لماذا خسر الإسلاميون في ليبيا؟
التيار الإسلامي الليبي حديث عهد بتجربة ديمقراطية وانتخابية وليدة ولا بأس أن يتعلم من أخطاءه، وأن يرتب أوراقه وينظم صفوفه ويؤسس خطاباً إعلامياً وانتخابياً جديداً، ويعيد قراءة المشهد السياسي الليبي مرة أخرى بما يسمح له في تكوين قناعاته الخاصة وبرنامجه المتميز، دون استنساخ لتجارب الآخرين، ويتعرف على مواطن التأثير في مزاج الناخب الليبي.
الكـاتب: شريف عبد العزيز
نتيجة قد تبدو في نظر الكثيرين غير منطقية في بلد قاد ثورة الكفاح من أجل الحرية فيه مجموعات ثورية ذات توجه إسلامي عميق، وتحملوا العبء الأكبر في محاربة قوات الطاغية المقتول، ونالوا شرف فتح العاصمة، وشهد بشجاعتهم وبطولتهم الجميع، ولكن كل ذلك لم يشفع لهم، وخسروا خسارة مريرة في الانتخابات البرلمانية، ولكن عند التدقيق والنظر بشمولية وحيادية لسير الأحداث في هذا البلد تجد أن النتيجة منطقية وطبيعية وأيضاً متوقعة.
ففي ليبيا عُقدت أول انتخابات برلمانية منذ أكثر من أربعين سنة وهي مدة حكم المأفون الهالك (معمر القذافي) الذي فرّغ البلاد من كل مقومات الدولة الحديثة والعصرية، وقد توقع الكثيرون من المحللين والمراقبين تفوق التيار الإسلامي في الانتخابات؛ لأسباب عديدة منها تولي الإسلاميين قيادة الثورة ضد القذافي، والتدين الفطري للشعب الليبي الذي يُطلَق عليه بلد المليون حافظ لكتاب الله، ومنها تَلوُن دول الجوار باللون الإسلامي في مصر وتونس والمغرب والسودان.
وقد عقدت الانتخابات في ليبيا بنظام القوائم الحزبية ولها 40% من عدد المقاعد، ونظام الفردي المستقل ولهم 60% من عدد المقاعد، وكانت المفاجأة الكبيرة التي كشفت عنها النتائج شبه الرسمية بتقدم القائمة الحزبية التي يقودها محمود جبريل المحسوب على التيار العلماني والليبرالي بنسبة كبيرة عن حزب البناء والتنمية الذراع السياسي لحركة الإخوان المسلمين في ليبيا، ورغم عدم وجود نتائج نهائية إلا إن التفوق قد بات أمراً مؤكداً، هذا غير ما ستسفر عنه نتائج المقاعد الفردية.
وهذه النتائج المدهشة دفعت الكثيرين للتساؤل عن سر تراجع الإسلاميين في ليبيا عن نظرائهم في مصر وتونس والمغرب، بعد أن أوشك الهلال الإخواني على الاكتمال، فما الذي حدث في ليبيا؟ ولماذا تقدم العلمانيون في ليبيا وتأخر الإسلاميون؟ بالنظر لسير العملية الانتخابية وفعالياتها في الأيام الفائتة نستطيع أن نقول أن هناك العديد من الأسباب التي أدت في مجموعها لخسارة التيار الإسلامي ومن أهمها:
أولاً: ضعف الخبرة السياسية والانتخابية:
فالتيارات الإسلامية الليبية حديثة عهد بالسياسة والانتخابات، مثلهم مثل باقي الليبيين لم يعرفوا انتخابات لأكثر من نصف قرن، ولم يتمرسوا على إدارتها وخوضها، والتيار الإسلامي الليبي كان مضطهداً بشدة من الطاغية القذافي، أغلب نشاطاته تتم بسرية بالغة؛ خوفاً من تنكيل الطاغية، كما أن غالب التيار الإسلامي الليبي كان منتمياً للتيار الجهادي الذي لا يؤمن أصلاً بالعملية السياسية برمتها وخصوصاً الانتخابية منها، ومن ثم افتقد الإسلاميون في ليبيا لنفس خبرات إخوانهم المصريين والتونسيين وهي خبرات طويلة وعميقة.
وهذا الضعف جعل الإسلاميون في ليبيا لا يدركون دسائس الخصوم ولا ترتيب الأولويات ولا حسن العرض، وعلى الرغم من كون الحملة الانتخابية للبناء والتنمية كان الأفضل تنظيماً، ولكن التنظيم الإداري وحده لا يكفي إذا لم يكن معه التخطيط والإعداد الجيد، مما جعل الحملة الانتخابية للإسلاميين هناك تنساق في معارك جانبية مفتعلة من أجل التشويش والتشويه المتعمد لصورة الإسلاميين هناك.
ثانياً: شخصية (محمود جبريل):
محمود جبريل شخص شديد الدهاء والخطورة، حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1975، وحاصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة بتسبيرج بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة عام 1980، وحصل على الدكتوراه في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار من نفس الجامعة عام 1984، حيث عمل فيها أستاذاً للتخطيط الاستراتيجي عدة سنوات، وصدر له عشرة كتب في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار، وقاد الفريق العربي الذي صمم وأعد دليل التدريب العربي الموحد، وقام بتنظيم وإدارة أول وثاني مؤتمر للتدريب في العالم العربي عام 1987 و1988، ثم تولى بعد ذلك تنظيم وإدارة العديد من برامج التدريب لقيادات الإدارة العليا في عدد من الدول العربية منها مصر والسعودية وليبيا والإمارات العربية والكويت والأردن والبحرين والمغرب وتونس وتركيا وبريطانيا.
فهو سياسي محنك وخبير عالمي في التخطيط الاستراتيجي والإدارة، وعمل لفترة طويلة في النظام القذافي، ويعلم دهاليز السياسة الليبية ومواطن التأثير، وكان لانضمامه للثورة مبكراً، ثم اشتغاله في رئاسة المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي فرصة سانحة للتجول في دول العالم والتحدث مع الزعماء والقادة من أجل حشد الدعم الخارجي، كل ذلك كان له أكبر الأثر في تنامي شعبيته داخلياً وخارجياً، كما أنه وجه أيضاً مقبول عند فلول النظام القديم بسبب علاقاته وارتباطاته مع العديد من رموزهم.
ومن شدة دهاء محمود جبريل أنه قد استطاع تفادي الهجوم الشرس الذي شنه عليه مفتي الديار الليبية الشيخ (الغرياني) وكذلك الدكتور (الصلابي) وكلاهما قد شن هجوماً كاسحاً على جبريل وتحالفه، وأفتى الشيخ الغرياني بحرمة انتخاب الأحزاب العلمانية، استطاع جبريل تفادي هذا الهجوم الذي كان كفيلاً بإنهاء الطموح السياسي لجبريل عن طريق تقديم نفسه على أنه حزب وطني وليس علمانياً أو ليبرالياً، فأعلن عن احترامه للشريعة ووجوب أن تكون المصدر الرئيسي للتشريع، وتعهد حال فوزه بإغلاق محال الخمور والمراقص، مما جعل كثير من الليبيين لا يؤمن بفكرة ليبرالية جبريل وعلمانيته والتي على أساسها بنى الإسلاميون هجومهم عليه، وفي المقابل افتقد التيار الإسلامي الليبي للشخص البارز والقائد الملهم الذي يلتف الناس حوله ويؤجج مشاعرهم ويقنعهم بالخطاب الإسلامي.
ثالثاً: القبلية:
ففي ليبيا ما زال صوت القبلية مرتفعاً وله أنصاره ووجاهته عند الليبيين، وقد رأينا كيف أن القبلية الآن تدفع بالبلاد نحو الفيدرالية والانقسام والتناحر، وما جرى في واحة الكفرة وشرق البلاد خير دليل على أثر القبلية في العقلية الليبية، هذه القبلية أعاقت كثيراً عمل التيار الإسلامي في ليبيا؛ لأنه كما قلنا حديث عهد بسياسة ولم يأخذ وقته الكافي في التعامل مع القبلية وتوظيفها والاستفادة منها كما هو الحال بالنسبة لخصمه جبريل الذي لعب على الأحلاف ومساندة القبائل الموالية للقذافي في غرب البلاد حيث الكتل التصويتية الكبيرة، في الوقت الذي قاطع الكثيرون في الشرق الانتخابات، وكما هو معروف الشرق كان معدن الثورة ومنبعها، والغرب كان موالياً لفترة طويلة للقذافي، مما جعل ذلك كله يصب لصالح محمود جبريل وتحالفه الانتخابي.
رابعاً: الطبيعة الدينية للشعب الليبي:
الشعب الليبي شعب بسيط يغلب عليه التدين الفطري، وأغلبه لم يتلوث بعلائق الحضارة الحديثة ولم يعرف فنون اللذة والانغماس في الشهوات، فهو شعب المليون حافظ لكتاب الله، والطاغية القذافي نفسه رغم ضلالاته وكفرياته المعروفة عنه إلا أنه كان حريصاً على الظهور كزعيم للمسلمين، وقد تلقب بخليفة المسلمين، وكان حريصاً على حضور المناسبات الدينية والظهور في الصلوات بل وإمامة الناس أحياناً، والليبيون لم يثوروا عليه بسبب ضلالاته وكفرياته التي لا يعرفها معظم الليبيين ولكن ثاروا عليه بسبب ظلمه وطغيانه واستبداده ونهبه لخيرات البلاد.
لذلك التيار الإسلامي عندما أراد أن يقدم نفسه لليبيين لم يجد شيئاً إضافياً يقدمه لهم، ووقع في خطأ فادح وهو إصراره على تقديم نفس الخطاب الانتخابي في مصر وتونس، والأوضاع داخل البلدين الشقيقين يختلف بالكلية، ففي مصر وتونس كانت الحرب على الإسلام في أشد وأقسى صورها، وكان الإسلام والمسلمين مستهدفين بصورة لا يتصورها عقل، وهناك مصادمات مروعة للدين في كلا البلدين، وهذا الاستنساخ أضر بالتيار الإسلامي الليبي، بل سبب حالة من النفور لدى عامة الشعب الليبي من هذا الطرح الفوقي الذي أصر على تمريره التيار الإسلامي هناك، وهذا خطأ تكتيكي بالغ دفع الإسلاميون ثمنه باهظاً.
التيار الإسلامي الليبي حديث عهد بتجربة ديمقراطية وانتخابية وليدة ولا بأس أن يتعلم من أخطاءه، وأن يرتب أوراقه وينظم صفوفه ويؤسس خطاباً إعلامياً وانتخابياً جديداً، ويعيد قراءة المشهد السياسي الليبي مرة أخرى بما يسمح له في تكوين قناعاته الخاصة وبرنامجه المتميز، دون استنساخ لتجارب الآخرين، ويتعرف على مواطن التأثير في مزاج الناخب الليبي.
وإن كان جبريل وحلفه قد نجح هذه المرة بسبب خبرته السياسية وتحالفه مع فلول القذافي وغياب الخصم القوي الذي ينافسه، فإن التيار الإسلامي الليبي قادر بمشيئة الله على تجاوز أخطائه وتدارك آثار هذه التجربة، والنجاح في الانتخابات القادمة.