تأملات تاريخية - (6) يوم كنا أعز أمة

منذ 2015-01-18

والدرس الذي ينبغي أن نتعلَّمه من مأساتنا في اليوم والأمس، أنَّ المسلمين انتصروا بعقيدتهم الراسخة ووحدتهم الصلبة؛ فلمَّا تهاونوا بعقيدتهم، وتفرقوا شيعًا، خسروا بلادهم وخسروا أنفسهم وذلُّوا.

 

 

"ولعله إلى هذه الأيام، لم تطلع الشمس على أمة أسعد ولا أهنأ ولا أرغد عيشًا ولا أكثر رغبة في التمتع بالجمال والعلوم والأعمال المجيدة من عرب الأندلس".

صاحب هذا الوصف العجيب الصادق ليس مسلمًا ولا عربيًا حتى نتهمه بالتعصب لدينه وقومه، وإنما هو العالم والمؤلف الكبير جوزيف ماك جب Joseph MacCabe الذي ألف (250) كتابًا، وألقى ألوفًا من المحاضرات، وسافر إلى شتى أنحاء العالم، وأتقن عشر لغات، حتى جعله الأمريكيون أكبر عالم في الدنيا، لأنه مسيحي وعالم، فلا يمكن أن يتهم بدينه ولا علمه. وإن أصدق قول ما شهدت به الأعداء!

وقد سطرت كتب التاريخ لنا من المواقف لحكام المسلمين وخلفائهم في الأندلس ما يدل على عظمة المسلم المعتز بدينه الواثق بربه المنتصر بعقيدته، حتى كانت ملوك النصارى الصليبيين من الإسبان والفرنجة يأتون خاضعين ذلولين إلى بلاط قرطبة يقدمون فروض الطاعة والولاء وطلب العون والنصرة من مسلمي الأندلس، واقرؤوا إن شئتم سيرة عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر والمنصور بن أبي عامر ويوسف بن تاشفين والمنصور الموحدي! هؤلاء جميعًا كانت ممالك النصرانية تأتي إليهم في ذلة وخضوع، تعتز بصداقتهم وتتناصر بهم!!

وإن القلب ليمتلئ حسرة على حال مضت إليها حكام المسلمين الآن، الذين يطلبون صداقة اليهود ويتذللون للنصارى، طلبًا لكرسي زائل أو عزة واهية، فخسروا دينهم ودنياهم!!

 

لقد كانت فترة الخلافة الأموية في الأندلس (300ه - 422ه/ 912م – 1030م) أزهي عصور الأمة في تاريخها، حيث كانت دولة الإسلام في الأندلس أقوى ممالك العالم على الاطلاق، وكان خليفتها أعظم ملوك أوروبا -بل العالم- في زمانه بلا منازع، وقد كان الحكم المستنصر (350ه - 366ه/ 961م - 976م) واحد من هؤلاء العظماء.

فقد استكمل الحكم المستنصر سيرة والده الناصر لدين الله فعظم فيها مجد الأندلس وأنار فيها ربيع الإسلام، فالأندلس في عهده بلغت أوج عظمتها وأبهتها من الناحية السياسية والحضارية والعمرانية، وفى عهده أضحت الأندلس كعبة تأتى إليها ملوك النصرانية وتلتمس ودها، وخرت عند قدميه ملوك أوروبا وأمراؤها ذلولين خضوعين، رجاء الصداقة والمودة، فطلب مودته أمير برشلونة وليون وقشتالة، وتراسل معه في حب ومودة إمبراطور بيزنطة وألمانيا.

قدوم أردونيو الرابع ملك ليون على الحكم المستنصر

يحكي مؤرخو الأندلس كيف كان قدوم أردونيو الرابع ملك ليون على الحكم المستنصر لطلب النصرة والمساعدة، وهي صورة أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، ولو لم ترد بطريق التواتر في المراجع الإسلامية عن الثقات لترددنا في قبولها، وإنه لعجب، ولمَ العجب وقد كنا أعز أمة!!

يصف ابن حيان مؤرخ الأندلس وعنه ابن خلدون والمقري التلمساني وغيرهم قدوم أردونيو الرابع ملك ليون المخلوع إلى قرطبة -عاصمة الخلافة؛ ليقدم فروض الطاعة للخليفة ويطلب أمانه ومساعدته وليعاونه على استرداد ملكه المسلوب.

تحكي الرواية الإسلامية أن أردونيو وفد على قرطبة في عشرين رجلا من وجوه أصحابه، ومعهم غالب الناصري مولى الحكم وصاحب مدينة سالم، وذلك في آخر صفر سنة 351ه/ 30 مارس سنة 962م. وحين وصلوا قرطبة أخرج المستنصر وزيره هشام المصحفي لاستقبالهم وأمر بترتيب العسكر في استقبالهم في قمة الأبهة وكامل التعبئة. فلما دخلوا قصر قرطبة، ووصل أردونيو إلى ما بين باب السُّدة وباب الجنان، سأل عن مكان مدفن الناصر رحمه الله، فأشير إليه في الروضة بداخل القصر، فسار إليه وخلع قلنسوته وانحنى أمامه خاشعًا. وأمر المستنصر بإنزال أردونيو وصحبه في أحد قصور قرطبة وهي دار الناعورة الفخمة، ليقيم فيها يومين (الخميس والجمعة)، وقد توسع وبولغ في إكرامهم.

فلما كان يوم السبت تقدم المستنصر بالله باستدعاء أردونيو إلى قصر الزهراء، وقد حشدت قوات عظيمة من الجند، وبولغ في الاحتفال بالزينات، وإظهار الأسلحة والعُدَد. وجلس الحكم فوق سرير الملك في المجلس الشرقي، ومن حوله الإخوة والوزراء والأكابر، فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكام والفقهاء.

وجيء بأردونيو وأصحابه، ومعهم جماعة من وجوه نصارى الأندلس، فدخل أردونيو بين صفَّي الترتيب يقلِّب الطَّرف في نظم الصفوف، ويجيل الفكر في كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها، فراعهم ما أبصروه، وصُلِّبوا على وجوههم، وتأملوا ناكسي رؤوسهم غاضِّين من أجفانهم قد سكِّرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أوَّل باب قصر الزهراء، فترجل جميع من كان خرج إلى لقائه، وأُجْلِسوا برهة في بهو الانتظار، ثم استدعوا للمثول بين يدي الخليفة.

فسار أردونيو ومن ورائه أصحابه، وقد أُمر بالترجُّل هنالك والمشي على الأقدام، فترجلوا، ودخل الملك أردونيو وتبعه أصحابه، فأنزل في مدخل البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسوِّ الأوصال بالفضة، فقعد أردونيو على الكرسي، وقعد أصحابه بين يديه، وخرج الإذن لأردونيو من المستنصر بالله بالدخول عليه، فتقدم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى المجلس الخلافي، فكشف رأسه وخلع برنسه.

وبقي أردونيو حاسرًا إعظامًا لما بان له من الدنو إلى سرير الحكم، واستنهض فمضى بين الصفين المرتبين حتى انتهى إلى باب البهو، فلمَّا دنا من سرير الحكم خرَّ ساجدًا سويعةً، ثم استوى قائمًا، ثم نهض خطواتٍ، وعاد إلى السجود ووالى ذلك مرارًا إلى أن قدم بين يدي الخليفة وأهوى إلى يده فناوله إياها وكرَّ راكعًا مقهقرًا على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب، جعل له هنالك، ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير، فجلس عليه، والبهر قد علاه، ثم دخل رجاله فدنوا ممتثلين في تكرير الخنوع وناولهم الخليفة يده فقبَّلوها وانصرفوا مقهقرين، ووصل بوصولهم وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة، وهو من تولى الترجمة بينهم وبين الخليفة.

وكان أردونيو قد علاه الرعب وتملكه الفزع مما رآه حتى ما استطاع أن يتكلم مع المترجم، الذي انتظر حتى يهدأ من روعه ويخفض عليه، فلمَّا رأى المترجم أن قد خفض عليه افتتح تكليمه، فقال: "ليسرك إقبالك ويغبطك تأميلك، فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته"، فلمَّا ترجم له كلامه إيَّاه تطلَّق وجه أردون، فقبَّل البساط، وقال: "أنا عبد أمير المؤمنين مولاي، المتورك على فضلهن القاصد إلى مجده، المحكم في نفسه ورجاله، فحيث وضعني من فضله وعوضني من خدمته، رجوت أن أتقدم فيه بنية صادقة، ونصيحة خالصة".

فقال له الخليفة: "أنت عندنا بمحلِّ من يستحق حسن رأينا، وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك على أهل ملتك ما يغبطك، وتتعرف به فضل جنوحك إلينا، واستظلالك بظل سلطاننا"، فعاد أردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة، وابتهل داعيًا، وقال: "إن شانجة ابن عمي تقدم إلى الخليفة الماضي (الناصر لدين الله) مستجيراً به مني، فكان من إعزازه إياه ما يكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأمَّلهم، وكان قصده قصد مضطر قد شنأته رعيته، وأنكرت سيرته، واختارتني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك، ولا دعاء إليه، فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرًّا مضطهدًا، فتطوَّل عليه رحمه الله بأن صرفه إلى ملكه، وقوَّى سلطانه، وأعزَّ نصره، ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه، وقصَّرفي أداء المفروض عليه وحقَّه وحق مولاي أمير المؤمنين من بعده، وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة، من قرارة سلطاني وموضع أحكامي، محكَّمًا له في نفسي ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي، فشتان ما بيننا بقوة الثقة ومطرح الهمة".

فقال الخليفة المستنصر: "قد سمعنا قولك، وفهمنا مغزاك، وسوف يظهر من إقراضنا إيَّاك على الخصوصية شأنه، ويترادف من إحساننا إليك أضعاف ما كان من أبينا رضي الله تعالى عنه إلى ندِّك، وإن كان له فضل التقدُّم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا، فليس ذلك مما يؤخرك عنه، ولا ينقصك مما أنلناك، وسنصرفك مغبوطًا إلى بلدك، ونشدُّ أواخيَّ ملكك، ونملكك جميع من انحاش إليك من أمتك، ونعقد لك بذلك كتابًا يكون بيدك نقرِّر به حدَّ ما بينك وبين ابن عمِّك، ونقبضه عن كل ما يصرِّفه من البلاد إلى يدك، وسيترادف عليك من إفضالنا فوق ما احتسبته، والله على ما نقول وكيل".

فكرَّر أردونيو الخضوع، وأسهب في الشكر، وقام للانصراف مقهقرًا لا يولِّي الخليفة ظهره، وخرج من المجلس وقد علاه البهر وأذهله الرَّوع، من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزَّة، فلما أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليًا منه انحطَّ ساجدًا إعظامًا له، ثم قدَّم إليه الحاجب جعفر الهدايا التي أمر بها الخليفة له ولأصحابه، فلما بصر به قام إليه، وخنع له، وأومأ إلى تقبيل يده، فقبضها الحاجب عنه، وانحنى إليه فعانقه، وجلس معه، فغَّّطه، ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره، ثم أمر الحاجب جعفر فصبت عليه الخلع التي أمر له بها الخليفة، فخرَّ ساجدًا وأعلن بالدعاء، ثم دعا الحاجب أصحابه رجلًا رجلًا، فخلع عليهم على قدر استحقاقهم، فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم، وخرَّ جميعهم خانعين شاكرين.

يقول المقري: "واستشعر الناس من مسرَّة هذا اليوم وعزَّة الإسلام فيه ما أفاوضوا في التبجُّح به والتحدث عنه أيامًا، وكانت للخطباء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان، وإنشادات لأشعار محكمة متان، يطول القول في اختيارها.

فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي من قصيدة حيث يقول:

مَلكُ الخِلافة آيةُ الإقبال *** وسُعودُه مَوصُولةٌ بتَوَالِي

فالمُسلمونَ بعِزَّةٍ وبرفعةٍ *** والمشُرِكونَ بذِلَّةٍ وسَفالِ

ألقتْ بأيديها الأعاجِمُ نَحوَه *** مُتَوَقِّعينَ لصولةِ الرِئْبَالِ

هذا أميرُهم أتاهُ آخذاً *** مِنْه أواصِرَ ذِمَّةٍ وحِبالِ

متواضعاً لجلاله متخشّعاً *** متبرّعاً لما يرع بقتال

سينال بالتأميل للملك الرّضى *** عزّاً يعمّ عداه بالإذلال

لا يوم أعظم للولاة مسرّةً *** وأشدّه غيظاً على الأقيال

من يوم أردون الذي إقباله *** أمل المدى ونهاية الإقبال

ملك الأعاجم كلّها ابن ملوكها *** والي الرّعاة وللأعاجم والي

إن كان جاء ضرورةً فلقد أتى *** عن عزّ مملكة وطوع رجال

فالحمد لله المنيل إمامنا *** حظّ الملوك بقدره المتعالي

 

وهكذا انتهى المشهد، غير أن عبره ودروسه لم تنتهي، فيا ليت حكام المسلمين ووزراءهم اليوم يقرؤون تلك المشاهد، ويستمعون إلى تلك الصور من العزة والكرامة، ولو قرؤوا لعلموا أنهم بالإسلام –وبالإسلام وحده- تكون العزة والكرامة، وأنه كما قال عمر رضي الله عنه: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".

ولنا في التاريخ والواقع عبرة وشاهد .. وعلى نفسها جنت براقش، فقد كانت الأندلس بالمسلمين أستاذة الدول الأوروبية علمًا وحضارةً وفكرًا، وصناعة وزراعة وثراء، فأصبحت إسبانيا بدونهم في الدرك الأسفل من دول أوروبا علمًا وحضارةً وفكرًا، وصناعة وزراعة وثراء.

وكانت الأندلس أقوى دولة أوروبية بالمسلمين، فأصبحت من بعدهم أضعف دولة أوروبية على الإطلاق، وقد خُيِّل للذين طردوا المسلمين وشردوهم وفتكوا بهم في الأندلس أنَّهم أحرزوا على الإسلام نصرًا حاسمًا، ولكنَّهم تيقَّنوا بعد أن سبق السيف العَذَل، أنهم أحرزوا على أنفسهم لا على الإسلام نصرًا حاسمًا، وأنَّهم خرَّبوا بلادهم بأيديهم جهلًا وتعصبًا وغرورًا.

والدرس الذي ينبغي أن نتعلَّمه من مأساتنا في اليوم والأمس، أنَّ المسلمين انتصروا بعقيدتهم الراسخة ووحدتهم الصلبة؛ فلمَّا تهاونوا بعقيدتهم، وتفرقوا شيعًا، خسروا بلادهم وخسروا أنفسهم وذلُّوا.

ذلك ما ينبغي أن نتعلَّمه ونعلمه لأبنائنا، ولا ينبغي أنْ ننساه أبدًا.

يوم كنا خير أمة *** كان للحق مكانا

كان للأقوال فعل *** فاسمعوا للترجمانا

يوم كان الناس فيهم *** شرعة الله منارا

كان في الناس سرور *** هدية يؤتى جهارا

يوم أن كنا جميعًا *** لم تشتتنا دروبا

كان فينا من يناد *** هذه الدنيا هروبا

يوم أن كنا أسودا *** دربنا درب الجهاد

يومها كنا جنودا *** لا نبالي بالأعادي

كان في القلب يقينا *** أن نصر الله آت

أن نصر الله فتح *** إن حيينا بالثبات

 

المصادر والمراجع:

- المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر- بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1997م.

- ابن عذارى: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، الطبعة: الثالثة، 1983م.

- ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية 1408ه - 1988م.

- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الطبعة الرابعة 1417ه - 1997م.

- محمود شيت خطاب: قادة فتح الأندلس، الناشر: مؤسسة علوم القرآن- منار للنشر والتوزيع- الطبعة: الأولى، 1424ه - 2003م.

 

أحمد عبد الحافظ

المقال السابق
(5) نصر من حيث لا تحتسب
المقال التالي
(7) يا أمتي اقرئي التاريخ