خطبة قضاء رمضان الشيخ صالح بن محمد باكرمان الحمدلله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه . ...

خطبة قضاء رمضان الشيخ صالح بن محمد باكرمان

الحمدلله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه . وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه ، وعلى آله ، وأصحابه ، وإخوانه .

أما بعد : أيها المسلمون - عباد الله - اتقوا الله حق تقواه .

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]

عباد الله ، إنَّ صوم رمضان فرض على كل مسلم ، عاقل بالغ ، مُطيقٍ للصوم ، فمن تمَّت فيه هذه الشروط الأربعة ، وجب عليه صوم رمضان أداء ، أو قضاء ، حالاً أو مآلاً .

وثَمَّةَ شروط ثلاثة أخرى ، إذا تمَّت وجب على المسلم الصوم أداء ، وحالاً ، وهذه الشروط الثلاثة هي :

• أن يكون صحيحاً غير مريض .

• وأن يكون حاضراً غير مسافر .

• وأن تكون المرأة طاهرة ليست بحائض ولا نفساء .

ومن نقص عليه شرط من هذه الشروط الثلاثة ، وجب عليه قضاء رمضان ، وجب عليه قضاء ما عليه من الصوم.

وحديثنا اليوم عن قضاء الصوم ، وعن مسائل في قضاء الصوم .

المسألة الأولى : يجب على كل مسلم ، لم يُؤَدِّ صوم رمضان ، أو لم يُؤَدِّ بعض صوم رمضان بعذر ، أو بغير عذر ، يجب عليه أن يقضي رمضان ، أو ما بقي عليه من أيام رمضان .

قال الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز :﴿... فَمَن كانَ مِنكُم مَريضًا أَو عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيّامٍ أُخَرَ... ﴾ [البقرة: ١٨٤]

والمعنى فمن كان منكم مريضاً ، أو على سفر ، فأفطر فواجبه أو عليه عدة من أيام أخر ، وهذا هو القضاء .

فأوجب الله - عزوجل - القضاء على المريض ، إذا أفطر في رمضان ، و أوجب الله - عزوجل - القضاء على المسافر ، إذا أفطر في رمضان .

وفي معنى المريض المغمى عليه ، عند الشافعية وغيرهم .

وفي معنى المريض المرأة الحامل ، إذا أفطرت خوفاً على نفسها .

وفي معنى المريض المرأة المرضع ، إذا أفطرت خوفاً على رضيعها .

ومسائل أخرى تلحق بذلك .

وأما الحائض والنفساء ، فقد جاء في الحديث أنَّ مُعَاذَةَ سألت عائشة - رضي الله عنها - ، فقالت لها : " مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ قُلْتُ : لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ : كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ. رواه البخاري ، ومسلم ، واللفظ لمسلم .

فالمريض إذا أفطر ، والمسافر إذا أفطر، والحائض والنفساء ، ومن لحق بهم ممن أفطر بعذر ، وجب عليهم القضاء . هذا في أصحاب الأعذار .

وأما من أفطر بغير عذر، أفطر متعمداً ، منتهكاً لحرمة الشهر ، فاجراً ، فاسقاً ، فالذي عليه جمهور العلماء ، أنَّه يجب عليه القضاء ؛ لأنَّه قد وجب عليه الصوم ، ولم يُؤَدِّ الصوم ، فلم تزل نفسه مشغولة بالصوم ، ولم تبرأ نفسه ، وذمته من الصوم ؛ و لأنَّه أولى بالقضاء من المعذور ، على هذا جمهور العلماء من السَّلف والخلف .

وذهب بعض العلماء إلى أنَّ الذي يفطر متعمداً ، لا يُقبل منه قضاء ؛ لأنَّه أفجر ، وأقبح ، وأبعد عن الله - عزوجل - مِن أنْ يكفر عنه ذنبه ، فذنبه أعظم من أن يكفر عنه بالقضاء ونحوه .

والراجح أنَّه يجب عليه القضاء ، وإن كان آثماً ، فاجراً ، فاسقاً .



المسألة الثانية : الفورية والتراخي في القضاء .

القضاء :

• قد يكون واجباً على الفور .

• و قد يكون واجباً على التراخي والسعة .

فأما من أفطر بغير عذر ، فإنَّه يجب عليه القضاء فوراً ، ولا يجوز له أن يتأخر عن القضاء ؛ لأنَّه ترك الصوم عمداً ، آثماً بتركه ، فيجب عليه أن يقضي ما أفطره بعد عيد الفطر مباشرة ، عليه أنْ يعجِّل بالصوم ، وأنْ يعجِّل بالقضاء ، وأن يتابع القضاء .

وأما من ترك الصوم بعذر من الأعذار ، فإنًّ القضاء في حقه على التراخي والسعة ، وليس على الفور .

ووقت القضاء في حق من ترك الصوم بعذر ، يبدأ من بعد عيد الفطر إلى آخر يوم من شعبان ، قبل رمضان الآخر .

فهذا كله وقت للقضاء ، يقضي بعد العيد مباشرة ، أو في وسط السَّنة ، أو في آخر السَّنة قبل رمضان .

وقد جاء عن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنَّها قالت : " كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ. " رواه البخاري ، ومسلم.

أي لانشغالها بحقوق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا هو ظاهر النص ، فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - قال : ( ﴿... فَعِدَّةٌ مِن أَيّامٍ أُخَرَ ... ﴾ ولم يحدد هذه العدة ، ولم يقيدها بقيد .

المسألة الثالثة : لا يجب التتابع في قضاء الصوم ، في حق من أفطر بعذر ، فيجوز له أنْ يُجزِّئ القضاء ، يجوز له أن يقضي :

• بعض الأيام بعد العيد مباشرة .

• وبعضها في وسط السَّنة .

• وبعضها في آخر السَّنة .

فلا حرج عليه في ذلك .

المسألة الرابعة : يجب تبييت النية في صوم القضاء ، كما يجب تبييت النية في صوم رمضان .

كل صوم مفروض على المسلم ، لا يجوز ، ولا يُقبل ، ولا يصح إلا بنية مبيَّتة من الليل قبل الفجر ؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم - قال : " مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ ". رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه .

من لم يُجْمِعِ النية من الليل فلا صوم له ،من لم يُجْمِعِ أي لم يعزم على النية من الليل ، وهذا في صوم الفرض ، ومنه صوم القضاء .

فإذا أراد المسلم أن يقضي شيئاً عليه ، فعليه أن يبيِّت النية من الليل ، ولا يصح منه القضاء بنية من الفجر ( من بعد الفجر ) ، أو من وسط النهار ، ولو لم يأكل ، ولم يشرب ، ولم يقترف شيئاً من المفطرات .

المسألة الخامسة : من ترك القضاء حتى جاء رمضان الآخر .

هو في سعة من أمره ، ولكنَّه لم يقضِ في هذه السعة ، بل ترك القضاء حتى جاء رمضان الآخر ، ولم يقضِ بَعدُ ، فإنَّه يجب عليه القضاء بعدَ رمضان ، وبعدَ العيد .

وهل يجب عليه مع القضاء شيء آخر ؟

فيه تفصيل : إن ترك المسلم أو المسلمة القضاء ، ولم يستطع أن يقضي في سَنته بعذر ، حتى جاء رمضان الآخر ، فليس عليه شيء ، ليس عليه حرج ، ولا إثم ، وليس عليه شيء بعد القضاء ، بل يجب عليه أن يقضي ما عليه بعد رمضان ، وبعد العيد الحاضر ؛ لأنَّه معذور :

كالمرأة تكون مرضعة ، أو المرأة تكون حاملاً ، ولا تستطيع أن تقضي ، وكالرجل يكون مريضاً ضعيفاً ، أو المرأة تكون مريضة ضعيفة ، فيكون عنده عذر من أعذار الفطر ، ويستمر معه العذر إلى أن يأتي رمضان الآخر ، فهذا ترك القضاء بعذر آخر ، فليس عليه حرج ، ولا إثم ، وعليه أن يقضي بعد رمضان الحاضر وبعد العيد .

وأما إنْ ترك المسلم أو المسلمة القضاء خلال سَنته حتى جاء رمضان الآخر ، وليس عنده عذر في هذا التأخير ، فإنَّه يأثم بذلك ، يأثم بهذا الفعل وبهذا الإهمال ؛ لأنَّه ترك الفرض والقضاء حتى خرج وقته .

وهل يلزمه شيء مع القضاء ، بعد أن يقضي بعد رمضان الحاضر ؟

ذهب جمهور العلماء ومنهم الشافعية إلى أنَّه يجب عليه أن يقضي ، ويجب عليه مع قضاء كل يوم ، أنْ يُطعم مسكيناً مُدّاً من طعام ، أو بُرّ ، أو ذرة ، أو رز ونحو ذلك .

يجب عليه مع القضاء الفدية ؛ لأنَّه أخر القضاء بغير عذر ، وهذا هو قول جمهور العلماء ؛ لأنَّ ذلك قد ورد عن ستة من الصحابة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - وابن عمر ، وأنس ، وأبي هريرة وغيرهم ، أنَّهم ألزموا من ترك القضاء بغير عذر بالقضاء والفدية ، ولا مخالِف لهم من الصحابة ، فلْننتبه لذلك عباد الله .

أقول ما سمعتم ، وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم .



الخطبة الثانية



الحمدلله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد :

أيها المسلمون - عباد الله - اتقوا الله حق تقواه .

عباد الله ،

والمسألة السادسة من مسائل القضاء : أنَّ القضاء لا يجب إلا بشرط التمكُّن .

القضاء على المسلم أو المسلمة ، لايلزم إلا بشرط التمكن من القضاء ؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - قال : ﴿... فَمَن كانَ مِنكُم مَريضًا أَو عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيّامٍ أُخَرَ ... ﴾ [البقرة: ١٨٤]

أي فمن كان منكم مريضاً ، أو على سفر ، فأفطر فواجبه عدة من أيام أخر ، ﴿...فَعِدَّةٌ مِن أَيّامٍ أُخَرَ ... ﴾ وهذا شرط في القضاء ، أن توجد عدة من أيام أخر ، يستطيع فيها المسلم أن يقضي ، وأما إذا لم تأتِ عدة من أيام أخر ، يستطيع فيها المسلم أن يقضي ، فإنَّه لا يلزم القضاء ، بمعنى أنَّ المسلم إذا مَرِض ، فترك الصوم في مرضه ، واستمر معه المرض حتى مات ، فإنَّه لا يلزمه قضاء ؛ لأنَّها لم تأتِ عدة من أيام أخر ، يتمكن فيها من القضاء .

وكذلك المسافر ، إذا سافر فأفطر ترخصاً بالسفر ، واستمرَّ في السفر ، و لم يرجع ( مات ) في سفره ، أو مات بعد سفره مباشرة ، ولم يجد عدة من أيام أخر ، يتمكن من القضاء فيها ، فإنَّه لا يلزمه الصوم .

وينبغي أن نعلم أنَّه إذا تمكن من بعض الأيام ، وجبت عليه ، فمن كان مريضاً فأفطر ، كأن يكون أفطر عشرة أيام ، واستمر معه المرض ، ثم شفاه الله - سبحانه وتعالى - شفاء تاماً ، ومكث خمسة أيام ، ثم مات .

أفطر عشرة أيام ، وتمكن من قضاء خمسة أيام ، ولم يقضِ ، لزمه خمسة أيام ، ولم تلزمه الخمسة الأخرى ، لأنَّه لم يتمكن .

فما تمكن من القضاء فيه لزمه ، وما لم يتمكن من القضاء فيه لم يلزمه ، وهذا يفيدنا في المسألة التي بعد هذه ، وهي المسألة السابعة .

المسألة السابعة : من مات وعليه قضاء ، صام عنه وليُّه .

كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه قال : " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ ". رواه البخاري ، ومسلم .

فإذا مات المسلم وعليه صوم ، لم يقدر على قضائه ، فإنَّنا نُلزم الولي بأحد اثنين :

• إما أن يصوم عنه .

• وإما أن يخرج الفدية .

فالولي مخير بين اثنين - ( الأولياء الأقرباء من أب ، وابن ، وزوجة ، وأم ،وبنت ، وأخت ، هؤلاء الأولياء يصومون عن أقربائهم ، الذين ماتوا وعليهم صوم ) - الولي مخير بين اثنين : أن يصوم عن قريبه الميت ما عليه من أيام ، أو أن يفدي و أن يطعم عنه عن كل يوم مسكينا ، مُداً من طعام (ستمائة جرام ) ، وبالشرط الماضي .

إذا سأل الأولياء عن الصوم عن قريبهم الذي مات ، نقول لهم : قريبكم هذا الذي كان مريضاً ، هل شفاه الله - عزوجل - بعد مرضه ، وتمكن من أن يصوم ولم يصم ؟

فإن قالوا: نعم ،قلنا: عليكم أن تصوموا عنه ، أو تُفدوا .

وأما إن كان قريبكم مَرِض، واستمر به المرض إلى الموت ، فإنَّه لم يتمكن من الصوم ، وليس عليه صوم ، فلا يلزمكم عليه شيء ، لا صوم ولا فدية .

ويجوز للأولياء أن يقسموا الأيام بينهم ، يجوز إذا كانت على قريبهم خمسة أيام ، أن يوزعوها على خمسة ، ويجوز لهم أن يصوموا هذه الخمسة في يوم واحد ، كلُّ ذلك فيه سعة .



المسألة الثامنة : هل يجوز القضاء ، والصوم بعد انتصاف شعبان ؟

جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : " إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا "رواه أبو داود ، وغيره من أصحاب السنن .

" إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا " وقد اختلف العلماء في هذا الحديث بين مصحِّح له ، ومضعِّف .

فصححه الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - وقال به ، وقال : إنَّه إذا انتصف شعبان ، فلا يحل للمسلم الصوم بشروط :

• إذا كان لم يصم في أول الشهر ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يصوم شعبان أو أكثره ، فكان يصوم في آخره قطعاً ، فيُحمل الحديث على من يريد الصوم بعد الانتصاف ، وأما إذا صام قبلُ ، ومضى في صومه ، فله أن يصوم في النصف الآخر من شعبان .

وأما إذا أراد المسلم أن يصوم في شعبان ، وانتظر حتى انتصافه ، ثم بعد أن انتصف أراد أن يصوم ، يقول الإمام الشافعي - عليه رحمة الله - : يحرم عليه الصوم .

وعللوا ذلك بأنَّ الصوم يُضعفه عن رمضان ، ونحو ذلك من التعليلات .

• والشرط الثاني : ألا يكون الصوم من الصوم المستحب ، المندوب بأحاديث أخرى ، كصوم يوم الاثنين، والخميس، والبيض فهذه من كانت له عادة فيها ، فإنَّه يصومها ولو بعد انتصاف شهر شعبان .

وذهب الإمام أحمد - عليه رحمة الله - إلى ضعف الحديث ، والحكم عليه بالنكارة ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال - في حديث آخر في البخاري ومسلم - : " لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ "

ومفهومه يجوز أن تقدموا رمضان بصوم ثلاثةٍ ، وأربعة ، وخمسة ، فيدل مفهومه على جواز الصوم في النصف الثاني من شعبان .

وهذا الحديث المتفق على صحته ، مقدَّم على ذاك ، فيدل على نكارته .

وهذه المسائل فيها سعة للناس ، ولكنَّ القضاء مما يُستثنى ، حتى عند الإمام الشافعي - عليه رحمة الله - " إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا " أي تنفُّلاً ، وتطوعاً .

وأما من أراد أن يقضي في النصف الثاني من شعبان ، فله ذلك ولو في آخر يوم من شعبان ، فالقضاء يستمر وقته إلى آخر يوم من شعبان .

والمسألة التاسعة والأخيرة : هل يجوز القضاء في يوم الشك ؟

ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان ، إذا تحدث الناس أنَّه من رمضان ، ليس كل يوم ثلاثين من شعبان يوم شك ، وإنَّما إذا وقعت فيه دلائل ، وعلائم ، و قرائن ، ولم تقبل عند القضاة ، فإنَّه يكون يوم شك .

وقد جاء في الحديث ، عن عمار - رضي الله عنه - أنَّه قال : " مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " رواه أحمد ، والنسائي.

فهذا حديث صحيح صريح ، في أنَّه يحرم على المسلم ، أنْ يصوم في يوم الشك .

وأما القضاء في يوم الشك فأمره آخر ، يجوز القضاء حتى في يوم الشك ، إذا بقي على المسلم يوم من رمضان ، ولم يجد أن يصومه ، أو يقضيه إلا في يوم الشك ، أو نسيه وتذكره ليلة الشك ، فعليه أن ينوي ، وأن يصوم ولو في يوم الشك .

أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يمُنَّ علي وعليكم بالعلم ، والعمل ، والفقه في الدين ، والاتباع للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأن يبلغنا رمضان !

اللهم إنا نسألك أن تبلغنا رمضان ، وأن تجعلنا من أهل الصيام ، والقيام ، والدعاء فيه !

اللهم اغفر لنا ، و لآبائنا ، وأمهاتنا ، وأزواجنا ، وذرياتنا، ومشايخنا ، ومعلمينا ، ومن له حق علينا !

اللهم اغفر للمسلمين ، والمسلمات، والمؤمنين ، والمؤمنات الأحياء منهم ، والأموات !

اللهم ارحمنا برحمتك - يا أرحم الراحمين - ! اللهم رحماك بالمستضعفين من المسلمين في كل مكان !

اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها !

اللهم إنا نسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف ، والغنى ! اللهم أصلح ذرياتنا - يا أرحم الراحمين - !

اللهم أصلح بلادنا ، وسائر بلاد المسلمين !اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشدا ، يعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر !

اللهم غزِّر أمطارنا ، ورخِّص أسعارنا ، ولِّ علينا خيارنا ، اصرف عنا أشرارنا - يا أرحم الراحمين - !

اللهم أصلح أمرنا ! اللهم أصلح شأننا - يا أرحم الراحمين - ! اللهم خذ بأيدينا إلى كل خير ! اللهم خذ بأيدينا إلى كل خير - يا أرحم الراحمين - !

عبادالله ، وصلوا وسلموا على من أمركم الله - عزوجل - بالصلاة والسلام عليه ، فقال : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّموا تَسليمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦]

اللهم صلِّ على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنَّك حميد مجيد ! اللهم بارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنَّك حميد مجيد !

عبادَ الله ، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾ [النحل: ٩٠]

فاذكروا الله ؛ يذكركم واشكروه ؛ يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله أعلم بما تصنعون .
...المزيد

خطبة داء الغفلة - الشيخ صالح بن محمد باكرمان الخطبة الأولى إنَّ الحمد لله ، نحمده ...

خطبة داء الغفلة - الشيخ صالح بن محمد باكرمان

الخطبة الأولى



إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له . وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله .

أما بعد :

فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه و آله وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثة بدعة ، وكلَّ بدعة ضلاله ، وكل ضلالة في النار .

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]

﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾ [النساء: ١]

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًا۝يُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠-٧١]

أما بعد :

أيها المسلمون - عباد الله - إنَّ القلوب تمرض ، كما تمرض الأجساد . إنَّ للقلوب أمراضاً ، كما أنَّ للأجساد أمراضاً ، وإنَّ من أعظم أمراض القلوب الغفلة .

داء الغفلة و مرض الغفلة ، الذي يُخيّم على القلب ،ويغشى على القلب ، ويُعمي القلب ، يُفقِد القلبَ الرؤية والإبصار ، يحجب عن القلب الرؤية ، ويُفقِده الإدراك والإحساس بما يجب الإحساس به ، يُعطّل على القلب و على الآلات معانيها.

القلب الذي معناه الفِقه والتفهُّم ، يُفقِده معناه ، ويعطِّل عليه فقهه وفهمه .

والعين التي معناها الإبصار ، يُفقِدها هذا الداءُ الإبصارَ ، و يُعميها عن إبصار الحق .

الآذان التي معناها وثمرتها السمع ، تُفقِدها الغفلةُ السمعَ.

الغفلة تعطِّل الآلات ، تعطِّل غايات هذه الآلات ، والنِّعم التي أنعم الله - عزَّ وجل - بها على الإنسان ، قال الله - عز وجل - : ﴿وَلَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ﴾ [الأعراف: ١٧٩]

الغافلون الذين لا ينتفعون بقلوبهم ، ولا بأعينهم ، ولا بآذانهم ، لهم قلوب تَفهم ، ولكنَّ المنفيَّ هو الثمرة ، لايفقهون بها ، لهم أعين تُبصر ، ولكنَّها لا تُبصر الحقَّ ، لهم أعين لا يبصرون بها ، يُبصرون بها المرئيات ، ولكنَّهم لا يبصرون بها الحق كالأعمى تماماً ،و لهم آذان يسمعون بها الأصوات ، ولكنَّهم لا ينتفعون بتلك الأصوات ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أي لا يسمعون بها سمعاً ينفعهم .

حال أولئك ، قال - I عنه : (أُولئِكَ كَالأَنعامِ )

الأنعام لها قلوب ، ولها نوع إدراك ، ولها أعين تبصر المرئيات ، ولها آذان تسمع الأصوات ، وهؤلاء مثلها في ذلك ، غير أنَّ الأنعام لم يعطها الله - عزوجل - الإدراك التام ، والعقول الهادية والفهوم ؛ فهي معذورة ، وهؤلاء أعطاهم الله - عز وجل - ، ولكنَّهم عطَّلوه ، فكانوا أسفل من الأنعام (أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ)

أترضى عبدَالله ، أن تكون من هؤلاء ؟!

ربُّ العالمين - جل جلاله - يذكرنا ويُنبِّهنا ؛ حتى لا نكون من هؤلاء الغافلين .

هذا الداء عبادَالله ، يُعطِّل القلوب ، والأسماع ، والأبصار .

الغافل يسمع الآيات ، ويسمع المواعظ ، ولكنَّه لا ينتفع بها ؛ لأنَّه يسمعها أصواتاً ، كما تقول العامة : " تَدخُل من هنا ، وتَخرج من هنا ؛ ولا تصل الى هنا" لا تصل إلى القلوب .

قال الله - سبحانه وتعالى - عن حال الناس والغفلة : ﴿اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضونَ۝ما يَأتيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَبِّهِم مُحدَثٍ إِلَّا استَمَعوهُ وَهُم يَلعَبونَ۝لاهِيَةً قُلوبُهُم ... ﴾ [الأنبياء: ١-٣] الآية .

( اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم) اقترب الحساب عبادَ الله . اقترب الحساب ، وكل ماهو آتٍ فهو قريب . كيف ونحن في آخر الزمان ؟!

اقترب الحساب ؛ لأنَّ الدنيا مرتحلة ذاهبة إلى اضمحلال ، ولأنَّ الآخرة مرتحلة ، مُقبلة كما قال علي - رضي الله عنه وأرضاه - : "ارتحلت الدنيا مدبرة ، وارتحلت الآخرة مقبلة ، ولكلٍّ منهما بنون ، فكن من أبناء الآخرة ، ولا تكن من أبناء الدنيا . "

الدنيا مرتحلة كقطار ، ونحن على ظهر ذلك القطار ، ويمضي القطار ، وبعد كل فترة يقف في محطة ؛ ليُخرج مِن على ظهره طائفهً منَّا الموتُ . والقطار يسير سريعاً ، والقطار يُخْلِي مَن على ظهره ، وفي جواره قطار آخر ، هو قطار الآخرة مقبل إلينا ، ويأخذ من أخرجه قطار الدنيا ، فالدنيا مرتحلة ، ماضيةٌ ، ماشية ، وتتخلى عن أبنائها ، والآخرة مقبلة ، وتحمل مَن تخلَّت عنهم الدنيا ، ويُوشك أن ينتهي قطار الدنيا ، وتنتهي مرحلته ، لنكون جميعاً في الآخرة .

(اقتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُم وَهُم في غَفلَةٍ مُعرِضونَ)

(في غَفلَةٍ مُعرِضونَ) معرضون عن الله ، عن ذكر الله ، عن الصلاة ، عن الموت ، عن الآخرة ، عن القرآن ، عن الطاعة .

(في غَفلَةٍ مُعرِضونَ) يسمعون القرآن، يسمعون الآيات ، والمواعظ تتجدد ، ولكنَّ القلوب غشيها الران .

(لاهِيَةً قُلوبُهُم ) القلوب لاهية ،القلوب منشغلة .

﴿ما يَأتيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَبِّهِم مُحدَثٍ إِلَّا استَمَعوهُ وَهُم يَلعَبونَ۝لاهِيَةً قُلوبُهُم ... ﴾ فنسأل الله - عزوجل - السلامة !

هذه الغفلة - عبادَ الله - لها أسباب كثيرة ، ومن أعظم أسبابها : ضعف المعرفة بالله - عزوجل - ، وضعف اليقين بالله - عزوجل - ، وبالآخرة ، وبالرسالة ، والدين ، و بالرسول - صلى الله عليه و آله وسلم .

كل مسلم عنده إيمان بالله - عزوجل - وبالرسول -صلى عليه و آله وسلم - وبالدين ، والإسلام ، والآخرة ، ولكنَّ هذا الدين لم يبلغ درجة اليقين ، والرسوخ = ضَعْفُ اليقين .

وكلما ذهب الإيمان ؛ ذهبت الذكرى ، وحلَّت الغفلة . ﴿... وَأَسَرُّوا النَّجوَى الَّذينَ ظَلَموا هَل هذا إِلّا بَشَرٌ مِثلُكُم أَفَتَأتونَ السِّحرَ وَأَنتُم تُبصِرونَ﴾ [الأنبياء: ٣] هؤلاء هم الكفار ، الذين بلغت الغفلة من قلوبهم مداها ؛ لأنهم لا يؤمنون بالله- عزوجل - ولا باليوم الآخر ، ولا بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكنَّ من نقص يقينه من أهل الإسلام غفل .

ضعْف اليقين بالله - عزوجل - ، بعظمته ، معرفة رب العالمين جل جلاله ، بأسمائه وصفاته ، اليقين بالرسول - صلى الله عليه و آله سلم - ورسالته ، وصدق ما جاء به، اليقين بالقرآن ، اليقين بالآخرة ، والجنة ، والنار التي تحرك القلوب نحو العمل .

ومن أسباب الغفلة : الالتهاء بالدنيا وبالملهيات ، قال الله - عزوجل -: ﴿أَلهاكُمُ التَّكاثُرُ۝حَتّى زُرتُمُ المَقابِرَ﴾ [التكاثر: ١-٢]

(أَلهاكُمُ التَّكاثُرُ ) شغلكم التكاثر في الدنيا ، شغلكم عن الله ، عن الآخرة ، عن الأعمال الصالحة.

(أَلهاكُمُ التَّكاثُرُ) في الأموال ، التكاثر في الأولاد ، التكاثر في الممتلكات ، التكاثر في المعلومات دون عمل ، شغلكم التكاثر ، كلٌّ يريد أن يكون أكثر من غيره ، في عمل الدنيا ، وفي حال الدنيا ؛ فخيَّمت الغفلة على القلوب .

(أَلهاكُمُ التَّكاثُرُ ) شغلكم (حَتّى زُرتُمُ المَقابِرَ ) حتى مِتُّم ، وزرتم المقابر محمولين على أيدي الرجال ، وعلى أكتاف الرجال ، وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال الحبيب المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه - : " مَنْ بَدَا جَفَا ، وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ غَفَلَ " رواه أحمد وأبو داود

"مَنْ بَدَا جَفَا " من عاش في البادية جفا . حياة البادية تُثمر الجفاء في الطبع ، والأخلاق .

"وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ غَفَلَ" من تبع الصيد ، والتهى بالصيد غفل ، غفل عن أُخراه، وغفل عن الخير . فإذا كان من تبع الصيد غفل ، في ساعات معدودات ، فكيف بمن يغفل بالملهيات المعاصرة ، بالتلفاز ، والإنترنت ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، نجلس مع هذه الآلات الساعات الطوال ؟! فكيف لا نغفل ؟!

"وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ غَفَلَ" الالتهاء بالمهليات عباد الله ، يُثمر الغفلة .

ومن أسباب الغفلة : المعاصي . إذا عصى العبد ربه ، ثم عصى العبد ربه ، تجتمع عليه هذه المعاصي ، حتى تَرينَ على قلبه ، وحتى تُغشِّي قلبه ﴿كَلّا بَل رانَ عَلى قُلوبِهِم ما كانوا يَكسِبونَ﴾ [المطففين: ١٤]



(رانَ عَلى قُلوبِهِم ) غطّى على قلوبهم ، غشَّى على قلوبهم عملُهم (ما كانوا يَكسِبونَ ) من المعاصي والذنوب . نسأل الله السلامة !

" تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ " رواه مسلم .

المعاصي : نعمل الحرام ، ونأكل الحرام ، ونشرب الحرام، ونقول الحرام ، ونكذب ، ونغتاب ، ونرى الحرام ، ونسمع الحرام ، ونغرق في المحرمات، والمعاصي ، ويطبع الله -عزوجل - بها على قلوبنا. نسأل الله السلامة !

ومن أسباب الغفلة : مجالسة الغافلين ﴿... وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨]

فلنتقِ الله - عباد الله - ، ولنحذر من هذا الداء ، الذي ربما يستفحل على القلب . تبدأ الغفلة نسياناً ، أو تبدأ الغفلة سهواً ، ثم تستحكم نسياناً في القلب ﴿وَلا تَكونوا كَالَّذينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنساهُم أَنفُسَهُم أُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ [الحشر: ١٩]

أقول ماسمعت وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم



الخطبة الثانية



الحمدلله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أمابعد : أيها المسلمون -عبادالله- اتقوا الله حق تقواه .

عبادالله ، وكما أنَّ للغفلة أسباباً ، فإنَّ لإزالة الغفلة وسائل . ثَمَّةَ وسائلُ ، يمكن بها إزالة هذه الغفلة عن قلوبنا ، وأن نمنع هذه الغفلة عن قلوبنا ، أن نمنع عن قلوبنا هذا الداء الخطير .

فمن وسائل إزالة الغفلة ، ومنع الغفلة :- المعرفة بالله - عزوجل - واليقين بالله - عزوجل - واللَّهج بذكر الله -عزوجل - ، ربط القلوب بالله - سبحانه وتعالى - .

قال الله - عزوجل - لرسوله الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - : (وَاذكُر رَبَّكَ ) الخطاب لمن ؟ للحبيب - صلى الله عليه وآله وسلم - للرسول الكريم - صلوات ربي وسلامه عليه - لأعظم الخلق ، لأعلم الخلق بالله ، لأتقى الخلق لله ، فإذا كان خطاباً له ،فهو خطاب لنا من باب أولى ؛ لأننا أحوج .

﴿وَاذكُر رَبَّكَ في نَفسِكَ تَضَرُّعًا ... ﴾ تضرعاً لله ﴿... وَخيفَةً وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ بِالغُدُوِّ وَالآصالِ وَلا تَكُن مِنَ الغافِلينَ﴾ [الأعراف: ٢٠٥] إذا أردت ألّا تكون من الغافلين ، فالْهَج بذكر الله ، كن من الذاكرين لله - عزوجل - ، أكثِر من ذكر الله ؛ تذهب عن قلبك الغفلة .

ذكر الله عزوجل ؛ يُجَلِّي عن القلب الغفلة ﴿وَاذكُر رَبَّكَ في نَفسِكَ تَضَرُّعًا وَخيفَةً وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ بِالغُدُوِّ وَالآصالِ وَلا تَكُن مِنَ الغافِلينَ﴾

ومن أسباب إزالة الغفلة ، ووسائل إزالة الغفلة : قراءة القرآن ، والإقبال على كتاب الله - عزوجل - فالقرآن يُجَلِّي عن القلوب صداها ، كما تُجَلِّي النارُ صدى الحديد .

يُجْلِي الله - عزوجل - بالقرآن القلوب ، ويصفيها كما تصفي النار الحديد ، كلما قرأت القرآن ، ازدت إيماناً ، قال الله - عزوجل - : ﴿إِنَّمَا المُؤمِنونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلوبُهُم وَإِذا تُلِيَت عَلَيهِم آياتُهُ زادَتهُم إيمانًا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ۝الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ﴾ [الأنفال: ٢-٣]

أين الإقبال على القرآن ؟! أين قراءة القرآن ؟! يمكث الواحد منَّا على لهو ، ولعب ساعات ، ولا يستطيع أن يقرأ صفحة من القرآن .

القلوب مريضة ، والنفوس غافلة ، والشيطان جاثم على القلوب ، يسمح لك أن تمكث ساعة ، وساعتين مع كلام لافائدة فيه لك ، لا في دنيا ، ولا في آخرة ، ليس فيه فائدة حتى في الدنيا ، ولكنَّه يحجبك عن قراءة صفحة ، وربما آية من كتاب الله - عزوجل - أبَعدَ هذه الغفلة غفلة ؟! قلوب مريضة .

النفس إذا كانت مريضة ، وتصيبها المرارة ، لا تطعم الأشياء ، لا تتذوق الأشياء ، والقلب إذا مرض عباد الله ، لا يتذوق الطاعة ، والإيمان ، لايشعر بحلاوة مع صلاةٍ ، ولا مع ذكر ، ولا مع طاعة ؛ لأنَّه مريض بالمرارة ، فلنُطهِّر قلوبنا عباد الله ، من هذه المرارة .

ومن وسائل دفع الغفلة : مجالسة الصالحين ﴿وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجهَهُ ... ﴾ [الكهف: ٢٨] والقرين بالمقارن يقتدي .

ومن وسائل دفع الغفلة : الذكرى ، حضور مجالس الذكر ، ومن أعظم نعم الله ، ورحمته على عباده ، وعلى أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - عباد الله ، هذه العِظَة خطبة الجمعة ، من أعظم نعم الله على هذه الأمة ، ومن أعظم رحمة الله على هذه الأمة ، جعل هذه الخطبة ، وهذه العِظَة فريضة عليك - عبد الله - تأتي إليها راغماً أنفك ، طاعة لله ؛ لأنَّك مؤمن مسلم ، يجرُّك الله فرضاً من أجل نفسك ، من أجل أن تتعظ ، من أجل أن يُحيي قلبك ؛ لأنَّه يحبك - سبحانه وتعالى - يحب هذه الأمة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس لأمة من الأمم مثل هذه الشعيرة العظيمة .

فهل يليق بك - عبدالله - أن تتخلف عنها ، أو أن تتأخر عنها ؟! إذا طال على قلبك الأمد عن الذكرى قسا ﴿أَلَم يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أَن تَخشَعَ قُلوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكونوا كَالَّذينَ أوتُوا الكِتابَ مِن قَبلُ فَطالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلوبُهُم وَكَثيرٌ مِنهُم فاسِقونَ﴾ [الحديد: ١٦]

(طالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ) عن الذكرى ؛ فقست قلوبهم ، فلا تتخلف عن هذه الخطبة ، لا تتخلف عن هذه الشعيرة ، ولا تتأخر عنها ، فإنها حجة عليك عند الله - عزوجل - يوم القيامة ، أقل ما تتعظ به ، وتتذكر به ، ولو سمعت آية ، ولوسمعت قول الخطيب : اتقوا الله .

ومن وسائل دفع الغفلة : تذكر الآخرة ، أن نتذكر الآخرة والموت . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تذكروا هادِمَ اللذَّاتِ " الموت الذي يهدم كل لذة . زيارة القبور قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : " كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ . " وفي رواية " تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ . "

هذه عباد الله ، وغيرها من الوسائل ، لابد للعبد أن يهتدي ؛ فيهديه الله ﴿وَالَّذينَ اهتَدَوا زادَهُم هُدًى وَآتاهُم تَقواهُم﴾ [محمد: ١٧]

فاتقوا الله - عباد الله - وتذكروا ، واتعظوا قبل فوات الأوان ، قبل أن ينزل الموت ، ونتمنى الرجعة فلا نُعطاها ﴿... رَبِّ ارجِعونِ۝لَعَلّي أَعمَلُ صالِحًا فيما تَرَكتُ كَلّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِن وَرائِهِم بَرزَخٌ إِلى يَومِ يُبعَثونَ﴾ [المؤمنون: ٩٩-١٠٠]

نتعظ ، ونرجع ، ونتوب ، قبل أن نكون بين يدي الله ﴿وَجاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا۝وَجِيءَ يَومَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَومَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسانُ وَأَنّى لَهُ الذِّكرى۝يَقولُ يا لَيتَني قَدَّمتُ لِحَياتي﴾ [الفجر: ٢٢-٢٤] حياتك عبدالله ، هي الآخرة .

فنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يزيل عن قلوبنا الغفلة ، وأن يملأ قلوبنا بذكره سبحانه وتعالى !

اللهم اغفر لنا يا أرحم الراحمين ! اللهم طهِّر قلوبنا ! اللهم طهِّر قلوبنا ! اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها !

اللهم اغفر للمسلمين ، والمسلمات ، والمؤمنين ، والمؤمنات الأحياء منهم ، والأموات ! اللهم اغفر لآبائنا ، وأمهاتنا ، وأزواجنا ، وذرياتنا ، ومشايخنا ، ومعلمينا ، ومن له حق علينا ! اللهم اغفر لكل من حضر ، في هذا المسجد يا أرحم الراحمين ! اللهم ارحم ، واغفر - يارب العالمين - لمن بنى هذا المسجد ، ولمن قام عليه ، ولمن صلى فيه ! اللهم اغفر لنا جميعاً يا أرحم الراحمين !

اللهم يسِّر أمورنا ! اللهم ارحمنا -يا أرحم الراحمين - برحمتك ! اللهم رخِّص أسعارنا ، غزِّر أمطارنا ، ولِّ علينا خيارنا ، اصرف عنا أشرارنا !

﴿... رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [البقرة: ٢٠١]

عبادالله ، وصلوا وسلموا على من أمركم الله - عزوجل – بالصلاة والسلام عليه, فقال : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّموا تَسليمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦]

اللهم صلِّ على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ! اللهم بارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد !

عبادَ الله ، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾ [النحل: ٩٠]

فاذكروا الله ؛ يذكركم واشكروه ؛ يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله أعلم بما تصنعون .



رابط الخطبة في الموقع الرسمي

https://www.salehbakrman.com/?p=17006
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً