الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي 

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بقلم/الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي بسم الله ...

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ

بقلم/الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقال الله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [لبقرة:196].
سَأَلَنِي بَعضُ الإِخوَةِ عَن صِحَّةِ حَجِّهِم الّذي تَرَكُوا بَعضَ سُنَنِهِ وَنقَصُوا بَعضَ واجِباتِهِ أيْضاً ظَنًّا مِنْهُم أَنَّ الشَّارِعَ أَعطَى الخِيَارَ بَيْنَ فِعلِ السُّنَّةِ وَبَينَ تَركِها ، وَاعطَى الخِيارَ كَذلِكَ بَيْنَ فِعْلِ الوَاجِبِ وَبَيْنَ الفِديَةِ بَدَلاً عَنْهُ.
حَيْثُ يقولونَ: إِنَّهم يَمضونَ يَوْمَ التّروِيَةِ فِي مَكّةَ المَكَرّمة من غَيْرِ عُذرٍ، وَلا يَبِيتُونَ بِمَشْعَرِ مِنَى لَيلةَ تِسْعٍ، بَلْ يَتَجاوَزونَهُ إلى مَشْعَرِ عَرَفَة لِلوَقْفَةِ ، ثُمَّ يَنْزِلونَ بِمُزدَلِفَة لِلصّلاةِ وَلا يَبِيتونَ بِها، بَلْ يَتَوَجَّهونَ إلى مَكّةَ المكرّمة لِلنَّحرِ وَالحَلْقِ وَلِلإفاضَةِ وَ السَّعيِ ، وَيُقيمونَ بِها بَقِيّةَ أيّامِ الحَجِّ. وَيُوَكِّلَونَ على رَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ الكُبرى في اليَومِ العاشِرِ وَرَمْيِ الجَمَراتِ الثّلاثِ في أيّامِ التَّشْرِيقِ.
وَيَكْتَفونَ بِالفِديَةِ عِوَضاً عَنِ المَبِيتِ لَيالِيَ التّشْريقِ في مِنى، وَهَكَذا يَخْتَزِلونَ الحَجَّ وَسائِرَ أَعْمالِهِ وَمَقاصِدِهِ في يَوْمٍ وَاحِدٍ بَدَلاً عَن خَمْسَةِ أيّامٍ لِلمُتَعَجِّلِ أوْ سِتَّةَ أيّامٍ لِلمُتِمِّ.
وَ يَقولونَ: إنَّهمُ رُبّما انْتَقَضَ وُضوءُ الواحِدِ مِنهُم في الشَّوطِ السّادِسِ مِنَ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ ولا يُجَدِّدُ وُضُوءَهُ، بَلْ يُتِمُّ طوافَهُ وَهُوَ مُحدِثٌ ظَنًّا مِنهُ أنَّ ذلِكَ مُجْزِئٌ؟
الجواب:
العِباداتُ تَوْقِيفِيّةٌ؛ وَيَحرُمُ النَّقصُ منها أوِ الزِّيادَةُ فيها على ما حَدَّدَهُ الشّارِعُ لِقَوْلِ النّبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلّم:(من أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ مِنهُ، فَهُوَ رَدٌّ) [رواهُ البُخاريُّ ومسلم] ، وفي روايةٍ لمسلمٍ: (من عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليهِ أمْرُنا، فَهُوَ رَدٌّ)، أي مَردودٌ على صاحِبِهِ.
وَقَد أكْمَلَ اللّهُ تعالى الدِّينَ لقولهِ تعالى:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3]، وَلقولِ رَسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ: (ما بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الجَنَّةِ ويُباعِدُ من النّارِ إلا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ) [رواهُ الطّبرانيُّ].
وَيَجِبُ تَنْبيهُ هؤلاء الحجاجِّ في هذا المَقامِ أنَّهُ يُشْتَرَطُ في العبادَةِ أن يَعرِفَ المُتَعَبِّدُ حُكمَها شَرعاً، وَأن تكُونَ مُوافِقَةً لِلكِتابِ وَالسُّنَّةِ، وَأن تَكونَ خالِصَةً لِلَّهِ تعالى، وأن يَعمَلَها بِنِيَّةٍ وَيَصبِرَ عَلى أدائِها.
وَتَشْتَمِلُ مَناسِكُ الحَجِّ على أَركَانٍ وَواجِباتٍ وسُنَنٍ ، فَالأَركانُ لا يَصِحُّ الحَجُّ إلا بِها، وَالواجِباتُ تُجْبَرُ بِدَمٍ، وَالسَُّنَنُ لا شَيْءَ فيها.
وقَد بَيَّنَ النّبيُّ صلّى اللّهُ عَليهِ وآلهِ وسلّمَ المَناسِكَ قَوْلاًَ وَعَمَلاً، وَأَمَرَ الصَّحابَةَ رَضيَ اللّهُ عَنهُمْ بِأَخْذِها عَنْهُ وَالاِقْتِداءِ بِهِ فِيها لِما رَواهُ جابر رضيَ اللّهُ عنهُ قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحرِ، وَيَقُولُ : (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ) [رواهُ مسلم].
وَهُوَ كَقَوْلِهِ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ لهُم في الصلاةِ:
(صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)[رواهُ البخاري]، فَقَد عَلَّمَهُمْ فِقْهَ الصَّلاةِ، وَأخَذُوها عَنْهُ عَمَلِياً.
وَنَقْتَصِرُ على ذِكْرِ المَواطِنِ التي يَقَعُ فيها الخَلَلُ في الحَجِّ غالِباً لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّصحيحِ.
فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمِنى وَمُزدَلِفَة وَأعمالُهُم فَقَد روَى الإمامُ مُسْلِمٌ في حَديثِ حَجَّةِ الوَداعِ أنَّ النّبِيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلّمَ تَوَجَّهَ إلى مِنى يَوْمَ التَّروِيَةِ قَبْلَ الزَّوالِ ، وصَلّى بها الظُّهرَ وَالعَصرَ والمَغرِبَ والعِشاءَ والفَجْرَ.
ثُمّ مَكَثَ حَتّى طَلَعَتِ الشّمْسُ فَسارَ إلى عَرَفَةَ وَنَزَلَ في قُبَّةِ ضُرِبَتْ لهُ بِنَمِرَة.
وَلَمّا خَطَبَ النّبِيُّ صلى اللّهُ عليهِ وآلِهِ وسلّمَ وَصَلّى الظُّهرَ والعَصرَ قَصراً وجَمْعاً مُقَدَّماً اِسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وَتَفَرّغَ لِلدُّعاءِ حتّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ.
ثُمََ تَوَجَّهَ إلى مُزدَلِفَةَ وَقَد شَنَقَ لِلقَصْواءِ الزِّمَامَ حتّى إنّ رَأسَها لَيُصِيبُ مُقَدِّمَ رَحْلِهِ ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ اليُمنى إلى الحُجَّاجِ، ويقولُ لهُم: (أيُّها النّاس السّكينةَ السَّكِينَةَ).
ثُمَّ صَلّى بِمُزدَلِفَةَ المَغرِبَ واَلعِشاءَ قَصراً وَجَمْعاً مؤخرا، وَباتَ فيها، ثُمَّ صَلّى الفَجْرَ، وَلَمْ يَزَلْ واقِفاً عِندَ المَشعَرِ الحَرامِ حَتّى أسْفَرَ جِدًّا، فَسَارَ إلى مِنى لِلرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَالحَلْقِ، ثُمَّ تابَعَ مَسيرَهُ إلى مََكَّة، وَطافَ لِلإِفاضَةِ.
ثُمَّ رَجَعَ إلى مِنَى وَصَلّى بِها الظُّهْرَ، وَأقامَ بِها أيَّامَ التَّشْريقِ الثَّلاثَةِ، يُصَلِّي كُلَّ صلاةٍ في وَقْتِها وَيَقْصُر الرُّباعِيَّةَ، وَيَبيتُ بها ليلاً وَيَزورُ البَيْتَ الحرامَ نهاراً لِلطَّوافِ كما في البُخارِيِّ.
وَ رَوَى الشَّيْخانِ أنّ النّبيَّ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ رَخَّصَ لِسَيِّدِنا العبّاسِ رضيَ اللهُ عنهُ في الإقامَةِ بِمَكَّةَ وَالمَبيتِ بِها لَيالِيَ التَّشريقِ لِقِيامِهِ بِالسِّقايَةِ ، كَما رَوَى الإمامُ أحمد في مُسْنَدِهِ أنّهُ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَّ رَخَّصَ لِلرُّعاةِ في المَبِيتِ خارِجَ مِنًى لِلضَّرورَةِ أيضاً، وَأمَرَهُمْ أن يَرموا يَومَ النَّحرِ ثُمَّ يَجْمَعوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ مِن أيّامَ التَّشْريقِ في اليَوْمِ الأوَّلِ أوِ الثاني مِنها، أوْ يَرمُوا في الأوّلِ والثّالثِ رَحمَةً بِهِمْ.
وَقَد أذِنَ النبيُّ صلى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ لِمَن أرادَ التَّعَجُّلَ يَوْمَ الثّاني عَشَرَ مِنَ الحَجِّ أنْ يَتَعَجَّلَ لقولهِ تعالى:
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة:203].
فَتَبَيَّنَ مِن هذا سُنِّيَةُ دُخولِ مَشْعَرِ مِنَى يَوْمَ ثَمانٍ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَهُوَ يَومُ التَّروِيَةِ ، وَالإِقامةُ بِهِ لِلتَّعَبُّدِ لِلّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالدُعاءِ وَتَأدِيَةِ الصَّلواتِ المَفروضَةِ فيها، وَلِلمَبيتِ بِها لَيْلَةَ عَرَفَةََ.
وَاتَّضَحَ كَذَلِكَ وُجوبُ المَبيتِ في مِنَى أيَّامَ التَّشْريقِ، وَسُنِّيَّةُ تَأدِيَةِ الصَّلواتِ الخَمْسِ بِها، وَالدُّعاءِ فيها كما فَعَلَ النَّبِيُّ صلّى اللّهُ عليهِ وآلِهِ وسلّمَ في حَجَّتِهِ.
وَأما كَفَّاراتُ الحَجِّ وَفِدْيَتُهُ إنَّما شُرِعَت جَبْراً لِلنَّواقِصِ التي تَقَعُ غالِباً بِسَبَبِ الجَهْلِ وَالسَّهْوِ وَالاِضْطِرارِ لا بِسَبَبِ التَّكاسُلِ وَالتَّساهُلِ.
ولا يُتَصَوَّرُ أنَّ مُسْلِماً يَترُكُ سُنَّةً أو فَريضَةً بِاختِيارِهِ، سَواءٌ في حَجٍّ أو غَيْرِهِ فذَلِكَ مِن واجِبِ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ.
وَيَجِبُ أن يَعلَمَ هؤلاء الحُجّاجُ أَيْضاً أنَّ ما تَرَكَوهُ مِنَ السُّنَنِ هُوَ مِن صُلْبِ مَناسِكِ الحَجِّ ، واللّهُ سبحانهُ يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16].
وَيَقولُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:33].
فَإذَا أدَّى الحَاجُّ الأَركانَ وَالواجِباتِ وَتَرَكَ بَعضَ السُّنَنِ فَحَجُّهُ صَحيحٌ فِقْهاً وَلكِن (قَد فَاتَهُ مِنَ الأَجْرِ بِقَدرِ ما نَقَصَ مِنَ السُّنَّةِ) لأنَّ اللّهَ تعالى يَقول: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة:196].
وَلا يَتِمُّ الحَجُّ قَطعاً إلّا بِالإِتْيانِ بِأَعمالِهِ كُلِّها مِن أَركانٍ وَواجِباتٍ وَسُنَنٍ كَما هُوَ مُبَيَّنٌ في مَحَلِّهِ.
وَقَد تَبَيَّنَ أيضاً سُنِّيَةُ المَبيتِ بِمُزدَلِفَةَ وَالبقاءِ فيها بَعدَ صلاةِ الفَجْرِ حتَّى الإِسْفارِ.
وَأمَّا مَن حَجَّ مَعَهُ الضَّعَفَةُ فَهُوَ مَعذورٌ في عَدَمِ المَبيتِ في مُزدَلِفَةَ خاصَّةً لما رواهُ الشّيْخانِ عن النبيِّ صلى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ أنَّهُ أَذِنَ لِأُمِّ المُؤمنينَ سَوْدَة رضيَ اللهُ عنها أن تَفيضَ من مُزدَلِفَةَ ليلةَ العِيدِ إلى مِنى، وكَذا بِالنِّسبَةِ لِمَن كانَ في خِدمَةٍ ضَرورِيَّةٍ لِلحُجّاجِ أو أهلِ البَلدَةِ تُشْغِلُهْ عَنِ الإتْيانِ بِسُنَّةِ الإِقامَةِ في مِنى يَومَ التروِيةِ، أو تُشْغِلُهُ عن واجِبِ المَبِيتِ بِها ليالِيَ التَّشْرِيقِ قِياساً على سِقايَةِ الحُجَّاجِ وَرِعايَةِ مَواشِيهِمْ وَحِراسَةِ أمْتِعَتِهِمْ وَنَحْوِ ذلِكَ كَمَنْ خافَ على نَفسٍ أو عِرضٍ أو مالٍ.
وَأمَّا مَن يُوَكِّلُ على الرَّمْيِ في اليَومِ العَاشِرِ وَأيَّامِ التَّشْريقِ لمَرَضٍ وَنَحوِهِ كَكِبَرٍ وَإعاقَةٍ فَحُكمُهُ أن يُرافِقَ وَكِيلَهُ إلى الجَمَراتِ حتّى يَرمِيَ على عَيْنِهِ وَيُكَبِّرَ عَن نَفْسِهِ ،فَإِن تَعَسَّرَ تَنَقُّلُهُ لَزِمَهُ البَقاءُ في مِنَى حتّى يُتِمَّ وَكِيلُهُ الرَّمْيَ عَنهُ كما نَصَّ عليهِ الفُقَهاءُ.
وَأمّا مَن أكْمَلَ شَوطَهُ السّادِسَ وَالسّابِعَ من طَوافِهِ بِالبَيْتِ وَهُوَ مُحدِثٌ فَيَجِبُ أن يَعلَمَ أنَّ الطّهارَةَ وَالوضوءَ شَرطٌ لِصِحَّةِ الطّوافِ بِالبَيتِ عِندَ المَذاهِبِ الأربَعَةِ ، فَمَن أَحدَثَ في الطَّوافِ اِنتَقَض طَوافُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَتَوَضَّأَ ، وَيَبْني على ما جاءَ بِهِ مِن أَشْواطٍ عِنْدَ الحَنابِلَةِ، أوْ يَسْتَأنِفَ طَوافَهُ مِن جَديدٍ عِندَ المالِكِيَّةِ.
[اُنظُر:الموسوعة الفِقْهِيَّة29/ 131].
فَتَجْدِيدُ الوُضوءِ هُوَ الأَحْوَطُ وَالأَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وآلهِ سلم:
(دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ) [رواهُ الترمذي].
وَلِقَولِ النّاظِمِ:
وَذُو اِحتِياطٍ في أمورِ الدِّينِ **
مَنْ فَرَّ مِن شَكٍّ إلى يَقِينِ
ذلك لأن الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة لما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الطواف حول البيت مثلُ الصلاة ، إلا أنَّكم تتكلَّمون فيه ، فمن تكلَّم فيه فلا يتكلَّمنَّ إلا بخير) [رواه الترمذي وغيره].
وَأمّا السَّعيُ بَيْنَ الصَّفا والمَروَةَ فَيُنْدَبُ لَهُ الوُضوءُ وَلَيْسَ شَرطاً فيهِ، لِما جاءَ عَنْ أُمِّ المُؤمِنينَ عَائِشَة رٍضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : (افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي) [رواهُ البُخاريُّ ومُسلم].
وَيَجِبُ على الحاجِّ التَّخَلُّقُ بِآدابِ الإِسلامِ مِن بَذْلِ المَعروفِ لِلحُجّاجْ وَكَفِّ الأَذى عَنْهُم ولاسِيَما تَركُ أَذِيَّتِهِمْ بِالتَّدخينِ؛ لِأَنَّ فيهِم الكَبيرُ والصَّغيرُ والمَريضُ ، وَرُبَّما اضطَرَّ الحاجُّ إلى التَّنَقُّلِ مِنْ مَكانٍ لآخَرَ فِراراً مِنَ الدُّخانِ، وَقَد يَضْطَرُّ إلى فراق رفقته بِسَبَبِ تَأَذِّيهِ مِنْهُ ، وَقَد وَرَدَ في الشَّرعِ أنَّ أذِيَّةَ النّاسِ منَ الكَبائِرِ والإضرارَ بِهِم مِن عَظائِمِ الذُّنوبِ وَلاسِيَما في الأشْهُرِ الحُرُمِ وأيّامِ الحَجِّ الأكْبَرِ حَيثُ تَتَضاعَفُ فيها الحَسناتُ وَالسّيِّئاتُ، وَقَد قالَ تعالى:
(ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب) [الحج:32].
وقالَ جَلَّ وعلا:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ) [البقرة:197].
ولقولِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلم:(لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ) [رواهُ ابن ماجَهٍ وغيرُهُ].
وَيَجِبُ على الحاجِّ أيضاً أن يُعَظِّمَ الحَرَمَينِ الشَّريفينِ والمَشاعرَ المُقَدَّسَةَ وَأن يُنَزِّهَها عَن التَّصويرِ وَالتَّصَاوِيرِ لِأَنَّها مَواطنُ عِبادَةٍ وَإخبات وَإخلاصٍ.
وَقَد جاءَ في صحيحِ البُخارِيِّ أنَّ النّبيّ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ لمّا دَخَلَ مَكّةَ يَوْمَ الفَتحِ الأَكْبَرِ كَسَرَ الأصنامَ، وطَهَّرَ الكَعبَةَ المُشَرَّفَةَ مِنها، وَطمس الصُّوَرَ َ على جُدرانِها ، وقالَ:
(جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جاءَ الحَقُّ وما يُبْدىءُ الباطِلُ وما يُعِيدُ) الحديث.
وقالَ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّم أيضاً:
(اِمْسَحوا ما فيها مِنَ الصُّوَرِ ، قاتَلَ اللّهُ قَومًا يُصَوِّرونَ ما لاَ يَخْلُقونَ) [رواهُ أبو داود].
وَلنا فِيهِ صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في تَعظيمِ شَعائِرِ اللّهِ تعالى ، وَالاِشْتِغالِ بِما يُقَرِّبُنا إلَيْهِ سُبحانَهُ مِن سائِرِ الطّاعاتِ ولاسِيَما في هذهِ الأيّامِ المَعلوماتِ، وَالاِبْتِعادِ عَنْ كُلِّ ما يُعَكِّرُ صَفْوَ العِبادَاتِ وَالشَعائِرِ ، وَيُبْطِلُ الأعمالَ الصّالِحاتِ.
فَقَد بَيَّن النّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلّم شُروطَ الحَجِّ المَبرورِ فقالَ:
(منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ) [متفقٌ عَلَيْهِ].
هذا ما تَيَسَّرَ بَيانُهُ ، واللّهُ تعالى أعلم.
وَفَّقَنا اللّهُ وَإيَّاكُم وَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنكُم.
وَصَلِّ اللّهُمَّ وسلّم على نبيّنا محمدٍ وآلِهِ وصحبهِ أجمعين.
...المزيد

جَرِيمَةُ الإِسَاءَة بقلم/ الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي الحمد لّله وحده، ...

جَرِيمَةُ الإِسَاءَة

بقلم/ الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي

الحمد لّله وحده، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمد وآله وصحبه أجمعين،،
وبعدُ:
فإن الإِسَاءَةَ إِهَانَةُ الغَيْرِ، وَإِلْحَاقُ الضّرَرِ بِهِ، وَهِيَ مُحَرّمَةٌ شَرْعاً، وَمِن كَبائِرِ الذُّنُوبِ.
والإساءةُ إلى النّاسِ رِقّةٌ في الدِّينِ، وقِلّةٌ في العَقْلِ، وتَبَلّدٌ في الطّبْعِ، وانعِدامُ إنسانيةٍ.
وتَقعُ الإِسَاءةُ عادَةً بِدافِعِ الغَيْرَةِ والحَسَدِ والتّكبُّرِ، أَوْ بِهَدفِ الغَلبةِ والسّيطرةِ والاِبْتزازِ.
ولذلك نَجِدُ غالبَ إِسَاءاتِ الأرَاذِلِ مُوَجَّهةً إلى الأفاضِلِ خاصّةً، وتِلْكَ عادةُ الأشْرارِ مع الأخْيارِ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ.
والإساءةُ بأنواعِها يُصَنِّفها العُلماءُ ضِمْنَ الاِنْحِرافاتِ الأخْلاقيةِ الخطيرةِ، والأمْراضِ النّفْسِيةِ المُزْمِنةِ التي تَحْمِلُ على انتِهاكِ حُدودِ الله عزّ وجلّ، والاِعْتِداءِ على حُرُماتِ النّاسِ، والتّلذُذِ بِإِهانَتِهِمْ وتَعْذيبِهِمْ.
وَالإِساءَةُ ظُلْمٌ سَواءٌ حَصَلَتْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَسَواءٌ كَانَتْ مَادّيَةً أَوْ مَعْنوِيّةً.
وَالإِساءَةُ مِنْ حَيْثُ وُقوعُها على نَوْعَيْنِ:
الأولى) إِِساءَةٌ وَقَعَتْ عَرَضاً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَمْ تَتكَرّرْ فَهَذِهِ تُعْتَبرُ خَطَأً، ويُقبَلُ الاِعْتِذارُ عَنْها بَعْدَ اعْتِرافِ المُسيءِ بها وَانكِسارِهِ وَنَدَمهِ.
لقوله تعالى:( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].
والأخرى) إِسَاءَةٌ تَكرَّرَتْ عَنْ عَمْدٍ، وَسَبْق إِصْرارٍ، وَتَرَصُّدٍ، فَهذهِ صاحِبُها ظالِمٌ وَبَاغٍ، وَلا يُقْبَلُ عُذْرُهُ، ولاَ يُعْفَى عَنْهُ حَتّى يَنالَ جَزاءَهُ في الدُّنيا والآخرةِ.
لِما جاءَ عَن سَعدِ بْنِ أبي وَقّاصْ رضي الله عنه قال:
(لمَّا كانَ يومُ فتحِ مَكَّةَ ، أمَّنَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وآله وسلَّمَ النَّاسَ ، إلَّا أربعَةَ نفَرٍ وامرأتينِ وقالَ : اقتُلوهم ، وإن وجَدتُموهم متَعلِّقينَ بأَستارِ الكَعبةِ) رواه النسائي.
ذلك لأنّ العَفْوَ عَمّنِ اسْتَمْرأَ الإسَاءةَ إِلَى النّاسِ يُشَجِّعُهُ عَلىَ غَطْرَسَتِهِ وظُلْمِهِ، بَلْ إِنَّ المُسيءَ المُحْتَرِفَ يُبَرِّرُ إِساءاتهِ دائِماً حتّى يَسْتمِرَّ في غَيِّهِ، ويُحَمِّلَ الآخَرينَ مَسْؤولِيَةَ أََوْزارِهِ، ومِثْلُ هذاَ يَجِبُ عِقابُهُ والإِنكارُ عَليْهِ، وإيقافُهُ عِندَ حَدِّهِ.
ومَنْ أُسِيءَ إِلَيْهِ فَهُوَ بِالخِيارِ فَإِن شَاءَ رَدَّ على المُسيءِ واسْتَوْفَى حقَّهُ، وَإِن شَاءَ صَبَرَ، وإن شَاءَ عَفَا وأَصْفَحَ.
قال اللهُ تعالى:
( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) [النحل: 126].
وقال سُبحانَه:( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظّالِمينَ) [الشورى:40].
وَأَمّا إِذا كَانَتِ الإِساءَةُ مُوَجّهَةً إلى غيرهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَن يُنكِرَهَا، ويَنصُرَ المَظْلوم، وَيَرُدَّ على المُسِيءِ بِمَا يَزْجُرُهُ، ويَرْدَعُهُ عَن سَفاهَتِهِ وَفُجُورِهِ وَإِلّا كانَ شَرِيكاً لَهُ في الاِثْمِ.
فَعَنْ جابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : (مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ) [رواه أحمد وأبو داود].
والرِّضاءُ بالظُّلْمِ ظُلْمٌ، وَمَن أعانَ ظالِماً سَلّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَضيَ بالإِساءَةِ إلى النَّاسِ طَالهُ نَصيبٌ منها.
وأمّا دَعْوَةُ المَظْلومِ فمُسْتَجابةٌ، وانتقامُ اللّهِ تعالى مِنَ الظّالِمِ وَاقِعٌ لا مَحالةَ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
وأما من اتخذ الإساءة حرفةً لهُ، ومصدراً لقوته فقد خاب وخَسِر، فالشّقيُّ مَن باعَ آخِرتَهُ بِدُنْياهُ، وَالأشْقى مِنهُ مَن باعَ آخِرتَهُ بدنيا غَيرِهِ.
فعن أمِّ المُؤمنينَ عائشة رضي اللهُ عنها قالتْ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:(إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَومَ القِيَامَةِ مَن تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ) [ رواه البخاريُّ ومسلم].
وحَسْبُ المُسيءِ بِشارَةُ رَسُولِ الّلهِ صلى الّله عليه وآله وسلّم لَهُ بِالنّارِ وَسُوءِ المَصيرِ، حَيْثُ ذُكِرَ لَهُ كَثْرَةُ صَلاةِ امْرَأةٍ وَصِيَامِها وصَدَقَتِهاَ غَيْرَ أَنّهَا تُؤْذِي جِيرَانَها بِلِسَانِها؟ فقال:
(هِيَ في النَّارِ) [رَواهُ أحْمَد وغَيْرُه].
وتَكْرَارُ الإِسَاءاتِ يَقْطَعُ الأرْحامَ، ويُقَوِّضُ السِّلْمَ الاِجْتِمَاعي، ويُخَرّبُ الدِّيارَ، ويَدَعُها بَلاَقِعَ.
فَكَمْ مِن قَومٍ فَشِلوا بَعْدَ نَجاحٍ، وضَعُفوا بَعْدَ قُوّةٍ، وتَفَرّقُوا بَعْدَ وَحْدةٍ، ولَمْ تَقُمْ لهُمْ قَائِمةٌ بِسَببِ تَرْكِهِمْ لِإِنكارِ الظُّلْمِ، ورُكُونِهِمْ إِلى سُفَهائِهِمْ.
قال اللّهُ عزّ وجلّ:(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب:58].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: (لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) [رَوَاهُ البخاريُّ مُسْلِمٌ].
هَذا مَا تَيسّرَ بَيَانُهُ ، والّلهُ تعالى أَعْلَم.
...المزيد

(حُرمَةُ تزويرِ النّسبِ الشريفِ) بقلم/ الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي الحمد لله وحده ...

(حُرمَةُ تزويرِ النّسبِ الشريفِ)

بقلم/ الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:

فيُعَدُّ تزويرُِ النَّسبِ خُروجاً على الشَّرعِ والفِطرةِ سَواءٌ زوَّرَ المرءُ نسَبَ نفسِهِ أو نسَبَ غيرهِ أو أنكرهُمَا بالجُملةِ ؛ فتزويرُ النَّسبِ إساءةٌ للنَّفسِ وعقوقٌ للوالدينِ وقذفٌ لهُما، وقطيعَةٌ للأرحامِ ، واغتصَابٌ لحقوقِ الغيرِ وظلمٌ للمجتمعِ بأسرِهِ.
بل إنها جريمةٌ دينيَّةٌ وأخلاقيةٌ من كبائرِ الذُّنوبِ ومن نواقِضِ العدالةِ.
وتُعدُّ ظاهرةُ إدِّعاءِ النَّسبِ الشّريفِ في هذا الزمانِ من أشنعِهَا وأكثرِها استشراءً بين الناسِ.
وحِفظُ الأنسابِ من ضروريّاتِ الدينِ السِّتِّ التي اتَّفقَتِ الشَّرائعُ السماويةُ على وجُوبِ حِفظِها، وهي:
1-حفظُ الدِّينِ
2-وحفظُ النّفسِ
3-وحفظ النَّسبِ
4-وحفظُ العِرضِ
5-وحفظُ العقلِ
6-وحفظُ المالِ.
وقد شرعَ اللهُ عز وجلَّ النّكاحَ وحرّمَ السِّفاحَ حتى لا تختلِطَ الأنسابُ ، وليكونَ للإنسانِ فضلٌ وَ كَرامةٌ.
ورتَّبَ الشارِعُ على النّسبِ حقوقاً عظيمةً نُصَّ عليها في القرآنِ الكريمِ والسُّنةِ المُطهرةِ وكُتُبِ الفِقهِ تتعلّقُ بالنّكاحِ والتّرِكةِ والعاقِلَةِ وغيرها.
ويثبتُ النّسبُ بالدّليلِ والحِيَازَةِ والشُّهرةِ وطُولِ المُدّةِ من غيرِ نكِيرٍ.
ومَنِ ادّعَى أنّهُ من السّادةِ الأشرافِ وجبَ التَّحقُّقُ مِن نَسَبهِ لِمَا يترتّبُ لهُ من حُقوقٍ خَاصّةٍ شرعاً، ويُرجَعُ في ذلكَ إلى رَبعِهِ وأهلِ قُطرِهِ لأنّهُم أعلمُ بهِ من غيرِهِم.
ويجبُ على كُلِّ مُسلِمٍ حِفظُ نَسَبِهِ الذي وَرِثَهُ عن آبائِهِ،ومَعرفَةُ نسَبِ نبيّهِ محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل لا يصِحُّ الإيمانُ إلا بمعرِفةِ نَسبِهِ الشّريفِ صلى الله عليه وآله وسلم ، وحِمايةِ عِرضِهِ الطّاهِرِ مِنَ الدُّخلاءِ ولصُوصِ الأنسَابِ. وتَحرُمُ مُداهَنَةُ مُزوِّرِي الأَنسابِ والسُّكوتُ على باطِلِهِم ولاسِيمَا أدعِياءُ النَّسبِ الشَّريفِ.
بل يَجبُ فضحُ كَذِبهِم للنّاسِ ، وحَدُّهُم وتعزِيرُهُم بما يردعُهُم عن غيِّهِم وباطِلِهِم، وإِذايَتِهم للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في عِرضِهِ وأهلهِ ، ولا يُتركُونَ حتَّى يُستَتَابُوا ، ويُؤخذُ عليهِمُ العَهدُ أن لا يعُودوا لتزوِيرِ النَّسَبِ الشَّريفِ ابداً.
قال الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى: روى أبو مصعب عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال:(من انتسب إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم –يعني بالباطل- يضرب ضربًا وجيعًا ويشهر ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته)[1]
لأنه استخفاف بحق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
و يتعَيَّنُ على قرابَتِهِم نُصحُهُم والإنكارُ عليهِم وعدَمُ التَّمالُؤِ معَهُم طاعةً للّهِ تعالى ولرسُولِهِ صلى اللّهُ عليهِ وآله وسلّمَ لقولهِ تعالى عن صفةِ المُؤمنينَ الصّادقِينَ : ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:71].
وإنّ وجُوبَ معرفِةِ نسَبِ نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم على كُلِّ مسلِمٍ يَقتضِي معرفةَ خَصائِصِ هذا النّسبِ الشّريفِ، وكَونُهُ ينفَعُ المُؤمِنينَ من قَرابَتِهِ وأصهارِهِ في الدُّنيا والآخرةِ ، ولا ينقَطِعُ نسَبُهُ بانقِطاعِ الأنسابِ يَومَ القيامةِ كما وردَ في قولِ اللهِ عزّ وجل:
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ﴾ [المؤمنون: 101]، لقول النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح عنه:(كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ سَبَبِي وَنَسَبِي)[2].
ومن فضلِ اللهِ عز وجل أنّ هذا النَّسبَ الشريفَ ما ادّعاهُ أحدٌ كَذِباً إلا افتِضِحَ أمرُهُ ولو بعدَ حِينٍ لأنّ الأُمّةَ لهُ بالمِرصَادِ ، وهِيَ لا تجتمِعُ على ضلالةٍ.
وقد جرب أنه يحدث له من البلايا ما لا يخطر على بال حماية من الله سبحانه للنسب النبوي الشريف ، وتحقيقا لسنة الله تعالى فيمن طلب عزا بباطل أن يورثه ذلا بحق.
وهكذا تبيَّنَ لنا أنَّ حِفظَ النّسَبِ من صَمِيمِ الدِّينِ و واجِباتِهِ مثلَ الصَّلاةِ والصَّومِ والحَجِّ وغيرِهِ.
وللمُحافِظِ على النَّسَبِ الأَجرُ العَظِيمُ منَ اللهِ تعالى، ومن ضيَّعَ نسَبَهُ فقد ضيَّعَ إحدى كُلّيَّاتِ الدِّينِ وضرُوريَّاتِ الشَّريعَةِ واللهُ حسِيبُهُ. و أمّا من جهِلَ نسَبَ النّبيِّ صلى اللّهُ عليهِ وآله وسلّمَ ولم يَحفَظهُ فقد ضيّعَ دِينَهُ والعياذُ باللّهِ تعالى.
قال الله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾[الأحزاب:5].
وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:(من ادَّعَى إلى غيرِ أبيهِ أوِ انتَمَى إلى غيرِ موالِيهِ فعليهِ لعنةُ اللَّهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ ، لا يَقبلُ اللَّهُ منهُ يومَ القيامةِ صَرفاً ولا عَدلاً)[3].
وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:(إنّ كذباً عليَّ ليسَ كَكَذِبٍ على أحدٍ من كَذَبَ عليَّ مُتعمِّدًا فليتبَوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ)[4].
وصلِّ اللهُم وسلِّم على سيِّدنا محمّدٍ وعلى آله و أصحابهِ ومن تبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

______________
[1]القاضي عياض: الشفاء(2/1113).
والحافظ السخاوي:
الأجوبة المرضية(2/796).
[2] رواه أحمد والطبراني والبيهقي وغيرهم.
[3] متفق عليه.
[4] رواه البخاري ومسلم.
...المزيد

كيف تنهى الصّلاةُ عنِ الفحشاءِ والمُنكرِ؟ بقلم/ الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي بسم الله ...

كيف تنهى الصّلاةُ عنِ الفحشاءِ والمُنكرِ؟

بقلم/ الشيخ بحيد بن الشيخ يربان الإدريسي

بسم الله والحمدُ لله والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين ، وبعدُ:
فإنّ الصلاةَ عمادُ الإسلامِ ، وصلةٌ بينَ العبدِ وربّهِ ، وأوّلُ حقٍّ للهِ عزَّ وجلَّ يُسألُ عنهُ العبدُ يومَ القيامةِ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله
وسلمَ: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)[رواه التِّرمِذِيُّ]، وتركُ الصلاةِ كفرٌ لقولِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ:(إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ)[رواهُ مُسلم] .
والصلاةُ محدَّدَةٌ بالوقتِ لقولهِ تعالى:(إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء:103].
ولو كانَ لأحدٍ أن يُعفَى من الصّلواتِ المكتوبةِ ، لأُعفيَ منها المقاتِلُ في ميدانِ القتالِ ، ولكنَّهُ أُمِرَ بصلاةِ الخوفِ وُجُوباً ، فغَيرُهُ أولى بإقامةِ الصلاةِ.
وجَعَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ الصلاةَ باباً للفرجِ والغُفرانِ ، لأنَّ العبدَ فيها يكونُ أقربَ إلى رحمةِ ربهِ وفضلهِ، فيُجدِّدُ لهُ العهدَ والميثاقَ ، ويسألهُ صلاحَ الدُّنيا والآخرةِ لقولهِ سبحانهُ : (واسجد واقترب)[العلق: 19] ، ولقولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ:(أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ)[رواهُ مسلم].
وإذا وقفَ العبدُ بين يدي ربِّهِ بحضورِ قلبٍ ، وحُسنِ توَجِّهٍ ، وبِخشُوعٍ وإخباتٍ، وتذَلُّلٍ وافتقارٍ ، ثمّ قرأ ما تيسّر لهُ من القرآنِ الكريمِ، وتدبَّرَ معانيَ الآياتِ والأذكارِ، واستشعرَ أنَّ اللهَ سبحانهُ يُخاطبهُ، ويأمرهُ وينهاهُ ليسَ بينهُ وبينهُ تُرجمانٌ.
كما قال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنهُ :" إذا سمعتَ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعِهَا سَمعَكَ، فإنهُ خيرٌ يأمرُ بهِ أو شرٌ ينهَى عنهُ "[رواه ابن أبي حاتمٍ في كتابِ التفسير196/1].
فإذا استحضرَ العبدُ هذهِ المعانِيَ حصلت لهُ الخشيةُ وتعظيمُ أمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، والاِتِّعاظُ بكلامهِ سُبحانهُ، فيقوى إيمانهُ ، وتقوى عزيمتُهُ على الاِنقيادِ لأمرِ ربِّهِ جلَّ وعلا ولاسِيما إذا ذَكَرَ الموتَ والبِلَى، وسُكنَى القبورِ ومُغادرَةَ القصُورِ، ومُفارقةَ الأحِبَّةِ والخُلَّانِ لقولِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وآله وسلم:(إذا قُمتَ في صلاتِكَ فَصَلِّ صَلاةَ مُودِّعٍ)[رواه ابنُ ماجه].
وقد جعلَ اللهُ تعالى الصلاةَ عُنواناً للإسلامِ وللتَّوحيدِ والعبادةِ ، وشِعارًا للأُخُوَّةِ والوَحدَةِ والتَّعاونِ.
فالمُسلمُونَ يؤُمُّونَ مَساجِدهُم في أوقاتٍ معلومةٍ للصلاةِ والتعاونِ على صلاحِ دُنياهُم وأُخراهُم، وأهلُ الحيِّ الواحدِ بجتمِعونَ في الصلواتِ الخمسِ يوميًا، ويجتَمِعُ أهلُ الأحياءِ المُتقارِبةِِ أسبوعِياً في صلاةِ الجُمعَةِ، ويَجتمِعُ أهلُ كلِّ مدينةٍ مرَّتينِ في السَّنةِ في صلاتَي عيدِ الفطرِ وعيدِ الأضحَى، ويَجتَمِعُ حُجَّاجُ المُسلمينَ أيّامَ الحَجِّ الأكبرِ للصَّلاةِ في المسجِدِ الحَرامِ والطّوافِ بهِ، وتأديةِ المناسِكِ في المشاعِرِ المقدَّسَةِ، ولِيَشهدُوا منافِعَ لهُم كُلَّ عامِِ.
وعندَ إقامةِ الصَّلواتِ يرضى اللهُ عزّ وجلَّ، فتتنزَّلُ الرَّحماتُ والنَّفحاتُ، وتُدفَعُ الشُّرُورُ والبلايَا. ولِذلكَ شُرِعَتِ الصلواتُ لكسوفِ الشَّمسِ وخُسوفِ القَمرِ ، وللاستسقاءِ عندَ جدبِ الأرضِ ولغيرِها.
أمَا وقد رأينَا أثَرَ الصَّلاةِ في تجسيدِ الأُخُوَّةِ الإسلاميَّةِ، وتأثيرِها في ضَبطِ الظَّواهرِ الكَونِيَّةِ وانسِجَامِها بإذنِ اللهِ تعالى، وتأثِيرِها في حصُولِ المطالِبِ وبُلوغِ المقاصِدِ بإذنِ اللهِ تعالى، فكيفَ إذاً تنهى الصلاةُ عنِ الفحشاءِ والمنكرِ كما وردَ في قولهِ تعالى:(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45]؟
نعم ، لقد وصفَ اللهُ تعالى الصلاةَ بأنّها تنهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ، ويتساءَلُ كثيرٌ منَ النَّاسِ متى ينتَفِعُ المرءُ بصلاتهِ حتّى تحجِزَهُ عنِ اقتِرافِ الذنوبِ والمعاصِي وتَحمِلَهُ على الطّاعاتِ والمَبَرَّاتِ؟
ولتحقيقِ مُرادِ اللهِ عزّ وجلَّ في هذهِ الآياتِ الكريماتِ فلا بُدَّ للمسلمِ أن يفهمَ أنَّ الصلواتِ الخمسِ في حقيقتِها مواعيدٌ رسميّةٌ(للهِ المثلُ الأعلى) خصَّصها اللهُ تعالى للمسلمينَ في أوقاتٍ محدَّدةٍ خلالَ اليومِ والليلةِ لتحقيقِ أهدافٍ عديدةٍ ، نذكُرُ منها أربعةً فيما يلي:
1- تجديدُ ميثاقِ الإسلامِ والتوحيدِ بين المسلمِ وربِّهِ عزَّ وجلّ، والالِتزامُ بالعملِ بِمقتضاهُ على منهجِ كتابِ اللهِ تعالى وسنةِ نبيِّهِ محمدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلمَ لقولهِ تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [الأعراف:173-172].
ولقولهِ سُبحانه:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
2- ذِكرُ المُسلمِ لربِّهِ تعالى، ومُناجاتُهُ ، وطلبُهُ خيرَيّ الدُّنيا والآخرةِ لقولهِ سُبحانه:(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:1-5].
3- تنظِيمُ حياةِ المُسلِمِ ، وضَبطُ سلوكِهِ بينَ الصلواتِ الخمسِ، وأثناءَ أدائِها على الصِّراطِ المُستقيمِ حتى يكونَ عبداً صالحاً يُلحِقهُ اللهُ سبحانهُ بالذينَ أنعمَ عليهِم من النَّبيينَ والصِّدِيقِينَ والشُّهداءِ والصَّالحينَ وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً لقولهِ تعالى:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:7،6]
4- مُحاسَبةُ المُسلِمِ لنفسهِ، ومُكاشَفَتُها بِشَفافِيَّةٍ وإخلاصٍ قبلَ الموتِ والعَرضِ الأكبرِ على اللهِ تباركَ وتعالى لقولهِ سُبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:18-19].

ولقولِ سيّدنا عمر رضي الله عنهُ:"حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا ، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ "[ابن كثير: تفسير القرآن العظيم213/8].
وللجوابِ عن الإِشكالِ المَذكورِ أقولُ: إذا أُدِّيتِ الصَّلاةُ على الوَجهِ الشّرعيِّ المطلوبِ فإنَّها تُحَصِّنُ صاحِبَها، وتَحجِزُهُ عنِ المُخالفاتِ في مِحرابهِ، وخلالَ حياتِهِ كُلِّها حتى يلقى ربَّهُ سبحانهُ بدليلِ:
(1)مُراقبةِ المُؤمنِ لربِّهِ سحانهُ فيما يأتي وما يَذَرُ لقولهِ تعالى:(ولَذِكرُ اللهِ أكبرُ)، (2)واستِشعارِهِ بشهادَةِ اللهِ على أقوالهِ وأفعالهِ لقولهِ جلَّ وعلا:(واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ).
وقال أبو العاليةِ رحمهُ اللهُ تعالى في قولهِ عزّ وجلّ: (إنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ) الآية، قال :" إنَّ الصلاةَ فيها ثلاثُ خصالٍ ، فكلُّ صلاةٍ لا يكونُ فيها شيءٌ من هذهِ الخِلالِ فليست بصلاةٍ : الإخلاصُ ، والخشيةُ ، وذكرُ اللهِ. فالإخلاصُ يأمرهُ بالمعروفِ ، والخشيةُ تنهاهُ عنِ المُنكرِ ، وذكرُ القرآنِ يأمرهُ وينهاهُ " [ابن كثير:تفسير القرآن العظيم283-280/6].
وتلكَ هيَ مرتبةُ الإحسانِ التي قالَ عنها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ:(الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)[رواه البخاريُّ ومسلم]، وهِيَ المرتبةُ الثالثةُ من مراتِبِ الدّينِ ، ولا يَرقى إليها إلّا من تحقَّقَ بمَرتَبتَي الإسلَامِ والإيمانِ.
ولنضرِب مثلاً لمُراقبةِ المُؤمِنِ لربّهِ عزّ وجلّ كالآتي:
فعندما يؤدّي المسلمُ صلاةَ الصُّبحِ، ويخرجُ من محرابهِ إلى شؤونِ حياتهِ، ويُخالِطُ الناسَ، يأتيهِ الشّيطانُ يوسوسُ لهُ، فيدفعُهُ باستعاذتِهِ باللهِ منهُ، ويقولُ: عندي موعدٌ مع ربي في صلاةِ الظُّهرِ!! وقد تعَهَّدتُ في صلاةِ الصُّبحِ بين يديهِ سبحانهُ أن ألتزِمَ بأوامرهِ امتثالاً واجتناباً..فإذا خالفتهُ فبأيِّ وجهٍ ألقاهُ في الصلاةِ المُوالِيَةِ ، وبأيِّ لسانٍ أُناجيهِ، وهو يعلمُ السِّرَّ وأخفى ، وقد قال سبحانهُ:(مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح:13].
- وقالَ تعالى عن شهادةِ الجوارحِ على صاحِبِها: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:24].
- وقال جلّ جلالهُ عن شهادةِ الملائكةِ الكِرامِ على بني آدمَ: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الإنفطار:14-10].
- وقالَ عزّ وجلّ عن شهادةِ المسلمينَ :(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة:143].
- وقال اللهُ تعالى عن شهادةِ الأرضِ على الناسِ:(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)[الزلزلة:4]، أي تَشهدُ على كُلِّ شخصٍ بما عملَ عليها من خيرٍ أو شرٍّ.
ثمّ يقولُ العبدُ: فأين المفرُّ من هؤلاءِ الشُّهودِ يا نفسُ! وأين الفرارُ إلاّ إلى اللهِ سبحانهُ!، يرى دبيبَ النّملةِ السَّوداءِ على الصَّخرةِ الصَّماءِ في الليلةِ الظلماءِ!
وكيفَ يُطيعُ المُؤمنُ الشيطانَ، وهُو عدوٌّ لهُ! ، وكيفَ تخدَعُهُ الدُّنيا وزُخرُفُها!، وقد علمَ غُرورَها وانقِلابَها بأهلِها! ولا يَصحَبُ مَيِّتَها شيءٌ من أشيائِها إلا كَفنٌ لا جُيوبَ لهُ! وقد قالَ الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6،5].
فعندما يستحضِرُ المؤمنُ هذهِ المعانيَ والحَقائِقَ في ليلهِ ونهارهِ، ويستصحِبُها في حركاتِهِ وسكناتِهِ ، فإنَّهُ يُقبِلُ على ربِّهِ عزّ وجلّ بيقينٍ وإخلاصٍ، ويزِنُ خواطِرَهُ بالقِسطاسِ ، ويُعمِّرُ أوقاتهِ بالطاعاتِ والقُرباتِ.
ثمَّ إنَّ العبدَ إذا سَمعَ الأذانَ لصلاةِ الظهرِ يقولُ: مرحباً بذكرِ اللهِ تعالى وموعِدِهِ، ويُبَادِرُ إلى مَسجِدهِ بسَكِينةٍ ووقار، وهو مُرتاح الضَّميرِ، ومُنشرِح الصَّدرِ لأنَّ اللهَ تعالى حفِظَهُ بين الصّلاتينِ، وَوَّفقهُ للوفاءِ بما تعَهَّدَ بهِ في صلاةِ الصُّبحِ من طاعةِ ربِّهِ ، واتِّباعِ سُنَّةِ نبيِّه مُحمّدٍ صلى الله عليه وآلهِ وسلمَ في اقوالِهِ و أفعالِهِ وفي معاملاتِهِ كُلِّها.
ثمَّ يقِفُ بينَ يديّ ربِّهِ بحُضورِ قلبِهِ ، ويُناجيهِ بخُشوعٍ وإخلاصٍ ، ويُجَدِّدُ عهدَ الإسلامِ وميثاقَهُ .. ثمَّ يخرجُ إلى مَهامِّ الحياةِ على نيَّةِ لقاءِ ربهِ في صلاةِ العصرِ .. وهكذا دواليكَ يكونُ حالهُ ومراقبتُه للهِ عزّ وجلّ بينَ الصلواتِ حتّى يصلِّيَ العشاءَ، ويدفعُ عنهُ الشيطانَ في كُلِّ وقتٍ بما دفعَهُ بهِ في الحالةِ الأولى.. ثمّ يخلُدُ إلى النومِ على نيةِ لقاءِ ربِّهِ في صلاةِ الفجرِ وهَلُمَّ جَرَّا عملاً بقولِ اللهِ تعالى:(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:163،162].
هذا ما تيسر بيانه، فاللهُمَّ أعنَّا على ذكركَ وشُكركَ وحسنِ عبادتكَ، ونسألكَ اللهمَّ أن تستَعمِلنا ولا تستبدِلنا، وأن تغفرَ لنا ولوالدينا ولمشايخِنا وللمُسلمينَ أجمعين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبهِ أجمعين.
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً