شهر الصيام
أيها المؤمنون: إن الكيّس العاقل من عرف شرف مواسم الرحمات ورغب فيها إلى الله تعالى بالباقيات الصالحات. فشهر رمضان نوّع الله فيه للمؤمنين سبل الطاعة وخصال الإيمان؛ فمن أجل الطاعات في هذا الشهر المبارك الصيام إيماناً بالله تعالى واحتساباً للأجر عنده ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل مواسم الخيرات نزلاً للأبرار، ونوع برحمته لعباده سبل البر وطرائق الإحسان. أحمده على عظيم الفضل وواسع الإنعام أنعم بما لا يحصيه حساب ولا يسعه كتاب، له الحمد كله أوله وآخره ظاهره وباطنه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ذو الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إلى عامة الورى وكافة الأنام، صلى الله عليه وعلى أزواجه وعلى أصحابه وأتباعه على ملته وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس بتقوى الله تعالى في السر والعلن فالتقوى أحصن جنة يعتصم بها الخائفون، وأوثق عروة يستمسك بها المتمسكون. فطوبى للمتقين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً . حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً . وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً . وَكَأْساً دِهَاقاً . لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً . جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ: 31- 36].
أيها المؤمنون: عباد الله الغنيمة الغنيمة، البدار البدار قبل فوات الأوان؛ ففي هذا الشهر المبارك شهر رمضان أبواب الجنة مفتحة، وأبواب الجحيم مغلقة، والشياطين مسلسلة، والمنادي ينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة من ليالي هذا الشهر المبارك. فاستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى الطاعات، وإياكم والبخل فمن يبخل فإنما يبخل عن نفسه؛ ففاعل الخير غانم، وتارك الشر سالم.
أيها المؤمنون: إن الكيّس العاقل من عرف شرف مواسم الرحمات ورغب فيها إلى الله تعالى بالباقيات الصالحات. فشهر رمضان نوّع الله فيه للمؤمنين سبل الطاعة وخصال الإيمان؛ فمن أجل الطاعات في هذا الشهر المبارك الصيام إيماناً بالله تعالى واحتساباً للأجر عنده ففي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [1]. فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.
عباد الله: إن من أبواب الخير في هذا الشهر المبارك قيام ليله احتساباً ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [2]. فطوبى لمن هو قائم آناء الليل ساجداً وراكعاً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قلوب خاشعة وأعين دامعة وألسن بذكر الله وتلاوة كلامه لاهجة {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.
أيها المؤمنون: إنه من سبل البر والإحسـان في شهر رمضان قيام ليلة القـدر {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ليلة القدر} [القدر: 2- 5]. ليلة عتق ومباهاة وقربة ومناجاة يفرق فيها كل أمر حكيم.
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [3]. فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.
أيها الأخوة المسلمون: ألا وإن من بوابات البر الكبرى التي ازدان بها هذا الشهر كثرة قراءة القرآن الكريم فهذا شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 195]، فاستكثروا عباد الله من تلاوته وتدبره وسماعه والاهتداء بنوره: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
ومن المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يختم القرآن في رمضان ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: «كان جبريل يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة فعرض مرتين في العام الذي قبض فيه» [4].
لكن انتبه يا عبد الله لم يكن ذلك هذّاً كهذ الشعر ولا نثراً كنثر الدقل؛ بل وقوفاً عند عجائبه وتدبراً لآياته {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.
معاشر المسلمين: إن من أبرز سمات شهر رمضان الإحسان قولاً وفعلاً، جوداً وبراً وكرماً فالنفوس زاكية بالصيام والقيام وقراءة القرآن فإن الحسنات من الأعمال يذهبن السيئات ومن جزاء الحسنة الحسنة بعدها؛ روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة» [5].
فأحسنوا عباد الله إن الله يحب المحسنين؛ أحسنوا في طاعة الله، وأحسنوا ببذل ما تحبون فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وإياكم والبخل والشح ووساوس الشيطان {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} يمنعكم من البر والإحسان {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]. فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.
عباد الله: إن من أبواب الطاعة في هذا الموسم الكريم قصد البيت العتيق بالعمرة فإن العمرة في رمضان تعدل حجة، فالحمد لله عظيم الإحسان يعطي على القليل الأجر العظيم. إلا أنه ليس من البر والإحسان إضاعة الواجبات في سبيل فعل المسنونات والمستحبات فإن من الناس من يشغل ذمته بالديون أو يضيع البنات والبنين ليجاور في مكة أو طيبة وليس هذا من الإحسان؛ بل الإحسان فعل الواجبات وفقه مراتب العبادات والمسابقة إلى الخيرات. فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.
أيها المؤمنون: إن من طرائق التقوى في هذا الموسم الكريم ما داوم عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من اعتكاف العشر الأخير من هذا الشهر ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأخير من رمضان. والاعتكاف أيها الناس لزوم بيت من بيوت الله طاعة لله ورغبة في الدار الآخرة، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.
فطوبى لمن كانت التقوى بضاعته في شهره وبحبل الله معتصما. اللهم أعنا على الطاعة والإحسان ووفقنا إلى ما تحب وترضى من الأقوال والأعمال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]. فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
أيها المسلمون: إن من أوسع الطرق الموصلة إلى الله تعالى وأقصرها في هذا الشهر وفي بقية العمر دعاء الله تعالى وسؤاله وإنزال الحوائج به فـ«الدعاء هو العبادة» [6]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. وفي الحديث: «من لم يسأل الله يغضب عليه» [7].
فأكثروا أيها المسلمون سؤال الله ودعاءه في الشدة والرخاء في السراء والضراء اسألوه من خير الدنيا والآخرة {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]. تحروا مواطن الإجابة فإن للصائم دعوة مستجابة و أرجى ما تكون عند فطره، وفي كل ليلة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه وذلك كل ليلة، وفي آيات الصيام قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
فادعوا الله بقلوب خاشعة منكسرة ذليلة مُلحة؛ سلوا الله كل شيء؛ سلوه الدقيق والجليل؛ فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. واعلموا أن خير ما تسألونه الله تعالى في الدنيا والآخرة الهداية {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]. فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
أيها المؤمنون هذه أبواب الخير مشرعة، وسبله ممهدة، فاستبقوا الخيرات قبل فواتها.
اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى.
----------------------------------------
[1] البخاري (38)، ومسلم (760).
[2] البخاري (37)، ومسلم (759).
[3] البخاري (1901)، ومسلم (760).
[4] البخاري (4998)، مسلم (2450).
[5] البخاري (6)، ومسلم (2308).
[6] أخرجه: أحمد (17888)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828) كلهم من طريق الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير، وتابع الأعمش منصور بن المعتمر عند الترمذي (3247) وأبي داود (1479) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.
[7] أخرجه: الترمذي (3373) من طريق قتيبة قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة ومداره على أبي صالح هذا فقد اختلف في نسبته فظن ابن كثير أنه أبو صالح السمان، قال الحافظ في الفتح: "وليس كما قال فقد جزم شيخه المزي في الأطراف بما قلته" أي: إنه أبو صالح الخوزي وهو مختلف فيه فضعفه ابن معين وقال أبوزرعة: لا بأس به، وهو حسن لشواهده ولكون الضعف هنا محتملاً، وحسنه الألباني.
خالد بن عبد الله المصلح
محاضر في قسم الفقه في كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم
- التصنيف: