من إجلال الله تعالى

منذ 2015-01-26

إنَّ مما يدعو للأسفِ أن تجدَ مُعلِّمَ القرآن في كثير من الأحيان منسيًا، ومن أقل الناس راتباً، وذلك يُحدث تناقضًا بين (ما نقولُه عن قدر حَمَلة القرآن وحث الناشئة على حفظ الكتاب الكريم والعناية به)، وبين (ما نعامِلُ به أهلَ القرآن ومعلميه)، ولقد كان سلفُ الأمة الصالحُ رضي الله عنهم يعظمون أهلَ القرآن ويُجلونهم، ويقدمونهم على أهل سائر العلوم والفنون، وذلك لتمكُّن الآخرةِ من قلوبهم والدينِ من نفوسهم.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. إنَّ مما يدعو للأسفِ أن تجدَ مُعلِّمَ القرآن في كثير من الأحيان منسيًا، ومن أقل الناس راتباً، وذلك يُحدث تناقضًا بين (ما نقولُه عن قدر حَمَلة القرآن وحث الناشئة على حفظ الكتاب الكريم والعناية به)، وبين (ما نعامِلُ به أهلَ القرآن ومعلميه)، ولقد كان سلفُ الأمة الصالحُ رضي الله عنهم يعظمون أهلَ القرآن ويُجلونهم، ويقدمونهم على أهل سائر العلوم والفنون، وذلك لتمكُّن الآخرةِ من قلوبهم والدينِ من نفوسهم.

ونجدُ في زماننا هذا عكسَ ذلك؛ إذ يُقدَّم أهلُ العلوم غير الشرعية ويُحترمون في كثير من المواقف أكثرَ من أهل القرآن، مما ينفِّر الجيلَ من الإقبال على حفظ القرآن وأن يكونوا من أهله. ولقد تواترت الأحاديثُ الدالة على مكانة أهل القرآن؛ من ذلك ما رواه عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: "من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: « إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين»[1].

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من إجلال الله تعالى إكرامَ ذي الشيبة المسلم وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطان المقسط»[2].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمعُ بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: «أيهما أكثرُ أخذاً للقرآن، فإن أشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد» [3].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمه»[4].

فهذه الآثارُ كلها تدل على توقير أهل القرآن، وأن إجلالهم من إجلال القرآن، بل من إجلال مُنزِل القرآن جل وعلا.

ولقد كان للمحتل الغاصب وأذنابه سعيٌ دائم وحثيث وخبيث من أجل تصوير أهل القرآن بما لا يليق بغيرهم فضلاً عنهم، كما سعوا ليكونَ قدرُ أهل القرآن ومعلميه مَهيناً في سلم الوظائف حتى ينفروا الأمة من كتاب ربها والتمسك به، فصار الجميعُ يحرصون أن يكون أبناؤهم من أهل العلوم الأخرى غير القرآن كي يعظم أمرُهم في المجتمع، إذ لا سبيل إلى المكانة الاجتماعية إلا بتلك العلوم التطبيقية، هكذا صوروا الأمر للناس، ولقد أعانهم كثيرٌ من الطيبين دون شعور منهم في تحقيق ذلك الهدف، وذلك بالإيحاء والتعامل مع أهل القرآن بما لا ينبغي.

فلابد من تغيير هذه النظرة؛ بتقديم أهل القرآن، وتعظيم شأنهم، وهو ما أوجبه الله تعالى لهم، وذلك من أجل أن نقوم بما أوجب الله علينا في حقهم أولاً، ثم من أجل أن ندفع بأبنائنا إلى القرآن والتمسك به ثانياً.

إننا نتوقُ لرؤية اليوم الذي يتمنى فيه كلُّ واحد من أبنائنا أن يكون معلماً للقرآن، مُتقناً له ضابطاً سلوكَه به، كما يتمنى الكثيرون اليوم أن يلتحقوا بكليات الطب والهندسة وغيرها.

بل إن بعض أهل القرآن أصيب بشيء من الانهزامية من جَرَّاء هذا الواقع المرير، فتجده ينظر بإعظام إلى أهل العلوم التطبيقية ويقدمهم لما عندهم من تلك المعارف على نفسه ناسيًا أو متناسيًا أنَّ في جوفه كلامَ رب العالمين، وأنه بذلك من خيار الأمة.

وقد تجد داء الانهزامية هذا في بعض طلاب كلية الشريعة فلا تراه يعتز بما معه من العلوم الشريفة، وربما اجتمع الشبابُ في مجلس فسأل بعضُهم بعضًا أين تدرس؟ فيجيب بعضهم معتزًا: في كلية الطب، ويقول الآخر: وأنا في كلية الهندسة، ويطأطأ ثالثُهم رأسه قائلا: لما كان معدلي ضعيفًا لم أجد غير كلية الشريعة!

إن هذه البلوى من واقعنا الذين نعيشُه، ولا بد أن نعترف بها؛ لأن ذلك أول طريق التصحيح ووضع الأمور في نصابها.

ومن المؤسف أن تجد بعضَ علماء الشريعة يزهو ويفتخر؛ لأن أبناءه يدرسون في كليات الطب وغيرها وتعرف في لحن قوله عدمَ اعتزازه بتخصصه كما اعتز بتخصصات أبنائه.

إنني أعتقد أن لا عاقلَ يدعو لمحاصرة العلوم التطبيقية وغيرها، كما أن ذلك ليس من مصلحة العلوم الشرعية التي في كثير من أبوابها ترتبطُ ارتباطا وثيقًا بهذه العلوم، ولا أحدَ -كما أتصور- يجهلُ عاملَ العلوم التطبيقية في رقي الأمة ورفعتها، ولكن الذي يُعاب أن تكون تلك المكانةُ المستحَقة للعلوم الدنيوية خصمًا للمكانة المستحقة والرفيعة للعلوم الشرعية.

إنها همسة في آذان القائمين على وزارات العمل، والتربية والتعليم والشؤون الدينية، وغيرهم ممن يعنيهم الأمرُ في عالمنا الإسلامي الكبير بأن تكون لهم خططُهم الواضحة لتغيير هذا النظرة القاصرة، وذلك بمزيد العناية والتقدير لأهل القرآن وعلومه.

مروان محمد أبو بكر
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم، 1/559، (817).
[2] رواه أبوداود، 2/677، (4843).
[3] رواه البخاري، 1/450، (1278).
[4]رواه البخاري، 4/1919، (4739).