خطورة المجاهرة بالمعصية

منذ 2015-04-12

المجاهرة بمعنى إظهار ما ستر الله على العبد من فعله المعصية؛ كأن يُحدِّث بها تفاخرًا أو استهتارًا بستر الله تعالى، وهؤلاء هم الذين لا يتمتعون بمعافاة الله عز وجل.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد:

فإن الذنوب والمعاصي عاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة، قال تعالى مبينًا أضرارها على العباد:  {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}  [العنكبوت:40].

وأعظم هذه الذنوب المجاهرة بها، ومعناها أن يرتكب الشخص الإثم علانية، أو يرتكبه سرًّا فيستره الله عز وجل ولكنه يخبر به بعد ذلك مستهينًا بستر الله له، قال الله تعالى:  {لَّا يُحِبُّ اللَّـهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148]، جاء في تفسيرها: "لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالسوء من القول، إلا من ظُلِم، فلا يُكره له الجهر به" (تفسير القرطبي: [7/199]).

روى البخاري ومسلم من حديث سالم بن عبدالله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  «كلُّ أُمَّتي معافًى إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن يعمل الرَّجلُ بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويُصبِح يكشف سترَ الله عنه» (البخاري، ص: [1173] برقم [6069]، وصحيح مسلم، ص: [1197-1198] برقم: [2990]).

قال ابن حجر: "والمجاهِر هو الذي أظهر معصيتَه، وكشف ما ستَر الله عليه، فيحدِّث بها، أما (المجاهرون) في الحديث الشريف فيحتمل أن يكون بمعنى مَن جَهَر بالمعصية وأظهرها، ويحتمل أن يكون المراد الذين يُجاهِر بعضهم بعضًا بالتحدُّث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكِّد المعنى الأول" (فتح الباري: [10/487] بتصرف).

ومما سبَق يتضح أن المجاهرة على أنواع ثلاثة:

1- المجاهرة بمعنى إظهار المعصية، وذلك كما يفعل المُجَّان والمستهترون بحدود الله، والذي يفعل المعصية جهارًا يرتكب محذورين:

الأول: إظهار المعصية.

الثاني: تلبُّسه بفعْل المجَّان؛ أي: (أهل المجون)، وهو مذموم شرعًا وعُرفًا.

2- المجاهرة بمعنى إظهار ما ستر الله على العبد من فعله المعصية؛ كأن يُحدِّث بها تفاخرًا أو استهتارًا بستر الله تعالى، وهؤلاء هم الذين لا يتمتعون بمعافاة الله عز وجل كحال الشباب الذين يسافرون إلى خارج البلاد، ويرتكب الواحد منهم الفواحش وشرب الخمور، ثم يخبر بهذا أصدقاء السوء تفاخرًا واستهتارًا بستر الله له.

3- المجاهرة بمعنى أن يجاهر بعض الفسَّاق بعضًا بالتحدث بالمعاصي (فتح الباري: [10/487]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن المظهر للمنكر يجب الإنكار عليه علانية، ولا تبقى له غيبة، ويجب أن يعاقَب علانية بما يردعه عن ذلك، وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتًا إذا كان فيه ردع لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته" (غذاء الألباب: [1/261-260]).

وقال النووي رحمه الله: "إن من جاهر بفسقه أو بدعته، جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به" (فتح الباري: [10/487]).

وقال ابن حجر رحمه الله: "مَن قصد إظهار المعصية والمجاهرةَ، أغضب ربه فلم يستره، ومَن قصد التستر بها حياءً من ربه ومِن الناس، مَنَّ الله عليه بستره إياه" (فتح الباري: [10/488]).

قال ابن بطال: "في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف" (فتح الباري: [10/487]).

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المجاهرة بالمعاصي لها عقوبات في الدنيا قبل الآخرة، روى ابن ماجه في سُننه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:  «يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ إذا ابتُليتم بهنَّ -وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ-: لم تظهرِ الفاحشة في قوم قطُّ حتى يُعلنوا بها، إلا فَشَا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضتْ في أسلافهم الذين مضَوْا، ولم ينقصوا المكيالَ والميزان، إلا أُخِذوا بالسِّنين وشدَّة المؤونة وجورِ السلطان عليهم، ولم يَمنعوا زكاة أموالهم، إلا مُنِعوا القطر من السَّماء، ولولا البهائم لم يُمطَرُوا، ولم يَنقضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله، إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُم أئمتُهم بكتاب الله ويتخيَّروا مما أَنزل الله، إلا جَعَل الله بأسَهم بينهم» الحديث. (ص: 432 برقم [4019]، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في (صحيح الجامع الصغير) [2/1321] برقم: [7978]).

روى الترمذي في سننه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في هذه الأمَّة خَسْفٌ ومَسْخ وقذف»، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله، متى ذاك؟ قال: «إذا ظهرتِ القَيْنات، والمعازف، وشُرِبت الخمور» (ص: [367] برقم: [2212]، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في (صحيح الجامع الصغير) [2/786] برقم: [4273]).

 

ومن الأمثلة على الجهر بالمعاصي في وقتنا المعاصر:

انتشار الصحون الفضائية، أو ما يسمى بالدش على السطوح في بيوت كثير من الناس.

ومنها: انتشار البنوك الربوية في كثير من بلاد المسلمين؛ بل والإعلان عبر الصحف ووسائل الإعلام الأخرى أن القروض منها، أو المساهمة فيها مُيسَّر وسهل.

ومنها: تبرج النساء بشكل سافِرٍ في الأسواق والأماكن العامة.

ومنها: بيع المحرمات؛ كالمجلات الهابطة، والدخان، وأشرطة الفيديو، والأقراص التي تحتوي على أفلام هابطة، ومحلات بيع أشرطة الغناء.

ومنها: انتشار النوادي التي تعرض فيها السينما والألعاب الرياضية المختلطة، والمسرحيات، ومحلات عرض الإنترنت.

ومنها: خروج المغنيات والممثلات سافرات على شاشات القنوات الفضائية؛ ليُهيجنَ الغرائز ويفتِنَّ الناس.

لذا ينبغي الإنكار على هؤلاء المجاهرين، وإخبارهم بعظيم جُرْمهم، وأنهم يُعرِّضون أنفسهم لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة، قال تعالى:  {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور من الآية:19]، فإذا كان مجرد الحب صاحبه مهدد بالعذاب، فكيف بمن يجهر وينشر، ويساعد على هذه الفواحش والمنكرات؟!

ولذلك؛ ينبغي على المسلِم إذا ابتُلي بالمعصية أن يستتر بستر الله، وأن يبادر بالتوبة النصوح.

والله تعالى أعلى وأعلم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

د. أمين بن عبد الله الشقاوي