انتصار الإسلام
ليس من شرط انتصار الإسلام أن يعود العالم الإسلامي دولةً واحدةً مترامية الأطراف على رأسها خليفة، وذات قوة عسكرية غالبة. انتصار الإسلام يتحقق بأن يبقى ظاهراً على الدين كلِّه، يعجز أي نظام ديني أو ثقافي آخرَ أن يكون له ندّاً، وأن يظل ضامناً لمن يعي حقائقه، وتوجد لديه الإرادةُ الصادقة الجازمة للانتفاع بهذا النصر والظهور.
معنى الانتصار:
عام 2003 في شهر مارس، الشهر الذي تتفتح فيه الزهور وتبدأ الحياة، كانت فتاة اسمها راشيل كوري، عزلاءَ إلَّا من (جاكتة) برتقالية اللون (العلامة المميزة لناشطي السلام)، كانت تقف مُتحدية أمام الجرافة المدرعة وسائقها المسلح، كانت تُحاول منع الجرافة من هدم بيت أرملة فلسطينية، ولم يَستغرق الأمر لحظات إلَّا والجرافة تزحف إلى الأمام ثم إلى الخلف فوق جسد راشيل.
مَن المُنتصِر في هذه الحالة؟ بالتأكيد ليس الجيش اليهودي الذي كانت الجرافة المدرعة وسائقها المسلح يَرمزان لقوته، لقد اضطر الجيش اليهودي لكي يخفف من آثار هزيمته المعنوية أمام الرأيَ العالمي أن يُعلن أسفه للحادث، ويَعِد بأنه سيُجري تحقيقاً حوله، وأعلن بعد ثلاثة أشهر أن الحادث عرضي.
كانت هولندا مطمئنة إلى حيادها في الحرب العالمية الثانية حين فوجئت على غِرّة، بهجوم الجيش الألماني قبل فجر يوم 10 مايو 1940، كان التوازن ظاهر الاختلال بين الطرفين، مثلاً كان الجيش الألماني يتقدم بسبعمائة وخمسين دبابة، وتواجهه هولندا بدبابة واحدة وصدور الهولنديين الذين صمّموا على المُقاومة اليائسة، كان هتلر يَعتقد أن هولندا سوف تَستسلم خلال يومٍ واحد، ولكن المُقاومة البطولية للهولنديين وتَضحياتِهم الجسيمة، حتى بَعد أن يَئسوا من نَجدة بريطانيا وفرنسا، هي السبب في أن الجنرال الهولندي ونكلمان winkelman لم يوقِّع وثيقة الاستسلام إلَّا في يوم 17 مايو 1940م، بعد أن دُمِّرت روتردام تماماً، وقُتِل ثلاثون ألفاً من المَدنيين، وكان التهديد بالمصير نفسِه لأمستردام ولاهاي. لم يكن انتصار هولندا يوم انتهى الاحتلال الألماني بعد خمس سنوات، بل كان انتصارُها الحقيقي: المقاومة اليائسة والتضحيات البطولية، وبذل الحياة لربع مليون من المواطنين خلال مدة الاحتلال.
كانت قلعة برست (بيلاروس) تقع على الحدود التي رُسمت بموجب الملحق السري لمعاهدة "مولوتوف- روبنترب" بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا، والتي تلاها مباشرة غزو البلدين لبولندا، واقتسامها بينهما. وفي 22 يونيو 1941؛ بوغتت القلعة بهجوم الألمان، وكان على حُرّاس القلعة السوفيت أن يختاروا إما الاستسلام أو المقاومة اليائسة لجيش يبلغ تعداده عشرة أمثالهم، وقد اختاروا الثاني فقاتلوا حتى آخر دقيقة رغم الحصار الطويل، وانقطاع صلتهم بالخارج، وشُحِّ الطعام، ونفاذ الذخيرة، وحتى بعد استيلاء الألمان على القلعة وهي رُكام من الأنقاض ظل البقية الناجون من حراسها يقاتلون الألمان من تحت الأرض، ويُكبدونَهم خسائر فادحة.
وقد مُنِحت القلعة لقب "القلعة البطلة"، ويُكافئ هذا لقب "جورود جيروي" اللقب الشرفي الذي يمنحه السوفيّت للمدن التي تميزت ببطولات نادرة.
بالرغم من أن الغَلبة الظاهرة للقوة المادية في الحالات الثلاث فإن الانتصار الحقيقي كان للقيم والمبادئ؛ مبدأ الدفاع عن المظلوم في الحالة الأولى، وقضية الوطنية في الحالتين الأخريين. في حياة مختلف الشعوب، وفي مختلف العصور، توجد دائمًا حالات مشابهة، حيث تكون الغلبة المادية للقوة، ويكون النصر للقضية، وإنما انتقَيْتُ الحالات الثلاث؛ لأنها حظيت بالسمعة والإعلام، حتى أصبحت معروفة للكثير، وظلت قصصاً يُضرَب بها المثل.
في القرآن الكريم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]. وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]. وَ {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]. وَ {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]. وَ {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55].
يَحتمل ظاهر اللفظ في الآيات الكريمة معنيين؛ أن يكون المقصود بمُتبعيّ المسيح: مَن اتبعوه في عصره، ويَكون المعنى حينئذ أن الظهور والغَلبة والفَوقية لقَضيتهم الإيمانية إلى يوم القيامة. أو أن يكون المقصود الأتباع الحقيقيين لدين المسيح (دينِ الرسل جميعاً) في كل عصر وفي كل مكان. فإذا تخلف السلطان المادي والغلبة المادية عن أهل الحق، أو لم نجد في التاريخ المكتوب ما يكشف أن المؤمنين بدين المسيح في عصره كان لهم السلطان والظهور، عرفنا أن المقصود بالظهور والفوقية والغلبة هو الانتصار المعنوي الذي لا يَمكن أن يَتخلف.
وقد لحظ هذا المعنى سيد قطب رحمه الله عند تفسيره "في ظلال القرآن" الآية الكريمة : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. فقال رحمه الله: "على أنه حتى إذا لم يقع هذا "يعني الغَلبةُ المَاديّة" يقع ما هو أعظم منه في حقيقته، يقع في أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنها، وأن تَنطلق من إسار الحصول على الدَّعة والراحة والحِرص على الحياة نفسها في النهاية، وهذا الانطلاق كسْبٌ للبشرية كلِّها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء، كسب يرْجَحْ جميعَ الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون المؤتمَنون على راية الله وأمانته وشَرعه، وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياةِ الجنة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق كما يَصفه الله للجماعة المُسلمة الأولى، وللجماعة المُسلمة في كلِّ جيل، هذا هو الطريق: إيمانٌ وجهادٌ ومحنةٌ وابتلاءٌ وصبرٌ وثباتٌ وتَوجهٌ إلى الله وحده، ثم يَجيءُ النَّصر، ثم يَجيءُ النعيم".
ولا بد أن سيد قطب كان يلحظ في هذا المعنى الآيات الكريمة من سورة آل عمران {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169-171]. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195]. وجاء بعدها: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} [آل عمران:196].
الحرب ضد الإسلام وانتصاره:
لم تضعف الروح العدائية للغرب تجاه الإسلام عندما انحسر ظل الاستعمار العسكري عن بلدان العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن المنصرم؛ لقد أضْفَتْ ضوضاء الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي غطاءً على تلك الروح، ولكن ما أن انتهت الحرب الباردة بانهيار الشيوعية حتى صار الإسلام هو العدو الظاهر في استراتيجية الغرب، واكتسب اسم "العدو الأخضر"، وحلَّ هذا الاسم محلَّ اسم "العدو الأحمر"، وتسارعت وتيرة الحرب، وتعاظمت شراستها، ولم تكن حرب دعاية وحرب أفكار فقط، بل كانت حربًا عسكرية، بل وحرباً قذرة. وبالرغم من البأساء والضراء وزلزال القلوب الذي يعاني منه المسلمون في أكثر من مكان، وبالرغم من العذاب الذي يُصَبُّ عليهم والمعاناة من الجوع والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات، بالرغم من التدمير والتهجير وسيل الدماء إلا أن مظاهر الانتصار للإسلام ذاتِه تتكشَّفُ في كل وقت وفي كل مكان.
لقد كان من أهم عوامل انتصار الإسلام الهزائمُ الأخلاقية لأعدائه، لقد كشف واقع الحياة حدود إيمان هؤلاء الأعداء وممارستهم للقيم الإنسانية الكونية: العدل والحرية والمساواة والرحمة والتعامل الإنساني. في عصر العولمة الثقافية وثورة الاتصالات والمعلومات الهزائم الأخلاقية لأعداء الإسلام أتاحت الفرصة للبشرية أن تكشف الذُّرَى السامقةَ لأخلاقية الإسلام، وأن تكتشف أنه وحده الطريق لإنقاذ البشرية من مهاوي الهلاك والشقاء.
حينما يُقارن الإنسان في مجال العلاقات الدولية بين منهج الإسلام المبنيّ على العدل، ومنهج الحضارة المعاصرة المبنيّ على المصلحة القومية والقوة يدرك أيَّ السبيلين هو المؤهل لإقامة السلام على الأرض. وِفْق منهج الإسلام في حالة الحرب لا يبيح الإسلام من الحروب إلا الجهاد، والجهاد أنبل الحروب غاية، وأضمنها للعدالة، وأكثرها رعاية للاعتبارات الإنسانية. المصلحة الأنانية للأفراد أو الدول لا يجوز أن تكون دافعاً للجهاد، بل لا بُد لتكون الحرب جهاداً، أن تكون في سبيل الله، مقيدةً بتقوى الله، وأن تكون ضد المُحارب لا المُسالم، وأن تُرعى فيها حدود الله، فلا يُتجاوز فيها إلى العدوان {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
في حين أن الحروب غير الجهاد تقوم لحماية المصلحة الأنانية للدول، سواء كانت المصلحة حقيقة أم موهومة، ولا تتقيد بأي قانون مهما كثُرت الدعاوى، ولا تلتزم بالقيود الخلقية ومقتضيات التعامل الإنساني. وَ وِفق منهج الإسلام في حالة السِّلم لا خيار للدولة في الالتزام بعقودها ومواثيقها، أما وفق منهج الحضارة المعاصرة فإن التزام الدولة بعقودها ومواثيقها رهن باستجابة هذه العقود لما تُقدِّره الدولة المَعنيِّة من مصلحتها وقدرتها على الوفاء بالعهد أو الإخلال به.
وفي مجال الاقتصاد يتخذ الإسلام هدفاً ويحقق:
1- استعمال المال في وظيفته الطبيعية التي خلقه الله لها {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، فيضمن للاقتصاد النمو والاستقرار وَ وجود المناخ الملائم للاستثمار. ويُعوِّق تَراكم الثروة في أيدي القلة من الناس {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7].
2- ويمنع التعامل بالربا والقمار، فيمنع أكل أموال الناس بالباطل {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وإذا امتنع التعامل الظالم فسيتوجه المال ضرورة إلى التعامل الحلال {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فمقابل الربا البيع والتجارة وما في حكمها.
وعند مقارنة هذا النظام الاقتصادي بالنظام المقابل، أي النظام الرأسمالي السائد، يتبين أن النظام الرأسمالي يتخذ هدفًا ويحقق:
1- استعمال المال في غير وظيفته الطبيعية؛ فمثلاً قبل عشرين سنة لاحظ الاقتصاديون أن عقود المخاطرة "Speculation" تستأثر بنسبة 97% من تدفُّق النقود بين البلدان، وفي العام المُنصرم أظهرت الإحصاءات أن إجمالي عقود المخاطرة بلغ 3000 تريليون دولار، أي 250 ضِعف الناتج القومي الإجمالي لأغنى دولة على الأرض (الولايات المتحدة الأمريكية).
تحول المال إلى أن يكون بين أيدي عدد قليل من البشر، وتظهر الإحصاءات، حتى في السنين الأخيرة، أن الأغنياء يزيدون غنىً، والفقراء يزدادون فقراً. على سبيل المثال تُظهر القائمة السنوية لفوربوس (مارس 2007) أن 946 من البليونيرات في العالم يملكون 1.82 ترليون دولار، وبذلك تُعْتَبر هذه السنة أغنى سنة في تاريخ البشرية، وبالمقارنة بلغت ديون العالم الثالث 1.2 ترليون دولار.
2 - استخدام الربا أداة أساسية في تبادل الأموال والمنافع. ويلاحظ ترابط هذه الحلقات الثلاث الشريرة، فالربا ما سهل عقود المخاطرة، وكان أداتها الرئيسة، وعقود الربا والمخاطرة هي ما سمح بأن يكون المال دُولة بين الأغنياء. ونتيجة كل ذلك كما يقرر الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل "موريس آلية" ما يعانيه العالم من عنت وبطالة واختلال في العدالة الاجتماعية لسنا في حاجة للتدليل على أن معاناة البشرية الكبرى كانت دائمًا نتيجة اختلال المنهج في العلاقات الدولية أو الاقتصاد.
يقول محمد أسد: "إن أفضلية ثقافةٍ أو حضارةٍ على أخرى لا تقوم على ما لديها من المعرفة العلمية -ولو أن هذا الأمر مرغوب فيه- بل على نشاطها الأخلاقي، وعلى مدى قدرتها على تفسير وموازنة مختلف نواحي الحياة الإنسانية. وفي هذا الاتجاه فإن الإسلام يفوق كل ثقافة أخرى، ولا يحتاج إلا أن نتّبع أحكامَه؛ لكي نحقق أقصى ما يمكن للبشر تحقيقه". "لا تظهر إشارة إلى أن البشرية في حالتها الحاضرة تجاوزت الإسلام، فلم تتمكن من إنتاج نظام أخلاقي خير مما تضمنه الإسلام، ولم تتمكن من وضع الأخوّة البشرية على أساس عملي كما فعل الإسلام في معنى الأمة، ولم تتمكن من إيجاد بنية اجتماعية تتناقص فيها الخلافات والخصومات بين أعضائها إلى الحد الأدنى كما في شريعة الإسلام في تنظيمها المجتمع، ولم تتمكن من إعلاء كرامة الإنسان وشعوره بالأمن ورجاءاته الأخروية -وأخيراً وليس آخراً- سعادته". "لدينا كل الأسباب لنعتقد أن الإسلام قد دلَّت عليه كل الإنجازات البشرية الصحيحة؛ لأنه قررها، وأشار إلى صحتها قبل تحققها بزمن طويل، ومساوياَ لذلك فقد دلَّت عليه أيضًا النواقص والأخطاء والعقبات التي صاحبت التطور البشري؛ لأنه حذر منها بقوة ووضوح قبل أن يتبين البشر هذه الأخطاء بزمن طويل، ولو صرفنا النظر عن الاعتقاد الديني للفرد فإن في وجهة النظر الفكرية حافزًا لاتّباع هداية الإسلام العملية بكل ثقة".
كتب محمد أسد العبارات السابقة قبل أكثر من سبعين سنة، وخلال هذه المدة ظلَّ واقع الحياة يَكشف على الدوام عن وقائع تشهد لصحة العبارات السابقة ودقتها ومطابقتها للواقع. في كتابه Beyond Peace كتب نكسون "الإسلام عقيدة قوية، والعلمانية في الغرب لا تستطيع أن تُغالبه، وكذلك العلمانية في العالم الإسلامي: إن حقيقة أننا أقوى وأغنى دولة في التاريخ لا تَكفي، العامل الحاسم هو قوة الأفكار العظيمة".
إذا كانت العلمانية لا تستطيع أن تكون نِدّاً للإسلام، فهل تستطيع ذلك الأديان المعاصرة؟!
إن كل ما هو نقاط ضعف في الأديان المعاصرة هو نقاط قوة في الإسلام، يظهر ذلك فيما يلي:
لو أخذنا اليهودية والنصرانية على سبيل المثال نلاحظ :
أ- لا توجد لدى اليهودي وثائق تاريخية تقنعه عقليًّا بأن النبي موسى شخصية تاريخية، الوثيقة الموجودة بين يدي اليهودي هي العهد القديم، ولكن العهد القديم أبعد من أن يكون وثيقة تاريخية يطمئن إليها العقل، لقد ضاع مرتين وكتُب من الذاكرة، وليس هناك دليل على أن كاتبه شخص واحد، أو أنه شخص معروف. ولا توجد لدى النصراني وثائق تاريخية تقنعه عقليّاً بأن عيسى شخصية تاريخية، لا توجد وثائق تتصل بالمسيح قبل العهد الجديد، والنبي عيسى في العهد الجديد شخصية إيمان، وليس شخصية تاريخ.
أما فيما يتعلق بالمسلم، فبفضل المنهج الذي ابتكره المسلمون في توثيق حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وصفاته، فإن المثقف المسلم لديه من الوثائق ما يكفي لإقناعه عقليّاً، ليس فقط بأن محمداً شخصية تاريخية، بل ما يَكفي ليعرف عن الحياة العامة لنبيه أكثر مما يعرف عن جاره، ويعرف عن الحياة الخاصة لنبيه أكثر مما يعرف عن الحياة الخاصة لأبيه وأمه.
ب- لم يُكتب العهد الجديد بلغة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ولا يوجد سند يُثبت صدور مضامينه عن المسيح، وبالمثل يُقال عن العهد القديم بالنسبة لموسى عليه السلام، أما كتاب الإسلام "القرآن" فإن النسخة الموجودة الآن منه في الصين أو في المغرب أو في أي مكان على وجه الأرض لا تختلف في كملة أو حرف عن النسخة التي كتُبت بعد خمس عشرة سنة من وفاة الرسول، وكُتِبَت عن وثائق مكتوبة وشهادات شفهية من عدد كبير مِمَن تلقَّوْه كتابةً أو مشافهةً عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ج- قبل أكثر من ثلاثين سنة، حينما كان الطبيب الفرنسي "موريس بوكاي" يُقارن بين القرآن والبايبل (العهد القديم والعهد الجديد) والعلم، دُهش؛ إذ لاحظ أنه بقدر ما يتضمن العهد القديم والعهد الجديد من مناقضات للعقل المطلق، وأوهام كانت شائعة في الماضي عن الكون والحياة، وخرافات، أظهرت الكشوف العلمية الحديثة عدمَ صحتِها، فقد سَلِم القرآن من كل ذلك، مع أنه عالج بصفة موسَّعة موضوعات تتعلق بالكون والحياة، بل إن القرآن عندما يتعرض للموضوعات التي تعرض لها العهد القديم فإنه يتفادى العناصر التي كانت موضع الانتقاد؛ لمناقضتها للعقل أو العلم أو الواقع.
د- الأديان غير الإسلام تتناول جانبًا من حياة الإنسان، أما الإسلام فهو نظام شامل ومتكامل، ومنهج كامل للحياة. إن نقاط القوة في الإسلام هي ما يُفسرِّ انتشاره بين المثقفين خاصة، وبدون جُهد يُذكَر للدعوة إليه، بالمقارنة بما يُبذل من جهود في سبيل الدعوة للنصرانية، وهي أيضاً ما يُفَسِّر حقيقة أنه أسرع الأديان انتشاراً على الأرض، بالرغم من الجهود التي تُبذل لإعاقة انتشاره، وتسخير الآلة الإعلامية لتشويهه والتنفير منه. بل إن من مظاهر العجب في ذلك أن التشويه الإعلامي للإسلام في الغرب يركِّز على قضية المرأة، في حين نرى أن عدد معتنقيه من النساء في أوروبا وأمريكا أضعاف معتنقيه من الرجال. إن طريق الإسلام إلى القلوب والعقول مفتوح بمجرد اكتشافه، وهذا العصر الذي نعيشه الآن بعولمته الثقافية وثورة الاتصال والمعلومات يتيح للبشرية فرصة لربما لم يُتَح مثلُها من قبلُ لاكتشاف الإسلام. وبهذا تُعْقَد ألوية النصر للإسلام، ويتحققُ موعود الحق.
يقول تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] . وَ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [الصف:8].
ليس من شرط انتصار الإسلام أن يعود العالم الإسلامي دولةً واحدةً مترامية الأطراف على رأسها خليفة، وذات قوة عسكرية غالبة. انتصار الإسلام يتحقق بأن يبقى ظاهراً على الدين كلِّه، يعجز أي نظام ديني أو ثقافي آخرَ أن يكون له ندّاً، وأن يظل ضامناً لمن يعي حقائقه، وتوجد لديه الإرادةُ الصادقة الجازمة للانتفاع بهذا النصر والظهور.
والحمدُ للهِ أولاً وآخراً.
يوليو 25، 2012
صالح بن عبد الرحمن الحصين
الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي (سابقا)، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجلس الرئاسي لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني بالمملكة العربية السعودية.
- التصنيف: