مسائل في حاكمية الشريعة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله ونبيه وخليله ...

مسائل في حاكمية الشريعة



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله ونبيه وخليله محمد الطاهر الأمين إمام الأولين والآخرين وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

إن في هذه الآية العظيمة تقعيد لأعظم مسائل حاكمية الشريعة، وبيان حكمها عملًا وتركًا.

المسألة الأولى: نفي الإيمان في قوله تعالى{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وهذا النفي محمول على نفي أصل الإيمان لا على كماله لإنعدام القرينة الصارفة له، ولوجود القرائن التي تعزز المعنى الأول.

المسألة الثانية: وجوب تحكيم شرع الله عز وجل في قوله تعالى {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} والتحكيم هو اتخاذ حكَمًا. ومعنى تحكيم شرع الله: أي جعل الشريعة الإسلامية مرجعًا يُرَدُ إليها النزاع، وتُفْصَلُ بها الخلافات، وتُبَيَّنُ بها الحقوق والواجبات، وتُشْرَعُ منها الأوامر والنواهي.

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (ج7 ص37 – 38): " وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ تَحْكِيمُ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا شَجَرَ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَفُرُوعِهِ".

ومن ترك تحكيم الشرع، وأعرض عن الرجوع للشريعة لغيرها في حال التنازع والخلاف والخصام، فقد انتفى عنه أصل الإيمان وخرج من الملة.

قال تعالى في مثل هؤلاء: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}.

قال الإمام الطبري في تفسيره (17/ 341): " يقول تعالى ذكره: ويقول المنافقون: صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله وأطعنا الرسول. {ثم يتولى فريق منهم} [آل عمران: 23] يقول: ثم تدبر كل طائفة منهم من بعد ما قالوا هذا القول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدعو إلى المحاكمة إلى غيره خصمها. {وما أولئك بالمؤمنين} [المائدة: 43] يقول: وليس قائلو هذه المقالة، يعني قوله: {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا} [النور: 47] بالمؤمنين، لتركهم الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإعراضهم عنه إذا دعوا إليه".

ولا ينظر في من ترك تحكيم الشرع وأعرض عن الرجوع للشريعة في فضِّ الخلاف والنزاع لدوافعه وبواعثه.
قال ابن تيمية في «الصارم المسلول على شاتم الرسول» لابن تَيْمِيَّة (ص 38): "فبَيَّن سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا؛ فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة".

وبهذا يتبين قبح وفساد قول المبتدعة من أهل الإرجاء في اشتراط الجحود في تكفير من ذهب لتحكيم القوانين الجاهلية في فصل الخصومات، وفض النزاعات معرضًا عن تحكيم شرع الله عز وجل.

المسألة الثالثة: وجوب التحاكم لشرع الله في قوله {ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} والتحاكم جذره "حكم" ووزنه "تفاعل" وهذا الوزن في اللغة من الأوزان الدَّالة على المطاوعة، والمطاوعة تعني: الانقياد والإقرار والموافقة، قال الخليل بن أحمد في كتابه العين (2/ 209): "وطاع له إذا انقاد له. إذا مضَى في أمرك فقد أطاعك، وإذا وافقك فقد طاوعك". فيكون معنى التحاكم: الانقياد للحكم والموافقة له وإقراره، وهذا هو معنى قوله تعالى{ثمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

قال ابن كثير في تفسيره (2/ 349): " أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ".

فمن حَكَّمَ الشريعة ثم لم يقر ولم يوافق على حكمها؛ لم يحقق التحاكم إليها! وبه ينتفي عنه أصل الإيمان ويخرج من الملة.

وبهذا يتبين لنا أن المطاوعة للأحكام الجاهلية والقوانين الوضعية المخالفة لشرع الله تحاكم إليها. قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.

قال الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 307): "ويفهم من هذه الآيات بوضوح لا لبس فيه أن من اتبع تشريع الشيطان مؤثرا له على ما جاءت به الرسل، فهو كافر بالله".

وبهذا أيضًا يتضح قبح قول الغلاة والمبتدعة الذين يكفرون المسلم الذي يدافع عنه نفسه في المحاكم الطاغوتية بدعوى التحاكم إليها! ويتبين بأن هؤلاء الضُّلال كفروا بما هو غاية التوحيد والإيمان إذ الذي يدافع عن نفسه لم يقر بأحكامهم ولم يرضَ بها ويرفضها ولم يلتزمها فكيف يكون متحاكمًا لها؟؟
بل إن الساكت بلا إنكار ولا نكير على أحكام تلك المحاكم في حقه هو أولى بوصف التحاكم من المدافع إذ السكوت فيما يلزم التكلم به إقرار وبيان.

والحمد لله ربّ العالمين.


كتبه: أبو قصي القحطاني (غفر الله له)
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً