المؤسسة الرئاسية وأوهام المحاصصة الحزبية

منذ 2012-07-07

قبل تشكيل الحكومة، أعلن بوضوح أن معيار الاختيار يجب أن يكون بناء على وضوح الرؤية والقدرة الإدارية بالإضافة إلى اتساق النهج السياسي، أما فكرة المحاصصة الحزبية فهي محض أوهام وخيالات سيفيق منها الكثير لاحقًا، ولا مجال عندي إلى الكلام لأنال تصفيق البعض حاليًا، ثم يصبون علي غضبهم ولعناتهم فيما بعد..


صعقت عندما فوجئت بمستوى الوعي السياسي لدى من يسمون خطأ بالنُخبة، فهم كانوا أول من دعا صراحة إلى تأجيل انتقال السلطة من المجلس العسكري مما كلفنا ثمانية عشر شهرًا من تراجع الأداء الاقتصادي، وحالة من انعدام الثقة أدت إلى توتر عام على الساحة السياسية دفعنا ثمنها أرواحا هي أغلى عندنا من أموال الدنيا، هذا بالإضافة إلى استغلال هذا التوتر المقصود في الفترة الانتقالية لزرع حالة من الحنين إلى أحضان الظالمين، وإعادة الوضع إلى أسوأ مما كان عليه.

وبعد أن عبرنا الانتخابات الأخيرة بشق الأنفس، بدأت مرحلة جديدة من البحث عن الفشل من خلال الحديث عن مؤسسة رئاسية تعتمد على المحاصصة الحزبية، حيث يحصل بعض المرشحين والأحزاب على نصيب من الحكومة أو مؤسسة الرئاسة بدعوى مشاركة الجميع، وهو ما يعني ببساطة غياب رؤية واضحة متناسقة للبناء مما قد يؤدي في الغالب إلى تدهور الوضع، وغضب شعبي قد ينعكس على مزيد من التدهور.


وقد بحثت في التجارب العالمية فوجدت جميع الأنظمة المستقرة تبحث عن التقدم والتطور من خلال الاعتماد على وجود قيادة قوية واضحة المعالم وليس العكس، ودعني أضرب لك بعض الأمثلة من بعض أقوى الأنظمة العالمية:

• في النظام الأمريكي على سبيل المثال، يتبدل ما يقارب من 12 ألف موظف حكومي أو يزيد عند حدوث تغيير في الحزب الحاكم، فكل حزب يأتي بالفريق المسئول عن تنفيذ سياسته.


• أما في بريطانيا فيختلف الوضع، فكلما استلم حزب جديد السلطة، يتغير الوزراء فقط، بينما يبقى المسئولون الآخرون كافة في مناصبهم، علاوة على ذلك، ومن أجل تجنب إغراءات الولاء أو الانحياز الحزبي، تختم سجلات الحكومة السابقة كافة، الأمر الذي يجعل من أمين عام الحكومة -وهو من كبار موظفي الدولة- منفذ وبنك معلومات وذاكرة الحكومة الجديدة، وحين ينتهك رئيس الوزراء الجديد اتفاقًا دوليًا سريًا دون قصد، فإن من مسئولية أمين عام الحكومة تحذيره والتفاوض مع رئيس الوزراء السابق حول كيفية جعل السجلات المعنية متاحة له، لاحظ هنا أن الوزراء يأتي بهم الحزب الحاكم أيضًا وإلا فلم يرشح الحزب نفسه في انتخابات إن لم تكن له رؤية واضحة يريد تطبيقها!

• حتى مؤسسة الرئاسة الأمريكية المزعومة فهي حقيقتها، تضمن عمل إداري منظم، ولكنه في النهاية تحت إدارة الرئيس المنتخب من الشعب، وليس عبارة عن هيئات محاصصة حزبية داخل المؤسسة، ودعني أوضح لك أكثر.


• مجلس الأمن القومي المصغر مكون من رئيس الولايات المتحدة ووزير خارجيته ووزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس المخابرات وبعض المناصب المؤثرة في أركان الدولة، وهو مختص باتخاذ القرارات العامة في الأمور الخطيرة، لاحظ هنا أن المجلس يرأسه الرئيس ويضم الأعضاء البارزين لاتخاذ قرار بشكل عاجل، وليس مجلسا يتم تشكيله بعيدًا عن الرئيس ويضم شخصيات لم يعينها!

• مجلس الأمن القومي المصغر مصمم بشكل أفضل لاتخاذ القرارات العامة، وليس لإدارة الأزمة على مستوى التفاصيل الصغيرة، ولهذا السبب أنشأ الرئيس (كينيدي) ما يسمى باللجنة التنفيذية لمجلس الأمن القومي خلال أزمة الصواريخ الكوبية، كما دفع إدارتي (نيكسون وفورد) إلى تدعيم المجلس بمجموعة العمل الخاصة في واشنطن، على مستوى نواب الوزراء.


• مجموعة واشنطن للأعمال الخاصة (WSAG): هي عبارة عن مجموعة لإدارة الأزمات تتألف من نواب وزير الدفاع، ومستشار الأمن القومي، ورئيس وكالة المخابرات المركزية (CIA)، ورئيس رئاسة الأركان المشتركة، وتجتمع هذه المجموعة في غرفة الطوارىء في قبو البيت الأبيض، وهي غرفة صغيرة مجهزة بطاولة مؤتمرات متوسطة الحجم وصف من الكراسي على امتداد الجدران المزودة بخرائط تناسب أية مناسبة. تجاور الغرفة مركز اتصالات البيت الأبيض الذي يسعه الوصول إلى أي مكان في العالم على الفور، ويستخدم المشاركون في اجتماعات غرفة الطوارىء هذه التسهيلات للتأكد من أي مسألة.


• برنامج الرئيس الأمريكي اليومي يبدأ بمناقشة تقرير المخابرات المركزية اليومي. فالمخابرات أيضًا تحت الرئيس.

• هل تريد مثالًا من ألمانيا: في ألمانيا الغربية سابقًا كان يوجد حزبين رئيسيين: الحزب الديمقراطي المسيحي، والحزب الديمقراطي الاجتماعي. وكان يوجد حزبا ثالثًا الحزب الديمقراطي الحر، نادرًا ما نال أكثر من 8% من الأصوات، ولكنه قد غدا عنصرًا هامًا لأي من الحزبين الكبيرين لامتلاك الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة، بعد ثلاثة انتخابات (خاضها الديمقراطي الحر) في تحالف مع (الاجتماعيين)، وجد أنه من الأهمية بمكان أن يغير من تحالفه وإلا لأصبح جزءًا غير مُنفصل عن الاجتماعيين ولن يكون له خط فاصل يميزه في الانتخابات، ولكن هذا الانتقال يسبب معضلة رئيسية: فإن حدث في وقت قريب جدًا من الانتخابات الأخيرة سوف يبدو مثيرًا للسخرية عن الحزب الذي غير لونه، وإن جاء قرب الانتخابات القادمة، فإن الاضطراب المصاحب للانتقال من جانب إلى آخر قد يلحق ضررًا مميتًا بالحزب الديمقراطي الحر، فكان أن تخلوا عن حليفهم عند حدوث أزمة سياسية لينضموا للجانب المقابل.


• الخلاصة هنا: أن هذه التحالفات لا يتم اللجوء إليها إلا في حالة الاضطرار، وإلا في وقت الأزمات سيسعى الجميع لأن يظهروا أبطالًا على حساب المصالح العامة.

• ذات مرة قال بومبيدو لكيسنجر: "إن ضعف ديستان باعتباره سياسيًا يتمثل في أنه يعطي استرضاء وتهدئة خصومه أولوية أعظم من توحيد وتمتين قاعدته السياسية، هذا النوع من السياسيين يخسر عادة". بومبيدو وديستان كلاهما رئيسين سابقين لفرنسا، أما كيسنجر فهو وزير خارجية أمريكا الأشهر.


ولذلك وقبل تشكيل الحكومة، أعلن بوضوح أن معيار الاختيار يجب أن يكون بناء على وضوح الرؤية والقدرة الإدارية بالإضافة إلى اتساق النهج السياسي، أما فكرة المحاصصة الحزبية فهي محض أوهام وخيالات سيفيق منها الكثير لاحقًا، ولا مجال عندي إلى الكلام لأنال تصفيق البعض حاليًا، ثم يصبون علي غضبهم ولعناتهم فيما بعد.

اللهم بلغت، اللهم فاشهد.


محمد نصر
مدير بإحدى شركات الاتصالات العالمية


 
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • 0
  • 1,670

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً