فقط لو صدقنا!

منذ 2015-04-23

كم من زلات ومواطن ضعف قد سارعنا بجلد صاحبها بسياط توبيخنا الفاضح ولنهوي بها على ظهر روحه ونُصْلي نفسه بمرير ألفاظنا المعلنة دون أن نفكر قبل أن نجلده أننا بذلك قد نعين شيطانه عليه

عطس رجلٌ من المصلين فقال معاوية بن الحكم السلمي: يرحمك الله

رماه القوم بأبصارهم وبدا أن أمرًا جللًا قد حدث

الرجل يتكلم أثناء الصلاة!

ويحه ماذا يفعل؟!

أولم يفقه؟

أولم يعلم؟

- واثُكلَ أُمِّياه! ما شأنُكم تَنظُرونَ إليَّ؟!

هكذا أكمل كلامه أثناء الصلاة..

فجعل القوم يضربون على أرجلهم أي اسكت وازدادت الهمهمات الزاجرة تنهاه ضمنًا عما يفعله في الصلاة..

سكت معاوية وقد فهم أنه قد تجاوز من حيث لا يعلم، ثم انتهت الصلاة فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم سائلًا من المتكلم في الصلاة..

فلما أعلن معاوية عن نفسه وتقدم بين يديه، ما قهره، ولا سبه، ولا زجره..

الرجل كان مسافرًا لفترة طويلة، ولم يعلم الحكم ولم يتعلم الوصف

فقط علّمه...

بيّن له موطن خطئه وكان حبيبنا بشهادة المخطئ أحنى ناصح وأرأف معلم

وحين كادوا أن يفتكوا بالأعرابي الذي تبول في ناحية المسجد زجرهم عن ذلك مشفقًا أن يقطعوا على رجل بولته

أويُعقل أن يكون ما يشغله هو انقطاع بولة الرجل بشكل مفاجئ يؤذيه؟

الجواب نعم...

مع رسول الله الرؤوف الرحيم الشفوق الرفيق يُعقل ذلك

وما دام الحل بسيطًا وإصلاح الخطأ متاحًا فلِمَ الغلظة والشدة مع رجلٍ جاهلٍ لا يعلم؟!

- أهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء.

كذلك كان الحل ببساطة وليعلم الرجل الحكم بعد ذلك وليدرك قيمة المساجد وحرمتها ووجوب طهارتها..

لكن برفق وبرغبة صادقة في التغيير للأفضل

...

-ائذن لي في الزنا !!

يا لها من كلمة

كيف جرؤ ذلك الشاب أن يقدم على قولها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

أي شهوة مستعرة تلك التي تلظى لهيبها في قلبه اليافع وأدت به إلى ذلك المسلك العجيب ودفعته لذلك الجهر الرهيب؟

تصاعدت أصوات الهمهمات الغاضبة زاجرة الفتى عما يخوض فيه بين يدي النبي دون استحياء..

لكن صوتًا حانيًا قطع كل تلك الهمهمات الزاجرة داعيًا الفتى المستأذن بالزنا لآخر ما يتصوره جافٍ أو قاسي القلب..

لقد تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم..

ولقد قال كلمة تقاطر منها آخر خُلق قد يتصوره القساة مع مثل هذا المطلب الذي قدم به الشاب!

-ادنه (أى اقترب)..

هكذا عامله رسول رب العالمين

دعاه ليقترب منه! ناداه لينهل من حسن منطقه وعذوبة حديثه وحكمة دعوته..

- أَتُحبُّه لِأُمِّكَ؟

- لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك.

قال الرسولصلى الله عليه وسلم: ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم.

أفتُحبُّه لابنتِك؟

-لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعلني اللهُ فداءَك؟

-لأختك؟ لعمتك؟ لخالتك؟

منطق هادئ سديد، وحكمة دعوية رائقة، وحسن معشر، ولين جانب، وخفض جناح

هكذا كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وها هو يكلل حسن دعوته بلمسة حانية ومودة عملية صافية..

ها هو يمد يده ليمسح بها على صدر الفتى المستعر بالشهوة ويتبع مخاطبته الأولى لعقله؛ بتربيت رحيم على محل عاطفته ومكمن مشاعره ليتكامل خطاب المنطق مع ملامسة الفطرة وليخرج الشاب وقد زالت وساوس الشيطان من صدره وهدأ قلبه وارتاحت نفسه.

كم من زلات ومواطن ضعف قد سارعنا بجلد صاحبها بسياط توبيخنا الفاضح ولنهوي بها على ظهر روحه ونُصْلي نفسه بمرير ألفاظنا المعلنة دون أن نفكر قبل أن نجلده أننا بذلك قد نعين شيطانه عليه ونزيد في نفوره وإبعاده منا ومن قبول نصحنا، ونفتح له أبواب العزة بالإثم على مصراعيها بدلا من حرصنا على إغلاقها بمتاريس الهداية وأقفال التوبة.

ولو أننا صدقنا في حرصنا على نفع المخطئ ورغبتنا في خيره وإصلاحه لانتقينا مما نحب لأنفسنا ولتسربل نصحنا بثياب الستر والشفقة ولتمثلنا أحيانًا حال الطبيب العطوف الرحيم بدلًا من حُلل المحقق الصارم الذي يبحث عن متهم ليدينه..

فقط لو صدقنا!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام