لَن أُسَـامِــح

منذ 2014-06-18

حُبُّ اللهِ غايةٌ نسعى لها، نتمنَّاها، ونسعَدُ لو حقَّقناها في دُنيانا وآخِرتنا. لهذا فاعمَل، وكُن مُتسامِحًا، مُحسِنًا، مُتناسِيًا للزَّلَّاتِ، مُتجاوِزًا عن الأخطاءِ والهَفواتِ.

::اتِّصالٌ هاتِفِيٌّ::

- السَّلامُ عليكم.

- وعليكم السَّلام. مَن معي؟

- أخوكَ.

فسَكَتَ...

- كيف حالُكَ يا أخي؟

لم يَرُدّ.

- أخي، أجِبني.

ظَلَّ صامِتًا...

- أخي، واللهِ إنِّي أُحِبُّكَ، ولم أفعل شيئًا يَستحِقُّ هذه القطيعة. لم أفعل شيئًا يَستحِقُّ هذه المُعاملةَ الجافَّةَ والهَجرَ.
مُجرَّدُ خِلافٍ في الرأي غيَّرَكَ هكذا! لا أُصدِّق أنَّ هذا أخي، صاحِب الأخلاق الحَميدة، والقلب الطيِّب.

ما زال أخوه صامِتًا...

- إن كُنتَ تراني مُخطِئًا في حقِّكَ، فأعتذِرُ عَمَّا بَدَرَ مِنِّي، فلم أقصِد إغضابَكَ، ولم أُرِد إزعاجَكَ، وإنِّي أُحِبُّكَ، وأُريدُ لكَ الخيرَ، ولا أُحِبُّ أن نقطَعَ أواصِرَ أُخُوَّتِنا، أو أن نجرحَ عِلاقتَنا، وننسى صِلتَنا وقرابتنا. سامِحني يا أخي، واعفُ عنِّي.

فرَدَّ عليه قائِلًا: لن أُسامِحكَ.

وأغلَقَ الهاتِف.



ذَهَبَت في زيارةٍ لأُختِها.

طرقت البابَ، ففتَحَت لها، وكأنَّها صُدِمَت حين رأتها. فلم تعرِف أتُسلِّمُ عليها، وتُدخِلُها لبيتِها، وتُرَحِّبُ بها، أم تُغلِقُ في وجهها البابَ.

وقفَت قليلًا مُتحيِّرةً، ثُمَّ سلَّمَت عليها، وصافحتها مُصافحةً مُرتبِكةً، وأدخلتها، جلَسَت معها صامِتةً.

شعرت أُختُها أنَّها لا تُريدُ استقبالَها، وأنَّها تحمِلُ في نفسِها شيئًا عليها، فلم تُظهِر لها ذلك. وبدأت تسألُها عن أحوالِها وأحوالِ أبنائِها، وهِيَ تُجيبُها على قدر السُّؤال.

- قالت: ماذا بِكِ يا أُختي؟!

- قالت: لا شيء.

- قالت: ما زِلتِ غاضبةً مِنِّي؟!

فسَكَتَت...

- قالت: يا أُختي، كُلُّ شيءٍ نصيبٌ. لم تتوقَّف الدُّنيا عند رَفضِنا لزواج ابنِكِ من ابنتِنا، وليس معنى ذلك أنَّ ابنَكِ رجلٌ سيِّئ، فما كان قرارُنا إلَّا بعد استخارةٍ. وهذا ما قَدَّرَه اللهُ تعالى، أنهجُرُ بعضَنا لأجلِ شيءٍ قدَّره اللهُ لنا؟! أنقطَعُ أرحامَنا ونُقسِّي قُلوبنا وقُلوبَ أبنائِنا لأمرٍ كهذا؟! أفيقي يا أُختي، وانظُري فيما فعلتِ، وعلى أيِّ شيءٍ
قاطعتِ.

فنَظَرَت إليها، وهِيَ تقولُ في نفسِها: لن أُسامِح، ترفضون زواجَ ابني بابنتِكم، وتُريدُونني أن أُسامِحَكم!
وهل مِثلُ ابني يُرفَض؟! شابٌّ يملكُ بيتًا ووظيفةً لا يَجِدهما غيرُه من شباب اليوم.

ثُمُّ رَفعَت صوتَها، وقالت غاضِبةً: لا تتكلَّمي في هذا الموضوع ثانيةً، فلا أُحِبُّ الحَديثَ فيه.

- قالت: ألَا تُسامِحي يا أُختي! ألَا ترضينَ بقَدَر اللهِ، وتبحثين لابنِكِ عن زوجةٍ أُخرى مُناسبةٍ!

فأعرَضَت بوَجهِها عنها، وقالت: هذا أمرٌ لا يَخُصُّكِ.

لم تستطِع الجُلوسَ أكثرَ من ذلك وهِيَ ترى هذا الجَفاءَ من أُختِها. فخَرَجَت من عندها، ودُمُوعُها على خَدِّها.



كان في خِلافِاتٍ ومشكلاتٍ مع أبيهِ على أشياء ماديَّةٍ وحُطامٍ دُنيويٍّ زائِلٍ، أوصلَه للوقوفِ أمامه في المحاكم.

مَرِضَ أبوه، واشتدَّ به المَرضُ، فلم يُفكِّر في زيارتِهِ، ولو زيارةً عابِرةً. لم يُفكِّر في السُّؤال عنه أو معرفةِ أحواله،
بل ولم يذهَب لرؤيتِه وهو يحتضِر حتى تُوفِّيَ، فلم يَرِقّ قلبُه، وحَضَر جنازتُه على مَضَض.

لم يُسامِح أباه قبل موتِهِ، بل لم يطلُب منه أن يُسامِحَه، أن يَدعوا له، أن يَرضَى عنه.



سلَّمَت على صديقتِها، فرَدَّت السَّلامَ، ولم تُصافِحها كعادتِها. بدأت تُكلِّمُها، فلم ترَ منها استجابةً أو تفاعُلًا.
سألتها عن سبب سُكوتِها وإن كانت فعلت شيئًا أغضبَها.

- فأجابتها قائِلةً: أنسيتِ ما قُلتيه بالأمس؟!

- قالت: وماذا قُلتُ؟!

- قالت: أنسيتِ كلامَكِ الجارح، وأُسلُوبَكِ القاسي؟!

- قالت: ما قُلتُ إلَّا كلامًا طيِّبًا، وما نصحتُكِ إلَّا برِفقٍ، وما كُنتُ إلَّا رقيقةً معكِ، مُشفِقةً عليكِ؛ لأنِّي أُحِبُّكِ.
أتَعُدِّينَ النصيحةَ الحانيةَ قسوةً؟!

- قالت: لكنِّي لن أُسامِحَكَ على ما فعلتِ.

- قالت: أمرُكِ غريبٌ يا صديقتي! ما فعلتُ شيئًا يجعلُكِ تتغيَّرين هذا التَّغيُّرَ الكبيرَ.

فتركتها، وغادرت المكانَ.



ألقَى جارُه عليه السَّلامَ، فلم يَرُدّ، أعاده ثانيةً؛ ظنًّا منه أنَّه لم يَسمعه، فلم يَرُدّ. نظر إليه مُتعجِّبًا، وقال: ما بالُكَ يا جاري الحبيب لا تَرُدّ عليَّ السَّلامَ؟!

- قال: وهل أعرتني اهتمامًا أصلًا حتى أرُدَّ عليكَ؟!

- قال: ماذا تقصِدُ يا جاري؟! فأنتَ حبيبي وأخي في الله، كيف لا أهتَمُّ بِكَ؟!

- قال: أَوْلَمْتَ لابنِكَ عند زواجِهِ، ولم تدعُني لحُضور الوليمة.

- قال: بل دَعوتُكَ.

- قال: لم تدعُني.

- قال: لَعلِّي نسيتُ مع كثرةِ الانشغالاتِ وطلباتِ الأُسرةِ ومهامي ومسئوليَّاتي الكثيرة. ثُمَّ إنَّكَ لا تحتاجُ لدعوةٍ؛
فأنتَ صاحبي وحبيبي، تحضُرُ مع أوَّل الحاضِرين، بل وتستقبِلُ الضيوفَ معي.

- قال: دَعكَ من هذا الكلام، فلن أُسامِحكَ على هذا الموقفِ الذي تجاهلتني فيه، ولن أنساه أبدًا.

- قال: بل سامِح يا أخي، فالأمرُ لا يستدعي ذلك، والتَّسامُحُ من شِيَم الكِرام.

- قال: لن أُسامِح، ودَخَلَ بيتَه، وأغلَقَ البابَ.



كثيرةٌ هِيَ المواقِفُ التي تَمُرُّ بنا، أو بالنَّاس حولنا، قد تكونُ مُشكلاتٍ بسيطةً، أو خِلافاتٍ عاديَّةً. وقد تكونُ مواقِفُ يغلِبُ عليها الجهلُ أو النِّسيانُ، لا يُسامِحُ أصحابُها، ولا ينسون الإساءةَ، وإن كانت غيرَ مقصودةٍ.

تظلُّ المواقِفُ عالقةً بأذهانِهم، تُؤرِّقُ نومَهم، وتُعكِّرُ صَفوهم، وتُكَدِّرُ أيَّامَهم، رغم أنَّها لا تَستحِقُّ ذلك.
تُمحَى كلمةُ التَّسامُح من قامُوسِهم، وتُحذَفُ كلمة الصَّفْح من قُلوبِهم، وتغيبُ كلمةُ العَفو عن حياتِهم.
يُقسِّونَ قُلوبَ أبنائِهم بسُوءِ تصرُّفاتِهم، ويَحرمون أنفُسَهم أُجورًا كثيرةً بهَجرهم وخِصامِهم.


أحِبَّتي في الله، أيَّامُنا في الدُّنيا مَعدودةٌ، وأنفاسُنا مَحدودة، والدُّنيا فانيةٌ زائِلةٌ.
كُلُّ لحظةٍ تَمُرُّ بنا تُقرِّبُنا أكثرَ من قُبورنا، وتُبعِدُنا عن دُنيانا بزَخارِفها وملذَّاتِها.

لا شيءَ يَستحِقُّ مِنَّا أن نهجُرَ أحبابنا لأجلِهِ سِوَى المَعصيةِ؛ لأجل أن يرتدِعوا ويَعودوا إلى اللهِ. الكُفرُ هو سببُ الهَجر والقطيعةِ. لكنْ أن نهجُرَ إخوةً لنا في اللهِ، أن لا نُسامِحَهم، أن نُقاطِعَهم ونرفُضَ مُقابلتَهم، ونَرُدَّهم إذا أقبلوا علينا، فهذا ما لا يرضاه دِينُنا، ولا يرضاه رَبُّنا سُبحانه.

أتعلمونَ أنَّه «لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهْجرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ» (مُتفقٌ عليه)؟!

أتعلمونَ أنَّه « تُفتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ، ويومَ الخميسِ، فيُغفَرُ لِكُلِّ عبدٍ لا يشُرِكُ باللهِ شيئًا، إلَّا رجلًا كانت بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ، فيُقالُ: أنظِروا هذَينِ حتَّى يَصطلِحا، أنظِروا هذَينِ حتَّى يَصطلِحا، أنظِروا هذَينِ حتَّى يَصطلِحا» (رواه مُسلم)؟!

أتفرَحُ إذا أُوقِفتَ بين يَدَي اللهِ سُبحانه في الآخِرةِ؛ لِيُقتًصَّ لأخيكَ منكَ؟! أتفرَحُ إذا أخذ من حسناتِكَ؟! أترضَى أن يَرجَحُ مِيزانُ سيِّئاتِكَ على مِيزان حسناتِكَ بسبب قطيعتِكَ لأخيكَ المُسلِم؟!

أعلَمُ أنَّ في داخِلِكَ خيرًا كثيرًا، وأنَّكَ تُحِبُّ أخاكَ في الله، وتتمنَّى لو تحتضنه وتُصافِحه بقُوَّةٍ، لكنَّ موقِفَه آلَمكَ.
انسَ ما بَدَرَ منه، أقبِل عليه، تأكَّد أنَّه سيَفرحُ بكَ، سيبكي إذا رآكَ، لن يستطيعَ أن يُعَبِّرَ لكَ عن مَدَى سعادتِهِ بكَ.

لا تَقُل: أنتظِرُ مُبادرتَه هو وإقبالَه إليَّ، فقد أقبل إليكَ من قبل ورَدَدتَه.
كُن أنتَ الفائِزَ بالحَسناتِ، المُبادِرَ إلى الخَيراتِ، الطَّالِبَ للجَنَّاتِ. لا تَدَع شيطانَكَ يُوَسْوِسُ لكَ ويُثنيكَ عن ذلك.
لا تسمَح لنفسِكَ الأمَّارةَ بالسُّوءِ أن تطلُبَ منكَ الاستمرارَ في القطيعةِ. لا تجعل هواكَ يُحرِّكُكَ ويُزيِّنُ لكَ هَجركَ وخِصامَكَ، كُن قويًّا تستطيعُ التَّغلُّبَ على كُلِّ ذلك، فـ «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ منَ المؤمنِ الضَّعيفِ» (رواه مُسلم).

خُذ قرارًا شُجاعًا بأن تَعفُوَ وتصفَحَ، وأن تجعل ذلك صِفةً مُلازِمةً لكَ؛ فبها تنالُ الأجرَ، بل والأجمل من ذلك مغفرةُ اللهِ سُبحانه،  {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].

فيا له من فضل! لا تحرِم نفسكَ منه. فقط صَحِّح نيَّتَكَ، ولتَعفُ ولتُسامِح لله؛ ابتغاءَ مَرضاتِهِ، وطَمعًا في جنَّاتِهِ. حينها ستشعُرُ بتَغيُّر قلبِكَ للأجمل، وتبدُّل حياتِكَ للأحسن، وستستشعِرُ قولَه تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [ آل عمران:134].

حُبُّ اللهِ غايةٌ نسعى لها، نتمنَّاها، ونسعَدُ لو حقَّقناها في دُنيانا وآخِرتنا.

لهذا فاعمَل، وكُن مُتسامِحًا، مُحسِنًا، مُتناسِيًا للزَّلَّاتِ، مُتجاوِزًا عن الأخطاءِ والهَفواتِ.


وَفَّقنا اللهُ وإيَّاكُم لمَرضاتِهِ وجعلنا مِن أهل جنَّاتِهِ.


 بسمَة
الجُمُعة
1 شعبان 1435 هـ/ 30 مايو 2014 م