الدولة الإسلامية - قصة شهيد
• أبو خطاب الكشميري -تقبله الله-
ما يزال جنود الخلافة في كل مكان يبذلون أرواحهم وتسيل دماؤهم رخيصة في سبيل نصرة الإسلام وإعادته حكَماً بين الناس كما كان عليه الحال في عهد النبوة والخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، ولأجل هذه الغاية السامية فإنهم لا يبالون على أي جنب وفي أي أرض يُقتلون، طالماً أنهم يجاهدون في سبيل الله تعالى وعلى منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم، طمعاً في إحدى الحسنين الظفر أو الشهادة.
وكان من هؤلاء السائرين على هذا الدرب الأخ أبو خطاب الكشميري المعروف أيضاً بـ"زاهد داس" تقبله الله، انضم إلى صفوف جنود الخلافة في الهند بعد انضمام ابن عمه إليها تقبله الله، ومنذ بداية جهاده كان أبو خطاب ثابت العقيدة والمنهج، يدعو إلى التوحيد بلا كلل أو ملل، حتى أصبح لاحقاً قائداً لإحدى مجموعات المجاهدين، فكان يهتم بإخوانه ويؤثرهم على نفسه مهما كانت الظروف.
- يخطط وينفذ العمليات بنفسه
رزقه الله إقداما وشجاعة يعرفها العدو قبل الصديق، يقول إخوانه: في إحدى المرات انقض أبو خطاب على أحد المشركين وضربه واغتنم سلاحه وانسحب من المنطقة، متبّعاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي).
كما كان حريصاً على تخطيط وتنفيذ العمليات بنفسه ضد قوات المشركين، ومن ذلك قام برفقة إحد إخوانه بصولة على القوات الهندوسية في (بيجبهارا) بكشمير، قتلوا ثلاثة عناصر منهم وزرعوا الرعب في قلوبهم وانسحبوا من المنطقة سالمين.
- شجاعة في كسر الحصار
في ذات مرة توجه أبو خطاب برفقة اثنين من المجاهدين إلى منزل يتحصنون به فعلمت القوات الكافرة بذلك، فقاموا بمحاصرة المنزل بأعداد كبيرة، لكن أبو خطاب رحمه الله خرج من المنزل زائراً كالأسد وبدأ بإطلاق النار باتجاههم بشكل مباغت، ورغم تفوقهم العددي إلا أن الكفار ولوا هاربين، وتمكن هو وإخوانه من الخروج من الحصار سالمين بفضل الله تعالى.
كان يقول دوماً لإخوانه إنه يريد أن يُقتل مهاجماً للكفار لا مدافعاً أو صاداً لهجومهم، وذلك كان شأنه في أغلب المواجهات مبادراً بالقتال لأعدائه مباغتاً لهم.
- ملاحقته من أجهزة الأمن
بعد العمليات التي نفذها أبو خطاب أصبح مطلوباً لأجهزة الأمن في المنطقة، ولثنيه عن طريقه قامت القوات الكافرة بالتضييق على عائلته للضغط عليه لتسليم نفسه، لكن ذلك لم يضعف عزيمته ولم يمنعه من مواصلة فريضة الجهاد.
وبعد أن اشتدت الملاحقة لأبي خطاب من قبل الكافرين اضطر إلى الخروج من (بيجبهارا) إلى مدينة (سريناغار) في كشمير، وهناك بدأ العمل مجدداً بكل جهده ليؤسس قاعدة انطلاق لمجاهدي الدولة الإسلامية، ولمهاراته ومعرفته بحرب العصابات، كان يعلم إخوانه مختلف خطط وتكتيكات العمل العسكري والأمني، ولم تتوقف مهمته عند ذلك بل كان أيضاً يرتب لهم المأوى والطعام والذخيرة وكل ما يحتاجون إليه، وقد ترك لإخوانه ميراثاً كبيراً من التضحية والبذل.
- قُتل كما كان يتمنى
بعد رحلة من الجلد والمطاردة والصبر على الجهاد، استطاعت القوات الكافرة تحديد أحد المنازل التي كان يتحصن بها أبو خطاب فأتوا بحدهم وحديدهم وحاصروا المنزل والمنطقة بأعداد كبيرة من القوات، وكان ذلك في الثاني عشر من شهر (ذي الحجة) عام 1441 ورغم ذلك وكعادته لم ينتظر أن يهاجمه الكفار بل بادر هو بمهاجمتهم بشكل أقوى من المرة الأخيرة وخرج مكبّراً وتمكن خلال الاشتباك من قتل عدد من عناصرهم وإصابة آخرين، إلى أن حانت اللحظة التي كان يتمناها، وكما كان يدعو الله تعالى من قبل أن يرزقه الشهادة مقبلاً مهاجماً لأعدائه استجاب الله دعاءه ورزقه ما تمناه، فقتل تقبله الله تعالى كما كان يتمنى، نحسبه والله حسيبه.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 301
الخميس 17 محرم 1443 هـ ...المزيد
مساعدة
الإبلاغ عن المادة
تعديل تدوينة
الدولة الإسلامية - قصة شهيد • أبو خطاب الكشميري -تقبله الله- ما يزال جنود الخلافة في كل ...
الدولة الإسلامية - قصة شهيد
• أبو خطاب الكشميري -تقبله الله-
ما يزال جنود الخلافة في كل مكان يبذلون أرواحهم وتسيل دماؤهم رخيصة في سبيل نصرة الإسلام وإعادته حكَماً بين الناس كما كان عليه الحال في ...المزيد
• أبو خطاب الكشميري -تقبله الله-
ما يزال جنود الخلافة في كل مكان يبذلون أرواحهم وتسيل دماؤهم رخيصة في سبيل نصرة الإسلام وإعادته حكَماً بين الناس كما كان عليه الحال في ...المزيد
مقال: جاه الأكارم (1) الإيثار الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى ...
مقال: جاه الأكارم (1) الإيثار
الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى والمكرمات، وعلى آله وصحبه أولي النهى وأهل النجدات، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم جمع المخلوقات، وبعد.
فإن الأخلاق جمال الظاهر وإن كان الإنسان مبتذلا، وهي ثروة من لا ثروة له وجاه من لا جاه له، فصاحب الخلق في الدنيا موقّرٌ محبوبٌ، وفي الآخرة مُقرّبٌ محمود، والأخلاق الفاضلة مما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [البيهقي]، والأخلاق حُلة الداعية وصاحب الرسالة فعامة الناس تقيس الدعوة بخلق صاحبها وتعامله، وههنا طرق لبعض الأخلاق السامية التي تعتبر جاه الأكارم الميامين وسيما الأفاضل الطاهرين، ويأتي في مقدمتها خلق الإيثار، وما أدراكم ما الإيثار؟
الإيثار "فضيلة للنَّفس بها يكفُّ الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصُّه حتى يبذله لمن يستحقُّه" [تهذيب الأخلاق لابن مسكويه]
والإيثَار "أن يقدِّم غيره على نفسه في النَّفع له، والدَّفع عنه، وهو النِّهاية في الأخوة" [التعريفات للجرجاني]
فالإيثار هو أكمل أنواع الجود، وهو خلق لا يستطيعه إلا من كمل له الخلق الحسن، فإن بلوغ النفس إلى درجة تستغني فيها عن محبوباتها وملذاتها فتجود بها للغير، يتطلب فصولا من المجاهدة تتساقط خلالها الأنفس الضعيفة، قال ابن العربي رحمه الله: "الإيثار هو تقديم الغير على النّفس في حظوظها الدنيويّة رغبة في الحظوظ الدينيّة، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقّة" [أحكام القرآن]
والحض على هذه الخصلة أكده القرآن في مواطن كثيرة، منها قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
قال شيخ المفسرين الإمام الطَّبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: وهو يصفُ الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} مِن قبل المهاجرين، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم" [التفسير]
وقال ابن كثير: "أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك" [التفسير]
ويقول ابن تيمية: "وأمَّا الإيثَار مع الخصاصة فهو أكمل مِن مجرَّد التَّصدق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ متصدِّق محبًّا مؤْثرًا، ولا كلُّ متصدِّق يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة" [منهاج السنة]
وقال الله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]، قال الطبري: "لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم حتى تنفقوا مما تحبون، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم" [التفسير]
أما في السنة، فما جاء شيء في الترغيب بالإيثار أبلغ من تجسّده بالعمل بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما ربّاهم عليه وكان لهم قدوة صلوات الله وسلامه عليه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه أراد أن يغزو فقال: (يا معشر المهاجرين والأنصار إنَّ مِن إخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضمَّ أحدكم إليه الرَّجلين أو الثَّلاثة، فما لأحدنا مِن ظهرٍ يحمله إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ). (يعني: أحدهم)." فضممْتُ إليَّ اثنين أو ثلاثةً، قال: ما لي إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ أحدهم مِن جملي" [رواه أبو داود]. فانظر أخي لمعاني الإيثار في الجهاد رغم شدة حالهم وقلة مراكبهم يتعاقبون ركوب الجمال حتى لا يمشي المسافة كلها شخص على رجليه من طول الطريق، ثم تذكر أخي القاعد كيف جهادهم بالأمس وكيف جهاد اليوم؟ أي مشقة تلك التي كانوا يجدونها؟ ومع ذلك جاهد القوم وصبروا وآثر بعضهم بعضا.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ (قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان) [البخاري]
قال ابن بطَّال: "فيه أنَّ أعمال البرِّ كلَّما صعبت كان أجرها أعظم، لأنَّ الصَّحيح الشَّحيح إذا خشي الفقر، وأمَّل الغنى صعبت عليه النَّفقة، وسوَّل له الشَّيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمَن تصدَّق في هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأمَّا إذا تصدَّق عند خروج نفسه، فيخشى عليه الضِّرار بميراثه والجوار في فعله". [شرح الصحيح]
وأما ما جاء في قصة أحد تلاميذ المدرسة النبوية وهو أبو طلحة الأنصاري وزوجه رضي الله عنهما حيث جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه ليضيف هذا الرجل فما كان عندهم إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله)، فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيءٌ؟ قالت: لا، إلّا قوت صبياني، قال: فعلّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السّراج وأريه أنّا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السّراج حتّى تطفئيه، فقعدوا وأكل الضّيف فلمّا أصبح، غدا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: (قد عجب اللّه من صنيعكما بضيفكما اللّيلة) [رواه مسلم] والمراد بالعجب من الله تعالى أي: رضاه سبحانه بذلك الفعل. قال النووي في شرحه: "وقد أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا، وحظوظ النفوس، وأما القربات فالأفضل أن لا يؤثر بها؛ لأن الحق فيها لله تعالى. والله أعلم".
ومن ذلك أيضًا قول أم المؤمنين عائشة وفعلها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حين أرسل إليها يستأذن في أن يدفن بجوار صاحبيه (النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر) فقالت: "كنت أريده (أي موضع الدفن) لنفسي، فَلأوثِرَنَّهُ اليوم على نفسي". ودُفنت هي بالبقيع رضي الله عنها.
وقد قسّم ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) الإيثار وجعله على ثلاث درجات:
"الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا -أي: إلى الله-، ولا يفسد عليك وقتًا، يعني أن تقدّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدّي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدّين.
الثّانية: إيثار رضا اللّه على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطّول والبدن، وإيثار رضا اللّه عزّ وجلّ على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء.
الثّالثة: أن تنسب إيثارك إلى اللّه دون نفسك، وأنّه هو الذي تفرّد بالإيثار لا أنت، فكأنّك سلّمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإنّ الذي آثره هو الحقّ لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المعطي حقيقة. ا.هـ مختصرا
فتأمل أخا الإسلام إن كان هذا حال من آثر غيره ببعض محابِّ نفسه قد جاء مدحه بالقرآن والسنة فكيف بالذي جاد بنفسه إيثارا منه لتكون كلمة الله هي العليا؟، فآثر على نفسه الأمان ليأمن المسلمون، وفارق الأهل والخلان كي يدافع وينافح عن شريعة الرحمن، وتحمّل في سبيل ذلك الجوع والعطش والجراح وتصبّر بطون السجون، كله إيثارا لخدمة دين رب العالمين، فذا أمر قلّ مَن يستطيعه في هذا الزمان.
فإن هؤلاء يكابدون عناء شديدا على أنفسهم فأردفهم الله عونا منه فهان كل شيء بأعينهم، وكلما قوي جهاد العبد لنفسه هداه الله السبيل وأرشده الطريق القويم، {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
والمتصدق يجاهد النفس والهوى والشيطان ليُخرج صدقته، فما ظنك بالمجاهد كم سيجاهد غير هؤلاء الأعداء الثلاثة ليُوفّق للجهاد؟ فهناك علماء السوء والمخذلين والمثبطين والطاعنين، ومع ذلك لم تثنه عن الجود بنفسه؛ لِما قذف الله في قلبه من النور، فمضى راكبا جواد الموت لا يلفت وجهه، فلقد جادت نفسه راضية تريد جوار الرحمن، هناك هناك حيث الجنة ونعيمها وأعلاه النظر لوجه الله الكريم، فهي دار من أنفق لوجه الله ما أحب، {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 301
الخميس 17 محرم 1443 هـ ...المزيد
الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى والمكرمات، وعلى آله وصحبه أولي النهى وأهل النجدات، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم جمع المخلوقات، وبعد.
فإن الأخلاق جمال الظاهر وإن كان الإنسان مبتذلا، وهي ثروة من لا ثروة له وجاه من لا جاه له، فصاحب الخلق في الدنيا موقّرٌ محبوبٌ، وفي الآخرة مُقرّبٌ محمود، والأخلاق الفاضلة مما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [البيهقي]، والأخلاق حُلة الداعية وصاحب الرسالة فعامة الناس تقيس الدعوة بخلق صاحبها وتعامله، وههنا طرق لبعض الأخلاق السامية التي تعتبر جاه الأكارم الميامين وسيما الأفاضل الطاهرين، ويأتي في مقدمتها خلق الإيثار، وما أدراكم ما الإيثار؟
الإيثار "فضيلة للنَّفس بها يكفُّ الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصُّه حتى يبذله لمن يستحقُّه" [تهذيب الأخلاق لابن مسكويه]
والإيثَار "أن يقدِّم غيره على نفسه في النَّفع له، والدَّفع عنه، وهو النِّهاية في الأخوة" [التعريفات للجرجاني]
فالإيثار هو أكمل أنواع الجود، وهو خلق لا يستطيعه إلا من كمل له الخلق الحسن، فإن بلوغ النفس إلى درجة تستغني فيها عن محبوباتها وملذاتها فتجود بها للغير، يتطلب فصولا من المجاهدة تتساقط خلالها الأنفس الضعيفة، قال ابن العربي رحمه الله: "الإيثار هو تقديم الغير على النّفس في حظوظها الدنيويّة رغبة في الحظوظ الدينيّة، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقّة" [أحكام القرآن]
والحض على هذه الخصلة أكده القرآن في مواطن كثيرة، منها قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
قال شيخ المفسرين الإمام الطَّبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: وهو يصفُ الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} مِن قبل المهاجرين، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم" [التفسير]
وقال ابن كثير: "أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك" [التفسير]
ويقول ابن تيمية: "وأمَّا الإيثَار مع الخصاصة فهو أكمل مِن مجرَّد التَّصدق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ متصدِّق محبًّا مؤْثرًا، ولا كلُّ متصدِّق يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة" [منهاج السنة]
وقال الله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]، قال الطبري: "لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم حتى تنفقوا مما تحبون، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم" [التفسير]
أما في السنة، فما جاء شيء في الترغيب بالإيثار أبلغ من تجسّده بالعمل بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما ربّاهم عليه وكان لهم قدوة صلوات الله وسلامه عليه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه أراد أن يغزو فقال: (يا معشر المهاجرين والأنصار إنَّ مِن إخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضمَّ أحدكم إليه الرَّجلين أو الثَّلاثة، فما لأحدنا مِن ظهرٍ يحمله إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ). (يعني: أحدهم)." فضممْتُ إليَّ اثنين أو ثلاثةً، قال: ما لي إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ أحدهم مِن جملي" [رواه أبو داود]. فانظر أخي لمعاني الإيثار في الجهاد رغم شدة حالهم وقلة مراكبهم يتعاقبون ركوب الجمال حتى لا يمشي المسافة كلها شخص على رجليه من طول الطريق، ثم تذكر أخي القاعد كيف جهادهم بالأمس وكيف جهاد اليوم؟ أي مشقة تلك التي كانوا يجدونها؟ ومع ذلك جاهد القوم وصبروا وآثر بعضهم بعضا.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ (قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان) [البخاري]
قال ابن بطَّال: "فيه أنَّ أعمال البرِّ كلَّما صعبت كان أجرها أعظم، لأنَّ الصَّحيح الشَّحيح إذا خشي الفقر، وأمَّل الغنى صعبت عليه النَّفقة، وسوَّل له الشَّيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمَن تصدَّق في هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأمَّا إذا تصدَّق عند خروج نفسه، فيخشى عليه الضِّرار بميراثه والجوار في فعله". [شرح الصحيح]
وأما ما جاء في قصة أحد تلاميذ المدرسة النبوية وهو أبو طلحة الأنصاري وزوجه رضي الله عنهما حيث جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه ليضيف هذا الرجل فما كان عندهم إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله)، فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيءٌ؟ قالت: لا، إلّا قوت صبياني، قال: فعلّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السّراج وأريه أنّا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السّراج حتّى تطفئيه، فقعدوا وأكل الضّيف فلمّا أصبح، غدا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: (قد عجب اللّه من صنيعكما بضيفكما اللّيلة) [رواه مسلم] والمراد بالعجب من الله تعالى أي: رضاه سبحانه بذلك الفعل. قال النووي في شرحه: "وقد أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا، وحظوظ النفوس، وأما القربات فالأفضل أن لا يؤثر بها؛ لأن الحق فيها لله تعالى. والله أعلم".
ومن ذلك أيضًا قول أم المؤمنين عائشة وفعلها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حين أرسل إليها يستأذن في أن يدفن بجوار صاحبيه (النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر) فقالت: "كنت أريده (أي موضع الدفن) لنفسي، فَلأوثِرَنَّهُ اليوم على نفسي". ودُفنت هي بالبقيع رضي الله عنها.
وقد قسّم ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) الإيثار وجعله على ثلاث درجات:
"الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا -أي: إلى الله-، ولا يفسد عليك وقتًا، يعني أن تقدّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدّي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدّين.
الثّانية: إيثار رضا اللّه على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطّول والبدن، وإيثار رضا اللّه عزّ وجلّ على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء.
الثّالثة: أن تنسب إيثارك إلى اللّه دون نفسك، وأنّه هو الذي تفرّد بالإيثار لا أنت، فكأنّك سلّمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإنّ الذي آثره هو الحقّ لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المعطي حقيقة. ا.هـ مختصرا
فتأمل أخا الإسلام إن كان هذا حال من آثر غيره ببعض محابِّ نفسه قد جاء مدحه بالقرآن والسنة فكيف بالذي جاد بنفسه إيثارا منه لتكون كلمة الله هي العليا؟، فآثر على نفسه الأمان ليأمن المسلمون، وفارق الأهل والخلان كي يدافع وينافح عن شريعة الرحمن، وتحمّل في سبيل ذلك الجوع والعطش والجراح وتصبّر بطون السجون، كله إيثارا لخدمة دين رب العالمين، فذا أمر قلّ مَن يستطيعه في هذا الزمان.
فإن هؤلاء يكابدون عناء شديدا على أنفسهم فأردفهم الله عونا منه فهان كل شيء بأعينهم، وكلما قوي جهاد العبد لنفسه هداه الله السبيل وأرشده الطريق القويم، {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
والمتصدق يجاهد النفس والهوى والشيطان ليُخرج صدقته، فما ظنك بالمجاهد كم سيجاهد غير هؤلاء الأعداء الثلاثة ليُوفّق للجهاد؟ فهناك علماء السوء والمخذلين والمثبطين والطاعنين، ومع ذلك لم تثنه عن الجود بنفسه؛ لِما قذف الله في قلبه من النور، فمضى راكبا جواد الموت لا يلفت وجهه، فلقد جادت نفسه راضية تريد جوار الرحمن، هناك هناك حيث الجنة ونعيمها وأعلاه النظر لوجه الله الكريم، فهي دار من أنفق لوجه الله ما أحب، {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 301
الخميس 17 محرم 1443 هـ ...المزيد
معركةُ التوحيد في كابل دوى صوت التفجير عند مدخل مطار كابل، مُبدِّدا أوهام الحالمين بالسلام، ...
معركةُ التوحيد في كابل
دوى صوت التفجير عند مدخل مطار كابل، مُبدِّدا أوهام الحالمين بالسلام، وراسما خارطة النور لمرحلة جديدة من مراحل الجهاد على منهاج النبوة، بينما عاد الجيش الأمريكي ليحدّث إحصائياته بشأن خسائره البشرية عقب الهجوم المبارك الذي خلط جيف قتلاه بجيف جواسيسه وحماتهم مِن مرتدي طالبان، في لحظة تاريخية اختصرت المشهد بدقة كبيرة، حيث اتحدوا جميعا في الحرب ضد دولة الإسلام، فتقاسموا المصير نفسه واختلطت دماؤهم وجيفهم وكأنهم جميعا سيّان.
وما هي إلا ساعات حتى خرج الطاغوت الأمريكي المأزوم عقب الضربة الموجعة مُرعدا مُزبدا مُتوعِّدا جنود الدولة الإسلامية بالحرب والانتقام، قائلا إنه "لم ينته منهم بعد"، ناسفًا بذلك مزاعم سلفه الأحمق "ترامب" بإعلانه القضاء على الدولة الإسلامية شرق أفغانستان، فإذا بها اليوم تفجعهم في قلب كابل وفي أكثر مناطقها تحصينا، فعلى من انتصرتم بالأمس؟ ومن تقاتلون اليوم؟!
كان هذا الهجوم المبارك "أكبر خسارة بشرية" تتلقاها القوات الأمريكية منذ عشرة أعوام، أجبرتها على "تنكيس أعلامها" حدادا على قتلاها، وهو ما لم تفعله أمريكا منذ سنوات حتى يوم أعلنت ميليشيا طالبان قبل أكثر من عام مقتل عشرات الجنود الأمريكيين في "حملة كذب متعمدة" لم يُصدقها فيها إلا أتباع تنظيم القاعدة.
لقد خرج الطاغوت الأمريكي يبكي على شاشات الرائي ويندب حظه في خطاب مهزوز يعكس حجم الضربة الأمنية الموجعة التي تلقتها أمريكا، حتى اقتصر سقف إنجازها الأمني على "التحذير من وقوع الهجوم" لا منعه أو إحباطه أو حتى تقليل خسائره! فكانت خسارة مضاعفة فقدت فيها أمريكا جنودها وكثيرا من هيبتها التي حطمها عبد الرحمن بمعول التوحيد.
الصدمة الأمريكية والعالمية جراء الهجوم، والخطاب المتشنج للطاغوت الأمريكي، والغارة الجوية الفاشلة، كلها دلالات على حجم المأزق والإحراج الذي وقعت فيه أمريكا، ومِن ذلك مسارعة طاغوتها إلى الإعلان عن استهداف "قيادي" في ولاية خراسان، دون أن يذكر اسمه، وهو ما لم يُقدم عليه حتى سلفه الأحمق "ترامب"!
لقد كانت أمريكا تتفاخر بأنها تُجري "أكبر عملية إجلاء جوي في تاريخها" لإخلاء الآلاف من رعاياها وجواسيسها، قبل أن يُحيل التفجير الاستشهادي مفاخر أمريكا إلى مخازٍ ومآتم وسراديب عزاء.
ولشدة ارتباكها، أخذت أمريكا تتحدث في تصريحاتها عن ولاية خراسان كما لو أنها للتو نشأت! وما ذلك إلا لإخفاء مزاعمهم الكاذبة سابقا بالقضاء عليها، فأين الذين زعموا نهاية ولاية خراسان؟ كلهم ذهبوا وفشلوا؛ "ترامب"، ثم الطاغوت الأفغاني الذي تخلت عنه أمريكا، ثم ها هو الطاغوت "بايدن" يبدأ فصلا جديدا من فصول الحرب على الدولة الإسلامية وسينتهي هذا الفصل كما انتهت فصول مَن سبقه!، يسقطون ويذهبون ويتغيرون بينما يُبقي الله تعالى -بفضله وتدبيره- الدولة الإسلامية شوكة في حلوقهم، نارا على الكافرين ونورا للمسلمين، يذهبون ويسقطون وتبقى الدولة الإسلامية ماضية تُعبّد الطريق للمسلمين نحو توحيد الله تعالى في عبادته وحاكميته، إنها ترسل جنودها البررة يعانقون الموت بقلوب مستبشرة ليحيا المسلمون حياة على الإيمان والعبودية لله تعالى وحده، إنها تفدي الإسلام روحا ومهجا وصبرا كبيرا ويقينا بموعود الله أكبر، إنها معركة التوحيد.
وإنها دولة الإسلام التي تكالب عليها كل كفار الأرض ليقضوا على دعوتها ويوقفوا جهادها؟ ولكن هيهات هيهات، فمن أبقاها رغم كل هذا؟! من حفظها؟ من أمدها بمدده؟ من أيدها بجنده؟ إنه الله جل شأنه والذي عادت وأبغضت وكفّرت وكفرت -لأجله تعالى- بكل طواغيت الأرض، ووالت فيه كل المسلمين، إنه الله تعالى الذي لا يبالي جنودها -في سبيله سبحانه- أين يصبحون؟ أفي قصر أم قبر أم أسْر؟ أفي صحراء قاحلة أو مغارة موحشة يؤنسهم فيها صهيل الصافنات وبكاء السحر.
وإلى جانب طواغيت العرب والعجم، فقد اضطربت مواقف الأحزاب المرتدة من الهجوم كذلك، إلا أن أغربها كان موقف أتباع تنظيم القاعدة الذين أكل التيه قلوبهم وداهمت الحيرة صفوفهم، فصاروا بين الخوض في "نظرية المؤامرة" على طريقة أبناء حركات الإخوان المرتدين، أو استنكار قتل "العدو القريب" ورأس الكفر الذي صدّعوا رؤوسنا بمحاربته بدلا من "العدو البعيد"!، ليتضح لاحقا أنه لا عدو أقرب إليهم من الدولة الإسلامية!
ولعل هذا الهجوم المبارك يضع الله فيه من البركة ما يوقظ قلوب بعض الغافلين الذين قادتهم طالبان والقاعدة إلى نفق الانحرافات، ليصحوا ويتوبوا ويفيئوا إلى الجماعة، ويُعلنوا مواصلة الجهاد ضد الكافرين كافة وعلى رأسهم أمريكا التي توجب عليهم اتفاقية الدوحة حمايتها والقتال دونها ضمن بند "مكافحة الإرهاب"!
إن الهجوم في أبعاده المنهجية، أبان الفرق بين سبيل المؤمنين وسبيل المشركين، وأكد مجددا على أبدية الجهاد واستمراره ولو حجّ إلى الدوحة من حجّ! ولو طاف بفنادقها من طاف! لأن الجهاد قدر الله تعالى فليوقفوا قدره إن استطاعوا!
ومن عِبر الهجوم المبارك، أن الاستشهادي -تقبله الله- كان أسيرا مستضعفا في سجون طاغوت خراسان قبل أن ييسر الله له أسباب الفرج، ليخرج الليث من عرينه مسارعا إلى تدوين اسمه في قائمة الاستشهاديين على درب البراء بن مالك، وهو وإخوانه من النفر الذين افترى عليهم مرتدو القاعدة وطالبان ووصفوهم -يوم العسرة- بأنّ أمريكا نقلتهم على متن طائراتها!، ليُظهر الله تعالى الحق من الباطل، فانقض هذا الليث على جموع الأمريكيين مفجّرا نفسه فيهم ناثرا أشلاءهم، في الوقت الذي انهمك فيه مقاتلو طالبان في تأمين رعايا الصليبيين وجواسيسهم وإيصالهم إلى مهابط الطائرات الأمريكية في بث حي ومباشر وما خفي أقذر! كما رأى العالم بأسره قادة طالبان تنقلهم طائرات طواغيت الشرق والغرب! فذبّ الله تعالى عن عرض أوليائه وأظهر حقيقية المرتدين على الملأ، فتأمل.
وبينما يواصل المجاهدون جهادهم وإعدادهم، يحتفل المرتدون بـ"الاستقلال"! ولا ندري عمّن استقلوا؟ بل هم اليوم أكثر صلة وارتباطا والتصاقا بأمريكا وطواغيت العالم من أي يوم مضى، بل إن بقاء طالبان في الحكم اليوم مرهون بشكل أساسي بسلوكها في "محاربة الإرهاب" وتلبية المطالب الأمريكية وتنسيقها الدائم مع طواغيت أوروبا.
إن الخروج "العسكري" لأمريكا من أفغانستان لا يعني سوى مرحلة أخرى من الحرب على الإسلام بوكلاء جدد يقودهم فيها "كرازي" جديد!، مرحلة سيشتد فيها القتال والمفاصلة بين جنود الخلافة وجنود الوطنية والقومية! ولا عجب إنها معركة التوحيد.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 302
الخميس 24 محرم 1443 هـ ...المزيد
دوى صوت التفجير عند مدخل مطار كابل، مُبدِّدا أوهام الحالمين بالسلام، وراسما خارطة النور لمرحلة جديدة من مراحل الجهاد على منهاج النبوة، بينما عاد الجيش الأمريكي ليحدّث إحصائياته بشأن خسائره البشرية عقب الهجوم المبارك الذي خلط جيف قتلاه بجيف جواسيسه وحماتهم مِن مرتدي طالبان، في لحظة تاريخية اختصرت المشهد بدقة كبيرة، حيث اتحدوا جميعا في الحرب ضد دولة الإسلام، فتقاسموا المصير نفسه واختلطت دماؤهم وجيفهم وكأنهم جميعا سيّان.
وما هي إلا ساعات حتى خرج الطاغوت الأمريكي المأزوم عقب الضربة الموجعة مُرعدا مُزبدا مُتوعِّدا جنود الدولة الإسلامية بالحرب والانتقام، قائلا إنه "لم ينته منهم بعد"، ناسفًا بذلك مزاعم سلفه الأحمق "ترامب" بإعلانه القضاء على الدولة الإسلامية شرق أفغانستان، فإذا بها اليوم تفجعهم في قلب كابل وفي أكثر مناطقها تحصينا، فعلى من انتصرتم بالأمس؟ ومن تقاتلون اليوم؟!
كان هذا الهجوم المبارك "أكبر خسارة بشرية" تتلقاها القوات الأمريكية منذ عشرة أعوام، أجبرتها على "تنكيس أعلامها" حدادا على قتلاها، وهو ما لم تفعله أمريكا منذ سنوات حتى يوم أعلنت ميليشيا طالبان قبل أكثر من عام مقتل عشرات الجنود الأمريكيين في "حملة كذب متعمدة" لم يُصدقها فيها إلا أتباع تنظيم القاعدة.
لقد خرج الطاغوت الأمريكي يبكي على شاشات الرائي ويندب حظه في خطاب مهزوز يعكس حجم الضربة الأمنية الموجعة التي تلقتها أمريكا، حتى اقتصر سقف إنجازها الأمني على "التحذير من وقوع الهجوم" لا منعه أو إحباطه أو حتى تقليل خسائره! فكانت خسارة مضاعفة فقدت فيها أمريكا جنودها وكثيرا من هيبتها التي حطمها عبد الرحمن بمعول التوحيد.
الصدمة الأمريكية والعالمية جراء الهجوم، والخطاب المتشنج للطاغوت الأمريكي، والغارة الجوية الفاشلة، كلها دلالات على حجم المأزق والإحراج الذي وقعت فيه أمريكا، ومِن ذلك مسارعة طاغوتها إلى الإعلان عن استهداف "قيادي" في ولاية خراسان، دون أن يذكر اسمه، وهو ما لم يُقدم عليه حتى سلفه الأحمق "ترامب"!
لقد كانت أمريكا تتفاخر بأنها تُجري "أكبر عملية إجلاء جوي في تاريخها" لإخلاء الآلاف من رعاياها وجواسيسها، قبل أن يُحيل التفجير الاستشهادي مفاخر أمريكا إلى مخازٍ ومآتم وسراديب عزاء.
ولشدة ارتباكها، أخذت أمريكا تتحدث في تصريحاتها عن ولاية خراسان كما لو أنها للتو نشأت! وما ذلك إلا لإخفاء مزاعمهم الكاذبة سابقا بالقضاء عليها، فأين الذين زعموا نهاية ولاية خراسان؟ كلهم ذهبوا وفشلوا؛ "ترامب"، ثم الطاغوت الأفغاني الذي تخلت عنه أمريكا، ثم ها هو الطاغوت "بايدن" يبدأ فصلا جديدا من فصول الحرب على الدولة الإسلامية وسينتهي هذا الفصل كما انتهت فصول مَن سبقه!، يسقطون ويذهبون ويتغيرون بينما يُبقي الله تعالى -بفضله وتدبيره- الدولة الإسلامية شوكة في حلوقهم، نارا على الكافرين ونورا للمسلمين، يذهبون ويسقطون وتبقى الدولة الإسلامية ماضية تُعبّد الطريق للمسلمين نحو توحيد الله تعالى في عبادته وحاكميته، إنها ترسل جنودها البررة يعانقون الموت بقلوب مستبشرة ليحيا المسلمون حياة على الإيمان والعبودية لله تعالى وحده، إنها تفدي الإسلام روحا ومهجا وصبرا كبيرا ويقينا بموعود الله أكبر، إنها معركة التوحيد.
وإنها دولة الإسلام التي تكالب عليها كل كفار الأرض ليقضوا على دعوتها ويوقفوا جهادها؟ ولكن هيهات هيهات، فمن أبقاها رغم كل هذا؟! من حفظها؟ من أمدها بمدده؟ من أيدها بجنده؟ إنه الله جل شأنه والذي عادت وأبغضت وكفّرت وكفرت -لأجله تعالى- بكل طواغيت الأرض، ووالت فيه كل المسلمين، إنه الله تعالى الذي لا يبالي جنودها -في سبيله سبحانه- أين يصبحون؟ أفي قصر أم قبر أم أسْر؟ أفي صحراء قاحلة أو مغارة موحشة يؤنسهم فيها صهيل الصافنات وبكاء السحر.
وإلى جانب طواغيت العرب والعجم، فقد اضطربت مواقف الأحزاب المرتدة من الهجوم كذلك، إلا أن أغربها كان موقف أتباع تنظيم القاعدة الذين أكل التيه قلوبهم وداهمت الحيرة صفوفهم، فصاروا بين الخوض في "نظرية المؤامرة" على طريقة أبناء حركات الإخوان المرتدين، أو استنكار قتل "العدو القريب" ورأس الكفر الذي صدّعوا رؤوسنا بمحاربته بدلا من "العدو البعيد"!، ليتضح لاحقا أنه لا عدو أقرب إليهم من الدولة الإسلامية!
ولعل هذا الهجوم المبارك يضع الله فيه من البركة ما يوقظ قلوب بعض الغافلين الذين قادتهم طالبان والقاعدة إلى نفق الانحرافات، ليصحوا ويتوبوا ويفيئوا إلى الجماعة، ويُعلنوا مواصلة الجهاد ضد الكافرين كافة وعلى رأسهم أمريكا التي توجب عليهم اتفاقية الدوحة حمايتها والقتال دونها ضمن بند "مكافحة الإرهاب"!
إن الهجوم في أبعاده المنهجية، أبان الفرق بين سبيل المؤمنين وسبيل المشركين، وأكد مجددا على أبدية الجهاد واستمراره ولو حجّ إلى الدوحة من حجّ! ولو طاف بفنادقها من طاف! لأن الجهاد قدر الله تعالى فليوقفوا قدره إن استطاعوا!
ومن عِبر الهجوم المبارك، أن الاستشهادي -تقبله الله- كان أسيرا مستضعفا في سجون طاغوت خراسان قبل أن ييسر الله له أسباب الفرج، ليخرج الليث من عرينه مسارعا إلى تدوين اسمه في قائمة الاستشهاديين على درب البراء بن مالك، وهو وإخوانه من النفر الذين افترى عليهم مرتدو القاعدة وطالبان ووصفوهم -يوم العسرة- بأنّ أمريكا نقلتهم على متن طائراتها!، ليُظهر الله تعالى الحق من الباطل، فانقض هذا الليث على جموع الأمريكيين مفجّرا نفسه فيهم ناثرا أشلاءهم، في الوقت الذي انهمك فيه مقاتلو طالبان في تأمين رعايا الصليبيين وجواسيسهم وإيصالهم إلى مهابط الطائرات الأمريكية في بث حي ومباشر وما خفي أقذر! كما رأى العالم بأسره قادة طالبان تنقلهم طائرات طواغيت الشرق والغرب! فذبّ الله تعالى عن عرض أوليائه وأظهر حقيقية المرتدين على الملأ، فتأمل.
وبينما يواصل المجاهدون جهادهم وإعدادهم، يحتفل المرتدون بـ"الاستقلال"! ولا ندري عمّن استقلوا؟ بل هم اليوم أكثر صلة وارتباطا والتصاقا بأمريكا وطواغيت العالم من أي يوم مضى، بل إن بقاء طالبان في الحكم اليوم مرهون بشكل أساسي بسلوكها في "محاربة الإرهاب" وتلبية المطالب الأمريكية وتنسيقها الدائم مع طواغيت أوروبا.
إن الخروج "العسكري" لأمريكا من أفغانستان لا يعني سوى مرحلة أخرى من الحرب على الإسلام بوكلاء جدد يقودهم فيها "كرازي" جديد!، مرحلة سيشتد فيها القتال والمفاصلة بين جنود الخلافة وجنود الوطنية والقومية! ولا عجب إنها معركة التوحيد.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 302
الخميس 24 محرم 1443 هـ ...المزيد
مقال: جاه الأكارم (2) كظمُ الغيظ الحمد لله رب العالمين ولي المتقين وملاذ المستضعفين ومعين ...
مقال: جاه الأكارم (2) كظمُ الغيظ
الحمد لله رب العالمين ولي المتقين وملاذ المستضعفين ومعين عباده من المردة الشياطين، والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين، صاحب الخلق العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
فمن المعلوم أن الشيطان يتربص بابن آدم، فهو لا يكاد يترك ثغرة إلا استغلها لإفساد دين العباد وحياتهم، ومن المواطن التي يحرص الشيطان دائما أن يكون حاضرا فيها النزاعات والخصومات ليثير عندها غيظ ابن آدم وغضبه؛ لعلمه أن العقل حينها يصل لدرجة الإغلاق فيفقد المغتاظ السيطرة على جوارحه وانفعالاته؛ فيدفعه إلى شرور كثيرةٍ غير متوقعة كقتل النفوس بل يصل للكفر أحيانا -نعوذ بالله منه-.
وعلْم الشيطان بهذه الخصلة في ابن آدم ليس وليد اليوم، بل منذ خلق اللهُ تعالى آدم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما صور الله آدم في الجنة ترکه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك) [صحيح مسلم]، ومعنى (لا يتمالك) أي: ليس لديه القدرة على أن يملك نفسه عند الغيظ والغضب، أو لا يملك نفسه، ويحبِسها عن الشهوات، أو لا يملك دفع الوسواس عنه، كما ذكر ذلك الإمام النووي رحمه الله، ومن هنا جاء الترغيب في القرآن في كظم الغيظ ووصف أصحاب هذا الفعل من المتقين المستحقين للجنة على فعلهم، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:۱۳۳-١٣٤]، فجعل من صفاتهم أنهم يكظمون الغيظ، ويعفون عمن ظلمهم.
الجارعون الغيظ!
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، يعني: "والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: "كظم فلان غيظه" إذا تجرعه، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها، وأصل ذلك من كظم القربة، يقال منه: "كظمت القربة" إذا ملأتها ماء، و" فلان كظيم ومكظوم" إذا كان ممتلئًا غمًا وحزنًا؛ ومنه قول الله عز وجل: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤]، يعني: ممتلئ من الحزن، ومنه قيل لمجاري المياه: "الكظائم" لامتلائها بالماء، ومنه قيل: "أخذت بكظمه "يعني: بمجاري نفسه" [تفسير الطبري]، وقال قتادة رحمه الله: "قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم" [تفسير الطبري].
وهل هناك فرق بين الغضب والغيظ؟ ذكر بعض أهل العلم أن بينهما فرق فمن ذلك أن الغضب يتبعه إرادة الانتقام، وليس الغيظ كذلك، وقيل: الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير اختيار، والغيظ ليس كذلك، وقيل: هما متلازمان؛ إلا أن الغضب يصح إسناده إلى الله تعالى، والغيظ لا يصح فيه ذلك.
وبالعموم فإن من امتدحهم الله هم المتجرعون للغيظ الممسكون عليه عند امتلاء نفوسهم منه؛ فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم، ولا يبدون له ما يكره، بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنفاذ والانتقام.
ولقد أنار الله تعالى قلوب عباد له فكانوا وقّافين عند كلام رب العزة جل في علاه، أخبر الإمام القرطبي رحمه الله عن ميمون بن مهران رحمه الله: "أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف، فعثرت، فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي استعمل قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فقال: قد عفوت عنك، فقالت الجارية: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى". [تفسير القرطبي]
وجاء في السنة ما فيه ترغيب في تلك الخصلة الحميدة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، فعن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء) [رواه أبو داود]، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فهو صاحب الخلق الحسن والقلب السليم بأبي هو وأمي، قالت عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها". [صحيح البخاري]
- والعفو أعظم أجرا
و إن كان كظم الغيط -عمن أساء إليك في نفسك- محمودا فالعفو أعظم أجرا وأطيب للنفس، ثم الإحسان للمسيء فإنه أعلى مرتبة وثماره أكثر وأعظم من العفو إذ به -مع راحة النفس- كبت الشيطان وإغاظته ثم امتلاك قلب المسيء وضمه ليكون لك نصيرا بعد أن كان عدوا قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ولأن هذا الخلق يحتاجه الداعية وصاحب الرسالة جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقد قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: "{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقوله: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك". [التفسير]
ولأنه لا يقوم بهذا الخُلق إلا الندرة من الرجال وخواص الكرام قال بعدها: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، قال ابن كثير: "أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي: ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والأخرى، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم". [التفسير]
فأي شيء أنفع لدعوتك من أن تجعل أعداءك أولياء ومحبين لك، فبذلك تستميل النفوس لدعوة الحق، وهذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم ودأبه، وإن عامة المسلمين اليوم لطالما غُيّبوا عن كثير من أحكام الشرع وشوهت عندهم سُبل الهدى حتى أصبحوا في نفرة عنها وعن أهلها، وقد يجد من يدعوهم شيئا من الأذى، وهنا يَجْمُل به كظم غيظه ودفع السيئة بالتي هي أحسن، وهكذا يملك المجاهد في دعوته زمام القلوب؛ لأن واجبه كيف يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فيرحم العباد ويحب هدايتهم ولو كرهوه، ويرجو لهم الرشاد وإن أبغضوه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا القلوب السليمة وأن يحسّن أخلاقنا كما حسّن خَلْقَنا سبحانه هو القادر المنعم المتفضل والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 302
الخميس 24 محرم 1443 هـ ...المزيد
الحمد لله رب العالمين ولي المتقين وملاذ المستضعفين ومعين عباده من المردة الشياطين، والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين، صاحب الخلق العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
فمن المعلوم أن الشيطان يتربص بابن آدم، فهو لا يكاد يترك ثغرة إلا استغلها لإفساد دين العباد وحياتهم، ومن المواطن التي يحرص الشيطان دائما أن يكون حاضرا فيها النزاعات والخصومات ليثير عندها غيظ ابن آدم وغضبه؛ لعلمه أن العقل حينها يصل لدرجة الإغلاق فيفقد المغتاظ السيطرة على جوارحه وانفعالاته؛ فيدفعه إلى شرور كثيرةٍ غير متوقعة كقتل النفوس بل يصل للكفر أحيانا -نعوذ بالله منه-.
وعلْم الشيطان بهذه الخصلة في ابن آدم ليس وليد اليوم، بل منذ خلق اللهُ تعالى آدم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما صور الله آدم في الجنة ترکه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك) [صحيح مسلم]، ومعنى (لا يتمالك) أي: ليس لديه القدرة على أن يملك نفسه عند الغيظ والغضب، أو لا يملك نفسه، ويحبِسها عن الشهوات، أو لا يملك دفع الوسواس عنه، كما ذكر ذلك الإمام النووي رحمه الله، ومن هنا جاء الترغيب في القرآن في كظم الغيظ ووصف أصحاب هذا الفعل من المتقين المستحقين للجنة على فعلهم، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:۱۳۳-١٣٤]، فجعل من صفاتهم أنهم يكظمون الغيظ، ويعفون عمن ظلمهم.
الجارعون الغيظ!
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، يعني: "والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: "كظم فلان غيظه" إذا تجرعه، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها، وأصل ذلك من كظم القربة، يقال منه: "كظمت القربة" إذا ملأتها ماء، و" فلان كظيم ومكظوم" إذا كان ممتلئًا غمًا وحزنًا؛ ومنه قول الله عز وجل: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤]، يعني: ممتلئ من الحزن، ومنه قيل لمجاري المياه: "الكظائم" لامتلائها بالماء، ومنه قيل: "أخذت بكظمه "يعني: بمجاري نفسه" [تفسير الطبري]، وقال قتادة رحمه الله: "قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم" [تفسير الطبري].
وهل هناك فرق بين الغضب والغيظ؟ ذكر بعض أهل العلم أن بينهما فرق فمن ذلك أن الغضب يتبعه إرادة الانتقام، وليس الغيظ كذلك، وقيل: الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير اختيار، والغيظ ليس كذلك، وقيل: هما متلازمان؛ إلا أن الغضب يصح إسناده إلى الله تعالى، والغيظ لا يصح فيه ذلك.
وبالعموم فإن من امتدحهم الله هم المتجرعون للغيظ الممسكون عليه عند امتلاء نفوسهم منه؛ فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم، ولا يبدون له ما يكره، بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنفاذ والانتقام.
ولقد أنار الله تعالى قلوب عباد له فكانوا وقّافين عند كلام رب العزة جل في علاه، أخبر الإمام القرطبي رحمه الله عن ميمون بن مهران رحمه الله: "أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف، فعثرت، فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي استعمل قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فقال: قد عفوت عنك، فقالت الجارية: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى". [تفسير القرطبي]
وجاء في السنة ما فيه ترغيب في تلك الخصلة الحميدة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، فعن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء) [رواه أبو داود]، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فهو صاحب الخلق الحسن والقلب السليم بأبي هو وأمي، قالت عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها". [صحيح البخاري]
- والعفو أعظم أجرا
و إن كان كظم الغيط -عمن أساء إليك في نفسك- محمودا فالعفو أعظم أجرا وأطيب للنفس، ثم الإحسان للمسيء فإنه أعلى مرتبة وثماره أكثر وأعظم من العفو إذ به -مع راحة النفس- كبت الشيطان وإغاظته ثم امتلاك قلب المسيء وضمه ليكون لك نصيرا بعد أن كان عدوا قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ولأن هذا الخلق يحتاجه الداعية وصاحب الرسالة جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقد قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: "{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقوله: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك". [التفسير]
ولأنه لا يقوم بهذا الخُلق إلا الندرة من الرجال وخواص الكرام قال بعدها: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، قال ابن كثير: "أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي: ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والأخرى، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم". [التفسير]
فأي شيء أنفع لدعوتك من أن تجعل أعداءك أولياء ومحبين لك، فبذلك تستميل النفوس لدعوة الحق، وهذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم ودأبه، وإن عامة المسلمين اليوم لطالما غُيّبوا عن كثير من أحكام الشرع وشوهت عندهم سُبل الهدى حتى أصبحوا في نفرة عنها وعن أهلها، وقد يجد من يدعوهم شيئا من الأذى، وهنا يَجْمُل به كظم غيظه ودفع السيئة بالتي هي أحسن، وهكذا يملك المجاهد في دعوته زمام القلوب؛ لأن واجبه كيف يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فيرحم العباد ويحب هدايتهم ولو كرهوه، ويرجو لهم الرشاد وإن أبغضوه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا القلوب السليمة وأن يحسّن أخلاقنا كما حسّن خَلْقَنا سبحانه هو القادر المنعم المتفضل والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 302
الخميس 24 محرم 1443 هـ ...المزيد
مقال / تُحف الذاكرين (3) الحمد لله حمدا حمدا والشكر له شكرا شكرا، والصلاة والسلام على نبيا ...
مقال / تُحف الذاكرين (3)
الحمد لله حمدا حمدا والشكر له شكرا شكرا، والصلاة والسلام على نبيا محمد خير الورى طُرا، وعلى آله وأصحابه الصابرين على الحق حلوا ومرّا، ومَن تبعهم بإحسان إلى يومٍ يُجازى فيه العباد على ما عملوه خيرا وشرا، وبعد.
فهذه تتمة لتُحف الذاكرين التي أعدها الله تعالى لهم، والتي بدأناها فيما سبق:
التحفة الخامسة: الفلاح والفوز، قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]، ولم يرضَ ربُّنا سبحانه وتعالى مِن ذكره إلا بالكثير، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يفرض سبحانه على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، بالليل والنهار في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال" [تفسير الطبري].
فحال المؤمن أنه كثير الذكر لله، ولذلك وصف الله مَن قلّ ذكره له بالنفاق، فقال تعالى: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وجعل الله مآل الذاكرين الفلاح وهو الفوز بدخول الجنة والنجاة من النار؛ لأن ذكر الله يثقّل الموازين ويقود الإنسان إلى ترك المعاصي وبغضها، بل فيه مغفرة للذنوب وبذلك يُحصّل الإنسان الغاية المطلوبة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
والذاكرون يسبقون غيرهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفَرِّدون قالوا: و ما المفَرِّدون يا رسول الله قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)، وفي رواية: (المستهترون لذكر الله عز وجل، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا) [مسلم] (والمستهترون أي: المولعون بالذكر المداومون عليه)، وهذا فوز عظيم أن توضع عنهم أثقالهم فيأتوا يوم القيامة خفافا، ثم تكون لهم الجنة بعد ذلك، جعلنا الله منهم.
التحفة السادسة: الخروج من الظلمات إلى النور، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:41-43]، فبذكر الله كثيرا يُصلي الله على عبده، روى البخاري عن أبي العالية: "صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء"، وقال الطبري رحمه الله: "إذا أنتم فعلتم ذلك، الذي يرحمكم، ويثني عليكم هو، ويدعو لكم ملائكته. وقيل: إن معنى قوله {يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}: يشيع عنكم الذكر الجميل في عباد الله. وقوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يقول: تدعو ملائكة الله لكم؛ فيخرجكم الله من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان. [التفسير]
وأول نور الذكر ما يجده الذاكر من النور في قلبه بمعرفته الحق وأهله وانشراحه للحق ومحبته له، كما قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]، بينما تارك الذكر لله مغمور في ظلمة الغفلة قلبه مظلم مشمئز من الذكر، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الزمر:22]، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القاسي) [الترمذي].
ويُعطى الذاكر نورًا في اتباع الحق بعدما وُفق لمعرفته، بينما قليل الذكر لا يوفق لاتباعه والعمل به!؛ فهو في ظلمة الهوى وظلمة تزيين الباطل وظلمة التعلق بالدنيا، ولم يوفَق الكثير من الناس للنفير والجهاد بسبب تلك الظلمات، ويُعطى الذاكر نورَ الفراسة وتمييز الحق من الباطل حين اشتباه الأمور، فيرى بنور الله ما لا يراه الغافلون ويُدرك مآلات الأحداث ويتفطّن لخطوات الشيطان من أولها.
وهذا النور لمن ذكَر الله بقلبه ولسانه معاً، فكثير يذكرون الله بألسنتهم لا بقلوبهم فلا ينتفعون، أما من تواطأ قلبه ولسانه الذكرَ فإنه يستشعر عظمة الله، فمحال لمثله أن يقول: "سبحان الله" وينزّه الله عما لا يليق به ثم يرضى بمشّرع سوى الله جاعلا نفسه نداً لله، ومحال أن يقول: "الحمد لله" ثم يعزو الفضائل والنعم للطاغوت الكافر بالله المبدل لشرع الله، ومحال أن يقول: "لا إله إلا الله" ويشرك بالله في حكمه ويُقر بمعبود سوى الله، ومحال أن يقول: "الله أكبر" فيخشى سواه أو يترك منهاج الحق نزولا تحت ضغط الواقع وهو يعلم أنه لا أكبر من الله شيء، هذه معاني النور في الذكر يوفَّق إليها من كان صادقًا وأراد هيمنة نور الله في الأرض.
التحفة السابعة: القوة على طاعة الله، قال هود عليه السلام لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ} [هود:52] وقال تعالى حين أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] قال ابن كثير: "والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له، كما جاء في الحديث: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قِرْنه". [التفسير]، والمعنى: أي أن عبدي الحقيقي، الذي أخلص في العبادة، ولم يغفل عن ذكري، هو من ذكرني في ساحة القتال مع قرنه وخصمه.
فذكر الله قوة للمؤمن على طاعة الله، وتركه ضعف وعجز، وسبب لاقتراف الذنوب والوهن النفسي، والقوة الحقيقية هي قوة الإيمان ولزوم الحق لا قوة الجسد، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) [البخاري].
وفي المقابل فإن الكسل حقيقته كسل القلب لا كسل البدن؛ لأنه من الشيطان، وقد كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من الكسل، وإن أول مراتب الضعف قلة ذكر الله لذلك قرَن الله بين الكسل وقلة الذكر في كلامه عن المنافقين فقال سبحانه: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، ومن أراد علاج ما به من ضعف أو عجز أو كسل، فأول ما عليه أن يكثر من ذكر الله، ليطرد وساوس الشيطان، وسيجد بعد ذلك عزمًا على الطاعة وقوة على النفس في كبح جماحها عن المساوئ أو ترويضها على الشدائد، وعلى من أراد التوفيق للجهاد أن يكثر من الذكر، والمجاهد أيضا إن أراد العون على جهاده فليكثر من ذكر الله، فإنه من أعظم أسباب العون.
هذه بعض تحف الذاكرين وإنها كثيرة لمن تدبّرها وتبحّثها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفرد لها العلماء كتبا وأجزاء حديثية، ومع يُسْر هذه العبادة إلا أنه لا يوفق لها إلا النُدرة الطيّبة من عباد الله، فحرصًا حرصًا على ركوب مطايا الذاكرين، وحذرًا حذرًا من ارتضاء سبيل الغافلين الغاوين.
والمجاهد في سبيل الله بهذه الوصية أخص؛ لأنه المأمور بعدم الفتور عن ذكر الله، فهو الأحوج إليه، والشياطين حوله تنتظر منه غفلة لتتهجّم عليه، فليحذر من الثغْرة ولينتبه من الغِرّة، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 298
الخميس 26 ذي الحجة 1442 هـ ...المزيد
الحمد لله حمدا حمدا والشكر له شكرا شكرا، والصلاة والسلام على نبيا محمد خير الورى طُرا، وعلى آله وأصحابه الصابرين على الحق حلوا ومرّا، ومَن تبعهم بإحسان إلى يومٍ يُجازى فيه العباد على ما عملوه خيرا وشرا، وبعد.
فهذه تتمة لتُحف الذاكرين التي أعدها الله تعالى لهم، والتي بدأناها فيما سبق:
التحفة الخامسة: الفلاح والفوز، قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]، ولم يرضَ ربُّنا سبحانه وتعالى مِن ذكره إلا بالكثير، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يفرض سبحانه على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، بالليل والنهار في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال" [تفسير الطبري].
فحال المؤمن أنه كثير الذكر لله، ولذلك وصف الله مَن قلّ ذكره له بالنفاق، فقال تعالى: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وجعل الله مآل الذاكرين الفلاح وهو الفوز بدخول الجنة والنجاة من النار؛ لأن ذكر الله يثقّل الموازين ويقود الإنسان إلى ترك المعاصي وبغضها، بل فيه مغفرة للذنوب وبذلك يُحصّل الإنسان الغاية المطلوبة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
والذاكرون يسبقون غيرهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفَرِّدون قالوا: و ما المفَرِّدون يا رسول الله قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)، وفي رواية: (المستهترون لذكر الله عز وجل، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا) [مسلم] (والمستهترون أي: المولعون بالذكر المداومون عليه)، وهذا فوز عظيم أن توضع عنهم أثقالهم فيأتوا يوم القيامة خفافا، ثم تكون لهم الجنة بعد ذلك، جعلنا الله منهم.
التحفة السادسة: الخروج من الظلمات إلى النور، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:41-43]، فبذكر الله كثيرا يُصلي الله على عبده، روى البخاري عن أبي العالية: "صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء"، وقال الطبري رحمه الله: "إذا أنتم فعلتم ذلك، الذي يرحمكم، ويثني عليكم هو، ويدعو لكم ملائكته. وقيل: إن معنى قوله {يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}: يشيع عنكم الذكر الجميل في عباد الله. وقوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يقول: تدعو ملائكة الله لكم؛ فيخرجكم الله من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان. [التفسير]
وأول نور الذكر ما يجده الذاكر من النور في قلبه بمعرفته الحق وأهله وانشراحه للحق ومحبته له، كما قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]، بينما تارك الذكر لله مغمور في ظلمة الغفلة قلبه مظلم مشمئز من الذكر، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الزمر:22]، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القاسي) [الترمذي].
ويُعطى الذاكر نورًا في اتباع الحق بعدما وُفق لمعرفته، بينما قليل الذكر لا يوفق لاتباعه والعمل به!؛ فهو في ظلمة الهوى وظلمة تزيين الباطل وظلمة التعلق بالدنيا، ولم يوفَق الكثير من الناس للنفير والجهاد بسبب تلك الظلمات، ويُعطى الذاكر نورَ الفراسة وتمييز الحق من الباطل حين اشتباه الأمور، فيرى بنور الله ما لا يراه الغافلون ويُدرك مآلات الأحداث ويتفطّن لخطوات الشيطان من أولها.
وهذا النور لمن ذكَر الله بقلبه ولسانه معاً، فكثير يذكرون الله بألسنتهم لا بقلوبهم فلا ينتفعون، أما من تواطأ قلبه ولسانه الذكرَ فإنه يستشعر عظمة الله، فمحال لمثله أن يقول: "سبحان الله" وينزّه الله عما لا يليق به ثم يرضى بمشّرع سوى الله جاعلا نفسه نداً لله، ومحال أن يقول: "الحمد لله" ثم يعزو الفضائل والنعم للطاغوت الكافر بالله المبدل لشرع الله، ومحال أن يقول: "لا إله إلا الله" ويشرك بالله في حكمه ويُقر بمعبود سوى الله، ومحال أن يقول: "الله أكبر" فيخشى سواه أو يترك منهاج الحق نزولا تحت ضغط الواقع وهو يعلم أنه لا أكبر من الله شيء، هذه معاني النور في الذكر يوفَّق إليها من كان صادقًا وأراد هيمنة نور الله في الأرض.
التحفة السابعة: القوة على طاعة الله، قال هود عليه السلام لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ} [هود:52] وقال تعالى حين أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] قال ابن كثير: "والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له، كما جاء في الحديث: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قِرْنه". [التفسير]، والمعنى: أي أن عبدي الحقيقي، الذي أخلص في العبادة، ولم يغفل عن ذكري، هو من ذكرني في ساحة القتال مع قرنه وخصمه.
فذكر الله قوة للمؤمن على طاعة الله، وتركه ضعف وعجز، وسبب لاقتراف الذنوب والوهن النفسي، والقوة الحقيقية هي قوة الإيمان ولزوم الحق لا قوة الجسد، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) [البخاري].
وفي المقابل فإن الكسل حقيقته كسل القلب لا كسل البدن؛ لأنه من الشيطان، وقد كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من الكسل، وإن أول مراتب الضعف قلة ذكر الله لذلك قرَن الله بين الكسل وقلة الذكر في كلامه عن المنافقين فقال سبحانه: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، ومن أراد علاج ما به من ضعف أو عجز أو كسل، فأول ما عليه أن يكثر من ذكر الله، ليطرد وساوس الشيطان، وسيجد بعد ذلك عزمًا على الطاعة وقوة على النفس في كبح جماحها عن المساوئ أو ترويضها على الشدائد، وعلى من أراد التوفيق للجهاد أن يكثر من الذكر، والمجاهد أيضا إن أراد العون على جهاده فليكثر من ذكر الله، فإنه من أعظم أسباب العون.
هذه بعض تحف الذاكرين وإنها كثيرة لمن تدبّرها وتبحّثها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفرد لها العلماء كتبا وأجزاء حديثية، ومع يُسْر هذه العبادة إلا أنه لا يوفق لها إلا النُدرة الطيّبة من عباد الله، فحرصًا حرصًا على ركوب مطايا الذاكرين، وحذرًا حذرًا من ارتضاء سبيل الغافلين الغاوين.
والمجاهد في سبيل الله بهذه الوصية أخص؛ لأنه المأمور بعدم الفتور عن ذكر الله، فهو الأحوج إليه، والشياطين حوله تنتظر منه غفلة لتتهجّم عليه، فليحذر من الثغْرة ولينتبه من الغِرّة، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 298
الخميس 26 ذي الحجة 1442 هـ ...المزيد
بوادي الشام.. جنان ونار! بينما يعيش النصيرية والنصارى الروس في بوادي الشام حسرة وضنكا ونزيفا ...
بوادي الشام.. جنان ونار!
بينما يعيش النصيرية والنصارى الروس في بوادي الشام حسرة وضنكا ونزيفا مستمرا في الأرواح والمعدات، يحيا جنود الخلافة في تلك البوادي حياة طيبة تنعم فيها قلوبهم بلذة البذل وحلاوة الإيمان وإنْ تعبت منهم الأجساد والأبدان، بعد أن عمروها بالتوحيد والجهاد والرباط، فصارت جنة يأوي إليها المؤمنون، ونارا يحترق فيها الكافرون.
فمنذ أكثر من عامين تشنّ القوات الروسية والنصيرية حملة في إثر حملة على بوادي الشام، وما إنْ يزعموا نجاح الأولى حتى تأتي أختها فتنسف أكاذيبها، حتى أصبحت المواقع الإخبارية الروسية تنسب الفشل والتعثر إلى الجيش النصيري لتتهرب مِن وصف جيشها الصليبي بذلك، رغم أنه هو الذي يقود ويسيّر هذه الحملات.
وقد زجّوا بالمئات من عناصر الجيش النصيري والميليشيات الإيرانية وميليشيات محلية من مرتدي الصحوات، كما سحبوا العديد من قواتهم المنتشرة في أرياف إدلب وحماة، وأرسلوهم إلى البادية للمشاركة في القتال الممتد على محاور واسعة استهلكت قواتهم وأنهكت جنودهم، فأصبحت مشاهد احتراق حافلاتهم وتفحُّم جنودهم عالقة في الأذهان، وصارت أرتالهم صيدا لمفارز العبوات، فلجأ الروس الصليبيون إلى سياسة القصف الجوي، ثم إلى الإنزالات الجوية كحلٍ بديلٍ عن التقدم الميداني الذي كلّفهم كثيرا، ثم بدأوا مؤخرا بالاعتماد على ميليشيات إيرانية لتنفيذ الإنزالات، بعد أن فقدوا عددا من جنودهم في إنزالات فاشلة، وهم من فشل إلى آخر سائرون.
لقد تحقق في بوادي الإيمان مفهوم "الفلاح" تماما كما تحقق من قبل في المدن؛ فإن الفلاح كل الفلاح هو في البقاء على طاعة الله وعبادته في كل الأحوال، طاعته في الرخاء والشدة، في العسر واليسر، وإقامة دينه ما استطاع المسلمون إلى ذلك سبيلا، فقد أفلح المجاهدون يوم أقاموا الشريعة في المدن ولم يرضوا بكل الأوهام التي أرادت ثنيهم عن إقامة حكم الله تعالى فيها، كما أفلحوا اليوم في البوادي وميادين العسرة بثباتهم على الإيمان والجهاد وإبقاء جذوته مشتعلة تحرق الكافرين وتستنزف طاقاتهم.
إن تلك البوادي المقفرة عامرة بالإيمان واليقين والقربات والخلوة برب البريات، فهي توفّر للمجاهد بيئة إيمانية يتمناها كلُّ من جرّب العيش تحت حكم الطواغيت، كما تُحقق ترابطا عقديا وأخوة إيمانية فريدة يسمع عنها الناس في الخطب ويقرأون عنها في الكتب، بينما يعيشها جنود الخلافة يوما بيوم وساعة بساعة، برجال نزّاع من قبائل ودول شتى جمَعهم التوحيد وجراح المسلمين التي لن تبرأ بغير الجهاد والطعان.
إن المجاهدين في تلك البوادي يعيشون نعيم الهداية ولذة التعب في سبيل الله تعالى، وانشراح الصدر والتوفيق إلى الهدى، فيرون الحق حقا والباطل باطلا لا تُزاحم أفئدتهم شبهات ولا تُدافع جوارحهم شهوات، يَحيون جنة الدنيا التي قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، وبيّن مراده بها تلميذُه ابن القيم رحمه الله بقوله: "الإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته" وعدّ ذلك "ثوابا عاجلا وجنة، وعيشا لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة"، وهو عين ما قصده أئمة السلف بقولهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف!".
هكذا يعيش المجاهدون في تلك البوادي لمن يسأل عن أحوالهم، ويتعجب من صمودهم وبقائهم، يعيشون في جنة الدنيا التي أدرك معناها السلف الأوائل فتنافسوها وحرصوا عليها طمعا في جنة الآخرة، فلا سبيل إلى تلك بغير هذه.
إنهم يعيشون الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين في الدنيا، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ولقد تعددت أقوال المفسّرين في معنى قوله: (حياة طيبة)؛ بين "السعادة، والقناعة، وحلاوة الطاعة، والرزق الحلال، والعبادة والانشراح بها"، وعلّق ابن كثير رحمه الله على ذلك بقوله: "والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله".
فالمجاهدون في البوادي يعيشون حياة طيبة بمفهوم القرآن الكريم ومقياسه لا مقاييس البشر، حياة طيبة بسكون النفس وطمأنينة القلب وعدم الالتفات إلى ما يفسده ويحجبه عن خالقه، ويكدّر صفو الإيمان به تعالى، يعيشون بصدر منشرح وقلب مستبشر بأقدار الله تعالى، وإنْ لاقت أجسادهم ما لاقت من الجراح والجوع والتعب.
لقد عاش جنود الخلافة بدرا كما عاشوا أُحدا وتحزّبت عليهم الأحزاب، وما زال سفْر أمجادهم يقلّب صفحات العزة والثبات والاستعلاء بالإيمان على الباطل، كما عاشوا الهجرة بحذافيرها في تلك البوادي والفيافي التي هاجروا إليها وتركوا أهلهم وديارهم وتحملوا كل هذه المشاق والصعاب في هذا الطريق سيرا على خطى نبيهم عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام، وهم ينتظرون وعد الله تعالى لهم بأن يعوّضهم بأفضل مما جادوا به في الدنيا والآخرة معا إن شاء الله.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، قال الطبري رحمه الله: "لنُسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا"، وقال ابن كثير: "أخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: (ولأجر الآخرة أكبر) أي: مما أعطيناهم في الدنيا".
فالمجاهدون المهاجرون مهما قاسوا من المحن في جهادهم -والتي لن يخلو منها جهاد إلى أبد الدهر-، فإنهم موعودون بنص القرآن الكريم من الله تعالى أن يبوئهم ويُنزلهم في الدنيا منزلا حسنا وفي الآخرة أجرا أكبر وأعظم، قال الطبري: "ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه، في الآخرة أكبر لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد".
تلك أحوال جنود الدولة الإسلامية في بوادي الشام وكل بوادي الجهاد التي أضحت قواعد عسكرية ومدارس شرعية وصوامع عبادة وأنْسٍ بالله تعالى، يُجدّدون فيها إيمانهم ويرصّون فيها صفوفهم، ثم يصبّحون عدو الله وعدوهم بلظى صولاتهم، ولهيب غاراتهم.
وكما قال الشيخ أبو حمزة القرشي -حفظه الله- في خطابه الأخير: "إلى أسد البوادي في ولاية الشام، لله دركم من رجال، تعجز الكلمات عن وصفكم ولو كتبنا لذلك ألف مقال". فالكلمات حقا تعجز وتقْصُر عن وصف مآثرهم وبطولاتهم وكيف للكلمات أن توفي الدماء حقها؟! لكن من نافلة القول أن نوصيهم كسائر إخوانهم المجاهدين بالثبات على هذا الدرب فهم أهله وأبطاله وكماته، ونذكّرهم بأنهم اليوم في مرحلة قريبة من تلك التي عاشها إخوانهم في بوادي العراق قديما، وكيف كانت تلك المعسكرات الغائرة في عمق الصحراء منطلقا رئيسا بعد سنوات نحو المدن وتجديد بنيان الدولة الإسلامية، بل إنّ بوداي الشام اليوم ثمرة من ثمرات بوادي العراق، وأنتم اليوم -بإذن الله تعالى- غرس لثمرة أخرى ستثمر حيث شاء الله تعالى وقدّر.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 299
الخميس 3 محرم 1443 هـ ...المزيد
بينما يعيش النصيرية والنصارى الروس في بوادي الشام حسرة وضنكا ونزيفا مستمرا في الأرواح والمعدات، يحيا جنود الخلافة في تلك البوادي حياة طيبة تنعم فيها قلوبهم بلذة البذل وحلاوة الإيمان وإنْ تعبت منهم الأجساد والأبدان، بعد أن عمروها بالتوحيد والجهاد والرباط، فصارت جنة يأوي إليها المؤمنون، ونارا يحترق فيها الكافرون.
فمنذ أكثر من عامين تشنّ القوات الروسية والنصيرية حملة في إثر حملة على بوادي الشام، وما إنْ يزعموا نجاح الأولى حتى تأتي أختها فتنسف أكاذيبها، حتى أصبحت المواقع الإخبارية الروسية تنسب الفشل والتعثر إلى الجيش النصيري لتتهرب مِن وصف جيشها الصليبي بذلك، رغم أنه هو الذي يقود ويسيّر هذه الحملات.
وقد زجّوا بالمئات من عناصر الجيش النصيري والميليشيات الإيرانية وميليشيات محلية من مرتدي الصحوات، كما سحبوا العديد من قواتهم المنتشرة في أرياف إدلب وحماة، وأرسلوهم إلى البادية للمشاركة في القتال الممتد على محاور واسعة استهلكت قواتهم وأنهكت جنودهم، فأصبحت مشاهد احتراق حافلاتهم وتفحُّم جنودهم عالقة في الأذهان، وصارت أرتالهم صيدا لمفارز العبوات، فلجأ الروس الصليبيون إلى سياسة القصف الجوي، ثم إلى الإنزالات الجوية كحلٍ بديلٍ عن التقدم الميداني الذي كلّفهم كثيرا، ثم بدأوا مؤخرا بالاعتماد على ميليشيات إيرانية لتنفيذ الإنزالات، بعد أن فقدوا عددا من جنودهم في إنزالات فاشلة، وهم من فشل إلى آخر سائرون.
لقد تحقق في بوادي الإيمان مفهوم "الفلاح" تماما كما تحقق من قبل في المدن؛ فإن الفلاح كل الفلاح هو في البقاء على طاعة الله وعبادته في كل الأحوال، طاعته في الرخاء والشدة، في العسر واليسر، وإقامة دينه ما استطاع المسلمون إلى ذلك سبيلا، فقد أفلح المجاهدون يوم أقاموا الشريعة في المدن ولم يرضوا بكل الأوهام التي أرادت ثنيهم عن إقامة حكم الله تعالى فيها، كما أفلحوا اليوم في البوادي وميادين العسرة بثباتهم على الإيمان والجهاد وإبقاء جذوته مشتعلة تحرق الكافرين وتستنزف طاقاتهم.
إن تلك البوادي المقفرة عامرة بالإيمان واليقين والقربات والخلوة برب البريات، فهي توفّر للمجاهد بيئة إيمانية يتمناها كلُّ من جرّب العيش تحت حكم الطواغيت، كما تُحقق ترابطا عقديا وأخوة إيمانية فريدة يسمع عنها الناس في الخطب ويقرأون عنها في الكتب، بينما يعيشها جنود الخلافة يوما بيوم وساعة بساعة، برجال نزّاع من قبائل ودول شتى جمَعهم التوحيد وجراح المسلمين التي لن تبرأ بغير الجهاد والطعان.
إن المجاهدين في تلك البوادي يعيشون نعيم الهداية ولذة التعب في سبيل الله تعالى، وانشراح الصدر والتوفيق إلى الهدى، فيرون الحق حقا والباطل باطلا لا تُزاحم أفئدتهم شبهات ولا تُدافع جوارحهم شهوات، يَحيون جنة الدنيا التي قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنّ في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، وبيّن مراده بها تلميذُه ابن القيم رحمه الله بقوله: "الإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته" وعدّ ذلك "ثوابا عاجلا وجنة، وعيشا لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة"، وهو عين ما قصده أئمة السلف بقولهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف!".
هكذا يعيش المجاهدون في تلك البوادي لمن يسأل عن أحوالهم، ويتعجب من صمودهم وبقائهم، يعيشون في جنة الدنيا التي أدرك معناها السلف الأوائل فتنافسوها وحرصوا عليها طمعا في جنة الآخرة، فلا سبيل إلى تلك بغير هذه.
إنهم يعيشون الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين في الدنيا، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ولقد تعددت أقوال المفسّرين في معنى قوله: (حياة طيبة)؛ بين "السعادة، والقناعة، وحلاوة الطاعة، والرزق الحلال، والعبادة والانشراح بها"، وعلّق ابن كثير رحمه الله على ذلك بقوله: "والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله".
فالمجاهدون في البوادي يعيشون حياة طيبة بمفهوم القرآن الكريم ومقياسه لا مقاييس البشر، حياة طيبة بسكون النفس وطمأنينة القلب وعدم الالتفات إلى ما يفسده ويحجبه عن خالقه، ويكدّر صفو الإيمان به تعالى، يعيشون بصدر منشرح وقلب مستبشر بأقدار الله تعالى، وإنْ لاقت أجسادهم ما لاقت من الجراح والجوع والتعب.
لقد عاش جنود الخلافة بدرا كما عاشوا أُحدا وتحزّبت عليهم الأحزاب، وما زال سفْر أمجادهم يقلّب صفحات العزة والثبات والاستعلاء بالإيمان على الباطل، كما عاشوا الهجرة بحذافيرها في تلك البوادي والفيافي التي هاجروا إليها وتركوا أهلهم وديارهم وتحملوا كل هذه المشاق والصعاب في هذا الطريق سيرا على خطى نبيهم عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام، وهم ينتظرون وعد الله تعالى لهم بأن يعوّضهم بأفضل مما جادوا به في الدنيا والآخرة معا إن شاء الله.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، قال الطبري رحمه الله: "لنُسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا"، وقال ابن كثير: "أخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: (ولأجر الآخرة أكبر) أي: مما أعطيناهم في الدنيا".
فالمجاهدون المهاجرون مهما قاسوا من المحن في جهادهم -والتي لن يخلو منها جهاد إلى أبد الدهر-، فإنهم موعودون بنص القرآن الكريم من الله تعالى أن يبوئهم ويُنزلهم في الدنيا منزلا حسنا وفي الآخرة أجرا أكبر وأعظم، قال الطبري: "ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه، في الآخرة أكبر لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد".
تلك أحوال جنود الدولة الإسلامية في بوادي الشام وكل بوادي الجهاد التي أضحت قواعد عسكرية ومدارس شرعية وصوامع عبادة وأنْسٍ بالله تعالى، يُجدّدون فيها إيمانهم ويرصّون فيها صفوفهم، ثم يصبّحون عدو الله وعدوهم بلظى صولاتهم، ولهيب غاراتهم.
وكما قال الشيخ أبو حمزة القرشي -حفظه الله- في خطابه الأخير: "إلى أسد البوادي في ولاية الشام، لله دركم من رجال، تعجز الكلمات عن وصفكم ولو كتبنا لذلك ألف مقال". فالكلمات حقا تعجز وتقْصُر عن وصف مآثرهم وبطولاتهم وكيف للكلمات أن توفي الدماء حقها؟! لكن من نافلة القول أن نوصيهم كسائر إخوانهم المجاهدين بالثبات على هذا الدرب فهم أهله وأبطاله وكماته، ونذكّرهم بأنهم اليوم في مرحلة قريبة من تلك التي عاشها إخوانهم في بوادي العراق قديما، وكيف كانت تلك المعسكرات الغائرة في عمق الصحراء منطلقا رئيسا بعد سنوات نحو المدن وتجديد بنيان الدولة الإسلامية، بل إنّ بوداي الشام اليوم ثمرة من ثمرات بوادي العراق، وأنتم اليوم -بإذن الله تعالى- غرس لثمرة أخرى ستثمر حيث شاء الله تعالى وقدّر.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 299
الخميس 3 محرم 1443 هـ ...المزيد
مقال: خبيئة العمل الصالح الحمد لله رب العالمين، هادي المؤمنين وموفّق الموحدين، المنعم المتفضل ...
مقال: خبيئة العمل الصالح
الحمد لله رب العالمين، هادي المؤمنين وموفّق الموحدين، المنعم المتفضل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والصلاة والسلام على نبي الهدى البشير النذير الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه ومن استنّ بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
قال الله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة البقرة:٢٧١]
"وقوله: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي: إن أظهرتموها فنعم شيء هي، وقوله: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها" [ابن كثير]، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ من السبعة الذين يظلّهم الله تعالى يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه، (رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه) [متفقٌ عليه]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يكون له خَبْءٌ مِن عملٍ صالح فليفعل) [رواه ابن أبي شيبة وغيره بسند صحيح]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يحبُّ العبدَ التَّقيَّ، الغنيَّ، الخفيَّ) [رواه مسلم]
ورحم الله الزاهد الورِع بشر بن الحارث حيث قال: "لا يجد حلاوةَ الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس".
إن أحوال الصادقين المخبتين في كل زمان وحين، تختلف باختلاف مجاهدة العبد نفسه على الإخلاص وطلبِ الوصول لأعلى مراتب الأعمال الصالحة، التي يتقربون بها إلى خالقهم جلّ في علاه، وهم بذلك يريدون رضى الرحمن وحده لِعلمهم أن الغاية هي رضاه سبحانه لا رضى سواه، ولا يتحقق ذلك إلا بصدق الإرادة وسلامة القلب من الشوائب والعوالق والموانع التي تحول بين العبد وبين الوصول لذروة الإخلاص.
وفيما يأتي سنذكر بعضا من أحوال أولئك الذين وفقهم الله تعالى للتخلص من أمراض القلوب التي ابتُلي بها الكثيرون اليوم كحب الظهور والسعي للحصول على مكانة في قلوب العباد على حساب إخلاصهم لله، وما أكثر من جعل الله له صدّا وبغضا في قلوب العباد رغم الظاهر الذي يدل على الصلاح والعبادة، وما سبب لذلك غير الخبايا التي لا يعلمها سوى الله علام الغيوب، فلذلك حريٌ بالمرء أن يجعل لنفسه خبيئة عمل صالح بينه وبين الله تعالى فهي من أسباب الثبات على الدين، وهي أيضا من أسباب زوال الكربات كما ورد في حق أصحاب الغار حين أطبقت عليهم الصخرة فاستحضر كل واحد منهم الخبيئة التي بينه وبين الله تعالى، فكانت سببا في نجاتهم من الكربة التي كانوا فيها، قال ابن القيم رحمه الله: "الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات".
وأبواب العبادات الخفيّة كثيرة كالصلاة في جوف الليل، والسعي في حوائج الضعفاء والمساكين ومواساتهم دون علم أحد، وصدقات السر التي تطفئ غضب الرب سبحانه، وتلاوة آيات الله وتدبرها، أو إغاثة ملهوف، أو صيام خفي، أو دعاء وخلوة تعقبها دمعة تنحدر من عينك منهمرة مع توبة صادقة، أو استغفار وذكر الله لا يتفطّن له أحد، والله لا يضيع أجر المحسنين.
ومن صور حياة أولئك الأفذاذ من الصحابة والتابعين والسلف الميامين الذين أشهر الله أعمالهم بعد موتهم ليكونوا قدوة للسالكين فأعلى الله ذكرهم في الأرض رغم حرصهم على إخفاء أعمالهم.
الإمام زين العابدين علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه الذي كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به.
قال عمرو بن ثابت: "لما مات علي بن الحسين فغسّلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ قالوا: كان يحمل جُرب الدقيق -يعني أكياس الدقيق- ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة، وكان من خبره رحمه الله أنه كان إذا ناول المسكين الصدقة قبّله ثم ناوله". [البداية والنهاية]
وهذا داود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان له دكان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به، فإذا جاء العشاء تعشّى مع أهله!!. [سير أعلام النبلاء]
وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة، ولم تعلم زوجته بذلك، فسبحان الله كيف ربّوا تلك النفوس على الإخلاص؟ ما ذاك إلا بشيء وقر في القلوب، وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فهذه زوجته أقرب الناس إليه وألصق الناس به لا تعلم، يقوم عشرين سنة أو أكثر خفية، فأي حرص هذا على إخفاء الأعمال الصالحة وأي مجاهدة للنفس تلك؟، وذكر عن أيوب السختياني أنه كان يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. [سير أعلام النبلاء]
"وحاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا فأصابهم فيه جهد عظيم فندب الناس إلى نقب منه فما دخله أحد فجاء رجل من الجند فدخله ففتح الله عليهم فنادى منادي مسلمة، أين صاحب النقب فما جاء أحد حتى نادى مرتين أو ثلاثا أو أربعا، فجاء في الرابعة رجل فقال: أنا أيها الأمير صاحب النقب آخذ عهودا ومواثيق ثلاث: لا تسودوا اسمي في صحيفة ولا تأمروا لي بشيء، ولا تشغلوني عن أمري، قال: فقال له مسلمة: قد فعلنا ذلك بك. قال: فغاب بعد ذلك فلم يُر قال: فكان مسلمة بعد ذلك يقول في دبر صلاته: اللهم اجعلني مع صاحب النقب" [تاریخ ابن عساکر]
وقد ذكر عبدة بن سليمان المروزي قال: "كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو ولما التقى الجمعان خرج رجل للمبارزة فبرز إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البِراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة ثم طعنه فقتله فازدحم الناس، فزاحمت فإذا هو ملثم وجهه، فأخذت بطرف ثوبه فمددته، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا.
فلله دَرّهم من رجال أتقياء أنقياء أخفياء، كانوا رحمهم الله يحرصون على الخبيئة الصالحة لما وجدوا فيها من لذة زيّنت قلوبهم بالإيمان والقرب من الرحيم المنان، فهي عبادة من اعتادها طَهُر قلبه وتهذبت نفسه، إنها عبادات السر وطاعات الخفاء، حيث لا يطلع عليها أحد سوى المولى الجليل، فأنت عندئذ تقدّم العبادة له وحده غير راجٍ منزلة عند أحد من الخلق، أو منتظر أجرا منهم مهما قلّ أو كثُر، وهي سبيل لا يستطيعها المنافقون الكذابون أبدًا؛ لأنهم لا يرجون من عملهم إلا الرياء والثناء.
فهنيئا لمن حرص أن تكون له خبيئة صالحة يدّخرها ليوم فقره وذُلّه، ليوم تشخص فيه الأبصار، ليوم تُبْلى فيه السرائر، ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إنْ لم يكن للهِ فعلك خالصًا
فكلّ بناءٍ قد بنيْتَ خرابُ
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 299
الخميس 3 محرم 1443 هـ ...المزيد
الحمد لله رب العالمين، هادي المؤمنين وموفّق الموحدين، المنعم المتفضل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والصلاة والسلام على نبي الهدى البشير النذير الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه ومن استنّ بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
قال الله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة البقرة:٢٧١]
"وقوله: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي: إن أظهرتموها فنعم شيء هي، وقوله: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها" [ابن كثير]، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ من السبعة الذين يظلّهم الله تعالى يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه، (رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه) [متفقٌ عليه]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يكون له خَبْءٌ مِن عملٍ صالح فليفعل) [رواه ابن أبي شيبة وغيره بسند صحيح]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يحبُّ العبدَ التَّقيَّ، الغنيَّ، الخفيَّ) [رواه مسلم]
ورحم الله الزاهد الورِع بشر بن الحارث حيث قال: "لا يجد حلاوةَ الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس".
إن أحوال الصادقين المخبتين في كل زمان وحين، تختلف باختلاف مجاهدة العبد نفسه على الإخلاص وطلبِ الوصول لأعلى مراتب الأعمال الصالحة، التي يتقربون بها إلى خالقهم جلّ في علاه، وهم بذلك يريدون رضى الرحمن وحده لِعلمهم أن الغاية هي رضاه سبحانه لا رضى سواه، ولا يتحقق ذلك إلا بصدق الإرادة وسلامة القلب من الشوائب والعوالق والموانع التي تحول بين العبد وبين الوصول لذروة الإخلاص.
وفيما يأتي سنذكر بعضا من أحوال أولئك الذين وفقهم الله تعالى للتخلص من أمراض القلوب التي ابتُلي بها الكثيرون اليوم كحب الظهور والسعي للحصول على مكانة في قلوب العباد على حساب إخلاصهم لله، وما أكثر من جعل الله له صدّا وبغضا في قلوب العباد رغم الظاهر الذي يدل على الصلاح والعبادة، وما سبب لذلك غير الخبايا التي لا يعلمها سوى الله علام الغيوب، فلذلك حريٌ بالمرء أن يجعل لنفسه خبيئة عمل صالح بينه وبين الله تعالى فهي من أسباب الثبات على الدين، وهي أيضا من أسباب زوال الكربات كما ورد في حق أصحاب الغار حين أطبقت عليهم الصخرة فاستحضر كل واحد منهم الخبيئة التي بينه وبين الله تعالى، فكانت سببا في نجاتهم من الكربة التي كانوا فيها، قال ابن القيم رحمه الله: "الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات".
وأبواب العبادات الخفيّة كثيرة كالصلاة في جوف الليل، والسعي في حوائج الضعفاء والمساكين ومواساتهم دون علم أحد، وصدقات السر التي تطفئ غضب الرب سبحانه، وتلاوة آيات الله وتدبرها، أو إغاثة ملهوف، أو صيام خفي، أو دعاء وخلوة تعقبها دمعة تنحدر من عينك منهمرة مع توبة صادقة، أو استغفار وذكر الله لا يتفطّن له أحد، والله لا يضيع أجر المحسنين.
ومن صور حياة أولئك الأفذاذ من الصحابة والتابعين والسلف الميامين الذين أشهر الله أعمالهم بعد موتهم ليكونوا قدوة للسالكين فأعلى الله ذكرهم في الأرض رغم حرصهم على إخفاء أعمالهم.
الإمام زين العابدين علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه الذي كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به.
قال عمرو بن ثابت: "لما مات علي بن الحسين فغسّلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ قالوا: كان يحمل جُرب الدقيق -يعني أكياس الدقيق- ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة، وكان من خبره رحمه الله أنه كان إذا ناول المسكين الصدقة قبّله ثم ناوله". [البداية والنهاية]
وهذا داود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان له دكان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به، فإذا جاء العشاء تعشّى مع أهله!!. [سير أعلام النبلاء]
وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة، ولم تعلم زوجته بذلك، فسبحان الله كيف ربّوا تلك النفوس على الإخلاص؟ ما ذاك إلا بشيء وقر في القلوب، وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فهذه زوجته أقرب الناس إليه وألصق الناس به لا تعلم، يقوم عشرين سنة أو أكثر خفية، فأي حرص هذا على إخفاء الأعمال الصالحة وأي مجاهدة للنفس تلك؟، وذكر عن أيوب السختياني أنه كان يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. [سير أعلام النبلاء]
"وحاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا فأصابهم فيه جهد عظيم فندب الناس إلى نقب منه فما دخله أحد فجاء رجل من الجند فدخله ففتح الله عليهم فنادى منادي مسلمة، أين صاحب النقب فما جاء أحد حتى نادى مرتين أو ثلاثا أو أربعا، فجاء في الرابعة رجل فقال: أنا أيها الأمير صاحب النقب آخذ عهودا ومواثيق ثلاث: لا تسودوا اسمي في صحيفة ولا تأمروا لي بشيء، ولا تشغلوني عن أمري، قال: فقال له مسلمة: قد فعلنا ذلك بك. قال: فغاب بعد ذلك فلم يُر قال: فكان مسلمة بعد ذلك يقول في دبر صلاته: اللهم اجعلني مع صاحب النقب" [تاریخ ابن عساکر]
وقد ذكر عبدة بن سليمان المروزي قال: "كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو ولما التقى الجمعان خرج رجل للمبارزة فبرز إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البِراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة ثم طعنه فقتله فازدحم الناس، فزاحمت فإذا هو ملثم وجهه، فأخذت بطرف ثوبه فمددته، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا.
فلله دَرّهم من رجال أتقياء أنقياء أخفياء، كانوا رحمهم الله يحرصون على الخبيئة الصالحة لما وجدوا فيها من لذة زيّنت قلوبهم بالإيمان والقرب من الرحيم المنان، فهي عبادة من اعتادها طَهُر قلبه وتهذبت نفسه، إنها عبادات السر وطاعات الخفاء، حيث لا يطلع عليها أحد سوى المولى الجليل، فأنت عندئذ تقدّم العبادة له وحده غير راجٍ منزلة عند أحد من الخلق، أو منتظر أجرا منهم مهما قلّ أو كثُر، وهي سبيل لا يستطيعها المنافقون الكذابون أبدًا؛ لأنهم لا يرجون من عملهم إلا الرياء والثناء.
فهنيئا لمن حرص أن تكون له خبيئة صالحة يدّخرها ليوم فقره وذُلّه، ليوم تشخص فيه الأبصار، ليوم تُبْلى فيه السرائر، ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إنْ لم يكن للهِ فعلك خالصًا
فكلّ بناءٍ قد بنيْتَ خرابُ
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 299
الخميس 3 محرم 1443 هـ ...المزيد
أخيرا رفعوا "الملا برادلي"! لا جديد ولا غرابة فيما جرى مؤخرا في المشهد الأفغاني، فما رسمه ...
أخيرا رفعوا "الملا برادلي"!
لا جديد ولا غرابة فيما جرى مؤخرا في المشهد الأفغاني، فما رسمه "اتفاق السلام" بين الصليبيين والمرتدين في الدوحة جرى تطبيقه بينهم على الأرض في كابل، ومَن تابع مراحل عملية السلام منذ بدايتها، يدرك تماما أن الانسحاب الأمريكي كان قرارا لا عودة فيه بالنسبة للإدارة الأمريكية، بدأه "ترامب" وأتمّه "بايدن"، وأنّ سقوط البلاد في أيدي طالبان كان نتيجة طبيعية بعلم ورضا مَن وقّع على الاتفاق.
ولنعد قليلا إلى الوراء، يوم آوت طالبان المهاجرين وأقامت الشريعة -منقوصة- قصفتها أمريكا وأسقطت حكمها في كابل، وبعد أن تخلت طالبان عن ذلك وتعهدت بأنها لن تسمح بتكرار "خطيئة منهاتن" أعادت أمريكا الحكم إلى طالبان ومنحتها كابل دون أن تطلق طلقة واحدة!
لقد أرادت أمريكا ترسيخ فكرة مفادها أن جهود بضعة أعوام فقط من محادثات السلام في الفنادق الفارهة أعادت طالبان لسدة الحكم، بينما قتال 20 عاما لم يجلب لها سوى الدمار والخراب، لقد خططت أمريكا جيدا ليكون ذلك نصرا للسلام لا للإسلام! وللمفاوضات لا للجهاد! ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقد تخفى هذه الغاية الخبيثة حاليا بين زحمة الأحداث، لكن تأثيرها سيظهر غدا عندما يتحول مزيد من "المقاتلين" إلى "مفاوضين" يصولون ويجولون في قاعات الفنادق كارهين تاركين الخنادق!؛ هذا أخطر ما في الأمر، وهو الهزيمة بعينها لو يدركون.
ولقد رأينا كيف كان التنسيق المباشر بين القوات الأمريكية وطالبان أثناء التقدم نحو كابل، وكيف استمرت عمليات الإخلاء لآلاف الصليبيين والجواسيس في أجواء من الثقة العالية بين الجانبين!، تنسيق وثقة لم تكن تمنحها أمريكا لحكومات طاغوتية قديمة، بينما منحتها لطالبان بعد ساعات فقط من دخولها كابل!
وبرغم وضوح ما جرى وأنه لم يكن سوى عملية انتقال سلمي للحكم من طاغوت إلى آخر، وباعتراف قادة الميليشيا أنفسهم الذين أكّدوا مرارا على أن سيطرتهم على المدن جاءت في سياق الاتفاقيات في حدود "التسليم والاستلام" وليس بالقتال؛ إلا أن أطرافا عديدة وعلى رأسها القاعدة والسرورية والإخوان المرتدون أبوا إلا أن يكملوا السيناريو الأمريكي القطري بتصوير ما جرى على أنه "فتح وتمكين"!
إن مفهوم النصر تعرض لنكسات كبيرة في التاريخ المعاصر، تسببت بهذه النكسات الأحزاب والحركات المرتدة التي أصبحت تطلق النصر على كل ما يوافق أهواءها ويحقق مصالحها ولو كان كفرا وتنازلا!، وصارت تطلق الهزيمة والفشل على كل ما يخالف أهواءها ولو كان توحيدا وثباتا، فصار الموت في ظلال الشريعة فشلا! بينما العيش في أحضان الطواغيت ووفقا لأجنداتهم نصرا وتحريرا.
وكلما تأملنا أحوال ومناهج المطبلين والمروّجين لنموذج "طالبان الجديدة" زدنا يقينا بصحة الطريق الذي سلكته الدولة الإسلامية لنصرة التوحيد وإقامة الشريعة، فنصرة الإسلام لا تمر عبر فنادق قطر ولا سفارات روسيا والصين وإيران!! وإن النصر الذي توقع عليه أمريكا وترعاه قطر وإعلامها، وتباركه السرورية والمرجئة والإخوان لهو نصر موهوم.
ومن زاوية أخرى، فإن بسيطرة طالبان على الحكم، تسقط أكاذيب المعطّلين لحكم الشريعة من القاعدة والإخوان وغيرهم بحجة غياب "التمكين الكامل"، وحجة عدم امتلاك المعابر وغيرها من الحجج التي أفنوا أعمارهم وهم يرددونها، فها هو التمكين -وفق شروطهم- قد تحقق لطالبان؟! فهل سنرى حكما للشريعة الإسلامية قريبا في أفغانستان؟! أم ستبطل شبهة "التمكين" ويختلقون شبها أخرى فرارا من الشريعة؟!
وفي أبعاد الترويج الممنهج لنموذج "طالبان الجديدة"؛ فإن قادة التحالف الصليبي لم يتوقفوا عن الترديد أنه لا سبيل لهزيمة الدولة الإسلامية عسكريا دون محاربتها فكريا، ولا شك أن الصليبيين أدركوا فشل نموذج الإخوان المرتدين في تولي كبر الحرب الفكرية ضد الدولة الإسلامية حتى بعد وصولهم إلى سدة الحكم، فكان لا بد من البحث عن نموذج آخر يرون فيه فرصة أفضل لمجابهة الدولة الإسلامية وتقديمه كبديلا لها بين أبناء المسلمين؛ فكانت "طالبان الجديدة" هي البديل الذي يجمع بين المواجهة العسكرية والفكرية معا.
لذلك رأينا حجم الترويج الكبير لنموذج "طالبان الجديدة" ليس بعد دخول طالبان إلى كابل فحسب، بل منذ توقيع "اتفاق السلام" في الدوحة قبل نحو 14 شهرا، ومِن يومها لم تتوقف بيانات القاعدة وأخواتها عن وصف هذا الاتفاق المشبوه بالنصر والتمكين، بل حتى حركة حماس المرتدة هنأت وباركت -لأول مرة في تاريخها- لطالبان، ونشرت صورا لاجتماع ضمّ وفدا من قياداتها بوفد طالبان في الدوحة، ولم تكن حماس لتُهنئ طالبان بذلك لولا علمها -بطرق رسمية- أن طالبان الجديدة لم تعد تُوصم بالإرهاب، ولم يعد في الثناء عليها أي خطر أو ملامة؛ كل ذلك يؤكد أن التوصيات بالترويج لهذا النموذج تجري على قدم وساق، بل شارك فيها حتى الذين كانوا يصفون طالبان بالرجعية والظلامية، فهل أشرقت أنوار طالبان بعد دخولها نفق السلام؟! وليس من قبيل الصدفة أن تكون كل الأطراف التي حاربت الدولة الإسلامية، هي نفسها الأطراف التي تشارك في الترويج لنموذج طالبان في نسخته قبل الأخيرة المعدّلة في استوديوهات الدوحة.
ومن المفارقات، أن المرتدين والمنافقين اتهموا الدولة الإسلامية بعد سيطرتها على بعض مدن العراق والشام، بالعمالة لأمريكا! وأن ما جرى "مسرحية ومؤامرة كونية"، بينما تسقط أفغانستان بعواصمها ومقارها في غضون أيام دون أي قتال، ثم لا نسمع لنفس تلك الأصوات النشاز أي حديث عن "مسرحية" أو "مؤامرة" أو حتى "اتفاق"!، بل أصبح نصرا مؤزرا يمدحه المرتدون ويثني عليه الديمقراطيون ويتقبله الصليبيون.
ولو شك الصليبيون أنهم تركوا البلاد لمن يقيم حكم الإسلام فيها، لما جعلوا فيها بيتا قائما ولقصفوا مشافيها قبل معسكراتها، بل إن أمريكا لم تكلف نفسها حتى عناء التخلص من الترسانة العسكرية للجيش الأفغاني فسقطت في أيدي طالبان، بينما تقصف الطائرات الأمريكية خياما مبعثرة في صحاري ليبيا والصومال لجنود الخلافة، أتخشى أمريكا من بضع خيام تكابد لهيب الرمضاء بينما تأمن من آلاف المقاتلين المسلحين الذين انتشروا في مدن أفغانستان على مرأى أعينها؟! إنه الفرق باختصار بين سبيل الله وسبيل الطاغوت.
لقد أعلن قادة طالبان تحرير أفغانستان من داخل فنادق قطر التي تضم "قاعدة العديد" الأمريكية والتي تنطلق منها الطائرات لقصف ديار المسلمين، لقد خرج نصرهم الموهوم مِن حيث تخرج قرارات الحرب على الإسلام! فعن أي نصر يتحدثون؟ لقد فعلتها أمريكا حقا ورفعت لنا "الملا برادلي" أخيرا، ولا شك أنّ "ملالي" آخرين يجري حاليا صناعتهم في فنادق وسفارات الطواغيت وينتظرون "نصرا آخر" تمنحه لهم أمريكا أو غيرها.
إن ما جرى لا يعدو كونه استبدال طاغوت حليق بآخر ملتحٍ، الأول فشل في الحرب على الإرهاب، بينما الثاني ترى أمريكا أنه يمكن أن يكون أكثر جدوى، أما جنود الخلافة فهم يتهيأون لمرحلة جديدة من مراحل جهادهم المبارك الذي لن يتوقف بإذن الله تعالى حتى تخضع الأرض كل الأرض لحكم خالقها، فهذا هو النصر وما سواه وساوس وسراب.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 300
الخميس 10 محرم 1443 هـ ...المزيد
لا جديد ولا غرابة فيما جرى مؤخرا في المشهد الأفغاني، فما رسمه "اتفاق السلام" بين الصليبيين والمرتدين في الدوحة جرى تطبيقه بينهم على الأرض في كابل، ومَن تابع مراحل عملية السلام منذ بدايتها، يدرك تماما أن الانسحاب الأمريكي كان قرارا لا عودة فيه بالنسبة للإدارة الأمريكية، بدأه "ترامب" وأتمّه "بايدن"، وأنّ سقوط البلاد في أيدي طالبان كان نتيجة طبيعية بعلم ورضا مَن وقّع على الاتفاق.
ولنعد قليلا إلى الوراء، يوم آوت طالبان المهاجرين وأقامت الشريعة -منقوصة- قصفتها أمريكا وأسقطت حكمها في كابل، وبعد أن تخلت طالبان عن ذلك وتعهدت بأنها لن تسمح بتكرار "خطيئة منهاتن" أعادت أمريكا الحكم إلى طالبان ومنحتها كابل دون أن تطلق طلقة واحدة!
لقد أرادت أمريكا ترسيخ فكرة مفادها أن جهود بضعة أعوام فقط من محادثات السلام في الفنادق الفارهة أعادت طالبان لسدة الحكم، بينما قتال 20 عاما لم يجلب لها سوى الدمار والخراب، لقد خططت أمريكا جيدا ليكون ذلك نصرا للسلام لا للإسلام! وللمفاوضات لا للجهاد! ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقد تخفى هذه الغاية الخبيثة حاليا بين زحمة الأحداث، لكن تأثيرها سيظهر غدا عندما يتحول مزيد من "المقاتلين" إلى "مفاوضين" يصولون ويجولون في قاعات الفنادق كارهين تاركين الخنادق!؛ هذا أخطر ما في الأمر، وهو الهزيمة بعينها لو يدركون.
ولقد رأينا كيف كان التنسيق المباشر بين القوات الأمريكية وطالبان أثناء التقدم نحو كابل، وكيف استمرت عمليات الإخلاء لآلاف الصليبيين والجواسيس في أجواء من الثقة العالية بين الجانبين!، تنسيق وثقة لم تكن تمنحها أمريكا لحكومات طاغوتية قديمة، بينما منحتها لطالبان بعد ساعات فقط من دخولها كابل!
وبرغم وضوح ما جرى وأنه لم يكن سوى عملية انتقال سلمي للحكم من طاغوت إلى آخر، وباعتراف قادة الميليشيا أنفسهم الذين أكّدوا مرارا على أن سيطرتهم على المدن جاءت في سياق الاتفاقيات في حدود "التسليم والاستلام" وليس بالقتال؛ إلا أن أطرافا عديدة وعلى رأسها القاعدة والسرورية والإخوان المرتدون أبوا إلا أن يكملوا السيناريو الأمريكي القطري بتصوير ما جرى على أنه "فتح وتمكين"!
إن مفهوم النصر تعرض لنكسات كبيرة في التاريخ المعاصر، تسببت بهذه النكسات الأحزاب والحركات المرتدة التي أصبحت تطلق النصر على كل ما يوافق أهواءها ويحقق مصالحها ولو كان كفرا وتنازلا!، وصارت تطلق الهزيمة والفشل على كل ما يخالف أهواءها ولو كان توحيدا وثباتا، فصار الموت في ظلال الشريعة فشلا! بينما العيش في أحضان الطواغيت ووفقا لأجنداتهم نصرا وتحريرا.
وكلما تأملنا أحوال ومناهج المطبلين والمروّجين لنموذج "طالبان الجديدة" زدنا يقينا بصحة الطريق الذي سلكته الدولة الإسلامية لنصرة التوحيد وإقامة الشريعة، فنصرة الإسلام لا تمر عبر فنادق قطر ولا سفارات روسيا والصين وإيران!! وإن النصر الذي توقع عليه أمريكا وترعاه قطر وإعلامها، وتباركه السرورية والمرجئة والإخوان لهو نصر موهوم.
ومن زاوية أخرى، فإن بسيطرة طالبان على الحكم، تسقط أكاذيب المعطّلين لحكم الشريعة من القاعدة والإخوان وغيرهم بحجة غياب "التمكين الكامل"، وحجة عدم امتلاك المعابر وغيرها من الحجج التي أفنوا أعمارهم وهم يرددونها، فها هو التمكين -وفق شروطهم- قد تحقق لطالبان؟! فهل سنرى حكما للشريعة الإسلامية قريبا في أفغانستان؟! أم ستبطل شبهة "التمكين" ويختلقون شبها أخرى فرارا من الشريعة؟!
وفي أبعاد الترويج الممنهج لنموذج "طالبان الجديدة"؛ فإن قادة التحالف الصليبي لم يتوقفوا عن الترديد أنه لا سبيل لهزيمة الدولة الإسلامية عسكريا دون محاربتها فكريا، ولا شك أن الصليبيين أدركوا فشل نموذج الإخوان المرتدين في تولي كبر الحرب الفكرية ضد الدولة الإسلامية حتى بعد وصولهم إلى سدة الحكم، فكان لا بد من البحث عن نموذج آخر يرون فيه فرصة أفضل لمجابهة الدولة الإسلامية وتقديمه كبديلا لها بين أبناء المسلمين؛ فكانت "طالبان الجديدة" هي البديل الذي يجمع بين المواجهة العسكرية والفكرية معا.
لذلك رأينا حجم الترويج الكبير لنموذج "طالبان الجديدة" ليس بعد دخول طالبان إلى كابل فحسب، بل منذ توقيع "اتفاق السلام" في الدوحة قبل نحو 14 شهرا، ومِن يومها لم تتوقف بيانات القاعدة وأخواتها عن وصف هذا الاتفاق المشبوه بالنصر والتمكين، بل حتى حركة حماس المرتدة هنأت وباركت -لأول مرة في تاريخها- لطالبان، ونشرت صورا لاجتماع ضمّ وفدا من قياداتها بوفد طالبان في الدوحة، ولم تكن حماس لتُهنئ طالبان بذلك لولا علمها -بطرق رسمية- أن طالبان الجديدة لم تعد تُوصم بالإرهاب، ولم يعد في الثناء عليها أي خطر أو ملامة؛ كل ذلك يؤكد أن التوصيات بالترويج لهذا النموذج تجري على قدم وساق، بل شارك فيها حتى الذين كانوا يصفون طالبان بالرجعية والظلامية، فهل أشرقت أنوار طالبان بعد دخولها نفق السلام؟! وليس من قبيل الصدفة أن تكون كل الأطراف التي حاربت الدولة الإسلامية، هي نفسها الأطراف التي تشارك في الترويج لنموذج طالبان في نسخته قبل الأخيرة المعدّلة في استوديوهات الدوحة.
ومن المفارقات، أن المرتدين والمنافقين اتهموا الدولة الإسلامية بعد سيطرتها على بعض مدن العراق والشام، بالعمالة لأمريكا! وأن ما جرى "مسرحية ومؤامرة كونية"، بينما تسقط أفغانستان بعواصمها ومقارها في غضون أيام دون أي قتال، ثم لا نسمع لنفس تلك الأصوات النشاز أي حديث عن "مسرحية" أو "مؤامرة" أو حتى "اتفاق"!، بل أصبح نصرا مؤزرا يمدحه المرتدون ويثني عليه الديمقراطيون ويتقبله الصليبيون.
ولو شك الصليبيون أنهم تركوا البلاد لمن يقيم حكم الإسلام فيها، لما جعلوا فيها بيتا قائما ولقصفوا مشافيها قبل معسكراتها، بل إن أمريكا لم تكلف نفسها حتى عناء التخلص من الترسانة العسكرية للجيش الأفغاني فسقطت في أيدي طالبان، بينما تقصف الطائرات الأمريكية خياما مبعثرة في صحاري ليبيا والصومال لجنود الخلافة، أتخشى أمريكا من بضع خيام تكابد لهيب الرمضاء بينما تأمن من آلاف المقاتلين المسلحين الذين انتشروا في مدن أفغانستان على مرأى أعينها؟! إنه الفرق باختصار بين سبيل الله وسبيل الطاغوت.
لقد أعلن قادة طالبان تحرير أفغانستان من داخل فنادق قطر التي تضم "قاعدة العديد" الأمريكية والتي تنطلق منها الطائرات لقصف ديار المسلمين، لقد خرج نصرهم الموهوم مِن حيث تخرج قرارات الحرب على الإسلام! فعن أي نصر يتحدثون؟ لقد فعلتها أمريكا حقا ورفعت لنا "الملا برادلي" أخيرا، ولا شك أنّ "ملالي" آخرين يجري حاليا صناعتهم في فنادق وسفارات الطواغيت وينتظرون "نصرا آخر" تمنحه لهم أمريكا أو غيرها.
إن ما جرى لا يعدو كونه استبدال طاغوت حليق بآخر ملتحٍ، الأول فشل في الحرب على الإرهاب، بينما الثاني ترى أمريكا أنه يمكن أن يكون أكثر جدوى، أما جنود الخلافة فهم يتهيأون لمرحلة جديدة من مراحل جهادهم المبارك الذي لن يتوقف بإذن الله تعالى حتى تخضع الأرض كل الأرض لحكم خالقها، فهذا هو النصر وما سواه وساوس وسراب.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 300
الخميس 10 محرم 1443 هـ ...المزيد
أدرك وقتك يا مسلم الحمد لله مصرف الدهور والأزمان، العالم بما يكون وما قد كان، مرسل الرسل ...
أدرك وقتك يا مسلم
الحمد لله مصرف الدهور والأزمان، العالم بما يكون وما قد كان، مرسل الرسل ومنزل الكتب هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحبه في كل حين وآن، أما بعد:
فإن الوقت هو هذا الزمن الذي نعيشه وتمضي بسرعة أيامه وشهوره؛ قال ابن فارس -رحمه الله-: "الواو والقاف والتاء: أصل يدل على حد شيء وكنهه في زمان وغيره، منه الوقت: الزمان المعلوم". [مقاييس اللغة]
ولأهمية الوقت وعظم شأنه فقد أقسم الله به في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، والعصر هو الوقت الذي نعيش فيه، والدهر الذي تقع فيه أعمالنا.
قال ابن فارس: "العين والصاد والراء أصول ثلاثة صحيحة: فالأول دهر وحين..." [مقاييس اللغة]
وقال ابن كثير رحمه الله: "العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم، من خير وشر". [التفسير]، وقال القرطبي رحمه الله: "أقسم الله به عز وجل، لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع". [التفسير] وقد جعل الله هذا الوقت، وما فيه من تعاقب الليل والنهار؛ تذكرة لمن يتذكر، وحجة لمن أراد أن يستبصر؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}.
قال الطبري رحمه الله: "جعل الليل والنهار، وخلوف كل واحد منهما الآخر حجة وآية لمن أراد أن يذكر أمر الله، فينيب إلى الحق، {أو أراد شكورا} أي: أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار". [التفسير]
نعم أيها الأخ الحبيب، إن في عمرك، وسرعة انقضائه؛ آيةً قائمة وذكرى بالغة، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ} قال ابن كثير رحمه الله: "أي: أو ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟". [التفسير]
واختلفوا في مقدار هذا العمر، والصحيح أنه ستون سنة لما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله، حتى بلغه ستين سنة).
وقال فضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تبلغ!، فقال الرجل: يا أبا علي إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلم ما تقول، قال الرجل: قلت إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الفضيل تعلم ما تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: قولك إنا لله، تقول: أنا لله عبد، وأنا إلى الله راجع، فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فليعلم بأنه موقوف، ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة، قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي". [حلية الأولياء]
وللأسف فإن أغلب الناس اليوم مضيعون لأوقاتهم، مقصرون في طاعة ربهم فيها؛ وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
قال ابن كثير رحمه الله: "ومعنى هذا: أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون". [التفسير]
وفي المقابل فقد كان حال الصالحين من عباد الله الاهتمام بالوقت، وعدم تضييع القليل منه فعن محمد بن مبشر الكرميني، قال: انكسر قلم محمد بن سلام البيكندي -وهو شيخ البخاري- في مجلس شيخ، فأمر أن ينادى: قلم بدينار، فطارت إليه الأقلام [سير أعلام النبلاء]
فانظر يا رعاك الله إلى اهتمامه أن لا يفوت عنه شيء من وقته، فآثر أن يبذل دينارا من الذهب -وهو مبلغ غير يسير- حفظا لوقته، وأن لا يفوت عليه شيء من درس شيخه.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ... فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير...، فصرت أدافع اللقاء جهدي: فإذا غلبت، قصرت في الكلام، لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغا، فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد (أي: الأوراق)، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر، وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم!!، لئلا يضيع شيء من وقتي. نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه". [صيد الخاطر]. وكما قيل:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
وأراه أسهل ما عليك يضيع
والصالحون من عباد الله يسعون دائما أن يكون يومهم أفضل من أمسهم، وغدهم أفضل من يومهم وهكذا.
قال ابن رجب رحمه الله -في لطائف المعارف-: "قال بعضهم: كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس! يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقْد ذلك ويعدونه خسرانا كما قيل:
أليس من الخسران أن لياليا
تمر بلا نفع وتحسب من عمري"
أيها المسلمون إن أغلى أوقاتكم هي أوقات شبابكم، فبه صحتكم وقوتكم، وهو بين ضعفين الصغر والكبر، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}، قال البغوي رحمه الله: " أي من بعد ضعف الطفولة شبابا وهو وقت القوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا هرما وشيبة" [التفسير]
واعلم أخي بارك الله فيك أنك ستسأل عن عمرك -لا سيّما شبابك في حال صحتك وفراغك- فاغتنمه في عبادة الله فهي وصية نبيك صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)، قال الحاكم في المستدرك [صحيح على شرط الشيخين].
وعن الحسن البصري أنه قال ذات يوم لجلسائه: "يا معشر الشيوخ: ما ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد، قال: يا معشر الشباب: إن الزرع قد تدركه العاهة قبل أن يبلغ". [الزهد للبيهقي]
فإياك أن تسوف وتؤجل فالموت أقرب من الأمل؛ وكان بلال بن سعد يقول: "عباد الرحمن يقال لأحدنا: تحب أن تموت؟ فيقول: لا، فيقال: لم؟ فيقول: حتى أعمل، فيقال له: اعمل، فيقول: سوف، فلا يحب أن يموت ولا يحب أن يعمل!! وأحب شيء إليه أن يؤخر عمل الله عز وجل ولا يحب أن يؤخر عنه عرض دنياه" [المرجع السابق]
ولا تشغل نفسك بما لا يفيد فتضيع عمرك فيما لا نفع فيه لك في دنياك وآخرتك، ولا تغتر بتضييع الكثير لأوقاتهم؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعا عجيبا: إن طال الليل، فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر!! وإن طال النهار، فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق! فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة، وهي تجري بهم، وما عندهم خبر!". [صيد الخاطر]
وقد ودعنا عاما هجريا وها نحن في مستهل عام جديد والموفق من رسم لنفسه هدفا فيه حتى لا تضيع عليه الشهور والأسابيع وتتفلت من بين يديه فيفجؤه العام القادم بلا فائدة تذكر.
أخي المسلم، لا يوفّق إلى معرفة قيمة الوقت ثم استغلاله إلا القليل القليل؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج! ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين والغلاء والرخص، إلى غير ذلك: فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا مَن وفقه وألهمه اغتنام ذلك، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}" [صيد الخاطر]
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن يعرف للوقت قيمته، فيستغله في زيادة إيمانه وطاعة ربه والجهاد في سبيله، والنصح لخلقه، والصبر على ذلك، لينجي نفسه من الخسارة الأبدية، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 300
الخميس 10 محرم 1443 هـ ...المزيد
الحمد لله مصرف الدهور والأزمان، العالم بما يكون وما قد كان، مرسل الرسل ومنزل الكتب هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحبه في كل حين وآن، أما بعد:
فإن الوقت هو هذا الزمن الذي نعيشه وتمضي بسرعة أيامه وشهوره؛ قال ابن فارس -رحمه الله-: "الواو والقاف والتاء: أصل يدل على حد شيء وكنهه في زمان وغيره، منه الوقت: الزمان المعلوم". [مقاييس اللغة]
ولأهمية الوقت وعظم شأنه فقد أقسم الله به في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، والعصر هو الوقت الذي نعيش فيه، والدهر الذي تقع فيه أعمالنا.
قال ابن فارس: "العين والصاد والراء أصول ثلاثة صحيحة: فالأول دهر وحين..." [مقاييس اللغة]
وقال ابن كثير رحمه الله: "العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم، من خير وشر". [التفسير]، وقال القرطبي رحمه الله: "أقسم الله به عز وجل، لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع". [التفسير] وقد جعل الله هذا الوقت، وما فيه من تعاقب الليل والنهار؛ تذكرة لمن يتذكر، وحجة لمن أراد أن يستبصر؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}.
قال الطبري رحمه الله: "جعل الليل والنهار، وخلوف كل واحد منهما الآخر حجة وآية لمن أراد أن يذكر أمر الله، فينيب إلى الحق، {أو أراد شكورا} أي: أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار". [التفسير]
نعم أيها الأخ الحبيب، إن في عمرك، وسرعة انقضائه؛ آيةً قائمة وذكرى بالغة، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ} قال ابن كثير رحمه الله: "أي: أو ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟". [التفسير]
واختلفوا في مقدار هذا العمر، والصحيح أنه ستون سنة لما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله، حتى بلغه ستين سنة).
وقال فضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تبلغ!، فقال الرجل: يا أبا علي إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلم ما تقول، قال الرجل: قلت إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الفضيل تعلم ما تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: قولك إنا لله، تقول: أنا لله عبد، وأنا إلى الله راجع، فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فليعلم بأنه موقوف، ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة، قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي". [حلية الأولياء]
وللأسف فإن أغلب الناس اليوم مضيعون لأوقاتهم، مقصرون في طاعة ربهم فيها؛ وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
قال ابن كثير رحمه الله: "ومعنى هذا: أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون". [التفسير]
وفي المقابل فقد كان حال الصالحين من عباد الله الاهتمام بالوقت، وعدم تضييع القليل منه فعن محمد بن مبشر الكرميني، قال: انكسر قلم محمد بن سلام البيكندي -وهو شيخ البخاري- في مجلس شيخ، فأمر أن ينادى: قلم بدينار، فطارت إليه الأقلام [سير أعلام النبلاء]
فانظر يا رعاك الله إلى اهتمامه أن لا يفوت عنه شيء من وقته، فآثر أن يبذل دينارا من الذهب -وهو مبلغ غير يسير- حفظا لوقته، وأن لا يفوت عليه شيء من درس شيخه.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ... فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير...، فصرت أدافع اللقاء جهدي: فإذا غلبت، قصرت في الكلام، لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغا، فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد (أي: الأوراق)، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر، وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم!!، لئلا يضيع شيء من وقتي. نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه". [صيد الخاطر]. وكما قيل:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
وأراه أسهل ما عليك يضيع
والصالحون من عباد الله يسعون دائما أن يكون يومهم أفضل من أمسهم، وغدهم أفضل من يومهم وهكذا.
قال ابن رجب رحمه الله -في لطائف المعارف-: "قال بعضهم: كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس! يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقْد ذلك ويعدونه خسرانا كما قيل:
أليس من الخسران أن لياليا
تمر بلا نفع وتحسب من عمري"
أيها المسلمون إن أغلى أوقاتكم هي أوقات شبابكم، فبه صحتكم وقوتكم، وهو بين ضعفين الصغر والكبر، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}، قال البغوي رحمه الله: " أي من بعد ضعف الطفولة شبابا وهو وقت القوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا هرما وشيبة" [التفسير]
واعلم أخي بارك الله فيك أنك ستسأل عن عمرك -لا سيّما شبابك في حال صحتك وفراغك- فاغتنمه في عبادة الله فهي وصية نبيك صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)، قال الحاكم في المستدرك [صحيح على شرط الشيخين].
وعن الحسن البصري أنه قال ذات يوم لجلسائه: "يا معشر الشيوخ: ما ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد، قال: يا معشر الشباب: إن الزرع قد تدركه العاهة قبل أن يبلغ". [الزهد للبيهقي]
فإياك أن تسوف وتؤجل فالموت أقرب من الأمل؛ وكان بلال بن سعد يقول: "عباد الرحمن يقال لأحدنا: تحب أن تموت؟ فيقول: لا، فيقال: لم؟ فيقول: حتى أعمل، فيقال له: اعمل، فيقول: سوف، فلا يحب أن يموت ولا يحب أن يعمل!! وأحب شيء إليه أن يؤخر عمل الله عز وجل ولا يحب أن يؤخر عنه عرض دنياه" [المرجع السابق]
ولا تشغل نفسك بما لا يفيد فتضيع عمرك فيما لا نفع فيه لك في دنياك وآخرتك، ولا تغتر بتضييع الكثير لأوقاتهم؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعا عجيبا: إن طال الليل، فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر!! وإن طال النهار، فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق! فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة، وهي تجري بهم، وما عندهم خبر!". [صيد الخاطر]
وقد ودعنا عاما هجريا وها نحن في مستهل عام جديد والموفق من رسم لنفسه هدفا فيه حتى لا تضيع عليه الشهور والأسابيع وتتفلت من بين يديه فيفجؤه العام القادم بلا فائدة تذكر.
أخي المسلم، لا يوفّق إلى معرفة قيمة الوقت ثم استغلاله إلا القليل القليل؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: "ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج! ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين والغلاء والرخص، إلى غير ذلك: فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا مَن وفقه وألهمه اغتنام ذلك، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}" [صيد الخاطر]
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن يعرف للوقت قيمته، فيستغله في زيادة إيمانه وطاعة ربه والجهاد في سبيله، والنصح لخلقه، والصبر على ذلك، لينجي نفسه من الخسارة الأبدية، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 300
الخميس 10 محرم 1443 هـ ...المزيد
محاصرة الذنوب! خلق الله الإنسان وخلق معه الخير والشر، وجعل بينهما صراعا ممتدا إلى قيام الساعة، ...
محاصرة الذنوب!
خلق الله الإنسان وخلق معه الخير والشر، وجعل بينهما صراعا ممتدا إلى قيام الساعة، كل منهما لا يكل ولا يمل من مدافعة الآخر، ويشن إبليس حامل لواء الباطل وأتباعه من الإنس والجن هجمات مكثفة لاستهداف أهل الحق وإضعاف صفوفهم، ومن أساليبه في ذلك؛ تزيين الذنوب في أعينهم وتهوينها في نفوسهم حتى يقعوا فيها، فإن أتوها سهُل عليه اختراق دفاعاتهم بعدها.
لأجل هذا كانت الذنوب وما تزال ركنا أساسيا من أركان جيش الباطل وآلة حرب يستخدمها إبليس وجنوده في مهاجمة جيش الحق وتقويض بنيانه وزعزعة أركانه، وهو ما يحتّم على المسلمين التنبه لها والتوقي منها ومعرفة أساليب مواجهتها.
ومن بين أنجع الأساليب القتالية التي تدرّسها المعسكرات الحربية؛ محاصرة العدو بغية إضعافه وهزيمته، ويكون ذلك بإغلاق جميع المنافذ وطرق الإمداد التي ترفده بالذخيرة والمؤن، فينهكه الجوع والعطش، وتنفذ ذخيرته وتتحطم معنوياته وتخور قواه، فيكون مصيره الاستسلام أو الموت، وكلما كان الحصار محكما، كانت نتائجه أكثر فتكا وأثرا في صفوف العدو، ومن المناسب اتباع هذا الأسلوب في محاصرة الذنوب وتطويقها وتجفيف منابعها وتضييق مجاريها استقاءً من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ) [أخرجه الشيخان].
فقهيا، يُعرّف العلماء الذنب بأنه: كل فعل يُستقبح شرعا ويستحق فاعله العقوبة من الله تعالى، وهو يتراوح بين مخالفة الأمر أو النهي الإلهي، بمعنى: فعل شيء محرم أو ترك شيء واجب.
وقد قسّم جمهور الفقهاء الذنوب إلى قسمين اثنين: كبائر وصغائر وكلاهما وبال على المكلّف لا ينبغي الاستهانة بأي منهما، ولقد شاع في زماننا أن يجتهد العبد في اجتناب الكبائر بينما يتساهل في الصغائر ولا يحترز منها، في حين كان السلف يجتنبون صغائر الذنوب كما كبائرها ولا يحقرون شيئا منها، روى البخاري في "باب ما يُتّقى من محقرات الذنوب" عن أنس رضي الله عنه قال: "إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ المُوبِقاتِ" يعني المهلكات، وقال ابن القيم في المدارج: "وقد يقترن بالصغيرة -من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها- ما يلحقها بالكبائر!"، ونُسب إلى بعض السلف قوله: "مثل الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقيه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه!".
والذنوب أصل كل شر وبلية قديما وحديثا، ويكفي للدلالة على خطرها أنها كانت سببا في إخراج أبوينا من الجنة! لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}، وبالجملة فالذنوب سبب الخروج من كل خير والولوج في كل شر، ومؤلفات السلف والخلف تكتظ ببيان عاقبة الذنوب وأخطارها على العبد في الدارين ما يضيق المقام لسرده هنا، غير أن شؤمها وشرورها وحصادها في واقع أمتنا لا يكاد يخفى.
ومن بين أخطر نتائج الذنوب في الدنيا أنها تكون سببا في تسلُّط العدو أو تأخُّر النصر وحجبه عمّن ينتظره أو ضياعه بعد نزوله كما حدث -مثلا- يوم أُحد لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، قال ابن كثير: "أي ببعض ذنوبهم السالفة" وقال البغوي: "بشؤم ذنوبهم". وهم مَن هم في الطاعة والتقوى، فكيف بزماننا وأحوالنا؟ اللهم سلّم سلّم.
ومن أخطارها الصامتة القاتلة حرمان الهداية إلى الحق، وقد دلت السنة الصحيحة على أن مراكمة الذنوب تجعل القلب: (أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا) [مسلم]، حيث تتكاثر الذنوب عليه وتطغى حتى تحجبه عن نور الحق فيرى المعروف منكرا والمنكر معروفا، فتنتكس فطرته وتعمى بصيرته وهذا هو "الران" كما روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلو قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}).
إن أنجع السبل لمحاصرة الذنوب، هي اعتزالها وسد الطرق إليها وقطع العلائق بها ومفارقة أصحابها وهجرة مواطنها، ولذا كانت الهجرة إلى مواطن الإيمان من أسباب النجاة، والبقاء في مواطن الكفر والفسوق من أسباب الفتنة والهلاك، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}، قال القرطبي: "فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم".
إن محاصرة الذنوب مهمة فردية وجماعية معا، ينطلق بها الفرد المسلم من نفسه بمجاهدتها وإيقافها عند حدها، وإدراكه أنّ ذنبه مهما صغُر خرق للسفينة برمتها، وكذلك فإن محاصرة الذنوب مهمة تقودها الجماعة المسلمة داخل صفوفها عبر ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، وهذا ما يميّز المجتمع المسلم الذي تعلوه الفضيلة وتقوده الشريعة، عن غيره من المجتمعات الجاهلية التي تغشاها الرذائل والموبقات من فوقها ومن أسفل منها.
نسوق هذا الكلام في صدر الصحيفة لا زواياها، تذكيرا لإخواننا المجاهدين الذين تشتد حاجتهم إلى محاصرة الذنوب والانتصار عليها بصفتهم دعاة إلى الحق بالسنان والبيان، يجاهدون لإعلاء الملة واستعادة مجد الأمة، ولا يمكن النجاح في هذه المهمة المقدسة حتى يكون المجاهد قدوة فيها، وهذه مهمة تبدأ من الداخل إلى الخارج، والمؤمن يتهم نفسه خلافا للمنافق، فليبدأ كل مجاهد بنفسه ويحاصر ذنوبه ويقهرها وينتصر عليها، ليكون مؤهلا لقهر جيوش الكفر الذين يتربصون بنا ويتأهبون لحربنا، ولينصرن الله من ينصره.
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ ...المزيد
خلق الله الإنسان وخلق معه الخير والشر، وجعل بينهما صراعا ممتدا إلى قيام الساعة، كل منهما لا يكل ولا يمل من مدافعة الآخر، ويشن إبليس حامل لواء الباطل وأتباعه من الإنس والجن هجمات مكثفة لاستهداف أهل الحق وإضعاف صفوفهم، ومن أساليبه في ذلك؛ تزيين الذنوب في أعينهم وتهوينها في نفوسهم حتى يقعوا فيها، فإن أتوها سهُل عليه اختراق دفاعاتهم بعدها.
لأجل هذا كانت الذنوب وما تزال ركنا أساسيا من أركان جيش الباطل وآلة حرب يستخدمها إبليس وجنوده في مهاجمة جيش الحق وتقويض بنيانه وزعزعة أركانه، وهو ما يحتّم على المسلمين التنبه لها والتوقي منها ومعرفة أساليب مواجهتها.
ومن بين أنجع الأساليب القتالية التي تدرّسها المعسكرات الحربية؛ محاصرة العدو بغية إضعافه وهزيمته، ويكون ذلك بإغلاق جميع المنافذ وطرق الإمداد التي ترفده بالذخيرة والمؤن، فينهكه الجوع والعطش، وتنفذ ذخيرته وتتحطم معنوياته وتخور قواه، فيكون مصيره الاستسلام أو الموت، وكلما كان الحصار محكما، كانت نتائجه أكثر فتكا وأثرا في صفوف العدو، ومن المناسب اتباع هذا الأسلوب في محاصرة الذنوب وتطويقها وتجفيف منابعها وتضييق مجاريها استقاءً من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ) [أخرجه الشيخان].
فقهيا، يُعرّف العلماء الذنب بأنه: كل فعل يُستقبح شرعا ويستحق فاعله العقوبة من الله تعالى، وهو يتراوح بين مخالفة الأمر أو النهي الإلهي، بمعنى: فعل شيء محرم أو ترك شيء واجب.
وقد قسّم جمهور الفقهاء الذنوب إلى قسمين اثنين: كبائر وصغائر وكلاهما وبال على المكلّف لا ينبغي الاستهانة بأي منهما، ولقد شاع في زماننا أن يجتهد العبد في اجتناب الكبائر بينما يتساهل في الصغائر ولا يحترز منها، في حين كان السلف يجتنبون صغائر الذنوب كما كبائرها ولا يحقرون شيئا منها، روى البخاري في "باب ما يُتّقى من محقرات الذنوب" عن أنس رضي الله عنه قال: "إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ المُوبِقاتِ" يعني المهلكات، وقال ابن القيم في المدارج: "وقد يقترن بالصغيرة -من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها- ما يلحقها بالكبائر!"، ونُسب إلى بعض السلف قوله: "مثل الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقيه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه!".
والذنوب أصل كل شر وبلية قديما وحديثا، ويكفي للدلالة على خطرها أنها كانت سببا في إخراج أبوينا من الجنة! لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}، وبالجملة فالذنوب سبب الخروج من كل خير والولوج في كل شر، ومؤلفات السلف والخلف تكتظ ببيان عاقبة الذنوب وأخطارها على العبد في الدارين ما يضيق المقام لسرده هنا، غير أن شؤمها وشرورها وحصادها في واقع أمتنا لا يكاد يخفى.
ومن بين أخطر نتائج الذنوب في الدنيا أنها تكون سببا في تسلُّط العدو أو تأخُّر النصر وحجبه عمّن ينتظره أو ضياعه بعد نزوله كما حدث -مثلا- يوم أُحد لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، قال ابن كثير: "أي ببعض ذنوبهم السالفة" وقال البغوي: "بشؤم ذنوبهم". وهم مَن هم في الطاعة والتقوى، فكيف بزماننا وأحوالنا؟ اللهم سلّم سلّم.
ومن أخطارها الصامتة القاتلة حرمان الهداية إلى الحق، وقد دلت السنة الصحيحة على أن مراكمة الذنوب تجعل القلب: (أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا) [مسلم]، حيث تتكاثر الذنوب عليه وتطغى حتى تحجبه عن نور الحق فيرى المعروف منكرا والمنكر معروفا، فتنتكس فطرته وتعمى بصيرته وهذا هو "الران" كما روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلو قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}).
إن أنجع السبل لمحاصرة الذنوب، هي اعتزالها وسد الطرق إليها وقطع العلائق بها ومفارقة أصحابها وهجرة مواطنها، ولذا كانت الهجرة إلى مواطن الإيمان من أسباب النجاة، والبقاء في مواطن الكفر والفسوق من أسباب الفتنة والهلاك، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}، قال القرطبي: "فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم".
إن محاصرة الذنوب مهمة فردية وجماعية معا، ينطلق بها الفرد المسلم من نفسه بمجاهدتها وإيقافها عند حدها، وإدراكه أنّ ذنبه مهما صغُر خرق للسفينة برمتها، وكذلك فإن محاصرة الذنوب مهمة تقودها الجماعة المسلمة داخل صفوفها عبر ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، وهذا ما يميّز المجتمع المسلم الذي تعلوه الفضيلة وتقوده الشريعة، عن غيره من المجتمعات الجاهلية التي تغشاها الرذائل والموبقات من فوقها ومن أسفل منها.
نسوق هذا الكلام في صدر الصحيفة لا زواياها، تذكيرا لإخواننا المجاهدين الذين تشتد حاجتهم إلى محاصرة الذنوب والانتصار عليها بصفتهم دعاة إلى الحق بالسنان والبيان، يجاهدون لإعلاء الملة واستعادة مجد الأمة، ولا يمكن النجاح في هذه المهمة المقدسة حتى يكون المجاهد قدوة فيها، وهذه مهمة تبدأ من الداخل إلى الخارج، والمؤمن يتهم نفسه خلافا للمنافق، فليبدأ كل مجاهد بنفسه ويحاصر ذنوبه ويقهرها وينتصر عليها، ليكون مؤهلا لقهر جيوش الكفر الذين يتربصون بنا ويتأهبون لحربنا، ولينصرن الله من ينصره.
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ ...المزيد
مقال: ورع المجاهد عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الحلال ...
مقال: ورع المجاهد
عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه). [متفق عليه].
لقد بعث الله نبيه محمدا بالحق هاديا ومبشرا ونذيرا، حجة على الخلق ورحمة للعالمين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فما ترك خيرا إلا دل الأمة وحثهم عليه وأوصاهم به، وما ترك شرا إلا حذرهم منه.
وفي هذا الحديث يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته أن أحكام الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال محض بيّنه الشارع للناس يجب أن يأخذوه، وحرام محض يجب أن يتركوه، وقسم ثالث اشتبه فيه الحلال بالحرام، ويصعب التمييز بينهما على أكثر الناس، فالورع هنا ترك هذا القسم وتوقيه خوفا من أن يتجرأ الإنسان على الحرام البين.
وتتجلى خطورة الخوض في الشبهات والمجازفة في أمور الدين، في هذه الأيام التي تغيرت فيها المفاهيم وانقلبت الموازين، وسُميت الأمور بغير مسمياتها، وانتكست الفطَر، وارتكس أكثر الناس في الفتن إلا من رحم الله، لذلك إن لم يتدرع المسلم -وخاصة المجاهد في سبيل الله- بالتقوى والورع؛ خاض مع الخائضين في الشبهات من حيث لا يدري والله المستعان.
- حقيقة الورع
وقد جسّد النبي -صلى الله عليه وسلم- الورع على حقيقته وبيّن ذلك لأمته، فقد جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: "مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمرة مسقوطة فقال: لولا أن تكون من صدقة لأكلتها"، فما ترك -صلى الله عليه وسلم- هذه التمرة إلا تورعا لاحتمال أن تكون من الصدقة التي هي محرمة عليه -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) [الترمذي].
وفي السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وعلق ابن القيم عليه فقال: "جمع النبي الورع كله في هذه الكلمة، فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع" [مدارج السالكين].
- إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)، قال ابن دقيق العيد: "هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام وفيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه.. وقوله: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر) إلى آخره، معناه -والله أعلم- يطيل السفر في وجوه الطاعات لحج وجهاد وغير ذلك من وجوه البر، ومع هذا فلا يستجاب له لكون مطعمه ومشربه وملبسه حراما! فكيف هو بمن هو منهمك في الدنيا أو في مظالم العباد أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير؟!" [شرح الأربعين النووية].
- فضل الورع
قالت عائشة رضي الله عنها في شأن حادثة الإفك: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: يا زينب ما علمت؟ ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع" [البخاري].
وقال الحسن البصري: "مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة" [مدارج السالكين].
وقال طاووس بن كيسان: "مثل الإيمان كشجرة فأصلها الشهادة، وساقها وورقها كذا وثمرها الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها ولا خير في إنسان لا ورع له" [السنة لأبي بكر الخلال].
- المجاهد أولى الناس بالورع
ولمّا كان المجاهد في سبيل الله أحرى الناس بمعرفة ربه حق معرفته، وتقديره حق قدره، لأنه في الذروة من الإسلام، ولما يراه في الجهاد من الآيات الباهرة والدلائل القاطعة على عظمة الله تبارك وتعالى ومعيته سبحانه؛ كان أولى الناس بتعظيم حرمات الله وحفظ حدوده، والاحتياط في دينه، والتورع عن المحرمات والشبهات، فالكسب الحرام من أعدى أعداء المجاهد، وهو أعظم سلاح يحاربه به الشيطان، ولأن الشيطان يحارب المؤمن على خطوات فإن أول خطوة له في هذا الميدان هي الشبهات، فالحذر الحذر من خطوات الشيطان، إنه عدو مضل مبين.
بل ويجدر بك أخي المجاهد أن تحذر من التوسع في المباحات التي يُخشى أن تنزلق بك إلى المكروهات والمحرمات، كما قال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"، وقال بعض الصحابة: "كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام".
فيا أيها المجاهد في سبيل الله، إن أردت معية الله ونصرته في جهادك، ورمت السلامة والنجاة في الآخرة؛ فاحرص على الطيبات وتحرِّي الحلال في كل معاملاتك ومكاسبك، فلا تأكل ولا تشرب ولا تلبس إلا من الحلال، واجتنب الشبهات والشهوات وخذ بالأحوط، وتحرز من مظالم الخلق وحقوق العباد وفي مقدمتها الدماء المعصومة، يسلم لك دينك، ويصفُ جهادك، وتنلْ من الله الرضى والقبول.
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ ...المزيد
عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه). [متفق عليه].
لقد بعث الله نبيه محمدا بالحق هاديا ومبشرا ونذيرا، حجة على الخلق ورحمة للعالمين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فما ترك خيرا إلا دل الأمة وحثهم عليه وأوصاهم به، وما ترك شرا إلا حذرهم منه.
وفي هذا الحديث يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته أن أحكام الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال محض بيّنه الشارع للناس يجب أن يأخذوه، وحرام محض يجب أن يتركوه، وقسم ثالث اشتبه فيه الحلال بالحرام، ويصعب التمييز بينهما على أكثر الناس، فالورع هنا ترك هذا القسم وتوقيه خوفا من أن يتجرأ الإنسان على الحرام البين.
وتتجلى خطورة الخوض في الشبهات والمجازفة في أمور الدين، في هذه الأيام التي تغيرت فيها المفاهيم وانقلبت الموازين، وسُميت الأمور بغير مسمياتها، وانتكست الفطَر، وارتكس أكثر الناس في الفتن إلا من رحم الله، لذلك إن لم يتدرع المسلم -وخاصة المجاهد في سبيل الله- بالتقوى والورع؛ خاض مع الخائضين في الشبهات من حيث لا يدري والله المستعان.
- حقيقة الورع
وقد جسّد النبي -صلى الله عليه وسلم- الورع على حقيقته وبيّن ذلك لأمته، فقد جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: "مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمرة مسقوطة فقال: لولا أن تكون من صدقة لأكلتها"، فما ترك -صلى الله عليه وسلم- هذه التمرة إلا تورعا لاحتمال أن تكون من الصدقة التي هي محرمة عليه -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) [الترمذي].
وفي السنن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وعلق ابن القيم عليه فقال: "جمع النبي الورع كله في هذه الكلمة، فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع" [مدارج السالكين].
- إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)، قال ابن دقيق العيد: "هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام وفيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه.. وقوله: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر) إلى آخره، معناه -والله أعلم- يطيل السفر في وجوه الطاعات لحج وجهاد وغير ذلك من وجوه البر، ومع هذا فلا يستجاب له لكون مطعمه ومشربه وملبسه حراما! فكيف هو بمن هو منهمك في الدنيا أو في مظالم العباد أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير؟!" [شرح الأربعين النووية].
- فضل الورع
قالت عائشة رضي الله عنها في شأن حادثة الإفك: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: يا زينب ما علمت؟ ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع" [البخاري].
وقال الحسن البصري: "مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة" [مدارج السالكين].
وقال طاووس بن كيسان: "مثل الإيمان كشجرة فأصلها الشهادة، وساقها وورقها كذا وثمرها الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها ولا خير في إنسان لا ورع له" [السنة لأبي بكر الخلال].
- المجاهد أولى الناس بالورع
ولمّا كان المجاهد في سبيل الله أحرى الناس بمعرفة ربه حق معرفته، وتقديره حق قدره، لأنه في الذروة من الإسلام، ولما يراه في الجهاد من الآيات الباهرة والدلائل القاطعة على عظمة الله تبارك وتعالى ومعيته سبحانه؛ كان أولى الناس بتعظيم حرمات الله وحفظ حدوده، والاحتياط في دينه، والتورع عن المحرمات والشبهات، فالكسب الحرام من أعدى أعداء المجاهد، وهو أعظم سلاح يحاربه به الشيطان، ولأن الشيطان يحارب المؤمن على خطوات فإن أول خطوة له في هذا الميدان هي الشبهات، فالحذر الحذر من خطوات الشيطان، إنه عدو مضل مبين.
بل ويجدر بك أخي المجاهد أن تحذر من التوسع في المباحات التي يُخشى أن تنزلق بك إلى المكروهات والمحرمات، كما قال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"، وقال بعض الصحابة: "كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام".
فيا أيها المجاهد في سبيل الله، إن أردت معية الله ونصرته في جهادك، ورمت السلامة والنجاة في الآخرة؛ فاحرص على الطيبات وتحرِّي الحلال في كل معاملاتك ومكاسبك، فلا تأكل ولا تشرب ولا تلبس إلا من الحلال، واجتنب الشبهات والشهوات وخذ بالأحوط، وتحرز من مظالم الخلق وحقوق العباد وفي مقدمتها الدماء المعصومة، يسلم لك دينك، ويصفُ جهادك، وتنلْ من الله الرضى والقبول.
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ ...المزيد
العقبات السبع • قال ابن القيم: فإنه -أي الشيطان- يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها ...
العقبات السبع
• قال ابن القيم: فإنه -أي الشيطان- يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها، إلا إذا عجز عن الظفر به فيها.
▪ العقبة الأولى
عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح.
▪ العقبة الثانية
وهي عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله.
▪ العقبة الثالثة
وهي عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له، وحسنها في عينه، وسوف به، وفتح له باب الإرجاء.. والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه.
▪ العقبة الرابعة
وهي عقبة الصغائر.. ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها.. ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
▪ العقبة الخامسة
وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده.
▪ العقبة السادسة
وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها وحسنها في عينه.. وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم.
▪ العقبة السابعة
فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه وهي: عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير.. فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به".
[مدارج السالكين]
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ
إنفوغرافيك العدد ...المزيد
• قال ابن القيم: فإنه -أي الشيطان- يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها، إلا إذا عجز عن الظفر به فيها.
▪ العقبة الأولى
عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح.
▪ العقبة الثانية
وهي عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله.
▪ العقبة الثالثة
وهي عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له، وحسنها في عينه، وسوف به، وفتح له باب الإرجاء.. والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه.
▪ العقبة الرابعة
وهي عقبة الصغائر.. ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها.. ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
▪ العقبة الخامسة
وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده.
▪ العقبة السادسة
وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها وحسنها في عينه.. وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم.
▪ العقبة السابعة
فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه وهي: عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير.. فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به".
[مدارج السالكين]
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ
إنفوغرافيك العدد ...المزيد
معلومات
المواد المحفوظة 118
- مقال: جاه الأكارم (6) -الرفق- الحمد لله الملك الخلاق، والصلاة والسلام على نبينا محمد معلم ...
- حوار مع الشيخ أبي الوليد الصحراوي -تقبله الله تعالى- (2) استكمالًا للحوارِ -بجزئه الثّاني ...
- حرس الحدود بالعودة إلى أجواء الاحتفال بـ "اليوم الوطني السوري" الذي لم يغب اليهود عنه ...
- من أخطر نتائج الذنوب ومن بين أخطر نتائج الذنوب في الدنيا أنها تكون سببا في تسلُّط العدو أو ...
- صيدنايا والنفاق العالمي يغلب على السنوات الخدّاعات صبغتان متجذّرتان: صبغة "جاهلية" تصبغ ...