كن متفهمًا ولا تتهم .. فلست المِثال
قد ننصح وننصح.. فيأبى، وقد نأبى نحن حتى النصح، ونتركه؛ لأنه فقط لم يعد هو الذي كان عليه في السابق، ننسى أنه بتخلينا هذا قد تركنا البذرة تنمو وتكبر حتى أصبحت شجرة ذات جذور وفروع يصعب انتشالها
ما الذي يجعلنا نتخلى، ونظلم.. ونغدر.. بأي وجه حق يحكم كلٌ منا على الآخر؟
ما مقياس الصلاح الآدمي الذي نتبعه كي يكون هذا جيد وهذا سئ، هذا مثالي وهذا متدني.. هذا يستحق المساعدة أما هذا فيُرمَى لنفسه نتيجة أفعالِه المزرية.. ؟!
كثيرًا ما نواجه في حياتنا تغيُر أقراننا علينا - تحديدًا - ، أو تغيرهم عمومًا ، نجد بعضهم قد بدأ في اتخاذ طريق لم نعتد منه أن يتخذه، وهو في الأغلب طريق خاطئ .. دينيًا أو عرفيًا .. أو مؤذي لذلك الشخص بعينه..
قد ننصح وننصح.. فيأبى، وقد نأبى نحن حتى النصح، ونتركه؛ لأنه فقط لم يعد هو الذي كان عليه في السابق، ننسى أنه بتخلينا هذا قد تركنا البذرة تنمو وتكبر حتى أصبحت شجرة ذات جذور وفروع يصعب انتشالها، بل تلزم ميكنة وأدوات لاستئصالها والقضاء عليها، على الرغم من أن انتزاع تلك البذرة في البداية كان ليكون أسهل بكثير .. ولكن هيهات!
بل إن من يحاولون النصح فيُرفَضون نكاد نعطي لهم شيئا من العذر ، قدرة الناس على الصبر واحتمال الآخرين ليست كلها كبعضها، لكن ما رأيك في من يترك ويتخلى إذا فقط بدأت في التغير، يخاف على نفسه العدوى، يرى نهايتك المحتومة فبدلًا من انتشالك منها يهرب بعيدًا، وليتنا نكتفي!، نأخذ في الحديث عنه غيبةً وافتراءً.. نذكر ما يسئ له وبعد الاكتفاء من أكل لحمه حيًا .. "لا يخصنا، دع الخلق للخالق"!
نحوله إلى عبرة، شخص لا نود الوصول إليه ويجب أن نحذره، لكن أن نعالجه ؟ ليس من اختصاصاتنا.. نخلق وحشًا مفترسًا محشوًا بالرغبة في الانتقام، لأنه لم يُفهَم ، ولم يُحترَم، كان كل ما يريده أن يُحترم احتياجه، يعلم أنه مخطئ، ولكنك لا تعلم أن استغلال النقاء الفطري للإنسان وسهولة الإحساس بالندم يجعل انتشاله من الخطأ أسهل ما يكون، إلا عندما يأتي القمع والافتراء ، يقول ممدوح علوان في كتابه حيونة الإنسان " وكذلك فإن المقموعين تاريخيًا حين يجدون متنفسًا ويتوصلون إلى سلطةٍ ما، فإنهم يريدون أن ينتقموا داخل نفوسهم من كل مشاعر الخوف والتذلل التي عرفوها، ولذلك يصبحون أشد قسوة من مضطهديهم! "
كلما تأملت، وجدت أننا نرى نفسنا النموذج والمِثال، وكل من أقل منا مقصر، وكل من أعلى منا متشدد، نحن لا نخطئ، مَن حولنا فقط يخطئون، من حولنا يستحقون التأديب والتربية، لماذا لا يكونون مثلنا؟ .. وذلك على الرغم من تقصيرك في عبادة الله والتحجج بالوقت، على الرغم من أنك مرتشي ولكن السبب قضاء المصالح، وبمعلومية أنك آكِلُ حق أهلك وأنك ظالمٌ للمرأة واليتيم، ولكن وذلك لأنك القوي كثير الأعمال والعيال وأنت أحق منهم، فتستبيح أموالهم وظلمهم أحيانًا..!
هذه ذنوب كبيرة، قد لا تتوافر كلها في شخصٍ واحد لكنها موجودة، ناهيك عن الأخطاء البسيطة التي تُنسى من كثرتها واعتيادنا عليها، ككسر الخواطر، أو بذاءة اللسان والسب بالدين والأهل، أو الإهانة بقولٍ أو فعل، أو التحجج بالاكتئاب والنفسية لافتعال المشاكل وذكر مساوئ الناس، بل وضرب أهل بيتك أحيانًا على أتفه الأسباب، أو تلك التي تغتاب فلانة وعلانة، أو أو أو ..! لكن أنا؟ أنا النموذج .. أنا الصح، وماذا إن أخطأت أحيانًا؟، أنا بشر، "صحيح أنني أخون لكني مازلت أصرف على أهل بيتي وأقوم بحاجاتهم"، " صحيح أنني أرتشي لكنني أتصدق على الفقراء"، وآخر يسرق لكن يتباهى أنه لم يقتل ، وآخر يقتل فيرى أنه يُخَلِصُ البشريةَ ممن لا يستحقون الحياة فيها، وأخرى تزني ولكنها تحب زوجها.. وكل منهم يرى أن الثاني قد أخطأ، لكن أنا؟ أنا كنت مضطرًا..
ويقول ممدوح علوان في نفس الكتاب: " ... حيث أننا اليوم نتعامل مع مجتمعات مريضة تخجل من أمراضها، وبدلًا من أن تعالج هذه الأمراض أو تعترف بها على الأقل، تسكت عنها مكابرة، وتعد الإشارة إليها فقط نيل من الحصانة الأخلاقية! "
وفي كتاب الإسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيجوفيتش، يقول : " لماذا نصادف كثرة من المعوقين حول المساجد والكنائس والمعابد التي نذهب إليها؟ لأن بيوت العبادة في مختلف الأديان وحدها تفتح أبوابها لأولئك الذين ليس لديهم ما يعرضون أو يبرهنون عليه، أولئك الفقراء في المال والصحة، أولئك الذين استبعدوا من موائد الإحتفالات في هذا العالم، حيث يُدعى الشخص لاسمه وحسبه ونسبه أو موهبته وعلمه، إن المريض وغير المتعلم يُغلَق أمامه باب المصنع أيضًا، بينما يدخله المتعلم صحيح البدن، أما في بيت الله فإن الفقير والأعمى يمكن أن يقفا جنبًا إلى جنب مع ملك أو نبيل، وقد يكونا عند الله أفضل منهما... " فترى الله الكامل يُساوي بين عباده المساكين.. وأنت تتكبر .. فتحدد من يستحق ومن لا يستحق !..
لا نعترف سوى بذنوب غيرنا، ونبرر دائمًا لأنفسنا، نبتعد عن من أصيبوا بعمى الشهوات الدنيوية المتعددة، ونعمي أعيننا على أن في كثيرٍ من تلك الأحوال نكون نحن أسوأ منهم بكثير وأكثر ضعفًا واستسلامًا..
لكن مَن خَلَقَنَا أعلمُ بنا، يعلم ضعفنا، وسهولة إنهيارنا أحيانًا، فخلق لنا الكثير من البدائل الواضحة للعيان.. إلا من تغافل..... يقول بيجوفيتش : " إن الإسلام انطلاقًا من إدراك ثنائية الإنسان لا يتعسف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان، لإنه لا يحاول أن يجعل منا ملائكة لأن هذا مستحيل، بل يميل إلى جعل الإنسان إنسانًا. في الإسلام قدر من الزهد، ولكنه لم يحاول أن يدمر الحياة أو الصحة أو الأفكار أو حب الإجتماع بالآخرين أو الرغبة في السعادة، هذا القدر من الزهد أُريدَ به تحقيق التوازن في غرائزنا أو توفير نوع من التوازن بين الجسد والروح، فالقرآن يتناول الغرائز متفهمًا لا متهمًا. "
خلقنا الله لنتكاتف، نجري في سباقات تلك الدنيا لنصل إلى نهاية محتومة، نهايةٌ رائعةٌ إلا لمن يأباها ، نجري ونجري، وقد نتعثر، لكن تَوَقُفِكَ لإنقاذ من تعثر لن يجعلك في مؤخرة السباق، بل سيُجعَل لك في طريقك الكثير من الطرق الممهدة التي لا تتطلب عناءً، فتمشي على أقل من مهلك، وتجد نفسك مازلت الأول، نحن لا نتنافس على كأسٍ واحدة لمن يسبق فيأخذها في النهاية، إنها جنة الخلد ورحمة الله التي وسعت كل شئ، مالذي يجعلنا نعرقل بعضنا أثناء السير والوصول؟ لماذا نكون ممن يعالجون المرض بقتل المرضى !
يقول علي عزت بيجوفيتش في نفس الكتاب : " فكل إنسان يتوق إلى أن يحيا في اتساق مع ضميره وفقًا لقوانين أخلاقية معينة، وقد لا يكون هذا سهلًا عند البعض، إلا أن كل إنسان يقدر قيمة الاستقامة . كثير من الناس لا يعرفون سبيلًا لدفع الظلم، ولكن جميع الناس قادرون على كراهية الظلم واستهجانه في قلوبهم، وفي هذا يكمن معنى الندم، ليست الإنسانية في الكمال أو العصمة من الخطأ، فأن تخطئ وتندم هو أن تكون إنسانًا "
عاملهم كما ربانا رب الخلق ورسوله، بالحسنى، بالعقل والتخاطب والنقاش والإقناع، بالتقدير والتفهُم وخلق البدائل المناسبة، اجعل القسوة آخر السُبُل، فاعلم أنك – كما استطرد الكاتب - : " تستطيع أن تدرب جنديًا أن يكون خشنًا ماهرًا قويًا، ولكنك لا تستطيع أن تدربه لكي يكون مخلصًا شريفًا متحمسًا شجاعًا، فهذه جميعًا صفات روحية. من المستحيل فرض عقيدة بقرار أو عن طريق الإرهاب أو الضغط أو العنف أو القوة، ويستطيع أي مربٍ أن يعطيك عددًا من الأمثلة عن أطفال يقاومون التوجيه المُلِح، وكيف أنهم ينمون نتيجة ذلك اهتمامًا بسلوك مضاد تمامًا، ويرجع ذلك إلى "الخاصية الإنسانية" للإنسان، فلا يمكن تدريب الإنسان كما يُدَرب الحيوان، فهدف التنشئة الصحيحة ليس تغيير الإنسان تغييرًا مباشرًا، حيث إن هذا غير ممكن، وإنما هي تحفز فيه قوى جوانية دافعة من الخبرات، وتُحدث قرارًا جوانيًا لصالح الخير عن طريق المثل الصالح والنصيحة والمشاهدة .. إلى غير ذلك، ولا يمكن تغيير الإنسان بغير هذا الأسلوب، لعل سلوكه قد يتغير، ولكنه سيكون تغييرًا ظاهريًا ومؤقتًا، ذلك لأن ذاك السلوك لا ينبع من أعماق إرادتنا" ..
أحضر له هدية تجعله يعلم أنك فعلًا متمسك به وتريده ألا يؤذي نفسه لأنه يعني لك الكثير، اجعله يرى طفلًا يبتسم فيعلمه الحياة، احكِ له عن سيرة رسول الله وأصحابه، عن ما لاقوه من أجل أن تكون أنت ما عليه الآن، أخبره أن مادمنا نعاني بكل الأحاول فلنجعل لمعاناتنا معنى؛ فإن كل من كانوا عظماء كانت بدايتهم ظروف سيئة، وكل من كانوا أشرارًا أيضًا كانت بدايتهم ظروف سيئة، فترى كل منهم إن سُئل عن سبب ما وصل إليه استشهد بظروفه، لكن هذا تغلب عليها، وهذا قرر الاستسلام لها.. كان أحد النحاتين المشهورين يقول:" التمثال موجود بالفعل داخل الحجر، وأنا لا أفعل أكثر من أن أزيح التراب من عليه .. " وفيقول مصطفى فتحي: "كذلك إرادتك موجودة ومتمكنة وليس عليك سوى أن تزيح التراب والأفكار الهدامة وعدم الثقة من عليها، أفكارك الإيجابية هي كنزك وثروتك الحقيقة، وهي آلة الزمن التي ستحملك لنجاحات مستقبلية ربما لم تكن تتصور أنها موجودة أو أنك تستحقها أصلًا! " ..
منة حازم
- التصنيف: