أزمة سيناء
إن ما حدث في سيناء قد لا يكون بضاعة "إسرائيلية"، ولكنها سلعة رائجة لها على أي حال، وعلى الجانب المصري أن يتحرك سريعًا ويستغل تلك الحادثة الأليمة في لملمة شتات الرؤية الأمنية المصرية، وإعادة سيطرة الأفرع الأمنية على مفاصل شبه الجزيرة.
حادث سيناء المأساوي الذي أسفر عن استشهاد وجرح العشرات من القوات المصرية يؤكد من جديد على خطورة شبه جزيرة سيناء كمنطقة أزمة للدولة المصرية، فبقدر قيمتها من الناحية الاستراتيجية إلا أنها تعد معبرًا لكل الشرور، ووضعها في اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني وسيطرة مصر الهشة عليها يجعلها مرتعًا لعدد من الأجهزة الاستخبارية والفصائل والتيارات المسلحة من الشرق والغرب، كما أنها تعاني من مشكلات أخرى غير المشكلات الأمنية، من مشكلات هوية ومشكلات ديموجرافية وتنموية، تجعلها دائمًا بمثابة فوهة بركان للدولة المصرية.
إن مصر اليوم تدفع ثمن سنوات الفشل المصري في حقبة مبارك الذي كان دائمًا ما يستخدم الحلول الأمنية للمشكلات السياسية، وكان يميل دائمًا باتجاه الولايات المتحدة و"إسرائيل" في التعامل مع أبناء الوطن المصري في سيناء ومع أبناء غزة المحاصرين، مما ضاعف من المشكلات والمعاناة والمظالم التي تراكمت لعقود بين ضفتي سيناء التي أريقت على أرضها أزكى الدماء في حروب مصر منذ التتار وحتى بني صهيون.
ومنذ كامب ديفيد بعد أن ذهب السادات منفردًا إلى "إسرائيل" متخليًا عن الدعم الشعبي والعربي وسيناء ريشة في مهب الريح: تميل شرقًا أكثر ما تميل إلى الداخل المصري، يرتع فيها بنو صهيون بدون تأشيرة دخول، نفَّذ فيها الموساد العديد من العمليات ضد أبناء الجيش المصري حتى بعد معاهدة السلام، أصبحت منتجعات سياحية لكبار الفاسدين الذين استفادوا من دماء المصريين ليشيدوا نواديهم المحرمة على المصريين، أصبحت معبرًا لصفقات غاز مشبوهة لم تمر على الشعب المصري ولكن مرت فوق إرادته ومصالحه، ينعم بها القطط السمان الذين تربوا في عهد مبارك في ظل فساده وفساد أتباعه وأولاده الذين احتلوا الأرض التي قاتل آباؤنا من أجل استرجاعها في واحدة من أعظم ملاحم القرن العشرين.
فبعد كامب ديفيد كانت الكلمة الأمريكية هي العليا في شبه جزيرة سيناء، هي التي ترسم خطط الأسوار العازلة وأماكن المراقبة الأمنية، كانت الترتيبات الأمنية تتم بين الطرفين "الإسرائيلي" والأمريكي ويتم إبلاغ المصريين بها، كانت يتم التنسيق الأمني حتى في المسارات البحرية باتفاقات أمريكية "إسرائيلية" متخطية الدولة المصرية بعد أن سلمت مفاتيحها إلى الولايات المتحدة مقايضة بأمن النظام الذي لم يحظ لا بالأمن ولا بالكرامة وسقط غير مأسوف عليه.
لقد كانت اليد الباطشة للدولة المصرية هي التي تسحق بدو سيناء وتقوم باعتقالهم وإهانتهم لكي لا يُفزع منظرهم السائحين من الشرق والغرب، أهينوا وأذلُّوا واعتقلوا وتراكمت المظالم عقدًا بعد عقد، إن أبعاد جريمة اليوم في سيناء تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلى كامب ديفيد، التي لا يزال المصريون يدفعون ثمنها حتى اليوم، بل ويدفع ثمنها أيضًا الفلسطينيون، مما أدى إلى تراكم مشاعر الظلم والضيم على ضفتي الحدود، بعد أن كان النظام السابق بقيادة جنراله عمر سليمان يقوم بسحق عظام الفلسطينيين ويغلق عليهم أتون غزة فيما تقوم "إسرائيل" بحرقهم تحت سمع وبصر العالم، وهو ماغذَّى مشاعر الحنق والغضب بين الصالحين والطالحين على حد سواء.
ما حدث في سيناء اليوم يؤكد على الضرورة الملحة لوضع شبه الجزيرة على رأس أولويات صانع القرار المصري في أعلى مستوياته، فما حدث يؤكد أن الكيان الصهيوني كان على علم بما يحدث على ضفتي الحدود بدليل إصداره تحذيرًا بخروج "الإسرائيليين" على الفور من سيناء، وكذلك تأهُّبه على حدوده واستهدافه للمدرعة المسروقة فور اجتيازها للمنطقة الحدودية بمروحية كانت فيما يبدو في الموعد والمكان، فالكيان الصهيوني منذ زمن يهدف إلى نشر الفوضى إلى سيناء واعتبارها منطقة غير آمنة من أجل الاستفادة من ذلك إعلاميًّا وأمنيًّا، فالتوترات في شبه الجزيرة تصب في صالحه من الناحية الاستراتيجية، وتضعف من صورة الجيش المصري والنظام الحاكم بالمجمل.
فالكيان الصهيوني في حقبة الربيع العربي أسمى أمنياته هو انتشار الفوضى ولكن بعيدًا عن ساحته، بتصديرها تارة وبالنفخ في أوارها تارة أخرى، وانشغال مصر بمشكلاتها الداخلية لكي لا تقف على قدميها، لاسيما في ظل سيطرة إسلامية على مفاصل البلاد، وهو ما ينذر بمواجهة حتمية بين الجانبين تسعى "إسرائيل" إلى تأجيلها قدر ما تستطيع من أجل استغلال الفوضى في إضعاف أركان الدولة المصرية، مثلما كانت تلك استراتيجيتها بعد حرب يونيو 1967، عندما كانت توجه ضربات إجهاضية للدولة المصرية في حرب الاستنزاف وضرب العمق المصري بين تارة وأخرى، ومنعه من الوقوف على قدميه.
إن ما حدث في سيناء قد لا يكون بضاعة "إسرائيلية"، ولكنها سلعة رائجة لها على أي حال، وعلى الجانب المصري أن يتحرك سريعًا ويستغل تلك الحادثة الأليمة في لملمة شتات الرؤية الأمنية المصرية، وإعادة سيطرة الأفرع الأمنية على مفاصل شبه الجزيرة، ومعالجة أخطاء الماضي وعثرات النظام السابق، ومخاطبة المشكلات الأمنية والديموجرافية ومشكلات الهوية لدى أبناء سيناء وامتدادهم في غزة، ومعالجة الأفكار المنحرفة التي توجه سهامها إلى نحر أبناء الوطن المصري المرابطين على الحدود، وإعادة بسط مظلة الدولة المصرية مرة ثانية على سيناء، ليس من الناحية الأمنية فقط، ولكن بكافة أركان قوتها الناعمة من أجل إعادة دمج أبناء سيناء وربطهم بالوطن الآمن، وتقديم قضية قوية وعادلة عن موقف الدولة المصرية في حقبة ما بعد الثورة، وأنها لن تستخدم الظلم كهراوة لتحقيق أمن النظام أو أمن مالكي المنتجعات السياحية المجاورة.
وعلى الأحزاب الإسلامية أن يكون لها الدور الأكبر في تلك الأزمة، فهي فرصة مواتية لنبذ الأفكار الضالة والمنحرفة وترسيخ مفاهيم احترام الدولة المصرية في حقبة ما بعد الثورة، والتي تحرم الهجمات الغادرة على أبناء الوطن بعد أن عاد إلى أبنائه مرة أخرى؛ فلا أحد اليوم يختطف الوطن لكي يتم الانتقام من خاطفيه، وكل القنوات مفتوحة اليوم لمخاطبة مظالم ومشكلات أبناء الوطن، وكذلك امتداده في غزة بما تحويه من مشكلات، وهي أيضًا فرصة للأحزاب الإسلامية لسد أفواه صائدي الماء العكر الذين لا يرون مناسبة إلا للصراخ والعويل من "اختطاف" الإسلاميين للمشهد السياسي وهيمنتهم على الحياة السياسية، وكل حادثة يرون فيها فرصة سانحة للانقضاض.
كما أن تلك الحادثة على فجاعتها تمثل أيضًا فرصة مواتية لتذويب الجليد ما بين الأحزاب الإسلامية وما بين الأجهزة السيادية المصرية، فالمصائب تجمع المصابين، ولعل تلك الحادثة على فداحتها أن ترسم مسارًا أفضل لأمن سيناء ولإعادة رسم محددات السيادة المصرية داخليًّا وخارجيًّا، ولكن على الجانب الآخر فبقدر ما هي تمثل فرصة مواتية إلا أنها تمثل تحديًا مضافًا إلى القيادة المصرية الجديدة، المثقلة بالتحديات.
محمد سليمان الزواوي
- التصنيف: