أخطاء لغوية في ضبط ألفاظ السنة النبوية

منذ 2005-03-09
أجمع العربُ قديمًا وحديثًا على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أفصحُ من نطق بالضَّاد، وأنه أُوتيَ جوامعَ الكَلِم، وأن كلامَه أبلغُ كلامٍ بعد كلام الله المعجِز؛ القرآن الكريم. ومن هنا كانت سنَّته القَوليَّة مصدرًا رئيسًا من مصادر العربيَّة، وميزانًا دقيقًا للفَصيح من القَول، ومثالاً يُحْتَذى لطالب البيان وناشِد التبيين.

وإن تعجَبْ فعَجَبٌ أن يتطرَّقَ اللحنُ والخَطَلُ إلى أحاديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، على ألسنتنا وأقلامنا؛ لأنها - على ما ألْمَعْنا - ميزانٌ، وإذا اختلَّ الميزان وقعَ من الفساد ما يَهول.

فالحِرصُ على أداء ألفاظ السنَّة النبويَّة على الوَجْه الصحيح الذي انتهَت به إلينا واجبٌ شرعيٌّ وعلميٌّ، لا يُقبَل التهاونُ به بحال.

ومما يلحَنون فيه - كتابةً ونُطقًا - من حديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم-:

قولُه في الحثِّ على إكرام الزوجة وحُسن عِشرتها: « لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ » [ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ]، فيَضبِطونَه: (يفرُك) بضم الراء، وهو خطأٌ مُفسِد للمعنى، والصَّواب في ضبطه: (يَفْرَك) بفتح الراء، ومعناه: يُبْغِض، يقال: فَرِكَ الرجلُ امرأتَه يَفْرَكُها: إذا أبغَضَها. وأكثرُ ما يُستعمَل هذا الفعلُ في بِغْضَة الزوجين، أي: بُغْض الرجل زوجتَه، أو بُغْضها إياه. وأما (يَفْرُك) فمعناه: يدلُك ويَحُتُّ، يقال: فَرَكَ الرجلُ السنبلَ والثوبَ ونحوَهما يَفْرُكُه: إذا دَلَكَه وحَتَّه بيده.

ومن ذلك أيضًا: ما يقعُ في ضبط الحديث: « الحبَّةُ السوداءُ شِفاءٌ من كلِّ داءٍ إلا السَّامَ » [ متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة ]، فيَضبِطونه: (إلا السَّامَّ) بتشديد الميم؛ ظنًّا منهم أن المُرادَ بها: ما فيه السَّمُّ، وجذرَها (س م م)، وليس بذاك، والصَّواب فيها أنها مخفَّفةُ الميم، أي: (إلا السَّامَ) وهو: الموت، من الجذر (س و م)، والألفُ فيها منقلبةٌ عن واو.

ومما يلحَن فيه بعض الناس ويُخطِئون في ضَبطه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

قولُه مبيِّنًا أن الله سبحانه قد كتب لكلِّ مخلوق أجلاً، وقدَّر له رزقًا، وما على العبد إلا أن يسعى لتحصيل الرِّزق من الطُّرق الحلال، قال - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوْعي؛ أن نَفْسًا لن تموتَ حتى تَسْتكمِلَ رزقَها؛ فاتَّقوا الله، وأَجْمِلوا في الطَّلَب » [ أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، والبيهقي في شُعَب الإيمان، من حديث ابن مسعود ]، فيَضبِطونَه: (في رَوْعي) بفتح الراء، وهو ضبطٌ مفسدٌ للمعنى، والصواب: ضمُّ الراء ( في رُوْعي )؛ لأن الرُّوْع هو: القلبُ والنفْسُ، والذِّهنُ والعَقلُ. والمراد: أن رُوحَ القُدُس - وهو: جبريلُ عليه السلام - نَفَثَ، أي: نفخَ - وَحْيًا وإلهامًا - في قلب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونفْسِه بالأمر المذكور.

وأما الرَّوْع بالفتح فهو: الفَزَعُ والخَوفُ، وهو غيرُ مرادٍ هنا.

ومن ذلك أيضًا: قولُه - صلى الله عليه وسلم -في بيان أهميَّة الدعوة إلى الله، وعِظَم أجر من يَهدي اللهُ به الشاردينَ الضالِّين، مخاطبًا خَتَنَه (زوج ابنته) وابنَ عمِّه عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه: « فَوَاللهِ، لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رجُلاً واحِدًا خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ » [ متفقٌ عليه من حديث سهل بن سعد ]، فيَضبِطونَه: (النِّعَم) بكسر النون؛ لتوهُّمِهم أنها جمعُ نِعْمَة، والحقُّ أنها (النَّعَم) بفتح النون، وهو جمعٌ لا واحدَ له من لفظِه، يُطلَق على جماعة الإبِلِ والبَقَر والغَنَم، وأكثرُ ما يُطلَق على الإبِلِ خاصَّة، والمراد بحُمْر النَّعَم: كرائمُها وخِيارُها، قال الفيُّومي: وهو مَثَلٌ في كلِّ نفيس (( المصباح المنير )) ( ح م ر ). والعربُ تقول: خيرُ الإبِلِ حُمْرُها وصُهْبُها ( الناقة الصَّهْباء هي: الشَّقْراء أو الحَمْراء ).

إذا اعترضَت طريقَ العبد عَقَبةٌ كَؤودٌ، أو استَعصى عليه أمرٌ من أمور الدُّنيا، فسبيلُه الصَّبرُ والالتجاءُ إلى الله بالدعاء، وقد علَّمَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم- دعاءً تُذلَّل به الصِّعابُ، وتيسَّر به المشاقُّ، وهو قوله: « اللهُمَّ لا سَهْلَ إلا ما جَعَلتَهُ سَهْلاً، وأنت تَجعَلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سَهْلاً » [ أخرجه ابن حبان من حديث أنس ]، فالله وَحدَه القادرُ على تَفريج الكُروب، وتيسير العَسير. والحَزْنُ ( بفتح الحاء، وسكون الزاي ): ما غَلُظَ من الأرض وخَشُنَ وارتَفَع. ومعناهُ في هذا الحديث: كلُّ أمر شاقٍّ وَعْر مُتَصَعِّب، وهو عكسُ السَّهْل الهيِّن.

وما أكثرَ ما يُخطئ الخطباءُ والكَتَبَةُ فيضبطونها: الحَزَن ( بفتح الحاء والزاي )، فيُحيلون المعنى عن وجهه المراد؛ لأن الحَزَن كالحُزْن، وهو: الهَمُّ والغَمُّ، ومنه قوله تعالى: { الحَمدُ لله الَّذي أذْهَبَ عنَّا الحَزَن } [فاطر:34 ].

ومما يقعُ الوَهَمُ في ضبطه من حديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: قولُه: « مَطْلُ الغَنيِّ ظُلمٌ » [ متفق عليه من حديث أبي هريرة ]، فيقولون: مُطْل ( بضم الميم )، والصواب: مَطْل ( بفتحها )، والمَطْلُ: هو تأجيلُ مَوعِد الوَفاء بالحقِّ وتَسويفُه مرَّة بعد أُخرى. وقد عدَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -فاعلَ ذلك - مع قُدرته على أداء الحقِّ ( من دَيْن، أو أُجْرة، أو مُكافَأة ... ) - ظالمًا، وقد حرَّم الله سبحانه الظُّلمَ على نفسه، وجعَلَه بين الناس مُحرَّمًا، فيا لسوء عاقبة الظَّلَمة من الأثرياء المُوسِرين الذين يَمطُلونَ عمَّالهم وموظَّفيهم حقوقَهم !!

ومنه أيضًا: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: « لا رُقْيَةَ إلاَّ مِن عَينٍ أو حُمَة » [ أخرجه أحمد من حديث عِمرانَ بن حُصَين ] فيضبطونها: حُمَّة ( بتشديد الميم )، والحُمَّةُ والحُمَّى بمعنًى واحد، وهو: ارتفاعُ حرارة الجسم من مَرَضٍ وعِلَّة [ من الجذر (ح م م) ]، وليس هذا المرادَ في حديثنا، والصوابُ فيها: تخفيفُ الميم، حُمَة [ من الجذر (ح م ي) ]، وهي: سَمُّ كلِّ ما يَلدَغُ ويَلسَعُ، وتُطلَق أيضًا على الإبْرَة التي بها يُلدَغ ويُلسَع.

تقدَّم في الحَلَقات السابقة التنبيهُ على مجموعة من الأخطاء والأوهام التي تقعُ في ضبط بعض ألفاظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّنَّا خطورةَ الخطأ فيها، وما قد يترتَّب على ذلك من خَلط في المعنى وفساد.

لم يدَعْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من حقٍّ وخيرٍ إلا وهَدانا إليه ورغَّبَنا فيه، ولم يَترُك من باطلٍ وشرٍّ إلا ونَهانا عنه وحذَّرَنا منه.

ومن الخير الذي حثَّنا عليه: بناءُ المساجدِ وتشييدُها؛ لِما أعدَّ الله سبحانَه لبانيها من الأجر العَظيم والثَّواب الجَزيل في الآخرَة، قال - صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ بَنى للهِ مَسْجِدًا، ولو كمَفْحَص قَطاةٍ لِبَيْضِها، بَنى اللهُ له بيتًا في الجنَّة » [ أخرجه أحمد من حديث ابن عباس ].

ومعنى ( مَفْحَص القَطاة ): المكانُ الذي تَبيضُ فيه القَطاةُ وتُفَرِّخ. والقَطاةُ: نوعٌ من الحمام يُضرَب به المثلُ في الاهتِداء. يُقال: فَحَصَت القَطاةُ فَحْصًا: حَفَرَت في الأرض مَوضِعًا تَبيضُ فيه، واسمُ ذلك الموضِع: ( مَفْحَص ) بفتح الميم والحاء، وجَمعُه: مَفاحِص.

وخُصَّت القَطاةُ بهذا: لأنَّها لا تبيضُ في شجَر، ولا على رأس جبَل، إنما تجعَلُ مَجْثِمَها على بَسيط الأرض، دون سائر الطَّير.

هذا وقد حَمَل أكثرُ العلماء قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: « ولو كمَفْحَص قَطاة » على أنه تمثيلٌ على جهَة المبالغَة؛ لأن مِقدارَ مَفْحَص القَطاة لا يكفي للصَّلاة فيه، ويُمكن أن يُحملَ على أنه حَضٌّ على التعاون والتعاضُد في بناء بُيوت الله، وبَيانٌ لعِظَم الأجر على ذلك، حتى لو كانَ نصيبُ الفَرد المشترِك صغيرًا كمَفْحَص القَطاة.

ويخطئُ بعضُ الكتَّاب والخُطَباء فيَضبطونها: ( مِفْحَص ) بكسر الميم، بوزن ( مِفْعَل )، والصَّواب أنها كما تقدم: بفتح الميم ( مَفْحَص )، بوزن ( مَفْعَل )؛ لأنها اسمُ مكانٍ من الفعل الثلاثيِّ: فَحَصَ، ومضارعُه: يَفحَصُ ( مفتوح العين )، وما كان كذلكَ فإن اسم المكان منه يُصاغُ على وزن مَفْعَل.

أما ( مِفْعَل ): فوزنٌ من أوزان اسم الآلَة، ومنه: مِبْرَد، ومِقْوَد، ومِنْجَل، ومِقَصّ.

المصدر: موقع الإسلام اليوم
  • 8
  • 0
  • 26,690
  • د. عبد الرحمان بودرع

      منذ
    [[أعجبني:]] للمرة الثالثة أكتب إليكم متسائلا عن تعليقين كنت بعثت بهما في وقت سابق إلى موقعكم المحترَم و لم أتوصل بأي جواب و لم ينشر ، و لم يُرَدَّ عليّ بأي رد فأرجو أن أعرف السبب و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
  • د. عبد الرحمان بودرع

      منذ
    [[أعجبني:]] بسم الله الرحمن الرحيم سبق لي أن بعثت إلى أخوتكم بتعليق أول ثم بتعليق ثان و لحدّ الساعة لم أتلقَّ أيَّ جواب و لا تأكيد بتوصلكم بالتعليقين و لا شيء فالمرجو ألا تهملوا ذلك و لكم الشكر و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته د. عبد الرحمان بودرع
  • د. عبد الرحمان بودرع

      منذ
    [[أعجبني:]] سبق لي أن كتبت تعليقاأبديت فيه ثنائي على الموضوع و استحساني لاختياره ؛ لأنه موضوع الساعة ، و لأنه يتعلق بصحة أداء نصوص الحديث أداء سليما ... و أحب أن أضيف شيئا آخر ، و هو طلبي من صاحب المقالة الأستاذ أيمن بن أحمد ذو الغنى حفظه الله أن يزيد في جمع الأحاديث التي يخطئ الناس في النطق بها ، حتى يؤلِّفَ مجموعا يستحق أن ينشر في كتيب ،ينتفع به الناس ، و يترسخ تقليد محمود طريقة تعامل الناس مع الأحاديث النبوية ، و هو الحرص على الأداء السليم صوتا و صرفا و نحوا ... و جزاكم الله خيرا أخوكم عبد الرحمان بودرع
  • د. عبد الرحمان بودرع

      منذ
    [[أعجبني:]] أعجبني في المقالة تنبيه صاحبها جزاه الله خيرا على صفة من الصفات الشائعة في قراءة الأحاديث النبوية في هذا الزمان ، ألا و هي صفة اللّحن في ضبط ألفاظ الحديث ، و افتقار قراء الحديث و الناطقين به إلى أدوات و وسائل للقراءة الصحيحة ، بل نجد الدّاء متفشيا على ألسنة كثير من الخطباء و الوعاظ فوق المنابر ، و الناس يتلقفون منهمالأحاديث و يحفظونها بما فيها من أخطاء كما سمعوها. و أحب أن يزداد هذا الموضوع الكريم تفصيلا ، و ذلك بتعقب الأحاديث التي يكثر لحن الناس في النطق بها ، و يكون هذا الحديث المفصل عن الأحاديث المذكورة ، موزعا على حلقات على هذا الموقع الكريم ، و جزاكم الله خيرا . أخوكم عبد الرحمان بودرع [[لم يعجبني:]] لا عيب فيه غير أنّه قصير الحجم ، و هذا أصلا ليس بعيب لأنه إثارة للإشكال
  • محمد

      منذ
    [[أعجبني:]] اعجبني اهتمامكم الكبير والمبارك يسلسلة اشرطة الالباني؛لالني احب هذا الشيخ كثيرا.

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً