مِن أقوال علماء الملّة
• قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:
"قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا ...المزيد
مساعدة
الإبلاغ عن المادة
تعديل تدوينة
أخوّة الدين تتنوع العلاقات والوشائج التي تربط بين الناس، بتنوّع مقاصدهم ومآربهم وتختلف باختلاف ...
أخوّة الدين
تتنوع العلاقات والوشائج التي تربط بين الناس، بتنوّع مقاصدهم ومآربهم وتختلف باختلاف مناهجهم ومشاربهم، وكلٌّ على شكله يقع، لكن الذي يتفقون فيه هو تفرّقهم مهما اجتمعوا وتباعدهم مهما اتصلوا، فإنْ لم يكن ذلك في الدنيا وبسببها؛ كان {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
كل خلّة إلى عداء عدا خلّة المتقين:
ولا يسلم من هذا التفرق والتبرؤ والتباعد إلا من بنى ودّه على أساس البر والتقوى، ووثَّق محبته بعرى الإيمان والهدى، فإنّ كل عروة إلى انتقاض خلا العروة الوثقى، وكل خلة إلى عداء عدا خلة أهل التقوى، والدليل قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة، إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}".
وأما محبة المؤمنين وأخوتهم فهي أشد وأبقى، لأنها واجب أوجبه الله تعالى على عباده، إذ هي من الموالاة التي أمر بها في كتابه فقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، فهي باقية في الدنيا ما بقي أهلها على الإسلام، وهي باقية في الآخرة أجرا ونعيما في ظلال العرش، نسأله تعالى من فضله.
كما إن رابطة الأخوة هي ثمرة محبة الله وتعظيمه وتقديم محابه على ما سواها، فإنّ المؤمنين يتحابون بطاعتهم لله، ويجتمعون بقربهم منه سبحانه، ويتباعدون بمعصيتهم إيّاه وبعدهم عنه، وفي هذا كان بعض السلف يقول: "ما تفرق أخوان إلا بذنب أذنبه أحدهما" وهذا له وجه لا يخفى.
"أشداء على الكفار"
ومن لوازم الأخوة الإيمانية محبة المؤمنين أينما كانوا ومناصرتهم والذود عنهم، وبغض أعدائهم ومعاداتهم، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر التجمعات أخوة وتماسكا وترابطا، وقد طبقوا ومثلوا هذه الأخوة تمثيلا لا نظير له ولا مثيل، فقد كان الواحد منهم يشاطر أخاه ماله مناصفة، بل كانوا كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وفي المقابل كانوا يعادون ويتبرؤون من الكافر ولو كان أقرب الناس إليهم، فجمعوا بين منابذة الكافرين وقتالهم ومودة المؤمنين واللين معهم، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، والمعنى كما بين الإمام الطبري وغيره: "غليظة قلوبهم على الكافرين، رقيقة قلوبهم للمؤمنين لينة أنفسهم لهم".
وفي واقعنا المُعاش، فإن هذه الأخوة الإيمانية تتجلى بأبهى صورها وتصفو من الدخن والدواخل في صفوف المسلمين القائمين بأمر الله تعالى وبالأخص بين المجاهدين في سبيل الله؛ فَيَوَدُّ أحدُهم لو بذل لإخوانه المسلمين نفسَه ومالَه، والصور والأمثلة أبين من أن يُشار إليها، وما عدد الاستشهاديين والانغماسيين الحاملين جراح أمتهم بقليل، بينما تنعدم وتتهدم الأخوة الإيمانية بين المجتمعات والتجمعات الجاهلية التي تحب وتبغض وتوالي وتعادي في الوطن والعرق والقبيلة والحزب، لا لله وفي الله، وهذه آفة الأمة اليوم.
محاذير شرعية صونا للأخوة:
ومما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في باب الأخوة؛ إنزال الإخوان منزلة النفس في جلب المحبوب ودفع المكروه، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ولأجل ذلك حرّم الشارع الحكيم كل ما يؤدي إلى تمزق رابطة الإيمان ابتداءً بالهمز واللمز، مرورا بما هو أعظم من ذلك كالغيبة والنميمة والطعن في الأعراض والأنساب وإساءة الظن، وصولا إلى الاعتداء على الأموال والأعراض والدماء وغير ذلك مما شرعه الله تعالى صونا لرابطة الإيمان من التفكك والتمزق.
ولسنا بصدد حصر هذه المحرمات ولكن ضربا للمثال واستشهادا للمقال، وتأمل هذا الحديث النبوي الذي جمع عددا من المحرمات في هذا الباب المهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه). [رواه مسلم]، فهذا وأمثاله من سدّ ذرائع التفرقة، كما أن ضدها من الأوامر والتشريعات جلبا لأسباب الاجتماع والألفة الكثير.
أخوة الدين عون ونجاة:
ولذا فإن على المسلم أن يهتم بهذه الرابطة الدينية المتينة المبنية على أساس العقيدة والتوحيد، وأن لا يستبدلها بالعصبيات الجاهلية التي طالما روّج لها أعداء الإسلام كالروابط الوطنية والقومية والإنسانية وغيرها من العُرى المنقوضة سلفا! ليزاحموا رابطة الأخوة الإيمانية ويستبدلوها بها.
فينبغي للمسلم أن لا يعتاض عن الأخوة الإيمانية التي تكون له في الدنيا عونا وبُلْغة، وفي الآخرة نجاة وشفاعة، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي).
لعل من أبرز صفحات الأخوة الإيمانية في تاريخ المسلمين، أنها كانت اللبنة الأولى التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لبناء المجتمع المسلم المتماسك بعد الهجرة إلى المدينة وبناء دولة الإسلام الأولى، ولن تقوم للمسلمين اليوم قائمة حتى ينقضوا كل عروة ورابطة غير رابطة الإيمان، ويبنوا علاقاتهم على رابطة التوحيد والتقوى كما فعل نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابتهم الكرام، ومن لم يربطه بالمسلمين دينهم وتوحيدهم فلا خير في ودّه ولا أخوته، وإن فني في محبتهم وذاب، بل هي سرعان ما تتبدل وتنقلب عداوة وخذلانا عند أول اختبار لها، فتحابوا أيها المؤمنون في الله تعالى وتآخوا في دينه، وتوحدوا تحت توحيده، تُؤجروا وتُنصروا.
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ ...المزيد
تتنوع العلاقات والوشائج التي تربط بين الناس، بتنوّع مقاصدهم ومآربهم وتختلف باختلاف مناهجهم ومشاربهم، وكلٌّ على شكله يقع، لكن الذي يتفقون فيه هو تفرّقهم مهما اجتمعوا وتباعدهم مهما اتصلوا، فإنْ لم يكن ذلك في الدنيا وبسببها؛ كان {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
كل خلّة إلى عداء عدا خلّة المتقين:
ولا يسلم من هذا التفرق والتبرؤ والتباعد إلا من بنى ودّه على أساس البر والتقوى، ووثَّق محبته بعرى الإيمان والهدى، فإنّ كل عروة إلى انتقاض خلا العروة الوثقى، وكل خلة إلى عداء عدا خلة أهل التقوى، والدليل قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة، إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}".
وأما محبة المؤمنين وأخوتهم فهي أشد وأبقى، لأنها واجب أوجبه الله تعالى على عباده، إذ هي من الموالاة التي أمر بها في كتابه فقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، فهي باقية في الدنيا ما بقي أهلها على الإسلام، وهي باقية في الآخرة أجرا ونعيما في ظلال العرش، نسأله تعالى من فضله.
كما إن رابطة الأخوة هي ثمرة محبة الله وتعظيمه وتقديم محابه على ما سواها، فإنّ المؤمنين يتحابون بطاعتهم لله، ويجتمعون بقربهم منه سبحانه، ويتباعدون بمعصيتهم إيّاه وبعدهم عنه، وفي هذا كان بعض السلف يقول: "ما تفرق أخوان إلا بذنب أذنبه أحدهما" وهذا له وجه لا يخفى.
"أشداء على الكفار"
ومن لوازم الأخوة الإيمانية محبة المؤمنين أينما كانوا ومناصرتهم والذود عنهم، وبغض أعدائهم ومعاداتهم، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر التجمعات أخوة وتماسكا وترابطا، وقد طبقوا ومثلوا هذه الأخوة تمثيلا لا نظير له ولا مثيل، فقد كان الواحد منهم يشاطر أخاه ماله مناصفة، بل كانوا كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وفي المقابل كانوا يعادون ويتبرؤون من الكافر ولو كان أقرب الناس إليهم، فجمعوا بين منابذة الكافرين وقتالهم ومودة المؤمنين واللين معهم، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، والمعنى كما بين الإمام الطبري وغيره: "غليظة قلوبهم على الكافرين، رقيقة قلوبهم للمؤمنين لينة أنفسهم لهم".
وفي واقعنا المُعاش، فإن هذه الأخوة الإيمانية تتجلى بأبهى صورها وتصفو من الدخن والدواخل في صفوف المسلمين القائمين بأمر الله تعالى وبالأخص بين المجاهدين في سبيل الله؛ فَيَوَدُّ أحدُهم لو بذل لإخوانه المسلمين نفسَه ومالَه، والصور والأمثلة أبين من أن يُشار إليها، وما عدد الاستشهاديين والانغماسيين الحاملين جراح أمتهم بقليل، بينما تنعدم وتتهدم الأخوة الإيمانية بين المجتمعات والتجمعات الجاهلية التي تحب وتبغض وتوالي وتعادي في الوطن والعرق والقبيلة والحزب، لا لله وفي الله، وهذه آفة الأمة اليوم.
محاذير شرعية صونا للأخوة:
ومما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في باب الأخوة؛ إنزال الإخوان منزلة النفس في جلب المحبوب ودفع المكروه، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ولأجل ذلك حرّم الشارع الحكيم كل ما يؤدي إلى تمزق رابطة الإيمان ابتداءً بالهمز واللمز، مرورا بما هو أعظم من ذلك كالغيبة والنميمة والطعن في الأعراض والأنساب وإساءة الظن، وصولا إلى الاعتداء على الأموال والأعراض والدماء وغير ذلك مما شرعه الله تعالى صونا لرابطة الإيمان من التفكك والتمزق.
ولسنا بصدد حصر هذه المحرمات ولكن ضربا للمثال واستشهادا للمقال، وتأمل هذا الحديث النبوي الذي جمع عددا من المحرمات في هذا الباب المهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه). [رواه مسلم]، فهذا وأمثاله من سدّ ذرائع التفرقة، كما أن ضدها من الأوامر والتشريعات جلبا لأسباب الاجتماع والألفة الكثير.
أخوة الدين عون ونجاة:
ولذا فإن على المسلم أن يهتم بهذه الرابطة الدينية المتينة المبنية على أساس العقيدة والتوحيد، وأن لا يستبدلها بالعصبيات الجاهلية التي طالما روّج لها أعداء الإسلام كالروابط الوطنية والقومية والإنسانية وغيرها من العُرى المنقوضة سلفا! ليزاحموا رابطة الأخوة الإيمانية ويستبدلوها بها.
فينبغي للمسلم أن لا يعتاض عن الأخوة الإيمانية التي تكون له في الدنيا عونا وبُلْغة، وفي الآخرة نجاة وشفاعة، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي).
لعل من أبرز صفحات الأخوة الإيمانية في تاريخ المسلمين، أنها كانت اللبنة الأولى التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لبناء المجتمع المسلم المتماسك بعد الهجرة إلى المدينة وبناء دولة الإسلام الأولى، ولن تقوم للمسلمين اليوم قائمة حتى ينقضوا كل عروة ورابطة غير رابطة الإيمان، ويبنوا علاقاتهم على رابطة التوحيد والتقوى كما فعل نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابتهم الكرام، ومن لم يربطه بالمسلمين دينهم وتوحيدهم فلا خير في ودّه ولا أخوته، وإن فني في محبتهم وذاب، بل هي سرعان ما تتبدل وتنقلب عداوة وخذلانا عند أول اختبار لها، فتحابوا أيها المؤمنون في الله تعالى وتآخوا في دينه، وتوحدوا تحت توحيده، تُؤجروا وتُنصروا.
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ ...المزيد
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503 الافتتاحية: حصحص الحق! تنص الخارجية الأمريكية على ...
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503
الافتتاحية:
حصحص الحق!
تنص الخارجية الأمريكية على إمكانية إلغاء التصنيف بالإرهاب في حال "أنّ الظروف الأصلية التي أدت إلى التصنيف؛ قد تغيّرت بما يكفي لتبرير إلغائه، أو أنّ مصالح الأمن القومي الأمريكي تُبرّر إلغاءه". وهذا ما حدث مع هيئة الجولاني المرتدة، حيث أزالوها من "قائمة الإرهاب" بعد انتفاء أسباب التصنيف وتحقُّق الشروط الأمريكية.
بعيدا عن التفسيرات الكثيرة لهذا القرار المتوقع، فإنّ حجر الزاوية في اعتماده هو الالتزام التام بحماية المصالح "الأمريكية-اليهودية" إذْ لا يمكن الفصل بينها، وليس من قبيل المصادفة أن يصدر إعلان براءة الجولاني من الطُهر بينما هو في أحضان "ابن زايد".
سلفًا، قدّم الطاغوت الجولاني ثمن هذا "الاستحقاق الجاهلي"، وفي أول لقاء له مع "ترامب" منحه حق الوصول لخيرات الشام فوق الأرض وتحتها، وأعاد له رعاياه جثثا وأسرى، وطمأن دويلة يهود وسهّل العثور على رفات جنودها، وسلّم إحداثيات "الأسلحة الكيماوية" خشية وصولها لمن يأخذها بحقها! وقبل هذا وذاك سخّر كل طاقاته وتفانى في حرب الدولة الإسلامية في سوريا وخارجها، لقد فعل كل ما تطلّبه القرار حتى الآن.
دوليًّا، تزامن القرار الأمريكي مع قرار روسيا الاعتراف بإمارة طالبان، كخطوة موازية للخطوة الأمريكية، كي لا يعيّر أحدهما الآخر بدعم "الإرهابيين" الذين طلّقوا "الإرهاب" ثلاثا، وتولوا محاربته من دمشق إلى كابل!
في زمن التراجعات أو "التحوّلات الفكرية" كما يسميها المتحوّلون، صار الثوار ينظرون لأمريكا كشريك في إعمار وتنمية سوريا! وصارت طالبان تنظر نفس النظرة إلى روسيا! فمع من كانت حروب هؤلاء على مرّ السنين؟! إنْ كانت أمريكا تبني وروسيا تعمّر فمن الذي دمر حواضر المسلمين؟ إن أصبح الثوار والجهاديون حلفاء أمريكا وروسيا فمن أعداؤهم إذن؟! وما المانع أن ينظروا لليهود نفس النظرة غدا؟!
في أبعاده السياسية، يمثّل القرار الأمريكي احتواء لنظام الجولاني في المعسكر الغربي، تماما كما يمثل القرار الروسي احتواء لنظام طالبان في المعسكر الشرقي.
لقد بات الثوار والجهاديون بيادق في صراعات المعسكرات الجاهلية، بينما أنت يا جندي الخلافة تقف وحدك في معسكر التوحيد ثابتا شامخا كالطود تنافح عن دينك وأمتك، وتلاقي ما تلاقي في سبيل ذلك، فاصبر واحتسب واحمد الله على هذا الموقف حق حمده، واشكره سبحانه حق شكره.
وانظر حولك وتأمل كيف تتسع "سوريا الجديدة" لكل الطوائف الكافرة إلا الطائفة المؤمنة المنصورة بإذن الله تعالى، التي ترتبط بالشام وملاحمها أشد من ارتباط الجولاني بالخيانة! انظر حولك يا جندي الخلافة وتأمل، وأنت في خراسان وما جاورها، تقاتل الروس والأمريكيين معا، بينما بات الناكثون اليوم يكفِّرون عن حروبهم السابقة معهما، كما لو أنها "خطيئة" أقلعوا عنها وأتبعوها بـ "محاربة الإرهاب" لمحوها!
فاحمد الله يا جندي الخلافة وأنت تحافظ على هويتك الدينية -منهاج النبوة-، بينما يدشّن "المتحوّل" هوية قومية وطنية تمثّل قطيعة مع كل رمز أو شعار إسلامي كان قد اتخذه في مراهقته الجهادية أو ثورته الجاهلية.
وعلى الهامش، لا شيء أنسب للهوية البصرية لنظام الجولاني، من صورة "الضبع" فهو لا يعيش إلا على الجيف ولا يقتل إلا غدرا، وتلك دورة حياة الجولاني من الخيانة إلى الرئاسة.
المسؤولون الأمريكيون كانوا منذ البداية صريحين في أنهم لن يقيّموا الجولاني وإدارته وفقا للأقوال بل للأفعال، وبالفعل فلم يخيّب "عدو الشرع" آمال الصليبيين، وكانت أفعاله في حرب الجهاد عند حسن ظنهم ومحط إعجابهم!، حتى تردّى في ردته وخيانته منتقلا من دائرة السر إلى العلن، ومن التبرير إلى المفاخرة! ولا عجب فالرجل "براغماتي" صرف كما مدحوه! لا يعرف معروفا ولا يُنكر منكرا ولا يؤمن إلا بالمصلحة، والغاية عنده أسوأ من الوسيلة.
في سوريا الجديدة يتفاخر الثوار بـ "تطبيع العلاقات" مع أمريكا بينما يتهربون من الحديث عن "التطبيع" مع اليهود، مع أنهما فعلان متصلان مترابطان متساويان، والسبب في هذا التناقض أنّ الإسلام خارج معادلتهم الثورية.
شرعيا، يتناسى هؤلاء المرتدون قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، قال الإمام البغوي: "(ولن ترضى عنك اليهود) إلا باليهودية، (ولا النصارى) إلا بالنصرانية". اه. فهذه لفتة مهمة من وحي الكتاب إلى هؤلاء أنه مهما تزلفتم وتقربتم لليهود والنصارى، فبغير اليهودية والنصرانية لن تنالوا رضاهم، وعاجلا أم آجلا يستبدلونكم بغيركم، فأنتم مجرد بيادق بأيديهم جئتم خلفا لسلفكم، وستذهبون أذلّ وأخزى من ذهابهم، فهل أنتم إلا بدائل "الأسد" و "كرزاي" ومن لفّ لفهم؟!
في الأوساط الجهادية، يقف خصوم الدولة الإسلامية اليوم أمام خيارات صعبة؛ فهم إما أنْ يعترفوا بصحة موقف الدولة الإسلامية يوم كشفت حقيقة هؤلاء مبكرا؛ بينما كان قادة "القاعدة" يشيدون بهم ويحيكون المؤامرات لترجيح كفتهم على الدولة الإسلامية حسدا من عند أنفسهم، وانحرافا عن منهاج النبوة الذي لم يعد يناسب "تراجعاتهم وتحديثاتهم" في عصر "الربيع الجاهلي" الذي انقلب خريفا عليهم؛ أو أنّ عليهم الإقرار بردة هذه الهيئات عملا بقواعد الإيمان والكفر المعتبرة، وعندها سيدرك أتباعهم أنهم ظلموا الدولة الإسلامية يوم حكموا بخارجيتها، وهو ما يخشاه عبدة الألقاب العلمية والرتب الجهادية لأنه يحطم رموزهم وينهي تاريخهم.
إن مسلسل التبديل والانحراف في الأوساط الجهادية، يقيم الحجة على هؤلاء الخصوم، ويضع كل فرد منهم أمام مفترق طرق؛ هل يتبع هواه وينكر البيّنات والحقائق والواضحات؟ أم يتبع الحق الذي حصحص وبان، فيكثّر سواده ويعذر إلى ربه قبل فوات الأوان.
ولئن كنتم تعجبون مما ترونه في الشام أو خراسان فإن الأعجب لم يأت بعد، فجدّدوا إيمانكم -معاشر المؤمنين- وعضوا على توحيدكم بالنواجذ، فإن الفتن ما زالت تتوالد، ولم يكتمل بعد الزمان الذي يمسي فيه الحليم حيرانا، وهل الحليم يحتار في أمر الجولاني وأمثاله؟!
بل إن ما يجري يحتاج منا وقفة تدبر وتأمل في ما آلت إليه أحوال هؤلاء، وهي لفتة تربوية مهمة للذين يلتحقون بالجهاد دون بصيرة من أمرهم، ويريدون أن يضبطوا فوهات البنادق ويحفروا الخنادق قبل أن يضبطوا بوصلة المناهج ويحفروا في صخر المفاصلة العقدية، فمن كان هذا حاله فالتبديل والتفريط مآله، فاسمعوا وعوا: المناهج المناهج! العقائد العقائد! فبها وإلا فإنّ العواقب "جولانية!".
الآن حصحص الحق لمن لا يؤمن بغير الأدلة المحسوسة صوتا وصورة، أما لأولي الأحلام والنهى فقد حصحص الحق قديما منذ صرخ الشيخ العدناني في الجموع: "ما كان هذا منهجنا ولن يكون".
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ ...المزيد
الافتتاحية:
حصحص الحق!
تنص الخارجية الأمريكية على إمكانية إلغاء التصنيف بالإرهاب في حال "أنّ الظروف الأصلية التي أدت إلى التصنيف؛ قد تغيّرت بما يكفي لتبرير إلغائه، أو أنّ مصالح الأمن القومي الأمريكي تُبرّر إلغاءه". وهذا ما حدث مع هيئة الجولاني المرتدة، حيث أزالوها من "قائمة الإرهاب" بعد انتفاء أسباب التصنيف وتحقُّق الشروط الأمريكية.
بعيدا عن التفسيرات الكثيرة لهذا القرار المتوقع، فإنّ حجر الزاوية في اعتماده هو الالتزام التام بحماية المصالح "الأمريكية-اليهودية" إذْ لا يمكن الفصل بينها، وليس من قبيل المصادفة أن يصدر إعلان براءة الجولاني من الطُهر بينما هو في أحضان "ابن زايد".
سلفًا، قدّم الطاغوت الجولاني ثمن هذا "الاستحقاق الجاهلي"، وفي أول لقاء له مع "ترامب" منحه حق الوصول لخيرات الشام فوق الأرض وتحتها، وأعاد له رعاياه جثثا وأسرى، وطمأن دويلة يهود وسهّل العثور على رفات جنودها، وسلّم إحداثيات "الأسلحة الكيماوية" خشية وصولها لمن يأخذها بحقها! وقبل هذا وذاك سخّر كل طاقاته وتفانى في حرب الدولة الإسلامية في سوريا وخارجها، لقد فعل كل ما تطلّبه القرار حتى الآن.
دوليًّا، تزامن القرار الأمريكي مع قرار روسيا الاعتراف بإمارة طالبان، كخطوة موازية للخطوة الأمريكية، كي لا يعيّر أحدهما الآخر بدعم "الإرهابيين" الذين طلّقوا "الإرهاب" ثلاثا، وتولوا محاربته من دمشق إلى كابل!
في زمن التراجعات أو "التحوّلات الفكرية" كما يسميها المتحوّلون، صار الثوار ينظرون لأمريكا كشريك في إعمار وتنمية سوريا! وصارت طالبان تنظر نفس النظرة إلى روسيا! فمع من كانت حروب هؤلاء على مرّ السنين؟! إنْ كانت أمريكا تبني وروسيا تعمّر فمن الذي دمر حواضر المسلمين؟ إن أصبح الثوار والجهاديون حلفاء أمريكا وروسيا فمن أعداؤهم إذن؟! وما المانع أن ينظروا لليهود نفس النظرة غدا؟!
في أبعاده السياسية، يمثّل القرار الأمريكي احتواء لنظام الجولاني في المعسكر الغربي، تماما كما يمثل القرار الروسي احتواء لنظام طالبان في المعسكر الشرقي.
لقد بات الثوار والجهاديون بيادق في صراعات المعسكرات الجاهلية، بينما أنت يا جندي الخلافة تقف وحدك في معسكر التوحيد ثابتا شامخا كالطود تنافح عن دينك وأمتك، وتلاقي ما تلاقي في سبيل ذلك، فاصبر واحتسب واحمد الله على هذا الموقف حق حمده، واشكره سبحانه حق شكره.
وانظر حولك وتأمل كيف تتسع "سوريا الجديدة" لكل الطوائف الكافرة إلا الطائفة المؤمنة المنصورة بإذن الله تعالى، التي ترتبط بالشام وملاحمها أشد من ارتباط الجولاني بالخيانة! انظر حولك يا جندي الخلافة وتأمل، وأنت في خراسان وما جاورها، تقاتل الروس والأمريكيين معا، بينما بات الناكثون اليوم يكفِّرون عن حروبهم السابقة معهما، كما لو أنها "خطيئة" أقلعوا عنها وأتبعوها بـ "محاربة الإرهاب" لمحوها!
فاحمد الله يا جندي الخلافة وأنت تحافظ على هويتك الدينية -منهاج النبوة-، بينما يدشّن "المتحوّل" هوية قومية وطنية تمثّل قطيعة مع كل رمز أو شعار إسلامي كان قد اتخذه في مراهقته الجهادية أو ثورته الجاهلية.
وعلى الهامش، لا شيء أنسب للهوية البصرية لنظام الجولاني، من صورة "الضبع" فهو لا يعيش إلا على الجيف ولا يقتل إلا غدرا، وتلك دورة حياة الجولاني من الخيانة إلى الرئاسة.
المسؤولون الأمريكيون كانوا منذ البداية صريحين في أنهم لن يقيّموا الجولاني وإدارته وفقا للأقوال بل للأفعال، وبالفعل فلم يخيّب "عدو الشرع" آمال الصليبيين، وكانت أفعاله في حرب الجهاد عند حسن ظنهم ومحط إعجابهم!، حتى تردّى في ردته وخيانته منتقلا من دائرة السر إلى العلن، ومن التبرير إلى المفاخرة! ولا عجب فالرجل "براغماتي" صرف كما مدحوه! لا يعرف معروفا ولا يُنكر منكرا ولا يؤمن إلا بالمصلحة، والغاية عنده أسوأ من الوسيلة.
في سوريا الجديدة يتفاخر الثوار بـ "تطبيع العلاقات" مع أمريكا بينما يتهربون من الحديث عن "التطبيع" مع اليهود، مع أنهما فعلان متصلان مترابطان متساويان، والسبب في هذا التناقض أنّ الإسلام خارج معادلتهم الثورية.
شرعيا، يتناسى هؤلاء المرتدون قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، قال الإمام البغوي: "(ولن ترضى عنك اليهود) إلا باليهودية، (ولا النصارى) إلا بالنصرانية". اه. فهذه لفتة مهمة من وحي الكتاب إلى هؤلاء أنه مهما تزلفتم وتقربتم لليهود والنصارى، فبغير اليهودية والنصرانية لن تنالوا رضاهم، وعاجلا أم آجلا يستبدلونكم بغيركم، فأنتم مجرد بيادق بأيديهم جئتم خلفا لسلفكم، وستذهبون أذلّ وأخزى من ذهابهم، فهل أنتم إلا بدائل "الأسد" و "كرزاي" ومن لفّ لفهم؟!
في الأوساط الجهادية، يقف خصوم الدولة الإسلامية اليوم أمام خيارات صعبة؛ فهم إما أنْ يعترفوا بصحة موقف الدولة الإسلامية يوم كشفت حقيقة هؤلاء مبكرا؛ بينما كان قادة "القاعدة" يشيدون بهم ويحيكون المؤامرات لترجيح كفتهم على الدولة الإسلامية حسدا من عند أنفسهم، وانحرافا عن منهاج النبوة الذي لم يعد يناسب "تراجعاتهم وتحديثاتهم" في عصر "الربيع الجاهلي" الذي انقلب خريفا عليهم؛ أو أنّ عليهم الإقرار بردة هذه الهيئات عملا بقواعد الإيمان والكفر المعتبرة، وعندها سيدرك أتباعهم أنهم ظلموا الدولة الإسلامية يوم حكموا بخارجيتها، وهو ما يخشاه عبدة الألقاب العلمية والرتب الجهادية لأنه يحطم رموزهم وينهي تاريخهم.
إن مسلسل التبديل والانحراف في الأوساط الجهادية، يقيم الحجة على هؤلاء الخصوم، ويضع كل فرد منهم أمام مفترق طرق؛ هل يتبع هواه وينكر البيّنات والحقائق والواضحات؟ أم يتبع الحق الذي حصحص وبان، فيكثّر سواده ويعذر إلى ربه قبل فوات الأوان.
ولئن كنتم تعجبون مما ترونه في الشام أو خراسان فإن الأعجب لم يأت بعد، فجدّدوا إيمانكم -معاشر المؤمنين- وعضوا على توحيدكم بالنواجذ، فإن الفتن ما زالت تتوالد، ولم يكتمل بعد الزمان الذي يمسي فيه الحليم حيرانا، وهل الحليم يحتار في أمر الجولاني وأمثاله؟!
بل إن ما يجري يحتاج منا وقفة تدبر وتأمل في ما آلت إليه أحوال هؤلاء، وهي لفتة تربوية مهمة للذين يلتحقون بالجهاد دون بصيرة من أمرهم، ويريدون أن يضبطوا فوهات البنادق ويحفروا الخنادق قبل أن يضبطوا بوصلة المناهج ويحفروا في صخر المفاصلة العقدية، فمن كان هذا حاله فالتبديل والتفريط مآله، فاسمعوا وعوا: المناهج المناهج! العقائد العقائد! فبها وإلا فإنّ العواقب "جولانية!".
الآن حصحص الحق لمن لا يؤمن بغير الأدلة المحسوسة صوتا وصورة، أما لأولي الأحلام والنهى فقد حصحص الحق قديما منذ صرخ الشيخ العدناني في الجموع: "ما كان هذا منهجنا ولن يكون".
• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ ...المزيد
لقد كان في قصصهم عبرة 1 رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ...
لقد كان في قصصهم عبرة 1
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ومنذرين، والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سلام الله عليهم أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والدين، أما بعد..
لقد أنزل الله -عز وجل- الكتاب على عبده -صلى الله عليه وسلم- {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{ [النحل: 89]، وقصَّ فيه على نبيه ما جهله من أنباء الأقوام السابقة، }تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا} [هود: 49]، وقد أوحى الله لرسوله هذه القصص لما فيها من التثبيت والمواعظ والتذكير، {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وإن لهذه القصص أثر عظيم على أصحاب القلوب الحية، التي عمرها الإيمان والتصديق، وإن لهم فيها سلوى على ما يواجهونه من المحن والابتلاءات والزلازل، }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[هود: 120]، ولذلك، سنسلط في هذه السلسلة الضوء على قصص الأنبياء عليهم السلام، لنستخلص منها الدروس والعبر، ونسير في طريقهم ونقتفي الأثر.
سنبدأ هذه السلسلة بالحديث عن إبراهيم عليه السلام، في قصة فريدة تظهر الإيمان الراسخ والتوكل الصادق واليقين المطلق بالله عز وجل، إنها قصته مع هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام، بعد أن أنجاه الله وزوجه سارة من الملك الجبار، ورأى ذلك الملك الظالم منها ما رأى، وأوهبها جارية اسمها هاجر، وعاد إبراهيم -عليه السلام- إلى الأرض المباركة، أرض الشام، فلما لم يُرزق من سارة بالولد، وهبته جاريتها هاجر، فرُزق منها بإسماعيل عليه السلام، فلما تمكنت الغيرة من قلب سارة، بدأت قصتنا التي ذكر الله جزءا منها في قوله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّـهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم: 37 - 38].
حيث أوحى الله إلى إبراهيم أن يسري بهاجر وإسماعيل ويتركهما حيث أمره، لحكمة يعلمها عز وجل، فمضى بهاجر من أرض الشام إلى مكة مصطحبة رضيعها، حتى بلغوا دوحة فوق زمزم عند موضع البيت، ولم يكن بمكة يومئذ أحد، ولا ماء ولا طعام، إنما كانت صحراء قاحلة قفرة، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم راجعا، فتبعته أم إسماعيل قائلة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فاستدركت قائلة: "آلله الذي أمرك بهذا؟"، فأجاب أن نعم، فقالت بكل ثقة بالله وتوكل عليه عز وجل: "إذن لا يضيعنا"، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الكلمات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
جعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش رضيعها، وجعلت تنظر إليه وهو يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فنظرت في ما يليها من الأرض فلم تجد أقرب من الصفا، فانطلقت إليه حتى بلغت أعلاه، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي هل ترى من أحد فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد فلم تر أحدا، وطفقت تسعى بين الصفا والمروة بحثا عن ماء أو بشر، حتى أتمت سبعة أشواط، فذلك سعي الناس اليوم بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: "صهِ"، تريد نفسها، ثم تسمعت أيضا فقالت: "قد أسمعت إن كان عندك غواث"، أي قد سمعت صوتك، فإن كان عندك ما يغيثني فأغثني، فإذا هي بمَلَك أرسله الله -عز وجل- عند موضع زمزم، فبحث بعقبه (وهو مؤخر قدمه) أو بجناحه في الأرض حتى ظهر الماء، فجعلت تحيطه بالتراب وتصنع له حوضا مخافة أن يفنى، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور، فشربت حتى ارتوت وارتوى إسماعيل عليه السلام، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله"، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مر بهم نفر من قبيلة (جُرْهُم)، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا حائما، فعرفوا أن بهذا الوادي ماء، وكانَ عهدهم به أنه واد مقفر، فأرسلوا رسولا من قبلهم، أو رسولين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم به فأقبلوا، وأمُّ إسماعيل عند الماء، فقالوا: "أتأذنينَ لنا أن ننزل عندك؟" فأجابت أن نعم...
إن في هذه القصة لعبرا عديدة، ودروسا مفيدة، على رأسها التوكل على الله وإحسان الظن به، فمن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قال الله: أنا عند ظنِّ عبدي بي) [رواه البخاري]، فإن إحسان الظن بالله كان واضحا جليا في ترك إبراهيم -عليه السلام- أهله في واد غير ذي زرع، انعدمت فيه كل مقومات الحياة، متيقنا أن الله لن يضيع أهله، وأنه سيتكفل برزقهم وأنه خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين، كما برز ذلك في كلام هاجر إذ قالت: "إذن لا يضيعنا"، فهي متيقنة أن الله إنما أمر إبراهيم -عليه السلام- بذلك لحكمة، محسنة ظنها به، ومنها كذلك التسليم المطلق لله -عز وجل- والرضا بقضائه، حيث أن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ترك أهله في الصحراء القاحلة حيث الموت محتَّم باعتبار انعدام الأسباب المادية للحياة، لكن تسليمه المطلق لأمر الله كان سببا في تركهم، فقفل راجعا بعد أن وصلوا إلى المكان الذي أمره الله أن يتركهم فيه، وكذلك أم إسماعيل، لما رأت المكان وانعدام الأنس والماء سألته مرارا مستنكرة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، فلما علمت أن الله أمره بذلك، أسلمت أمرها وخضعت لقضاء الله، متيقنة أن الله جاعل لها ولرضيعها مخرجا، فكان الله عند حسن ظنها به، وآنس وحشتها ورزقها من الطيبات.
إن قصص الأنبياء وأقوامهم فيها من الدروس ما نفعه دائم وخيره مستفيض، وإن أولي اللب إن قارنوا حالَهم بحالِهم تجلت لهم مسالك الخلاص مما هم فيه من بلاء محنة، وشق الله لهم في بحار الظلمات طريق النور، ورفعهم من دركات التيه إلى درجات الرشاد، فلا تحل بهم نازلة إلا وقد أنبأهم الله بدوائها، ولا يرون معضلة إلا وقد بين الله لهم حلها، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 هـ ...المزيد
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ومنذرين، والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سلام الله عليهم أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والدين، أما بعد..
لقد أنزل الله -عز وجل- الكتاب على عبده -صلى الله عليه وسلم- {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{ [النحل: 89]، وقصَّ فيه على نبيه ما جهله من أنباء الأقوام السابقة، }تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا} [هود: 49]، وقد أوحى الله لرسوله هذه القصص لما فيها من التثبيت والمواعظ والتذكير، {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وإن لهذه القصص أثر عظيم على أصحاب القلوب الحية، التي عمرها الإيمان والتصديق، وإن لهم فيها سلوى على ما يواجهونه من المحن والابتلاءات والزلازل، }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[هود: 120]، ولذلك، سنسلط في هذه السلسلة الضوء على قصص الأنبياء عليهم السلام، لنستخلص منها الدروس والعبر، ونسير في طريقهم ونقتفي الأثر.
سنبدأ هذه السلسلة بالحديث عن إبراهيم عليه السلام، في قصة فريدة تظهر الإيمان الراسخ والتوكل الصادق واليقين المطلق بالله عز وجل، إنها قصته مع هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام، بعد أن أنجاه الله وزوجه سارة من الملك الجبار، ورأى ذلك الملك الظالم منها ما رأى، وأوهبها جارية اسمها هاجر، وعاد إبراهيم -عليه السلام- إلى الأرض المباركة، أرض الشام، فلما لم يُرزق من سارة بالولد، وهبته جاريتها هاجر، فرُزق منها بإسماعيل عليه السلام، فلما تمكنت الغيرة من قلب سارة، بدأت قصتنا التي ذكر الله جزءا منها في قوله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّـهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم: 37 - 38].
حيث أوحى الله إلى إبراهيم أن يسري بهاجر وإسماعيل ويتركهما حيث أمره، لحكمة يعلمها عز وجل، فمضى بهاجر من أرض الشام إلى مكة مصطحبة رضيعها، حتى بلغوا دوحة فوق زمزم عند موضع البيت، ولم يكن بمكة يومئذ أحد، ولا ماء ولا طعام، إنما كانت صحراء قاحلة قفرة، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم راجعا، فتبعته أم إسماعيل قائلة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فاستدركت قائلة: "آلله الذي أمرك بهذا؟"، فأجاب أن نعم، فقالت بكل ثقة بالله وتوكل عليه عز وجل: "إذن لا يضيعنا"، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الكلمات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
جعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش رضيعها، وجعلت تنظر إليه وهو يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فنظرت في ما يليها من الأرض فلم تجد أقرب من الصفا، فانطلقت إليه حتى بلغت أعلاه، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي هل ترى من أحد فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد فلم تر أحدا، وطفقت تسعى بين الصفا والمروة بحثا عن ماء أو بشر، حتى أتمت سبعة أشواط، فذلك سعي الناس اليوم بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: "صهِ"، تريد نفسها، ثم تسمعت أيضا فقالت: "قد أسمعت إن كان عندك غواث"، أي قد سمعت صوتك، فإن كان عندك ما يغيثني فأغثني، فإذا هي بمَلَك أرسله الله -عز وجل- عند موضع زمزم، فبحث بعقبه (وهو مؤخر قدمه) أو بجناحه في الأرض حتى ظهر الماء، فجعلت تحيطه بالتراب وتصنع له حوضا مخافة أن يفنى، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور، فشربت حتى ارتوت وارتوى إسماعيل عليه السلام، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله"، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مر بهم نفر من قبيلة (جُرْهُم)، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا حائما، فعرفوا أن بهذا الوادي ماء، وكانَ عهدهم به أنه واد مقفر، فأرسلوا رسولا من قبلهم، أو رسولين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم به فأقبلوا، وأمُّ إسماعيل عند الماء، فقالوا: "أتأذنينَ لنا أن ننزل عندك؟" فأجابت أن نعم...
إن في هذه القصة لعبرا عديدة، ودروسا مفيدة، على رأسها التوكل على الله وإحسان الظن به، فمن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قال الله: أنا عند ظنِّ عبدي بي) [رواه البخاري]، فإن إحسان الظن بالله كان واضحا جليا في ترك إبراهيم -عليه السلام- أهله في واد غير ذي زرع، انعدمت فيه كل مقومات الحياة، متيقنا أن الله لن يضيع أهله، وأنه سيتكفل برزقهم وأنه خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين، كما برز ذلك في كلام هاجر إذ قالت: "إذن لا يضيعنا"، فهي متيقنة أن الله إنما أمر إبراهيم -عليه السلام- بذلك لحكمة، محسنة ظنها به، ومنها كذلك التسليم المطلق لله -عز وجل- والرضا بقضائه، حيث أن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ترك أهله في الصحراء القاحلة حيث الموت محتَّم باعتبار انعدام الأسباب المادية للحياة، لكن تسليمه المطلق لأمر الله كان سببا في تركهم، فقفل راجعا بعد أن وصلوا إلى المكان الذي أمره الله أن يتركهم فيه، وكذلك أم إسماعيل، لما رأت المكان وانعدام الأنس والماء سألته مرارا مستنكرة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، فلما علمت أن الله أمره بذلك، أسلمت أمرها وخضعت لقضاء الله، متيقنة أن الله جاعل لها ولرضيعها مخرجا، فكان الله عند حسن ظنها به، وآنس وحشتها ورزقها من الطيبات.
إن قصص الأنبياء وأقوامهم فيها من الدروس ما نفعه دائم وخيره مستفيض، وإن أولي اللب إن قارنوا حالَهم بحالِهم تجلت لهم مسالك الخلاص مما هم فيه من بلاء محنة، وشق الله لهم في بحار الظلمات طريق النور، ورفعهم من دركات التيه إلى درجات الرشاد، فلا تحل بهم نازلة إلا وقد أنبأهم الله بدوائها، ولا يرون معضلة إلا وقد بين الله لهم حلها، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 هـ ...المزيد
السمع والطاعة (1) الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله ...
السمع والطاعة (1)
الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد...
مما هو معلوم لدى أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة، وهذا مما يتميز به أهل السنة والجماعة عن أهل البدع، قال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ويبتعدون عن البدع، ويرون السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية، ويأمرون بالفضائل وينهون عن الرذائل".
فإن السمع والطاعة هي الركن الأول في البيعة، والحق الأعظم للإمام والأمير، قال عبادة بن الصامت: "دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان" [رواه البخار ي].
ولما كان للسمع والطاعة من الأهمية ما ذكرنا، كان بيان مفهومهما ضروريا للغاية، حتى لا يلتبس على الناس هذا المعنى العظيم الذي به ينتظم أمر دنياهم ويُحفظ عليهم دينهم القويم، فكانت هذه السلسلة (السمع والطاعة).
• وجوب السمع والطاعة:
إن مما انعقد عليه الإجماع وجوب السمع والطاعة، حتى أصبح السمع والطاعة علامة مميزة وفارقة لأهل السنة عن أهل البدع، بل أصبح السمع والطاعة يذكر في كتب عقائد أهل السنة.
قال ابن قدامة، رحمه الله: "ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين -بَرِّهم وفاجرهم- ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين" [لمعة الاعتقاد].
وقال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق".
قال ابن رجب، رحمه الله: "أما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم".
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: "وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، بَرِّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية اللَّه".
والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية.
وقبل هذا جاء كلام الله ورسوله يؤكد وجوب السمع والطاعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. قال ابن حجر: "قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها -أي عن أولي الأمر في هذه الآية- ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمواْ بِالْعَدْل} [النساء: 58]. فقال: هذه في الولاة" [فتح الباري].
أما من السنة فالأحاديث كثيرة في وجوب السمع والطاعة للأئمة في غير معصية نذكر منها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميرِي فقد أطاعَنِي، ومن عصى أميري فقد عصانِي).
ومنها ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اسمعوا وأطيعُوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسَه زبيبةٌ).
ومنها ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنها ستكونُ بعدِي أثرةً وأمورٌ تُنكرونها). قالوا: "يا رسولَ اللهِ! كيف تأمر من أدركَ منّا ذلك؟" قال: (تُؤدّونَ الحقَّ الذي عليكُم، وتسألونَ اللهَ الذي لكُم)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الموجبة لطاعة الأئمة في غير معصية وإن جاروا.
حرمة مفارقة الجماعة:
إن الله لَمَّا أمر بالسمع والطاعة والجماعة، حَرَّم الخروج عنها والعصيان والتنازع، إذا لا يجوز لفرد أو جماعة الخروج على الإمام العادل، ومن خرج عليه وجب قتاله وقمعه، ورد شره وبغيه.
قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وعن عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقول: (من أتاكم، وأمركُم جميعٌ، على رجلٍ واحدٍ، يريدُ أن يشقُّ عصاكُم، أو يفرقَ جماعتكُم، فاقتلوهُ) [رواه مسلم].
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميرِه شيئاً يكرهُه فليصبر، فإنَّهُ ليس أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شبراً فيموتُ، إلا مات ميتةَ جاهليةٍ) [متفق عليه]. قال الإمام البخاري، رحمه الله: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر... -وذكر جماعة منهم ثم قال:- ما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء، فذكر أموراً منها: وأن لا ننازع الأمر أهله لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يَغِل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم)". وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم [...] فذكرا أموراً منها: ونقيم الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله -عز وجل- أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، فإن الجهاد ماض مذ بعث الله -عز وجل- نبيه -عليه الصلاة والسلام- إلى قيام الساعة مع ولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، والحج كذلك، ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين".
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من خلع يداً من طاعةٍ، لقيَ اللهَ يومَ القيامةِ، لا حُجَّةَ له. ومن مات وليس في عُنُقِه بَيعةٌ، مات مِيتةً جاهليةً) [رواه مسلم].
فعلى المسلمين لزوم الجماعة لما تقدم ذكره، ولما في ذلك من عزة المسلمين ووحدتهم، وعليهم نبذ التنازع والفرقة والاختلاف، حتى لا يذهب ريحهم فيصيبهم الفشل، فتستباح بيضتهم وتباد خضراؤهم، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 هـ ...المزيد
الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد...
مما هو معلوم لدى أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة، وهذا مما يتميز به أهل السنة والجماعة عن أهل البدع، قال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ويبتعدون عن البدع، ويرون السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية، ويأمرون بالفضائل وينهون عن الرذائل".
فإن السمع والطاعة هي الركن الأول في البيعة، والحق الأعظم للإمام والأمير، قال عبادة بن الصامت: "دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان" [رواه البخار ي].
ولما كان للسمع والطاعة من الأهمية ما ذكرنا، كان بيان مفهومهما ضروريا للغاية، حتى لا يلتبس على الناس هذا المعنى العظيم الذي به ينتظم أمر دنياهم ويُحفظ عليهم دينهم القويم، فكانت هذه السلسلة (السمع والطاعة).
• وجوب السمع والطاعة:
إن مما انعقد عليه الإجماع وجوب السمع والطاعة، حتى أصبح السمع والطاعة علامة مميزة وفارقة لأهل السنة عن أهل البدع، بل أصبح السمع والطاعة يذكر في كتب عقائد أهل السنة.
قال ابن قدامة، رحمه الله: "ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين -بَرِّهم وفاجرهم- ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين" [لمعة الاعتقاد].
وقال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق".
قال ابن رجب، رحمه الله: "أما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم".
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: "وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، بَرِّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية اللَّه".
والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية.
وقبل هذا جاء كلام الله ورسوله يؤكد وجوب السمع والطاعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. قال ابن حجر: "قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها -أي عن أولي الأمر في هذه الآية- ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمواْ بِالْعَدْل} [النساء: 58]. فقال: هذه في الولاة" [فتح الباري].
أما من السنة فالأحاديث كثيرة في وجوب السمع والطاعة للأئمة في غير معصية نذكر منها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميرِي فقد أطاعَنِي، ومن عصى أميري فقد عصانِي).
ومنها ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اسمعوا وأطيعُوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسَه زبيبةٌ).
ومنها ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنها ستكونُ بعدِي أثرةً وأمورٌ تُنكرونها). قالوا: "يا رسولَ اللهِ! كيف تأمر من أدركَ منّا ذلك؟" قال: (تُؤدّونَ الحقَّ الذي عليكُم، وتسألونَ اللهَ الذي لكُم)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الموجبة لطاعة الأئمة في غير معصية وإن جاروا.
حرمة مفارقة الجماعة:
إن الله لَمَّا أمر بالسمع والطاعة والجماعة، حَرَّم الخروج عنها والعصيان والتنازع، إذا لا يجوز لفرد أو جماعة الخروج على الإمام العادل، ومن خرج عليه وجب قتاله وقمعه، ورد شره وبغيه.
قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وعن عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقول: (من أتاكم، وأمركُم جميعٌ، على رجلٍ واحدٍ، يريدُ أن يشقُّ عصاكُم، أو يفرقَ جماعتكُم، فاقتلوهُ) [رواه مسلم].
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميرِه شيئاً يكرهُه فليصبر، فإنَّهُ ليس أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شبراً فيموتُ، إلا مات ميتةَ جاهليةٍ) [متفق عليه]. قال الإمام البخاري، رحمه الله: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر... -وذكر جماعة منهم ثم قال:- ما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء، فذكر أموراً منها: وأن لا ننازع الأمر أهله لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يَغِل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم)". وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم [...] فذكرا أموراً منها: ونقيم الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله -عز وجل- أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، فإن الجهاد ماض مذ بعث الله -عز وجل- نبيه -عليه الصلاة والسلام- إلى قيام الساعة مع ولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، والحج كذلك، ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين".
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من خلع يداً من طاعةٍ، لقيَ اللهَ يومَ القيامةِ، لا حُجَّةَ له. ومن مات وليس في عُنُقِه بَيعةٌ، مات مِيتةً جاهليةً) [رواه مسلم].
فعلى المسلمين لزوم الجماعة لما تقدم ذكره، ولما في ذلك من عزة المسلمين ووحدتهم، وعليهم نبذ التنازع والفرقة والاختلاف، حتى لا يذهب ريحهم فيصيبهم الفشل، فتستباح بيضتهم وتباد خضراؤهم، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 هـ ...المزيد
قصة شهيد: من جبال خراسان إلى ربوع الشام الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى ...
قصة شهيد:
من جبال خراسان إلى ربوع الشام
الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى أرض الخلافة والعيش فيها ولو أياماً فقط’’
"يكفيني أن أعيش في أرض الخلافة 4 أيام فقط، وإن قتلت بعد ذلك فقد حققت ما أريد"، عبارة كررها عشرات المرات عندما حاول أهله ثنيه عن الهجرة من خراسان إلى أرض الخلافة في العراق والشام، وبعد وصوله بأربعة أيام طلب المشاركة في غزوة كان يعد لها جنود الخلافة في بيجي، فقالت له زوجته ومن حوله: "انتظر يا شيخ حتى ترتاح من مشقة الطريق ووعثاء السفر"، فقال: "راحتي في ذلك"، وألحّ على إخوانه حتى شارك في الغزوة وقتل فيها، تقبله الله.
لقد صدق الله في طلبه فنال ما أراد، وهو الذي قاتل الكفار والمرتدين طيلة 8 أعوام في خراسان، كان ليناً مرحاً محبوباً من قبل إخوانه جميعا، كان أحدهم إذا جاءت نوبة رباطه في نقطة، سأل عن الموجودين في هذه النقطة فيقولون له فلان وفلان وفلان، فإذا علم بوجود الشيخ فيها سارع إليها فرحا مسرورا وإذا لم يجده بحث عنه.
كان أحد أكبر المحرضين على الجهاد في أرض الروس من خلال كلماته وتسجيلاته التي كانت دافعا كبيرا في هجرة العديد من الإخوة الروس إلى ساحات الجهاد.
إنه الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري -تقبله الله- صاحب 53 عاما، روسي الأصل، هاجر من أرض الروس الصليبيين إلى أرض خراسان قبل 15 عاما، والتحق بإخوانه بالحركة الإسلامية الأوزبكية في وزيرستان، التي بايعت خليفة المسلمين بعد إعلان الخلافة، وانضم جنودها لجنود الدولة الإسلامية في خراسان.
لم يكن الشيخ في مقتبل عمره ملتزما بأوامر الله ومنتهيا عن نواهيه، وكان له أخ من أمه قد عرف طريق الجهاد، وكان كثيرا ما يحدثه عن الجهاد في سبيل الله وفضله وما أعد الله للمجاهدين، حتى جاء الوقت الذي هدى الله فيه قلبه لدينه وللجهاد في سبيله، فعزم على الهجرة، والتحق بإخوانه في وزيرستان وأصبح جنديا في صفوف الحركة الأوزبكية الإسلامية، وجمع -رحمه الله- بين شقي الجهاد، جهاد اللسان وجهاد السنان، حيث كان يحرض المسلمين على النفير في سبيل الله من خلال كلماته الصوتية وتسجيلاته المصورة، ومن خلال قتاله ورباطه ضد المرتدين والكفار وأعوانهم.
وعن هجرته من أرض خراسان فور إعلان الخلافة إلى أرض الدولة الإسلامية، يحدثنا ابنه الذي كان معه في خراسان بقوله: "عندما أُعلنت الخلافة، عزم والدي أمره، وقال جهزوا أنفسكم سنهاجر إلى أرض الشام ونلتحق بركب الخلافة، فقلت له: "يا أبي هنا جهاد وهناك جهاد، والطريق طويلة واحتمال الأسر وارد جدا، ويجب علينا أن نجتاز حدود دول عديدة، ولا نملك جوازات للسفر أو بطاقات رسمية، إضافة إلى أننا لا نملك المال الكافي للوصول إلى الشام" فأجابني أبي: "الآن أعلنت الخلافة، وكم انتظرنا هذا اليوم، هل تعرف كم سنة انتظرناها؟! والآن عندما أُعلنت نتخلى عنها ولا نلتحق بركبها؟! لا يوجد أمامي هدف في أيامي القادمة سوى الوصول لأرض دولة الإسلام والالتحاق بالركب، ولن يستطيع أحد منعي من الالتحاق بها، فيكفيني أن أعيش فيها عدة أيام حتى وإن قتلت في أول غزوة أشارك بها".
وما هي إلا أيام حتى عزم الشيخ وزوجته وابنهما أمرهم مع عدد من الإخوة الآخرين وجهزوا أنفسهم للهجرة في سبيل الله، وجمعوا ما استطاعوا من المال، الذي قُدِّر بـ 900 دولار للشخص الواحد مع أن تكلفة الطريق للشخص كانت تزيد على 2000 دولار.
ومع فجر أحد الأيام، انطلقت المجموعة الصغيرة المهاجرة في سبيل الله إلى أرض الخلافة، من وزيرستان إلى أفغانستان وبعدها إلى باكستان، مرورا بدولة الروافض المشركين إيران، وصولا إلى تركيا، ليستريحوا عدة أيام ثم يكملوا طريقهم ويدخلوا أرض الشام بعد أكثر من شهرين منذ انطلاقتهم من وزيرستان.
وما أشق الطريق وأطوله، ويكفي فقط أن نعرف أنهم استقلوا أكثر من 50 سيارة منذ انطلاقهم، وركبوا العديد من الدراجات النارية في الطرق التي لا تسير فيها السيارات بين الجبال أثناء تنقلهم، ومشوا عشرات الكيلومترات على أرجلهم خلال عبورهم الحدود، وظلوا يوما كاملا مختبئين داخل صناديق خشبية حتى تمكنوا من عبور أحد الحواجز، وعادوا عدة مرات قبل ذلك.
ولاقوا ما لاقوا من أذى بسبب كذب المهربين، والخوف الذي عاشوه من كشف أمرهم للدرك والشرطة من الكفار والمرتدين، خاصة وأن الشيخ أحد أهم المطلوبين لدولة روسيا الصليبية، وصورته موزعة معروفة، إضافة إلى أن له العديد من الإصدارات التي يُحرض فيها على الجهاد وصورته واضحة بها، ورغم كل ذلك فلقد كانت رعاية الله وحفظه معهم.
وكانت الرحلة كذلك وبحسب أحد الإخوة في المجموعة أمتع رحلة في حياتهم بسبب وجود الشيخ معهم الذي كان كثير المزاح، ودائم السعادة والبهجة والذي كان يُحوّل أصعب المواقف وأحزنها إلى لطيفة ممتعة.
وهناك في تركيا، تذكّر الشيخ والدته التي قاربت الثمانين عاما، فلم يشأ أن ينعم بالهجرة والعيش في أرض الخلافة دونها، فاتصل بها وقال: "أمي، أنا الآن في تركيا وأريد أن أراك لأني سأذهب إلى مكان ربما لا أستطيع -أو لا أودُّ- العودة منه، تعالي هنا نلتقي عدة أيام ثم تعودين"، وجاءت الأم والتقت بابنها، فما كان منه إلا أن أقنعها باستكمال طريق الهجرة معه وهو ما كان، ولا تزال الأم في أرض الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا.
وبعد التقائه بوالدته تواصل مع أحد الإخوة في تركيا لينسق له دخوله، فطلبوا منه الجلوس والصبر ريثما يأتي دوره للدخول وعبور الحدود، حيث أن هناك عشرات الإخوة يريدون الدخول والأمر يتطلب تدابيرا وجهدا لتأمين الطريق لهم، فرفض وقال: "أريد الدخول اليوم"، فقالوا: "يجب أن تنتظر دورك يا شيخ"، فأجابهم: "اليوم دوري"، وأصر على طلبه فعندما شاهد الإخوة إصراره أدخلوه بعد يومين أو ثلاثة، وكان بعض الإخوة ينتظرون دورهم أكثر من شهر.
وبعد دخوله برفقه عائلة أخرى صغيرة بيومين، سأل عن أقرب غزوة يُعد لها جنود الدولة الإسلامية فقالوا له في بيجي، فحزم حقيبته الصغيرة واتجه إلى المعسكر لتوديع ابنه الوحيد فلم يتمكن من رؤيته، فاتجه إلى بيجي، ليبلُغ زوجتَه خبرُ استشهاده بعد أيام، قُتل -رحمه الله- دون أن يعلم أحد من الجنود الذين كانوا معه في الغزوة من هذا الرجل الغريب المُسن صاحب الهمة العالية الذي دخل الغزوة معهم ولا يعرفون عنه شيئا -تقبله الله- وأسكنه فسيح جنانه.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 هـ ...المزيد
من جبال خراسان إلى ربوع الشام
الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى أرض الخلافة والعيش فيها ولو أياماً فقط’’
"يكفيني أن أعيش في أرض الخلافة 4 أيام فقط، وإن قتلت بعد ذلك فقد حققت ما أريد"، عبارة كررها عشرات المرات عندما حاول أهله ثنيه عن الهجرة من خراسان إلى أرض الخلافة في العراق والشام، وبعد وصوله بأربعة أيام طلب المشاركة في غزوة كان يعد لها جنود الخلافة في بيجي، فقالت له زوجته ومن حوله: "انتظر يا شيخ حتى ترتاح من مشقة الطريق ووعثاء السفر"، فقال: "راحتي في ذلك"، وألحّ على إخوانه حتى شارك في الغزوة وقتل فيها، تقبله الله.
لقد صدق الله في طلبه فنال ما أراد، وهو الذي قاتل الكفار والمرتدين طيلة 8 أعوام في خراسان، كان ليناً مرحاً محبوباً من قبل إخوانه جميعا، كان أحدهم إذا جاءت نوبة رباطه في نقطة، سأل عن الموجودين في هذه النقطة فيقولون له فلان وفلان وفلان، فإذا علم بوجود الشيخ فيها سارع إليها فرحا مسرورا وإذا لم يجده بحث عنه.
كان أحد أكبر المحرضين على الجهاد في أرض الروس من خلال كلماته وتسجيلاته التي كانت دافعا كبيرا في هجرة العديد من الإخوة الروس إلى ساحات الجهاد.
إنه الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري -تقبله الله- صاحب 53 عاما، روسي الأصل، هاجر من أرض الروس الصليبيين إلى أرض خراسان قبل 15 عاما، والتحق بإخوانه بالحركة الإسلامية الأوزبكية في وزيرستان، التي بايعت خليفة المسلمين بعد إعلان الخلافة، وانضم جنودها لجنود الدولة الإسلامية في خراسان.
لم يكن الشيخ في مقتبل عمره ملتزما بأوامر الله ومنتهيا عن نواهيه، وكان له أخ من أمه قد عرف طريق الجهاد، وكان كثيرا ما يحدثه عن الجهاد في سبيل الله وفضله وما أعد الله للمجاهدين، حتى جاء الوقت الذي هدى الله فيه قلبه لدينه وللجهاد في سبيله، فعزم على الهجرة، والتحق بإخوانه في وزيرستان وأصبح جنديا في صفوف الحركة الأوزبكية الإسلامية، وجمع -رحمه الله- بين شقي الجهاد، جهاد اللسان وجهاد السنان، حيث كان يحرض المسلمين على النفير في سبيل الله من خلال كلماته الصوتية وتسجيلاته المصورة، ومن خلال قتاله ورباطه ضد المرتدين والكفار وأعوانهم.
وعن هجرته من أرض خراسان فور إعلان الخلافة إلى أرض الدولة الإسلامية، يحدثنا ابنه الذي كان معه في خراسان بقوله: "عندما أُعلنت الخلافة، عزم والدي أمره، وقال جهزوا أنفسكم سنهاجر إلى أرض الشام ونلتحق بركب الخلافة، فقلت له: "يا أبي هنا جهاد وهناك جهاد، والطريق طويلة واحتمال الأسر وارد جدا، ويجب علينا أن نجتاز حدود دول عديدة، ولا نملك جوازات للسفر أو بطاقات رسمية، إضافة إلى أننا لا نملك المال الكافي للوصول إلى الشام" فأجابني أبي: "الآن أعلنت الخلافة، وكم انتظرنا هذا اليوم، هل تعرف كم سنة انتظرناها؟! والآن عندما أُعلنت نتخلى عنها ولا نلتحق بركبها؟! لا يوجد أمامي هدف في أيامي القادمة سوى الوصول لأرض دولة الإسلام والالتحاق بالركب، ولن يستطيع أحد منعي من الالتحاق بها، فيكفيني أن أعيش فيها عدة أيام حتى وإن قتلت في أول غزوة أشارك بها".
وما هي إلا أيام حتى عزم الشيخ وزوجته وابنهما أمرهم مع عدد من الإخوة الآخرين وجهزوا أنفسهم للهجرة في سبيل الله، وجمعوا ما استطاعوا من المال، الذي قُدِّر بـ 900 دولار للشخص الواحد مع أن تكلفة الطريق للشخص كانت تزيد على 2000 دولار.
ومع فجر أحد الأيام، انطلقت المجموعة الصغيرة المهاجرة في سبيل الله إلى أرض الخلافة، من وزيرستان إلى أفغانستان وبعدها إلى باكستان، مرورا بدولة الروافض المشركين إيران، وصولا إلى تركيا، ليستريحوا عدة أيام ثم يكملوا طريقهم ويدخلوا أرض الشام بعد أكثر من شهرين منذ انطلاقتهم من وزيرستان.
وما أشق الطريق وأطوله، ويكفي فقط أن نعرف أنهم استقلوا أكثر من 50 سيارة منذ انطلاقهم، وركبوا العديد من الدراجات النارية في الطرق التي لا تسير فيها السيارات بين الجبال أثناء تنقلهم، ومشوا عشرات الكيلومترات على أرجلهم خلال عبورهم الحدود، وظلوا يوما كاملا مختبئين داخل صناديق خشبية حتى تمكنوا من عبور أحد الحواجز، وعادوا عدة مرات قبل ذلك.
ولاقوا ما لاقوا من أذى بسبب كذب المهربين، والخوف الذي عاشوه من كشف أمرهم للدرك والشرطة من الكفار والمرتدين، خاصة وأن الشيخ أحد أهم المطلوبين لدولة روسيا الصليبية، وصورته موزعة معروفة، إضافة إلى أن له العديد من الإصدارات التي يُحرض فيها على الجهاد وصورته واضحة بها، ورغم كل ذلك فلقد كانت رعاية الله وحفظه معهم.
وكانت الرحلة كذلك وبحسب أحد الإخوة في المجموعة أمتع رحلة في حياتهم بسبب وجود الشيخ معهم الذي كان كثير المزاح، ودائم السعادة والبهجة والذي كان يُحوّل أصعب المواقف وأحزنها إلى لطيفة ممتعة.
وهناك في تركيا، تذكّر الشيخ والدته التي قاربت الثمانين عاما، فلم يشأ أن ينعم بالهجرة والعيش في أرض الخلافة دونها، فاتصل بها وقال: "أمي، أنا الآن في تركيا وأريد أن أراك لأني سأذهب إلى مكان ربما لا أستطيع -أو لا أودُّ- العودة منه، تعالي هنا نلتقي عدة أيام ثم تعودين"، وجاءت الأم والتقت بابنها، فما كان منه إلا أن أقنعها باستكمال طريق الهجرة معه وهو ما كان، ولا تزال الأم في أرض الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا.
وبعد التقائه بوالدته تواصل مع أحد الإخوة في تركيا لينسق له دخوله، فطلبوا منه الجلوس والصبر ريثما يأتي دوره للدخول وعبور الحدود، حيث أن هناك عشرات الإخوة يريدون الدخول والأمر يتطلب تدابيرا وجهدا لتأمين الطريق لهم، فرفض وقال: "أريد الدخول اليوم"، فقالوا: "يجب أن تنتظر دورك يا شيخ"، فأجابهم: "اليوم دوري"، وأصر على طلبه فعندما شاهد الإخوة إصراره أدخلوه بعد يومين أو ثلاثة، وكان بعض الإخوة ينتظرون دورهم أكثر من شهر.
وبعد دخوله برفقه عائلة أخرى صغيرة بيومين، سأل عن أقرب غزوة يُعد لها جنود الدولة الإسلامية فقالوا له في بيجي، فحزم حقيبته الصغيرة واتجه إلى المعسكر لتوديع ابنه الوحيد فلم يتمكن من رؤيته، فاتجه إلى بيجي، ليبلُغ زوجتَه خبرُ استشهاده بعد أيام، قُتل -رحمه الله- دون أن يعلم أحد من الجنود الذين كانوا معه في الغزوة من هذا الرجل الغريب المُسن صاحب الهمة العالية الذي دخل الغزوة معهم ولا يعرفون عنه شيئا -تقبله الله- وأسكنه فسيح جنانه.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 هـ ...المزيد
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ 104: الافتتاحية: الصبر واليقين حلة الصادقين إن أعظم الناس ...
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ 104:
الافتتاحية:
الصبر واليقين حلة الصادقين
إن أعظم الناس إيمانا، هو أعظمهم يقينا بالله -تعالى- أنه الإله الواحد الحق المستحق للعبادة، وأن دينه العظيم فوق جميع الأديان الباطلة، وبرهان ذلك اليقين الذي لا شك فيه هو قتال من كفر بالله وعدل معه غيره واستبدل بدينه أديان البشر الآسنة، وهذا اليقين هو من أعمال القلوب الجليلة التي لا يصح الإيمان إلا بها، وهو أحد الشروط التي لا بد منها لصحة كلمة التوحيد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من مات يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، موقنا من قلبه دخل الجنة) [رواه النسائي].
وهذا اليقين هو الذي يدفع صاحبه للمطاولة في طريق الدعوة إلى الله بالسيف والسنان والحجة والبيان، مع ما فيه من شدة البلاء وعظيم الخطب والزلزلة، وملاقاة الكفار والزحوف، واعتلاء مراكب المنايا والحتوف، إنه اليقين الذي يدفع صاحبه للصبر على كل ذلك، فلا يجد صاحبه بُدا من المطاولة والسعي الحثيث لنصرة الدين، ومرضاة رب العالمين، وهذا هو الإيمان الذي يتدرج بصاحبه حتى يصل إلى حق اليقين ثم عين اليقين، وأعظم الناس يقينا هم الرسل، لأنهم هم من تجري على أيديهم المعجزات وتتنزل عليهم الآيات، ولذلك عندما شكى خباب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يلاقونه من أذى المشركين وطلب منه الدعاء والنصرة، كشف له النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لاقاه الجيل الأول من أتباع كل رسول من الصبر العظيم على دين الله، وما هذا الصبر إلا من قوة الإيمان بالله -سبحانه- واليقين بوعده، والرضى بتلك المصائب في ذات الله، فعن خباب بن الأرتِّ -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يُؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [رواه البخاري].
وهكذا يأتي الجيل بعد ذاك الجيل المبتلى الذي قامت عليه الدعوة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ممن أنعم الله عليهم بالإيمان والصبر واليقين، فيكون فضلهم على قدر ما هم عليه من يقين وتحمل وتصبر في القيام بأمر الله تعالى، وبهذه المعايير يكون التفاضل والدرجة في الجنة، فأخبرنا الله -تعالى- عن التفاضل بين بعض أجيال الصحابة الكرام، وأن درجة من أنفق وقاتل قبل فتح مكة ليس كمن آمن وقاتل بعد الفتح، وهؤلاء الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بمجموعهم ممن سبق ولحق، هم من أعظم الناس إيمانا واتباعا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ويقينا وبلاء في سبيل الله، ولذلك هم خير القرون، وعندما ارتدت العرب وانحسرت رقعة الدولة في مكة والمدينة، ظهر مِن حُسن بلائِهم وجهادهم ما يدل على هذه الخيرية، فألقوا بأنفسهم في أتون حرب ضروس، ضَرَستْ أهل الردة وكسرت شوكتهم، وكانوا من أكثر الناس بذلا للدماء والأشلاء، وقُتل في وقعة اليمامة سبعون من قراء الصحابة، وهي وقعة واحدة من وقعات كثيرة، مما حدا بالصدّيق -رضي الله عنه- أن يجمع القرآن خشية أن يضيع منه شيء، أولئك هم جيل الهداة المهتدين، الذين نالوا الإمامة في الدين بالصبر واليقين، اليقين بوحدانية الله والحساب والجنة والنار، اليقين برضوان الله وتحقيق وعده، اليقين بكفر الطواغيت وأتباعهم وجندهم وأنصارهم من صليبيين ومرتدين، والصبر على نتائج القتال مهما عظمت، ولذلك تجد من المجاهدين اليوم من يذكرك بفعل أنس بن النضر -رضي الله عنه- يوم أحد وهو ممن عظم إيمانه ويقينه، فشقّ طريقه إلى ربه موقنا صابرا محتسبا مقبلا عليه قائلا حين فرّ الناس: "واها لريح الجنة، أجدها دون أحد"، وما أعجب تلك الكلمات، إنها كلمة تلهُّف وحنين للجنة، فهنيئا لمن سار على خطاه، وحث الخطى إلى دار السعادة والكرامة، فإن أعظم الناس إيمانا ويقينا من يقبل على ربه حين يدبر الناس، وينكلوا عن هذا الخير العظيم.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 هـ ...المزيد
الافتتاحية:
الصبر واليقين حلة الصادقين
إن أعظم الناس إيمانا، هو أعظمهم يقينا بالله -تعالى- أنه الإله الواحد الحق المستحق للعبادة، وأن دينه العظيم فوق جميع الأديان الباطلة، وبرهان ذلك اليقين الذي لا شك فيه هو قتال من كفر بالله وعدل معه غيره واستبدل بدينه أديان البشر الآسنة، وهذا اليقين هو من أعمال القلوب الجليلة التي لا يصح الإيمان إلا بها، وهو أحد الشروط التي لا بد منها لصحة كلمة التوحيد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من مات يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، موقنا من قلبه دخل الجنة) [رواه النسائي].
وهذا اليقين هو الذي يدفع صاحبه للمطاولة في طريق الدعوة إلى الله بالسيف والسنان والحجة والبيان، مع ما فيه من شدة البلاء وعظيم الخطب والزلزلة، وملاقاة الكفار والزحوف، واعتلاء مراكب المنايا والحتوف، إنه اليقين الذي يدفع صاحبه للصبر على كل ذلك، فلا يجد صاحبه بُدا من المطاولة والسعي الحثيث لنصرة الدين، ومرضاة رب العالمين، وهذا هو الإيمان الذي يتدرج بصاحبه حتى يصل إلى حق اليقين ثم عين اليقين، وأعظم الناس يقينا هم الرسل، لأنهم هم من تجري على أيديهم المعجزات وتتنزل عليهم الآيات، ولذلك عندما شكى خباب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يلاقونه من أذى المشركين وطلب منه الدعاء والنصرة، كشف له النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لاقاه الجيل الأول من أتباع كل رسول من الصبر العظيم على دين الله، وما هذا الصبر إلا من قوة الإيمان بالله -سبحانه- واليقين بوعده، والرضى بتلك المصائب في ذات الله، فعن خباب بن الأرتِّ -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يُؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [رواه البخاري].
وهكذا يأتي الجيل بعد ذاك الجيل المبتلى الذي قامت عليه الدعوة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ممن أنعم الله عليهم بالإيمان والصبر واليقين، فيكون فضلهم على قدر ما هم عليه من يقين وتحمل وتصبر في القيام بأمر الله تعالى، وبهذه المعايير يكون التفاضل والدرجة في الجنة، فأخبرنا الله -تعالى- عن التفاضل بين بعض أجيال الصحابة الكرام، وأن درجة من أنفق وقاتل قبل فتح مكة ليس كمن آمن وقاتل بعد الفتح، وهؤلاء الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بمجموعهم ممن سبق ولحق، هم من أعظم الناس إيمانا واتباعا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ويقينا وبلاء في سبيل الله، ولذلك هم خير القرون، وعندما ارتدت العرب وانحسرت رقعة الدولة في مكة والمدينة، ظهر مِن حُسن بلائِهم وجهادهم ما يدل على هذه الخيرية، فألقوا بأنفسهم في أتون حرب ضروس، ضَرَستْ أهل الردة وكسرت شوكتهم، وكانوا من أكثر الناس بذلا للدماء والأشلاء، وقُتل في وقعة اليمامة سبعون من قراء الصحابة، وهي وقعة واحدة من وقعات كثيرة، مما حدا بالصدّيق -رضي الله عنه- أن يجمع القرآن خشية أن يضيع منه شيء، أولئك هم جيل الهداة المهتدين، الذين نالوا الإمامة في الدين بالصبر واليقين، اليقين بوحدانية الله والحساب والجنة والنار، اليقين برضوان الله وتحقيق وعده، اليقين بكفر الطواغيت وأتباعهم وجندهم وأنصارهم من صليبيين ومرتدين، والصبر على نتائج القتال مهما عظمت، ولذلك تجد من المجاهدين اليوم من يذكرك بفعل أنس بن النضر -رضي الله عنه- يوم أحد وهو ممن عظم إيمانه ويقينه، فشقّ طريقه إلى ربه موقنا صابرا محتسبا مقبلا عليه قائلا حين فرّ الناس: "واها لريح الجنة، أجدها دون أحد"، وما أعجب تلك الكلمات، إنها كلمة تلهُّف وحنين للجنة، فهنيئا لمن سار على خطاه، وحث الخطى إلى دار السعادة والكرامة، فإن أعظم الناس إيمانا ويقينا من يقبل على ربه حين يدبر الناس، وينكلوا عن هذا الخير العظيم.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 هـ ...المزيد
وقفات مع الرؤى والأحلام الحمد لله الذي جعل من الرؤى مبشرات تسرُّ المؤمن وتعينه على الثبات، ...
وقفات مع الرؤى والأحلام
الحمد لله الذي جعل من الرؤى مبشرات تسرُّ المؤمن وتعينه على الثبات، والصلاة والسلام على رسوله القائل "لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة" [رواه البخاري]، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد...
فإن من الأمور التي ينبغي وضعها في مواضعها الصحيحة الرؤى التي نراها في منامنا، وسنذكر في هذه المقالة -إن شاء الله- أحكاماً شرعية تصحح مفاهيمنا عن الرؤى، ومنها أنه لا شك أن الوحي قد انقطع بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن تُؤخذ من الرؤى أحكام شرعية بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولحوقه بربه عز وجل، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السِّتارة، والناس صُفوفٌ خلف أبي بكر، فقال: (أيها الناس، إنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو تُرى له)" [رواه مسلم].
الرؤى الصالحة مبشرات
والرؤيا الصالحة من البشارات التي يُبشَّر بها المؤمن في الدنيا، فقد قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير البشرى في الحياة الدنيا في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]: "إن الله -تعالى ذكره- أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له".
أقسام الرؤى
وتُقسم الرؤى إلى ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من الله، وحديث نفس، ورؤيا تحزين من الشيطان، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا: أصدقكم حديثا... والرؤيا ثلاث، فالرؤيا الصالحة: بشرى من الله، ورؤيا: تحزين من الشيطان، ورؤيا: مما يحدِّث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصلِّ، ولا يحدث بها الناس) [رواه مسلم وبعضه في البخاري].
ومعنى اقتراب الزمان: قرب قيام الساعة على الصحيح، فينبغي للمسلم أن يضع في اعتباره هذه الأقسام الثلاثة للرؤى، فإن رأى في منامه ما كان يفكر فيه ويشغل باله فقد تكون رؤياه من حديث النفس، وإن رأى ما يسوؤه ولا بشارة فيه فليحمله على أنه من أذى الشيطان ليحزنه، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن أعرابيا قال: "يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي ضُرِب فتدحرج، فاشتددت في أثره"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُحدِّث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك) [رواه مسلم].
علاقة الرؤيا بأول تعبير لها
وقد استدل البخاري -رحمه الله- بحديث الرؤيا التي عبرها أبو بكر -رضي الله عنه- على أن الرؤيا لا تقع على أول تعبير تعبر به إذا لم يكن التعبير صوابا، فقال: "باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب"، وتحت التبويب أسند حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطُف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سببٌ واصلٌ من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به، فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل"، فقال أبو بكر: "يا رسول الله، بأبي أنت والله، لتَدَعَنِّي فأعبرها"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعبرها)، قال: "أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن، حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به، رجل من بعدك فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له، فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله، بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبت بعضا، وأخطأت بعضا)، قال: "فوالله يا رسول الله، لتحدثني بالذي أخطأت"، قال: (لا تقسم) [رواه البخاري]، وفي الحديث دلالة على أن تعبير الرؤى هو من الاجتهاد الذي قد يصيب وقد يخطئ أو قد يصيب بعضه ويخطئ بالآخر، وقد يقول قائل فما معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرؤيا تقع على ما تعبر و مثل ذلك رجل رفع رجله فهو ينتظر فهو متى يضعها فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالما)، فيقال له أن لا إشكال في المعنى لأن الرؤيا تقع على ما تعبر من الصحيح في تأويلها لا على تأويل من جانب الصواب كما مر معنا في عنوان الباب الذي أورده الإمام البخاري في صحيحه، وفي هذا الحديث إرشاد نبوي وحث على سؤال العالم بالتأويل أو الناصح في تعبير الرؤى.
على من تُقص الرؤيا
وكذلك دلت قصة يوسف -عليه السلام- على أن الأصل ألا تُقَصَّ الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح أو من يخشى منه الكيد والحسد، وذاك في قوله تعالى: {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5]، ومن فهم من رؤيا أنها مصيبة تنزل بالرائي فلا يجوز أن يجامله فيكذب في تأويلها، وله أن يتهرب من تفسيرها دون كذب، قيل لمالك، رحمه الله: "أتُعَبِّر الرؤيا على الخير وهي عنده على الشر؟"، فقال: "معاذ الله، أبالنبوة يتلعب؟ هي من أجزاء النبوة".
زمن وقوع الرؤيا
وقد يخطئ بعض الناس في تعبير الرؤى من حيث زمان وقوعها أو مكانه أو غير ذلك، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أُري في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في ذلك، فقال له فيما قال: "أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟" قال: (بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا) قال: "لا"، قال: (فإنك آتيه ومُطَّوِّف به). وبهذا أجاب الصديق -رضي الله عنه- أيضا حذو القذة بالقذة؛ ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27].
من تعبير النبي صلى الله عليه وسلم للرؤى
ومن أمثلة تعبير النبي -صلى الله عليه وسلم- للرؤى ما جاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (رأيت الليلة -وفي رواية: رأيت ذات ليلة- فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن رافع، وأتينا برُطَب من رُطَب ابن طاب، فأوَّلْتُ: أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب) [رواه مسلم]، وفي هذا المثال بعض العلم النبوي يوضح أن الكلمات تكون أحيانا مفاتيح للتعبير، فاسم عقبة فُسّر بالعاقبة في الآخرة، واسم رافع فُسّر بالرفعة في الدنيا، وابن طاب فُسّر بأن ديننا قد طاب.
وموضوع الرؤى لا تكفيه هذه المساحة، ولكن ما يجدر ذكره أن رؤى الأنبياء وحي كرؤيا نبي الله إبراهيم أنه يذبح ابنه، ومنها أن رؤيا الكافر قد تصدق كما في رؤيا الملك قبل أن يسلم على يدي يوسف عليه السلام.
وعلم تعبير الرؤى من نعم الله على من أراده الله بهذا الفضل، وهي نعمة تستوجب الشكر، أخبر -تعالى- أن يعقوب قال لابنه يوسف، عليهما السلام: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6].
ونصلي ونسلم على رسول الله ومصطفاه، والحمد لله رب العالمين.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
الحمد لله الذي جعل من الرؤى مبشرات تسرُّ المؤمن وتعينه على الثبات، والصلاة والسلام على رسوله القائل "لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة" [رواه البخاري]، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد...
فإن من الأمور التي ينبغي وضعها في مواضعها الصحيحة الرؤى التي نراها في منامنا، وسنذكر في هذه المقالة -إن شاء الله- أحكاماً شرعية تصحح مفاهيمنا عن الرؤى، ومنها أنه لا شك أن الوحي قد انقطع بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن تُؤخذ من الرؤى أحكام شرعية بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولحوقه بربه عز وجل، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السِّتارة، والناس صُفوفٌ خلف أبي بكر، فقال: (أيها الناس، إنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو تُرى له)" [رواه مسلم].
الرؤى الصالحة مبشرات
والرؤيا الصالحة من البشارات التي يُبشَّر بها المؤمن في الدنيا، فقد قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير البشرى في الحياة الدنيا في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]: "إن الله -تعالى ذكره- أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له".
أقسام الرؤى
وتُقسم الرؤى إلى ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من الله، وحديث نفس، ورؤيا تحزين من الشيطان، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا: أصدقكم حديثا... والرؤيا ثلاث، فالرؤيا الصالحة: بشرى من الله، ورؤيا: تحزين من الشيطان، ورؤيا: مما يحدِّث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصلِّ، ولا يحدث بها الناس) [رواه مسلم وبعضه في البخاري].
ومعنى اقتراب الزمان: قرب قيام الساعة على الصحيح، فينبغي للمسلم أن يضع في اعتباره هذه الأقسام الثلاثة للرؤى، فإن رأى في منامه ما كان يفكر فيه ويشغل باله فقد تكون رؤياه من حديث النفس، وإن رأى ما يسوؤه ولا بشارة فيه فليحمله على أنه من أذى الشيطان ليحزنه، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن أعرابيا قال: "يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي ضُرِب فتدحرج، فاشتددت في أثره"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُحدِّث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك) [رواه مسلم].
علاقة الرؤيا بأول تعبير لها
وقد استدل البخاري -رحمه الله- بحديث الرؤيا التي عبرها أبو بكر -رضي الله عنه- على أن الرؤيا لا تقع على أول تعبير تعبر به إذا لم يكن التعبير صوابا، فقال: "باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب"، وتحت التبويب أسند حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطُف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سببٌ واصلٌ من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به، فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل"، فقال أبو بكر: "يا رسول الله، بأبي أنت والله، لتَدَعَنِّي فأعبرها"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعبرها)، قال: "أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن، حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به، رجل من بعدك فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له، فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله، بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبت بعضا، وأخطأت بعضا)، قال: "فوالله يا رسول الله، لتحدثني بالذي أخطأت"، قال: (لا تقسم) [رواه البخاري]، وفي الحديث دلالة على أن تعبير الرؤى هو من الاجتهاد الذي قد يصيب وقد يخطئ أو قد يصيب بعضه ويخطئ بالآخر، وقد يقول قائل فما معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرؤيا تقع على ما تعبر و مثل ذلك رجل رفع رجله فهو ينتظر فهو متى يضعها فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالما)، فيقال له أن لا إشكال في المعنى لأن الرؤيا تقع على ما تعبر من الصحيح في تأويلها لا على تأويل من جانب الصواب كما مر معنا في عنوان الباب الذي أورده الإمام البخاري في صحيحه، وفي هذا الحديث إرشاد نبوي وحث على سؤال العالم بالتأويل أو الناصح في تعبير الرؤى.
على من تُقص الرؤيا
وكذلك دلت قصة يوسف -عليه السلام- على أن الأصل ألا تُقَصَّ الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح أو من يخشى منه الكيد والحسد، وذاك في قوله تعالى: {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5]، ومن فهم من رؤيا أنها مصيبة تنزل بالرائي فلا يجوز أن يجامله فيكذب في تأويلها، وله أن يتهرب من تفسيرها دون كذب، قيل لمالك، رحمه الله: "أتُعَبِّر الرؤيا على الخير وهي عنده على الشر؟"، فقال: "معاذ الله، أبالنبوة يتلعب؟ هي من أجزاء النبوة".
زمن وقوع الرؤيا
وقد يخطئ بعض الناس في تعبير الرؤى من حيث زمان وقوعها أو مكانه أو غير ذلك، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أُري في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في ذلك، فقال له فيما قال: "أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟" قال: (بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا) قال: "لا"، قال: (فإنك آتيه ومُطَّوِّف به). وبهذا أجاب الصديق -رضي الله عنه- أيضا حذو القذة بالقذة؛ ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27].
من تعبير النبي صلى الله عليه وسلم للرؤى
ومن أمثلة تعبير النبي -صلى الله عليه وسلم- للرؤى ما جاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (رأيت الليلة -وفي رواية: رأيت ذات ليلة- فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن رافع، وأتينا برُطَب من رُطَب ابن طاب، فأوَّلْتُ: أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب) [رواه مسلم]، وفي هذا المثال بعض العلم النبوي يوضح أن الكلمات تكون أحيانا مفاتيح للتعبير، فاسم عقبة فُسّر بالعاقبة في الآخرة، واسم رافع فُسّر بالرفعة في الدنيا، وابن طاب فُسّر بأن ديننا قد طاب.
وموضوع الرؤى لا تكفيه هذه المساحة، ولكن ما يجدر ذكره أن رؤى الأنبياء وحي كرؤيا نبي الله إبراهيم أنه يذبح ابنه، ومنها أن رؤيا الكافر قد تصدق كما في رؤيا الملك قبل أن يسلم على يدي يوسف عليه السلام.
وعلم تعبير الرؤى من نعم الله على من أراده الله بهذا الفضل، وهي نعمة تستوجب الشكر، أخبر -تعالى- أن يعقوب قال لابنه يوسف، عليهما السلام: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6].
ونصلي ونسلم على رسول الله ومصطفاه، والحمد لله رب العالمين.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
الدولة الإسلامية - مقال: ودوا لو تكفرون كما كفروا لا يزال كفار العالم في غيض وحسد، وسعي ...
الدولة الإسلامية - مقال:
ودوا لو تكفرون كما كفروا
لا يزال كفار العالم في غيض وحسد، وسعي لاجتثاث الموحدين الذين آمنوا بربهم وسعوا لإقامة سلطان شريعته، هذا الغيض منشؤه حسدهم للمؤمنين على إيمانهم واستقامتهم، ولذلك قال العليم الخبير: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، فهذه الأمنية عند الكفار هي التي تحرِّك عداوتهم وتغذي حروبهم معنا، فلا عجب أن يكون الكفار قد أجمعوا أمرهم وتركوا خلافاتهم وتوجهوا لحرب دولة الخلافة، فالدين الحق الذي تدين به هذه الدولة المباركة هو السبب الدافع لعداوة الأمم الكافرة لأبنائها ورعيتها، لأن الالتزام بهذا النور المبين يكشف كفر أديانهم ويظهر باطل مناهجهم، ويفضح فساد طريقتهم وانحطاط أخلاقهم، فتندفع قواتهم لفتنة الموحدين عن دينهم ليشاركوهم في كفرهم فيكونوا معهم سواء، ويتجاوزوا المنغصات التي يسببها وجود أهل التوحيد وسلوكهم واتباعهم للهدى الذي حاد الكفار عنه وحاربوه.
وهذه الحقيقة ذكرها القرآن كثيرا بين الأنبياء وأقوامهم، فتجد أن الباطل لا يطيق رؤية الحق يعلو وينتشر، وترى أن الكفار لا يستطيعون كتم غيظهم أمام ظهور الدين الحق الذي يكشف باطلهم ويفضح أستاره، فيحاول الطاغوت وجنده تشويه منهج أهل الحق بما يملكون من الوسائل الضخمة التي تقابل صوت الحق الذي لا يُجارى حتى لو كان في أضعف حالاته، فعند بدء دعوة الرسل لأقوامهم تصدح تلك القلوب الفاسدة العمياء بذلك الجواب الذي يعبِّر عن إرادة اجتثاث الحق واستئصاله والسعي لذلك، كما في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24]، فإن الباطل لا يمكن أن يصمد بحججه الواهية أمام قوة البراهين على أحقية دعوة التوحيد، ولذلك يبدأ أهل الباطل بخطوات فعلية لمواجهة الخطر الذي يُهدد باطلهم.
إنه التقتيل والتحريق أو الطرد أو السجن والتعذيب، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، إن كل ذلك وسيلة لرد المسلمين عن دينهم، الذي يهدم أديان الكفر والعصيان، فتندلع المواجهة مع ظهور الحق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في قتال لا يزال مستمرا لا ينقطع ولا تخمد ناره، قال ربنا جل في علاه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، ولذلك لا عجب أن تعرف الحقيقة التي تقف وراء تحريق أصحاب الأخدود العزَّل من قبل ذلك الطاغوت الذي فضح باطله مجرد إيمان أولئك الناس بربهم، إن تلك الحقيقة هي قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، وهكذا تجد أن نقمة الكفار وسبب اجتماعهم على المسلمين في كل زمان هو توحيد الله –تعالى- ونبذ الباطل الذي يدين به الكفار، وهو الإيمان الحق الذي يريده الله جل وعلا، ولذلك لا عجب أيضا أن ترى الصليبيين يدفعون بعلماء السوء للطعن بالموحدين ورميهم بالكفر والفسوق وذلك ليخففوا الوطأة على نفوسهم التي أظهر الحق ضعفها وانهيارها وشوَّش عليها نشوة التمتع بالمحرمات وأنواع الشهوات حتى تلك التي اتفقت الفطر على خبثها وجرمها، فإن ظهور الحق يعني انتهاء الباطل، فلا بد للطاغوت أن يجد من يسوِّق له دينه وينشره بين الناس فيدينوا بدينه ويعبدوه على شريعته الباطلة الفاجرة ويشوِّهوا دين وسبيل أهل الحق ليصدوا عنها ويذبوا عن الطاغوت وشريعته.
وهذه الحقيقة التي يجدها الكفار في نفوسهم هي موجودة حتى ولو لم يكن هناك قتال، فعندما دعا نبي الله شعيب -عليه السلام- قومه الكفار أن يصبروا عليه وعلى أتباعه حتى يحكم الله بينه وبينهم وبدون أن يتعرض أحد للآخر، رفضوا ذلك وخيَّروا النبي شعيبا -عليه السلام- ومن آمن معه إحدى اثنتين، قال الله تعالى: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 87 - 88]، هما خياران عند كل طاغوت في كل زمان، إما القتال والإبعاد، أو العودة إلى ملة الكفر والفساد، ولن يطيقوا الصبر على وجود دين الله الحق، ومن أبى فلن يجد إلا القتل أو النفي أو الإكراه على العودة في ملة الكفر، وهذه الحقيقة هي ثابتة تحصل بين الأنبياء وأقوامهم، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13].
ومن هنا يعرف الموحد الكذبة الكبرى التي سماها علماء السوء ودعاة الدخول إلى جهنم بالتعايش السلمي أو قبول الآخر، أي قبول التعايش مع الكفار، وهذا التعايش فَشِل فشلا ذريعا حتى مع كون دعاة هذا التعايش قد تخلوا عن كثير من دينهم وارتدوا لأجل أن يثبتوا للكفار أنهم يتعايشون معهم ويقبلون بمنهجهم أو يحسِّنون دينهم ويجدون معهم مشتركات للالتقاء في منتصف الطريق، فيأبى أهل الباطل على أولئك إلا الدخول تحت باطلهم وملتهم بشكل لا يُبقي لهم أي نوع من الاستقلالية.
فلا بد للموحدين أن يعلموا أن هذا المنهاج الطاغوتي الذي يسعى للضغط عليهم بكل الوسائل إنما هو قضاء كوني وصراع كائن إلى يوم القيامة لا يتخلف عن كل موحد صادق متبع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودِيَ"، ولذا يتوجب على كل موحد أن يثبت لربه صدقه وإخلاصه في دينه ويصبر على أذى وقتال الكفار والمرتدين، فإن هذه الحرب لن تضع أوزارها إلا بنزول عيسى -عليه السلام- فيقمع الباطل ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام الذي يسود العالم، كما أن الكفار اليوم لا يقبلون منا إلا الدخول معهم في الكفر ولو أدى ذلك لتدمير المدن وتحريق ما فيها بحمم الطائرات، ناقمين علينا إيماننا وتوحيدنا واتباع شريعة ربنا جل في علاه، فلا سبيل لدفع هذا الباطل وحشوده إلا بالقتال الذي اتسم به منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في نشر الرسالة، وكان اليهود يحدثون بصفته هذه عندهم في التوراة قبل مبعثه، وعندما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فاحتج عليهم الأنصار بمقولتهم التي كانوا يسمعون منهم في صفته حيث كان اليهود يقولون أنه "الضحوك القتال يركب البعير، ويلبس الشملة، يجترئ بالكسرة، سيفه على عاتقه، له ملاحم وملاحم" [تفسير السمعاني]، وهكذا ينبغي لكل متبع للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون سيفه على عاتقه ينشر الشريعة ويذب عنها ويتحمل الأذى والعداوة ومخرجاتها المريرة في زمن تكالب أمم الكفر، ويخوض الملاحم مع الكفار والمرتدين، فكلما اشتدت العداوة وزادت غربة الدين وصار القابض على دينه كالقابض على جمرة، صار عند ذلك الصبر على تلك المحن زيادة في درجة الموحدين وقربهم عند ربهم، ورفعة في منزلتهم، لما يلاقونه من عظيم التكالب والزلزلة، ولا يجد الموحد حينها له من الزاد الذي يعينه إلا الصبر على لأواء الطريق وشدته، ولذلك مدح الله -تعالى- أتباع الرسل وأخبر أنه يحب الصابرين على ما يصيبهم ابتغاء مرضاته فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، وهذا لأن جهاد النفس وإرغامها على المكاره هو الصبر الذي يحبه الله تعالى، فلما كان الوهن يصيب النفس البشرية عند كل بلاء لتتراجع قليلا فتثبت أو تفتن، كان الصبر على المحن وحب الموت في سبيل الله وعدم الضعف أمام بأس الكفار وعدم الاستكانة لهم هو من الصبر الذي يحبه الله -تعالى- ويدخل أصحابه جنة تقر بها أعينهم ويرضى عنهم خالقهم فلا يسخط عليهم أبدا.
فبشراكم أيها الموحدون القابضون على دينكم في زمن الغربة وتكالب الأمم فما هي إلا فترة من الصبر والثبات يعقبها خير الدنيا والآخرة، فعوا حقيقة الصراع واحفظوا عليكم دينكم واصبروا على أمر الله حتى يأتي وعده الذي لا يتخلف، ولا تضعوا عن عواتقكم السلاح، وامضوا إلى الهيجاء في كل ساح، فإن في ذلك الرشد والنجاة والفلاح.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
ودوا لو تكفرون كما كفروا
لا يزال كفار العالم في غيض وحسد، وسعي لاجتثاث الموحدين الذين آمنوا بربهم وسعوا لإقامة سلطان شريعته، هذا الغيض منشؤه حسدهم للمؤمنين على إيمانهم واستقامتهم، ولذلك قال العليم الخبير: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، فهذه الأمنية عند الكفار هي التي تحرِّك عداوتهم وتغذي حروبهم معنا، فلا عجب أن يكون الكفار قد أجمعوا أمرهم وتركوا خلافاتهم وتوجهوا لحرب دولة الخلافة، فالدين الحق الذي تدين به هذه الدولة المباركة هو السبب الدافع لعداوة الأمم الكافرة لأبنائها ورعيتها، لأن الالتزام بهذا النور المبين يكشف كفر أديانهم ويظهر باطل مناهجهم، ويفضح فساد طريقتهم وانحطاط أخلاقهم، فتندفع قواتهم لفتنة الموحدين عن دينهم ليشاركوهم في كفرهم فيكونوا معهم سواء، ويتجاوزوا المنغصات التي يسببها وجود أهل التوحيد وسلوكهم واتباعهم للهدى الذي حاد الكفار عنه وحاربوه.
وهذه الحقيقة ذكرها القرآن كثيرا بين الأنبياء وأقوامهم، فتجد أن الباطل لا يطيق رؤية الحق يعلو وينتشر، وترى أن الكفار لا يستطيعون كتم غيظهم أمام ظهور الدين الحق الذي يكشف باطلهم ويفضح أستاره، فيحاول الطاغوت وجنده تشويه منهج أهل الحق بما يملكون من الوسائل الضخمة التي تقابل صوت الحق الذي لا يُجارى حتى لو كان في أضعف حالاته، فعند بدء دعوة الرسل لأقوامهم تصدح تلك القلوب الفاسدة العمياء بذلك الجواب الذي يعبِّر عن إرادة اجتثاث الحق واستئصاله والسعي لذلك، كما في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24]، فإن الباطل لا يمكن أن يصمد بحججه الواهية أمام قوة البراهين على أحقية دعوة التوحيد، ولذلك يبدأ أهل الباطل بخطوات فعلية لمواجهة الخطر الذي يُهدد باطلهم.
إنه التقتيل والتحريق أو الطرد أو السجن والتعذيب، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، إن كل ذلك وسيلة لرد المسلمين عن دينهم، الذي يهدم أديان الكفر والعصيان، فتندلع المواجهة مع ظهور الحق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في قتال لا يزال مستمرا لا ينقطع ولا تخمد ناره، قال ربنا جل في علاه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، ولذلك لا عجب أن تعرف الحقيقة التي تقف وراء تحريق أصحاب الأخدود العزَّل من قبل ذلك الطاغوت الذي فضح باطله مجرد إيمان أولئك الناس بربهم، إن تلك الحقيقة هي قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، وهكذا تجد أن نقمة الكفار وسبب اجتماعهم على المسلمين في كل زمان هو توحيد الله –تعالى- ونبذ الباطل الذي يدين به الكفار، وهو الإيمان الحق الذي يريده الله جل وعلا، ولذلك لا عجب أيضا أن ترى الصليبيين يدفعون بعلماء السوء للطعن بالموحدين ورميهم بالكفر والفسوق وذلك ليخففوا الوطأة على نفوسهم التي أظهر الحق ضعفها وانهيارها وشوَّش عليها نشوة التمتع بالمحرمات وأنواع الشهوات حتى تلك التي اتفقت الفطر على خبثها وجرمها، فإن ظهور الحق يعني انتهاء الباطل، فلا بد للطاغوت أن يجد من يسوِّق له دينه وينشره بين الناس فيدينوا بدينه ويعبدوه على شريعته الباطلة الفاجرة ويشوِّهوا دين وسبيل أهل الحق ليصدوا عنها ويذبوا عن الطاغوت وشريعته.
وهذه الحقيقة التي يجدها الكفار في نفوسهم هي موجودة حتى ولو لم يكن هناك قتال، فعندما دعا نبي الله شعيب -عليه السلام- قومه الكفار أن يصبروا عليه وعلى أتباعه حتى يحكم الله بينه وبينهم وبدون أن يتعرض أحد للآخر، رفضوا ذلك وخيَّروا النبي شعيبا -عليه السلام- ومن آمن معه إحدى اثنتين، قال الله تعالى: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 87 - 88]، هما خياران عند كل طاغوت في كل زمان، إما القتال والإبعاد، أو العودة إلى ملة الكفر والفساد، ولن يطيقوا الصبر على وجود دين الله الحق، ومن أبى فلن يجد إلا القتل أو النفي أو الإكراه على العودة في ملة الكفر، وهذه الحقيقة هي ثابتة تحصل بين الأنبياء وأقوامهم، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13].
ومن هنا يعرف الموحد الكذبة الكبرى التي سماها علماء السوء ودعاة الدخول إلى جهنم بالتعايش السلمي أو قبول الآخر، أي قبول التعايش مع الكفار، وهذا التعايش فَشِل فشلا ذريعا حتى مع كون دعاة هذا التعايش قد تخلوا عن كثير من دينهم وارتدوا لأجل أن يثبتوا للكفار أنهم يتعايشون معهم ويقبلون بمنهجهم أو يحسِّنون دينهم ويجدون معهم مشتركات للالتقاء في منتصف الطريق، فيأبى أهل الباطل على أولئك إلا الدخول تحت باطلهم وملتهم بشكل لا يُبقي لهم أي نوع من الاستقلالية.
فلا بد للموحدين أن يعلموا أن هذا المنهاج الطاغوتي الذي يسعى للضغط عليهم بكل الوسائل إنما هو قضاء كوني وصراع كائن إلى يوم القيامة لا يتخلف عن كل موحد صادق متبع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودِيَ"، ولذا يتوجب على كل موحد أن يثبت لربه صدقه وإخلاصه في دينه ويصبر على أذى وقتال الكفار والمرتدين، فإن هذه الحرب لن تضع أوزارها إلا بنزول عيسى -عليه السلام- فيقمع الباطل ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام الذي يسود العالم، كما أن الكفار اليوم لا يقبلون منا إلا الدخول معهم في الكفر ولو أدى ذلك لتدمير المدن وتحريق ما فيها بحمم الطائرات، ناقمين علينا إيماننا وتوحيدنا واتباع شريعة ربنا جل في علاه، فلا سبيل لدفع هذا الباطل وحشوده إلا بالقتال الذي اتسم به منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في نشر الرسالة، وكان اليهود يحدثون بصفته هذه عندهم في التوراة قبل مبعثه، وعندما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فاحتج عليهم الأنصار بمقولتهم التي كانوا يسمعون منهم في صفته حيث كان اليهود يقولون أنه "الضحوك القتال يركب البعير، ويلبس الشملة، يجترئ بالكسرة، سيفه على عاتقه، له ملاحم وملاحم" [تفسير السمعاني]، وهكذا ينبغي لكل متبع للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون سيفه على عاتقه ينشر الشريعة ويذب عنها ويتحمل الأذى والعداوة ومخرجاتها المريرة في زمن تكالب أمم الكفر، ويخوض الملاحم مع الكفار والمرتدين، فكلما اشتدت العداوة وزادت غربة الدين وصار القابض على دينه كالقابض على جمرة، صار عند ذلك الصبر على تلك المحن زيادة في درجة الموحدين وقربهم عند ربهم، ورفعة في منزلتهم، لما يلاقونه من عظيم التكالب والزلزلة، ولا يجد الموحد حينها له من الزاد الذي يعينه إلا الصبر على لأواء الطريق وشدته، ولذلك مدح الله -تعالى- أتباع الرسل وأخبر أنه يحب الصابرين على ما يصيبهم ابتغاء مرضاته فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، وهذا لأن جهاد النفس وإرغامها على المكاره هو الصبر الذي يحبه الله تعالى، فلما كان الوهن يصيب النفس البشرية عند كل بلاء لتتراجع قليلا فتثبت أو تفتن، كان الصبر على المحن وحب الموت في سبيل الله وعدم الضعف أمام بأس الكفار وعدم الاستكانة لهم هو من الصبر الذي يحبه الله -تعالى- ويدخل أصحابه جنة تقر بها أعينهم ويرضى عنهم خالقهم فلا يسخط عليهم أبدا.
فبشراكم أيها الموحدون القابضون على دينكم في زمن الغربة وتكالب الأمم فما هي إلا فترة من الصبر والثبات يعقبها خير الدنيا والآخرة، فعوا حقيقة الصراع واحفظوا عليكم دينكم واصبروا على أمر الله حتى يأتي وعده الذي لا يتخلف، ولا تضعوا عن عواتقكم السلاح، وامضوا إلى الهيجاء في كل ساح، فإن في ذلك الرشد والنجاة والفلاح.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
قصص من جهاد النساء 2 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا ...
قصص من جهاد النساء 2
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
ففي هذه الحلقة من سلسلتنا نقدم لك -أختي الكريمة- قصص ثلة من النساء المجاهدات القدوات، ونبدأ بقدوة جعلت سلامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوق كل شيء رغم قتل ابنها، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أغلى وأهم عندها، ولا تعد المصاب شيئاً إزاء سلامته صلى الله عليه وسلم.
قُتل زوجها وأبوها وتسأل عن سلامة رسول الله
جاء في سيرة ابن هشام: "عن سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- قال: مرّ رسول اللّه -صلّى الله عليه وسلّم- بامرأة من بني دينار، وقد أُصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول اللّه -صلّى الله عليه وسلّم- بأحد، فلمّا نُعوا لها، قالت: فما فعل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم؟ قالوا: خيراً يا أمّ فلان، هو -بحمد اللّه- كما تحبّين، قالت: أرونيه حتّى أنظر إليه؟ قال: فأشير لها إليه، حتّى إذا رأته قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل! -تريد صغيرةً- قال ابن هشام: الجلل: يكون من القليل، ومن الكثير، وهو ها هنا من القليل".
الصابرة المحتسبة:
وإن أردت -أختي في الله- قدوة لك في احتساب المصيبة في سبيل الله والصبر عليها، فإليك هذا النموذج، قال الذهبي: "معاذة بنت عبد الله السيدة العالمة أم الصهباء العدوية البصرية العابدة زوجة السيد القدوة صلة بن أشيم، لما استشهد زوجها (صلة) وابنُها في بعض الحروب اجتمع النساء عندها فقالت: مرحباً بكن إن كنتن جئتن للهناء، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن، وكانت تقول: "والله ما أحب البقاء إلا لأتقرب إلى ربي بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الشعثاء وابنه في الجنة" [سير أعلام النبلاء].
أم المجاهدين:
وإليك -أختي- امرأة فريدة من نوعها كرمها الله على النساء ورزقها الأولاد ولم تطب نفسها إلا بأن يجاهدوا كلهم في سبيل الله، إنها عفراء بنت عبيد بن ثعلبة، قال أبو جعفر البغدادي: "عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، كانت عند الحارث بن رفاعة، فولدت له معاذا ومعوّذا، ثم طلقها، فقدمت مكة فتزوجها بكير بن عبد ياليل، فولدت له خالدا وإياسا وعاقلا وعامرا بني بكير، ثم رجعت إلى المدينة فراجعها الحارث بن رفاعة فولدت له عوفا، وشهدوا كلهم بدرا، واستشهد معاذ ومعوذ وعاقل يوم بدر، وخالد يوم الرجيع. وعامر يوم بئر معونة، وإياس يوم اليمامة، والبقية منهم لعوف" [المحبر].
وأنت يا أم الرجال كم لك من الأبناء؟ فهلَّا قدمت ما قدمت عفراء رضي الله عنها؟
أم الأبطال:
وهذه امرأة مشهورة لو كان النساء مثلها، لخرج الرجال جماعات للجهاد، ألا وهي الخنساء، قال أبو الربيع الكلاعي: "وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية فى بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية، فقالت لهم من أول الليل: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل، ثم قالت لهم:
"وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا صبَّحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمَّرت عن ساقها واضطرمت لظاها على سباقها، وجللت نارا على أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة"، فخرج بنوها قابلين لنصحها، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه
مقالة ذات بيان واضحه
فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تلقون عند الصالحه
من آل ساسان كلابا نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه
وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
وتقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، ثم حمل الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم وجلَد
والنظر الأوفق والرأى السدَد
قد أمرتنا بالسداد والرشَد
نصيحة منها وبرا بالولَد
فباكروا الحرب حُماة فى العدد
إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد
في جنة الفردوس والعيش الرغد
فقاتل حتى استشهد، رحمه الله، ثم حمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصي العجوز حرفا
قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفّا
وتكشفوهم عن حمالكم كشفا
فقاتل حتى استشهد، رحمه الله، وحمل الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا لأخزمِ
ولا لعمر وذى السناء الأقدمِ
إن لم أرد في الجيش جيش العجمِ
ماض على الهول خضم خضرمِ
إما لفوز عاجل ومغنمِ
أو لوفاة في السبيل الأكرمِ
فقاتل حتى قتل، رحمة الله عليه وعلى إخوته، فبلغ الخبر أمَّهم، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم فى مستقر رحمته، فكان عمر -رضي الله عنه- يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد مائتي درهم، حتى قُبض، رحمه الله" [الاكتفاء].
أسماء ذات النطاقين تحض ابنها على الثبات:
ولكِ -أختي- في صبر النساء وحضهن أبنائهن على القتال قدوات كثيرات، ومنهن ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قال الذهبي: "قال عروة رحمه الله: دخلت أنا و أخي -يقصد عبد الله بن الزبير- رضي الله عنه قبل أن يقتل على أمِّنا بعشرِ ليال وهي وَجِعة، وقالت: والله ما أشتهي أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك -أي في قتاله مع الحجّاج- إما أن تُقتل فأحتسبك، وإما أن تظفر فتقر عيني، وإياك أن تُعرض على خطةٍ لا تُحق الحق فتقبلها كراهية الموت. ولما جاءها ابن عمر -رضي الله عنه- ليعزيها بمقتل ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وجدها في ناحية المسجد وذلك حين صلب ابن الزبير، فمال إليها فقال إن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله فاتقي الله واصبري، فقالت: وما يمنعني -أي أن أصبر- وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا -عليهما السلام- إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟" [سير أعلام النبلاء].
هانت عليها مصيبتها لأن دين الله أحب إليها من ابنها، وتعزت بما أصاب نبي الله يحيى -عليه السلام- وهو أكرم على الله من ابنها، رضي الله عنه.
هؤلاء المجاهدات من نساء السلف نقلنا لك جهادهن ومثلهن كثير، ولا يمنعنا من الاستزادة إلا خشية الإطالة، علماً أننا لم نذكر لك إلا جانباً بسيطاً من سيرتهن العطرة، فكيف لو ذكرنا لك طرفاً من عبادتهن وخشيتهن لله وعلمهن وصدقتهن وسائر أعمالهن الصالحة، إذاً لطال بنا المقام ولكن فيما ذكرنا كفاية إن شاء الله، فاقتدي بنساء السلف في التحريض على الجهاد والإعداد له، وكذلك المشاركة في هذا الجهاد بما تستطيعين، وفي الصبر على هذا الطريق من أجل انتصار الإسلام، والحمد لله رب العالمين.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
ففي هذه الحلقة من سلسلتنا نقدم لك -أختي الكريمة- قصص ثلة من النساء المجاهدات القدوات، ونبدأ بقدوة جعلت سلامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوق كل شيء رغم قتل ابنها، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أغلى وأهم عندها، ولا تعد المصاب شيئاً إزاء سلامته صلى الله عليه وسلم.
قُتل زوجها وأبوها وتسأل عن سلامة رسول الله
جاء في سيرة ابن هشام: "عن سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- قال: مرّ رسول اللّه -صلّى الله عليه وسلّم- بامرأة من بني دينار، وقد أُصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول اللّه -صلّى الله عليه وسلّم- بأحد، فلمّا نُعوا لها، قالت: فما فعل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم؟ قالوا: خيراً يا أمّ فلان، هو -بحمد اللّه- كما تحبّين، قالت: أرونيه حتّى أنظر إليه؟ قال: فأشير لها إليه، حتّى إذا رأته قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل! -تريد صغيرةً- قال ابن هشام: الجلل: يكون من القليل، ومن الكثير، وهو ها هنا من القليل".
الصابرة المحتسبة:
وإن أردت -أختي في الله- قدوة لك في احتساب المصيبة في سبيل الله والصبر عليها، فإليك هذا النموذج، قال الذهبي: "معاذة بنت عبد الله السيدة العالمة أم الصهباء العدوية البصرية العابدة زوجة السيد القدوة صلة بن أشيم، لما استشهد زوجها (صلة) وابنُها في بعض الحروب اجتمع النساء عندها فقالت: مرحباً بكن إن كنتن جئتن للهناء، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن، وكانت تقول: "والله ما أحب البقاء إلا لأتقرب إلى ربي بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الشعثاء وابنه في الجنة" [سير أعلام النبلاء].
أم المجاهدين:
وإليك -أختي- امرأة فريدة من نوعها كرمها الله على النساء ورزقها الأولاد ولم تطب نفسها إلا بأن يجاهدوا كلهم في سبيل الله، إنها عفراء بنت عبيد بن ثعلبة، قال أبو جعفر البغدادي: "عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، كانت عند الحارث بن رفاعة، فولدت له معاذا ومعوّذا، ثم طلقها، فقدمت مكة فتزوجها بكير بن عبد ياليل، فولدت له خالدا وإياسا وعاقلا وعامرا بني بكير، ثم رجعت إلى المدينة فراجعها الحارث بن رفاعة فولدت له عوفا، وشهدوا كلهم بدرا، واستشهد معاذ ومعوذ وعاقل يوم بدر، وخالد يوم الرجيع. وعامر يوم بئر معونة، وإياس يوم اليمامة، والبقية منهم لعوف" [المحبر].
وأنت يا أم الرجال كم لك من الأبناء؟ فهلَّا قدمت ما قدمت عفراء رضي الله عنها؟
أم الأبطال:
وهذه امرأة مشهورة لو كان النساء مثلها، لخرج الرجال جماعات للجهاد، ألا وهي الخنساء، قال أبو الربيع الكلاعي: "وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية فى بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية، فقالت لهم من أول الليل: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل، ثم قالت لهم:
"وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا صبَّحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمَّرت عن ساقها واضطرمت لظاها على سباقها، وجللت نارا على أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة"، فخرج بنوها قابلين لنصحها، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه
مقالة ذات بيان واضحه
فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تلقون عند الصالحه
من آل ساسان كلابا نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه
وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
وتقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، ثم حمل الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم وجلَد
والنظر الأوفق والرأى السدَد
قد أمرتنا بالسداد والرشَد
نصيحة منها وبرا بالولَد
فباكروا الحرب حُماة فى العدد
إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد
في جنة الفردوس والعيش الرغد
فقاتل حتى استشهد، رحمه الله، ثم حمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصي العجوز حرفا
قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفّا
وتكشفوهم عن حمالكم كشفا
فقاتل حتى استشهد، رحمه الله، وحمل الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا لأخزمِ
ولا لعمر وذى السناء الأقدمِ
إن لم أرد في الجيش جيش العجمِ
ماض على الهول خضم خضرمِ
إما لفوز عاجل ومغنمِ
أو لوفاة في السبيل الأكرمِ
فقاتل حتى قتل، رحمة الله عليه وعلى إخوته، فبلغ الخبر أمَّهم، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم فى مستقر رحمته، فكان عمر -رضي الله عنه- يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد مائتي درهم، حتى قُبض، رحمه الله" [الاكتفاء].
أسماء ذات النطاقين تحض ابنها على الثبات:
ولكِ -أختي- في صبر النساء وحضهن أبنائهن على القتال قدوات كثيرات، ومنهن ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قال الذهبي: "قال عروة رحمه الله: دخلت أنا و أخي -يقصد عبد الله بن الزبير- رضي الله عنه قبل أن يقتل على أمِّنا بعشرِ ليال وهي وَجِعة، وقالت: والله ما أشتهي أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك -أي في قتاله مع الحجّاج- إما أن تُقتل فأحتسبك، وإما أن تظفر فتقر عيني، وإياك أن تُعرض على خطةٍ لا تُحق الحق فتقبلها كراهية الموت. ولما جاءها ابن عمر -رضي الله عنه- ليعزيها بمقتل ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وجدها في ناحية المسجد وذلك حين صلب ابن الزبير، فمال إليها فقال إن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله فاتقي الله واصبري، فقالت: وما يمنعني -أي أن أصبر- وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا -عليهما السلام- إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟" [سير أعلام النبلاء].
هانت عليها مصيبتها لأن دين الله أحب إليها من ابنها، وتعزت بما أصاب نبي الله يحيى -عليه السلام- وهو أكرم على الله من ابنها، رضي الله عنه.
هؤلاء المجاهدات من نساء السلف نقلنا لك جهادهن ومثلهن كثير، ولا يمنعنا من الاستزادة إلا خشية الإطالة، علماً أننا لم نذكر لك إلا جانباً بسيطاً من سيرتهن العطرة، فكيف لو ذكرنا لك طرفاً من عبادتهن وخشيتهن لله وعلمهن وصدقتهن وسائر أعمالهن الصالحة، إذاً لطال بنا المقام ولكن فيما ذكرنا كفاية إن شاء الله، فاقتدي بنساء السلف في التحريض على الجهاد والإعداد له، وكذلك المشاركة في هذا الجهاد بما تستطيعين، وفي الصبر على هذا الطريق من أجل انتصار الإسلام، والحمد لله رب العالمين.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
علاج مرض القلب من الشيطان قال ابن قيم الجوزية: هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، ...
علاج مرض القلب من الشيطان
قال ابن قيم الجوزية:
هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسعوا في ذلك، وقصَّروا فى هذا الباب.
ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس، فإن النفس المذمومة ذكرت فى قوله: {إِن النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، واللوامة فى قوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ} [القيامة: 2]، وذُكرت النفس المذمومة فى قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].
وأما الشيطان فذكر فى عدة مواضع، وأفردت له سورة تامة. فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذى لا ينبغي غيره، فإنَّ شر النفس وفسادَها ينشأ من وسوسته، فهى مركَبُه وموضع سرِّه، ومحل طاعته، وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوُّذ منه، ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرِّها في خطبة الحاجة فى قوله صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) [سنن ابن ماجه].
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الاستعاذة من الأمرين، في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علِّمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ قال قل: (اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، ربَّ كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك"، فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته:
فإن الشر كلَّه إما أن يصدُر من النفس أو من الشيطان، وغايته: إما أن تعود على العامل، أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث مصدري الشر اللَّذين يصدر عنهما، وغايتيه اللتين يصل إليهما.
الاستعاذة بالله عند قراءة القرآن:
قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْكتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سَلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِه مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100] .
ومعنى استعذ بالله: امتنع به، واعتصم به والجأ إليه، ومصدره: العَوذ، والعياذ، والمَعَاذ؛ وغالب استعماله في المستعاذ به، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لقد عُذت بمَعاذ)[رواه البخاري].
وأصل اللفظة: من اللَّجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب: "أطيب اللحم عوَّذُه"، أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به، و(ناقة عائذ): يعوذ به ولدها، وجمعها عوذ كحُمر.
وجوه وفوائد الاستعاذة عند القراءة:
فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن، وفى ذلك وجوه:
منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور، مُذهِبٌ لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أثَّره فيها الشيطان، فأمر أن يطردَ مادة الداء، ويُخلي منه القلب ليصادف الدواء محلاً خاليا، فيتمكَّن منه، ويؤثِّر فيه، كما قيل:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مُزاحم ومُضادٍّ له فينجع فيه.
ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أنَّ الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولًا، فكلما أحسَّ بنبات الخير فى القلب سعى فى إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يُفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذى قبله: أن الاستعاذة فى الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.
وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة، لحظ هذا المعنى، وهو لعَمر الله ملحظ جيد، إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهو محصِّلة للأمرين.
ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته. كما فى حديث أُسيد ابنُ حضَير لما كان يقرأ، ورأى مثلَ الظُّلة فيها مثل المصابيح، فقال النبىّ عليه الصلاة والسلام: (تِلْكَ المَلائِكُة) [رواه مسلم].
والشيطان ضد الملَك وعدوُّه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى تحضره خاصتُه وملائكته، فهذه وليمة لا تجتمع فيها الملائكة والشياطين.
ومنها: أن الشيطان يُجلب على القارئ بخيله ورَجله، حتى يَشغَله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبُّره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأُمر عند الشروع أن يستعيذ بالله منه.
ومنها: أن القارئ مُناجٍ لله بكلامه، والله تعالى أشد أَذَناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن مِن صاحب القينة إلى قينته، والشيطان إنما قراءتُه الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته لله، واستماع الربِّ قراءته.
ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيَّته، والسلف كلُّهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان فى تلاوته، كما قال الشاعر فى عثمان:
تَمنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ
وَآخِرَهُ لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ
فإذا كان هذا فعله مع الرسل، فكيف بغيرهم؟
ولهذا يُغلِّط القارئ تارة، ويخبط عليه القراءة، ويشوِّشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوِّش عليه فهمه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له، فكان من أهم الأمور: استعاذة بالله منه عند القراءة.
ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهُم بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شيطانا تفلت على البارحة، فأراد أن يقطع على صلاتي" الحديث [رواه البخاري]، وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر.... فالشيطان بالرَّصد للإنسان على طريق كل خير..
فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذى يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله منه أولا، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع في سيره.
ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتي به بعدها القرآن، ولهذا لم تُشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله، ثم شُرع ذلك للقارئ، وإن كان وحده، لما ذكرنا من الحِكم وغيرها. فهذه بعض فوائد الاستعاذة. انتهى كلامه - بتصرف
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
قال ابن قيم الجوزية:
هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسعوا في ذلك، وقصَّروا فى هذا الباب.
ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس، فإن النفس المذمومة ذكرت فى قوله: {إِن النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، واللوامة فى قوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ} [القيامة: 2]، وذُكرت النفس المذمومة فى قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].
وأما الشيطان فذكر فى عدة مواضع، وأفردت له سورة تامة. فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذى لا ينبغي غيره، فإنَّ شر النفس وفسادَها ينشأ من وسوسته، فهى مركَبُه وموضع سرِّه، ومحل طاعته، وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوُّذ منه، ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرِّها في خطبة الحاجة فى قوله صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) [سنن ابن ماجه].
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الاستعاذة من الأمرين، في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علِّمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ قال قل: (اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، ربَّ كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك"، فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته:
فإن الشر كلَّه إما أن يصدُر من النفس أو من الشيطان، وغايته: إما أن تعود على العامل، أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث مصدري الشر اللَّذين يصدر عنهما، وغايتيه اللتين يصل إليهما.
الاستعاذة بالله عند قراءة القرآن:
قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْكتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سَلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِه مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100] .
ومعنى استعذ بالله: امتنع به، واعتصم به والجأ إليه، ومصدره: العَوذ، والعياذ، والمَعَاذ؛ وغالب استعماله في المستعاذ به، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لقد عُذت بمَعاذ)[رواه البخاري].
وأصل اللفظة: من اللَّجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب: "أطيب اللحم عوَّذُه"، أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به، و(ناقة عائذ): يعوذ به ولدها، وجمعها عوذ كحُمر.
وجوه وفوائد الاستعاذة عند القراءة:
فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن، وفى ذلك وجوه:
منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور، مُذهِبٌ لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أثَّره فيها الشيطان، فأمر أن يطردَ مادة الداء، ويُخلي منه القلب ليصادف الدواء محلاً خاليا، فيتمكَّن منه، ويؤثِّر فيه، كما قيل:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مُزاحم ومُضادٍّ له فينجع فيه.
ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أنَّ الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولًا، فكلما أحسَّ بنبات الخير فى القلب سعى فى إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يُفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذى قبله: أن الاستعاذة فى الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.
وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة، لحظ هذا المعنى، وهو لعَمر الله ملحظ جيد، إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهو محصِّلة للأمرين.
ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته. كما فى حديث أُسيد ابنُ حضَير لما كان يقرأ، ورأى مثلَ الظُّلة فيها مثل المصابيح، فقال النبىّ عليه الصلاة والسلام: (تِلْكَ المَلائِكُة) [رواه مسلم].
والشيطان ضد الملَك وعدوُّه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى تحضره خاصتُه وملائكته، فهذه وليمة لا تجتمع فيها الملائكة والشياطين.
ومنها: أن الشيطان يُجلب على القارئ بخيله ورَجله، حتى يَشغَله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبُّره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأُمر عند الشروع أن يستعيذ بالله منه.
ومنها: أن القارئ مُناجٍ لله بكلامه، والله تعالى أشد أَذَناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن مِن صاحب القينة إلى قينته، والشيطان إنما قراءتُه الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته لله، واستماع الربِّ قراءته.
ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيَّته، والسلف كلُّهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان فى تلاوته، كما قال الشاعر فى عثمان:
تَمنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ
وَآخِرَهُ لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ
فإذا كان هذا فعله مع الرسل، فكيف بغيرهم؟
ولهذا يُغلِّط القارئ تارة، ويخبط عليه القراءة، ويشوِّشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوِّش عليه فهمه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له، فكان من أهم الأمور: استعاذة بالله منه عند القراءة.
ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهُم بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شيطانا تفلت على البارحة، فأراد أن يقطع على صلاتي" الحديث [رواه البخاري]، وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر.... فالشيطان بالرَّصد للإنسان على طريق كل خير..
فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذى يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله منه أولا، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع في سيره.
ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتي به بعدها القرآن، ولهذا لم تُشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله، ثم شُرع ذلك للقارئ، وإن كان وحده، لما ذكرنا من الحِكم وغيرها. فهذه بعض فوائد الاستعاذة. انتهى كلامه - بتصرف
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
قصة شهيد: أبو حفص البنغالي رجل صدق الله فصدقه الله... (كما نحسبه) عاش يتيما، فتكفل به جده ...
قصة شهيد:
أبو حفص البنغالي
رجل صدق الله فصدقه الله... (كما نحسبه)
عاش يتيما، فتكفل به جده بعد أن فقد والديه بحادث مروري، ولم يكن وقتها يتجاوز أعوامه السبع، وما هي إلا سنوات قليلة حتى فقد جده، فكفلته جدته لتكون له خير حاضن ومربٍّ.
كان وحيد أبويه فلم يكن لديه إخوة أو أخوات، وقد ترك له والده الذي كان ميسور الحال مبلغا من المال أعانه على استكمال حياته مع جدته التي كانت له خير أنيس.
وما إن اجتاز المرحلة الثانوية في إحدى المدارس ذات المنهج الغربي في البنغال حتى عزم الرحيل إلى إحدى الدول الغربية لاستكمال تحصيله العلمي فيها، فالتحق بكبرى الجامعات الغربية في أستراليا متزودا بنشاطه وجديته ومثابرته، وبعد تخرجه بدرجة امتياز في تخصص برمجة الحواسيب، تزوج ممن أحس أنها ستكون له عونا على حياته، التي ستتفق معه لاحقا على أن ينفذا عملية استشهادية مشتركة.
وكان لزوجته ابنٌ من زوج سابق، فأحس أبو حفص بالمسؤولية تجاه ربيبه فأحبه وعني بتربيته، فهو يعلم جيدا معنى أن تفقد والديك أو أحدهما، فكان له خير أب وخير راع، أحسن تربيته وتعليمه حتى صار من المتفوقين، وكان أحد الخمسة الأوائل على مستوى الدولة في المرحلة الإعدادية.
انخرط أبو حفص في المجتمع الغربي وعمله، قرابة سنتين، عمل خلالهما في إحدى الشركات المتخصصة بالبرمجيات.
حتى تعرف على أخ بدأ بنصحه وإرشاده، وأوصى الرجل صديقه بالاستماع لإحدى المحاضرات التي تتحدث عن حال المسلمين وما أصابهم من الذل والهوان، وقال له: استمع لما يُقال أحقٌ أم باطلٌ؟
وبعد سماعه للمحاضرة بدأت الأسئلة تجول في ذهنه، لماذا حال المسلمين هكذا؟ وكيف وصلنا إلى هذا الحال؟ وما هي سبل الخروج من هذا المستنقع؟ وكيف نجح إعلام الكفار والمرتدين بعزل الأمة عن خيرة أبنائها المجاهدين وتشويه صورتهم؟ وكيف نجح في التعتيم والتشويه والتشويش على دولة العراق الإسلامية؟ وما هو واجب كل مسلم تجاهها؟
أسئلة كثيرة بدأت تجول في خاطر أخينا أبي حفص البنغالي -تقبله الله- وبدأ مشوار البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة، ووفقه الله لأن يجد أكثرها في إصدارات الدولة الإسلامية، وكلمات علماء الجهاد المناصرين لها.
وتعرَّف الرجل الباحث عن الحق على مسجد صغير في العاصمة الأسترالية يجتمع فيه عدد من الموحدين، ويتدارسون مع بعضهم على يد شيخ المسجد أبوابا في العقيدة، وكان ينقل كل ما يسمعه ويراه لرفيقة دربه، وما هي إلا سنة أو تزيد حتى وضحت له ولزوجه معالم الطريق، فحزما أمرهما وعزما على ترك تلك الديار، وقصدا البنغال كمحطة أولى للتخلص من الحياة التي كانا يعيشانها في أستراليا.
وفور وصوله فتح بيته لتعليم الأطفال المواد العلمية إضافة إلى تعليمهم ما تعلمه عن التوحيد، ورفض العمل في أي شركة خوفا من الوقوع فيما يغضب الله عز وجل.
وما هي إلا أشهر معدودة حتى بدأ الحراك ضد النظام النصيري في الشام، وبدأت بوادر تمدد دولة العراق الإسلامية إليها تلوح في الأفق، فعزم أمره مع زوجته على الهجرة، ونزل في تركيا وعينه على حلمه الذي ظل يراوده لسنوات، وهو العيش في دار الإسلام، وتحت ظل الشريعة الإسلامية، والالتقاء بإخوانه المجاهدين الذين طالما تمنى لقاءهم، والقتال إلى جانبهم.
فدخل بدايةً إلى مناطق الصحوات في إدلب فكانت أول محنة له بانتظاره، حيث سجنه المرتدون وحققوا معه عن سبب قدومه، ثم أطلقوا سراحه بعد أيام مع أسرته، فمكث غير بعيد، حتى يسر الله له طريقا إلى أرض الخلافة، حيث وافق قدومه إعلان الخلافة أدامها الله.
وبعد التحاقه بمعسكر لجندية الدولة الإسلامية وتخرجه فيه بدأ مسيرة عمله بتقديم كل ما يملك من خبرات في تخصصه (هندسة البرمجيات) إلى إدارات الدولة الإسلامية الفتية، ولم ينس وهو منشغل في عمله خطوط الرباط، فكان كثيرا ما يحن للرباط ويأنس به ويرتاح إليه.
وعند وقوع ملحمة الموصل استأذن منه ربيبه (أبو سليمان البنغالي) للالتحاق بصفوف إخوانه والمشاركة معهم في رد الكفار عن الموصل، وهو الذي كان قد التحق بكلية الطب فور وصوله الرقة، فأذن له وعيناه تفيض من الدمع فرحا بشجاعته وحزنا على فراقه.
فقد كان ربيبه نموذجا للمسلم الذي نشأ في طاعة الله، ورحل الشاب ذو الستة عشر ربيعا بعد توديع أمه وعمه، ليتلقَّيا بعد عدة أشهر خبر تنفيذه عملية استشهادية في جموع الروافض المشركين، فما كان منهما إلا أن حمدا الله ورجيا منه أن يلحقا به في جنانه.
وبعد عدة أشهر ومع اقتراب الجيش النصيري -أخزاه الله- من مدينة الميادين، اشتاق أبو حفص إلى لقاء ربه فلبس جعبته واستنفر نفسه وأهله وعزم مع زوجته على تنفيذ حلمهما بعملية استشهادية مشتركة، غير أن أولي الأمر رفضوا أن تشاركه زوجه العملية الاستشهادية التي أراد أن ينفذها، وفي تلك الأثناء رفض البقاء في البيت أو الانتظار فطلب الرباط عدة مرات، وجلس في مضافة المستنفرين، مرتديا جعبته وسلاحه، متجهزا لأي نداء قد يستدعيه في أية لحظة.
وأثناء وجوده في المضافة جاء أحد الإخوة ليوصل أحد المستنفرين للرباط فرأى أبو حفص فناداه -متوهما أنه هو المطلوب- فخرج معه من دون أن يستوضح الأمر منه، لشدة رغبته باللحاق بسوح المعارك، فخرج بسلاحه وجعبته وصعد السيارة مودعا إخوانه.
تفاجأ الإخوة بعد ذلك بسماع صوته عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي، وهو ينادي: يا إخوة إنهم يرمون عليَّ... يا إخوة لقد أُصِبت... ادعوا لي أن أكون شهيدا... ثم سكت، فتعجبوا أليس هو الذي في المضافة؟ كيف خرج؟ ومن هو الذي طلب منه الخروج؟
وبعد مراجعة الأخ الذي جاء وأخذه للرباط قال: إنه طُلب منه إحضار أخ من المضافة اسمه (أبو عمر) ليصطحبه إلى نقطة الرباط، وجاء الأخ فوجد أخانا أبا حفص متجهزا مستعدا قريبا من الباب، فناداه ظنا منه أنه (أبو عمر)، فخرج معه مسرعا، كأنه على موعد قد آن وقته، وما هي إلا ساعات ويأتي نبأ استشهاده، في نقطة الرباط تلك.
رحل أبو حفص الذي ترك الدنيا خلف ظهره راغبا بما عند الله، رحل تاركا زوجه وطفليه اللذين استقيا منه حب الجهاد، والبذل والعطاء في سبيل الله، فرحمك الله يا أبا حفص وأسكنك فسيح جناته.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
أبو حفص البنغالي
رجل صدق الله فصدقه الله... (كما نحسبه)
عاش يتيما، فتكفل به جده بعد أن فقد والديه بحادث مروري، ولم يكن وقتها يتجاوز أعوامه السبع، وما هي إلا سنوات قليلة حتى فقد جده، فكفلته جدته لتكون له خير حاضن ومربٍّ.
كان وحيد أبويه فلم يكن لديه إخوة أو أخوات، وقد ترك له والده الذي كان ميسور الحال مبلغا من المال أعانه على استكمال حياته مع جدته التي كانت له خير أنيس.
وما إن اجتاز المرحلة الثانوية في إحدى المدارس ذات المنهج الغربي في البنغال حتى عزم الرحيل إلى إحدى الدول الغربية لاستكمال تحصيله العلمي فيها، فالتحق بكبرى الجامعات الغربية في أستراليا متزودا بنشاطه وجديته ومثابرته، وبعد تخرجه بدرجة امتياز في تخصص برمجة الحواسيب، تزوج ممن أحس أنها ستكون له عونا على حياته، التي ستتفق معه لاحقا على أن ينفذا عملية استشهادية مشتركة.
وكان لزوجته ابنٌ من زوج سابق، فأحس أبو حفص بالمسؤولية تجاه ربيبه فأحبه وعني بتربيته، فهو يعلم جيدا معنى أن تفقد والديك أو أحدهما، فكان له خير أب وخير راع، أحسن تربيته وتعليمه حتى صار من المتفوقين، وكان أحد الخمسة الأوائل على مستوى الدولة في المرحلة الإعدادية.
انخرط أبو حفص في المجتمع الغربي وعمله، قرابة سنتين، عمل خلالهما في إحدى الشركات المتخصصة بالبرمجيات.
حتى تعرف على أخ بدأ بنصحه وإرشاده، وأوصى الرجل صديقه بالاستماع لإحدى المحاضرات التي تتحدث عن حال المسلمين وما أصابهم من الذل والهوان، وقال له: استمع لما يُقال أحقٌ أم باطلٌ؟
وبعد سماعه للمحاضرة بدأت الأسئلة تجول في ذهنه، لماذا حال المسلمين هكذا؟ وكيف وصلنا إلى هذا الحال؟ وما هي سبل الخروج من هذا المستنقع؟ وكيف نجح إعلام الكفار والمرتدين بعزل الأمة عن خيرة أبنائها المجاهدين وتشويه صورتهم؟ وكيف نجح في التعتيم والتشويه والتشويش على دولة العراق الإسلامية؟ وما هو واجب كل مسلم تجاهها؟
أسئلة كثيرة بدأت تجول في خاطر أخينا أبي حفص البنغالي -تقبله الله- وبدأ مشوار البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة، ووفقه الله لأن يجد أكثرها في إصدارات الدولة الإسلامية، وكلمات علماء الجهاد المناصرين لها.
وتعرَّف الرجل الباحث عن الحق على مسجد صغير في العاصمة الأسترالية يجتمع فيه عدد من الموحدين، ويتدارسون مع بعضهم على يد شيخ المسجد أبوابا في العقيدة، وكان ينقل كل ما يسمعه ويراه لرفيقة دربه، وما هي إلا سنة أو تزيد حتى وضحت له ولزوجه معالم الطريق، فحزما أمرهما وعزما على ترك تلك الديار، وقصدا البنغال كمحطة أولى للتخلص من الحياة التي كانا يعيشانها في أستراليا.
وفور وصوله فتح بيته لتعليم الأطفال المواد العلمية إضافة إلى تعليمهم ما تعلمه عن التوحيد، ورفض العمل في أي شركة خوفا من الوقوع فيما يغضب الله عز وجل.
وما هي إلا أشهر معدودة حتى بدأ الحراك ضد النظام النصيري في الشام، وبدأت بوادر تمدد دولة العراق الإسلامية إليها تلوح في الأفق، فعزم أمره مع زوجته على الهجرة، ونزل في تركيا وعينه على حلمه الذي ظل يراوده لسنوات، وهو العيش في دار الإسلام، وتحت ظل الشريعة الإسلامية، والالتقاء بإخوانه المجاهدين الذين طالما تمنى لقاءهم، والقتال إلى جانبهم.
فدخل بدايةً إلى مناطق الصحوات في إدلب فكانت أول محنة له بانتظاره، حيث سجنه المرتدون وحققوا معه عن سبب قدومه، ثم أطلقوا سراحه بعد أيام مع أسرته، فمكث غير بعيد، حتى يسر الله له طريقا إلى أرض الخلافة، حيث وافق قدومه إعلان الخلافة أدامها الله.
وبعد التحاقه بمعسكر لجندية الدولة الإسلامية وتخرجه فيه بدأ مسيرة عمله بتقديم كل ما يملك من خبرات في تخصصه (هندسة البرمجيات) إلى إدارات الدولة الإسلامية الفتية، ولم ينس وهو منشغل في عمله خطوط الرباط، فكان كثيرا ما يحن للرباط ويأنس به ويرتاح إليه.
وعند وقوع ملحمة الموصل استأذن منه ربيبه (أبو سليمان البنغالي) للالتحاق بصفوف إخوانه والمشاركة معهم في رد الكفار عن الموصل، وهو الذي كان قد التحق بكلية الطب فور وصوله الرقة، فأذن له وعيناه تفيض من الدمع فرحا بشجاعته وحزنا على فراقه.
فقد كان ربيبه نموذجا للمسلم الذي نشأ في طاعة الله، ورحل الشاب ذو الستة عشر ربيعا بعد توديع أمه وعمه، ليتلقَّيا بعد عدة أشهر خبر تنفيذه عملية استشهادية في جموع الروافض المشركين، فما كان منهما إلا أن حمدا الله ورجيا منه أن يلحقا به في جنانه.
وبعد عدة أشهر ومع اقتراب الجيش النصيري -أخزاه الله- من مدينة الميادين، اشتاق أبو حفص إلى لقاء ربه فلبس جعبته واستنفر نفسه وأهله وعزم مع زوجته على تنفيذ حلمهما بعملية استشهادية مشتركة، غير أن أولي الأمر رفضوا أن تشاركه زوجه العملية الاستشهادية التي أراد أن ينفذها، وفي تلك الأثناء رفض البقاء في البيت أو الانتظار فطلب الرباط عدة مرات، وجلس في مضافة المستنفرين، مرتديا جعبته وسلاحه، متجهزا لأي نداء قد يستدعيه في أية لحظة.
وأثناء وجوده في المضافة جاء أحد الإخوة ليوصل أحد المستنفرين للرباط فرأى أبو حفص فناداه -متوهما أنه هو المطلوب- فخرج معه من دون أن يستوضح الأمر منه، لشدة رغبته باللحاق بسوح المعارك، فخرج بسلاحه وجعبته وصعد السيارة مودعا إخوانه.
تفاجأ الإخوة بعد ذلك بسماع صوته عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي، وهو ينادي: يا إخوة إنهم يرمون عليَّ... يا إخوة لقد أُصِبت... ادعوا لي أن أكون شهيدا... ثم سكت، فتعجبوا أليس هو الذي في المضافة؟ كيف خرج؟ ومن هو الذي طلب منه الخروج؟
وبعد مراجعة الأخ الذي جاء وأخذه للرباط قال: إنه طُلب منه إحضار أخ من المضافة اسمه (أبو عمر) ليصطحبه إلى نقطة الرباط، وجاء الأخ فوجد أخانا أبا حفص متجهزا مستعدا قريبا من الباب، فناداه ظنا منه أنه (أبو عمر)، فخرج معه مسرعا، كأنه على موعد قد آن وقته، وما هي إلا ساعات ويأتي نبأ استشهاده، في نقطة الرباط تلك.
رحل أبو حفص الذي ترك الدنيا خلف ظهره راغبا بما عند الله، رحل تاركا زوجه وطفليه اللذين استقيا منه حب الجهاد، والبذل والعطاء في سبيل الله، فرحمك الله يا أبا حفص وأسكنك فسيح جناته.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 103
الخميس 6 صفر 1439 هـ ...المزيد
معلومات
المواد المحفوظة 97
- مِن أقوال علماء الملّة • قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "قال تعالى: {هَا أَنتُمْ ...
- أخوّة الدين تتنوع العلاقات والوشائج التي تربط بين الناس، بتنوّع مقاصدهم ومآربهم وتختلف باختلاف ...
- الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503 الافتتاحية: حصحص الحق! تنص الخارجية الأمريكية على ...
- لقد كان في قصصهم عبرة 1 رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ...
- السمع والطاعة (1) الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله ...