهد قدوة فيها، وهذه مهمة تبدأ من الداخل إلى الخارج، والمؤمن يتهم نفسه خلافا للمنافق، فليبدأ كل مجاهد بنفسه ويحاصر ذنوبه ويقهرها وينتصر عليها، ليكون مؤهلا لقهر جيوش الكفر الذين يتربصون بنا ويتأهبون لحربنا، ولينصرن الله من ينصره.


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ
...المزيد

مقال: ورع المجاهد عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الحلال ...

مقال: ورع المجاهد


عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه). [متفق عليه].

لقد بعث الله نبيه محمدا بالحق هاديا ومبشرا ونذيرا، حجة على الخلق ورحمة للعالمين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فما ترك خيرا إلا دل الأمة وحثهم عليه وأوصاهم به، وما ترك شرا إلا حذرهم منه.

وفي هذا الحديث يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته أن أحكام الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال محض بيّنه الشارع للناس يجب أن يأخذوه، وحرام محض يجب أن يتركوه، وقسم ثالث اشتبه فيه الحلال بالحرام، ويصعب التمييز بينهما على أكثر الناس، فالورع هنا ترك هذا القسم وتوقيه خوفا من أن يتجرأ الإنسان على الحرام البين.

وتتجلى خطورة الخوض في الشبهات والمجازفة في أمور الدين، في هذه الأيام التي تغيرت فيها المفاهيم وانقلبت الموازين، وسُميت الأمور بغير مسمياتها، وانتكست الفطَر، وارتكس أكثر الناس في الفتن إلا من رحم الله، لذلك إن لم يتدرع المسلم -وخاصة المجاهد في سبيل الله- بالتقوى والورع؛ خاض مع الخائضين في الشبهات من حيث لا يدري والله المستعان.


- حقيقة الورع

وقد جسّد النبي -صلى الله عليه وسلم- الورع على حقيقته وبيّن ذلك لأمته، فقد جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: "مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمرة مسقوطة فقال: لولا أن تكون من صدقة لأكلتها"، فما ترك -صلى الله عليه وسلم- هذه التمرة إلا تورعا لاحتمال أن تكون من الصدقة التي هي محرمة عليه -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) [الترمذي].

وفي السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وعلق ابن القيم عليه فقال: "جمع النبي الورع كله في هذه الكلمة، فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع" [مدارج السالكين].


- إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا

روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)، قال ابن دقيق العيد: "هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام وفيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه.. وقوله: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر) إلى آخره، معناه -والله أعلم- يطيل السفر في وجوه الطاعات لحج وجهاد وغير ذلك من وجوه البر، ومع هذا فلا يستجاب له لكون مطعمه ومشربه وملبسه حراما! فكيف هو بمن هو منهمك في الدنيا أو في مظالم العباد أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير؟!" [شرح الأربعين النووية].


- فضل الورع

قالت عائشة رضي الله عنها في شأن حادثة الإفك: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: يا زينب ما علمت؟ ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع" [البخاري].

وقال الحسن البصري: "مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة" [مدارج السالكين].

وقال طاووس بن كيسان: "مثل الإيمان كشجرة فأصلها الشهادة، وساقها وورقها كذا وثمرها الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها ولا خير في إنسان لا ورع له" [السنة لأبي بكر الخلال].
- المجاهد أولى الناس بالورع

ولمّا كان المجاهد في سبيل الله أحرى الناس بمعرفة ربه حق معرفته، وتقديره حق قدره، لأنه في الذروة من الإسلام، ولما يراه في الجهاد من الآيات الباهرة والدلائل القاطعة على عظمة الله تبارك وتعالى ومعيته سبحانه؛ كان أولى الناس بتعظيم حرمات الله وحفظ حدوده، والاحتياط في دينه، والتورع عن المحرمات والشبهات، فالكسب الحرام من أعدى أعداء المجاهد، وهو أعظم سلاح يحاربه به الشيطان، ولأن الشيطان يحارب المؤمن على خطوات فإن أول خطوة له في هذا الميدان هي الشبهات، فالحذر الحذر من خطوات الشيطان، إنه عدو مضل مبين.

بل ويجدر بك أخي المجاهد أن تحذر من التوسع في المباحات التي يُخشى أن تنزلق بك إلى المكروهات والمحرمات، كما قال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"، وقال بعض الصحابة: "كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام".

فيا أيها المجاهد في سبيل الله، إن أردت معية الله ونصرته في جهادك، ورمت السلامة والنجاة في الآخرة؛ فاحرص على الطيبات وتحرِّي الحلال في كل معاملاتك ومكاسبك، فلا تأكل ولا تشرب ولا تلبس إلا من الحلال، واجتنب الشبهات والشهوات وخذ بالأحوط، وتحرز من مظالم الخلق وحقوق العباد وفي مقدمتها الدماء المعصومة، يسلم لك دينك، ويصفُ جهادك، وتنلْ من الله الرضى والقبول.


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ
...المزيد

العقبات السبع • قال ابن القيم: فإنه -أي الشيطان- يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها ...

العقبات السبع


• قال ابن القيم: فإنه -أي الشيطان- يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها، إلا إذا عجز عن الظفر به فيها.


▪ العقبة الأولى

عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح.


▪ العقبة الثانية

وهي عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله.


▪ العقبة الثالثة

وهي عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له، وحسنها في عينه، وسوف به، وفتح له باب الإرجاء.. والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه.


▪ العقبة الرابعة

وهي عقبة الصغائر.. ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها.. ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.


▪ العقبة الخامسة

وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده.


▪ العقبة السادسة

وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها وحسنها في عينه.. وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم.


▪ العقبة السابعة

فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه وهي: عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير.. فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به".

[مدارج السالكين]


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ
إنفوغرافيك العدد
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً