أعيادنا بين العادة والعبادة

منذ 2012-10-25

بلونا أمرَ المسلمين في القرون الأخيرة شهادة للحاضر، وتلقفاً لأخبار الغائب، وبدأنا بأنفسنا فوجدنا أنا ما أوتينا إلا من ضعفِ سلطانِ الدين على نفوسنا، وَ وزننا للأشياء كلها بالميزان العادي، وتحكيمنا للعادات السخيفة التي نبتت فينا في عصور الانحطاط..


كلمتا العادة والعيد:

تجتمعان في أصلّ الاشتقاق اللفظي، وتلتقيان على الاشتراك في المعنى الوضعي، ولكن الإسلام حينما شرع عيديه العظيمين بيَّن بناء مشروعيتهما على معانٍ دينية جليلة، وأبقى اللفظ للدلالة على الزمن المؤقت لتلك المعاني، كما هو شأنه في جميع حقائقه وأحكامه القدرية والتكليفيّة والكونية المشهودة والمغيبة، يدل عليها بمفردات وتراكيب عربية مما يعرف الناس، ويبقي لها جزءاً من المعنى يتصل بالمعاني الدينية أيَّ اتصال، أو يكون جزءاً منها ثم يصرف بقية الأجزاء من المعاني إلى الغرض الديني الكامل حتى لا يكون اللفظ منقولًا من معنى قديم أفرغ منه إفراغاً إلى معنى جديد شُحن به شحناً.

وما كاد الإسلام يظلِّل العرب بلوائه حتى كانت للألفاظ التي تصرف في معانيها الوضعية بالتخصيص أو التعميم أو غيرها من وجوه التصرف مفهومة لا يلتوي فيها ذهن، ولا يجافيها إدراك، وانتقلت مع الإسلام إلى الأمم الأخرى فإذا اللغة العربية قائمة بهذا الدين، كأنما أعدت له إعداداً، وَوضعت وضعاً أوليّاً خاصّاً لمعانيه الدينية الجديدة، وكانت بذلك أحسن مؤدٍ لحقائقه، وأعظم حامل لأسراره، ويتلطف علماء البيان حينما يُسمّون هذا النوع من التصرف "الحقائق الشرعية" يُقابلون به الحقائق الوضعية، وهنا يتجلى لطف الله وسماحة دينه، إذ لم يجعل للدين لغة خاصة، وللدنيا أخرى، بل جعل لغة الدنيا هي لغة الدين، مع أن لغة الدنيا لا تتّسع في العادة لحمل الحقائق العليا كصفات الله، ولا لوصف الغيبيات المطلقة، كالعوالم الروحانيّة وما بعد الموت ودار الجزاء.

لم يبقَ من معنى كلمة العيد في الإسلام إلا أنه يعود في زمنٍ مقدر، أما ما عدا ذلك فصرفه إلى معانٍ دينيّة مما ينفع الناس، ففي العيدين المشروعين أحكام تقمع الهوى، من ورائها حكم تغذِّي العقل، من تحتها أسرار تصفي النفس، من بين يديها ذكريات تُثمر التأسي في الحق والخير، وفي أطوائها عِبر تجلِّي الحقائق، وأمثلة عملية في الإحسان وتقوية ملكته، وقواعد متينة في التربية الفاضلة، وموازين تقيم المعدلة بين الأصناف المتفاوتة من البشر، ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة، وإصلاح الشأن، ودروس تطبيقية عالية في التضحية والإيثار، والرحمة والمحبة، وهما مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات، ومنافسة في المكرمات.

قرَن الإسلام كل واحد من العيدين بشعيرةٍ من شعائره العامة، لها جلالها الخير في الروحانيّات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات، ولها ريحها الهابَّة بالخير والبر والإحسان والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة أمة صالحة للوجود، نافعة في الوجود إلا بها.

هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه، وكلمة الشكر على تمامه، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه، والظرف الموعي لمعظم أحكامه، وناهيك بالشعيرتين منزلة بين شعائر الإسلام، وإنهما مظهر الامتحان الذي هو أساس التكليف، وإن كليهما سوق امتياز يمتاز منه الموفقون طرائف الخير، والعاملون لله فيه بالصدق والوفاء، وما كل تاجرٍ رابح، وما كل متجر ربيح، وما كل بضاعة من أعمال العاملين تروج عنه الله، وإن شرَّ ما باء به تاجر في تجارة أن يجتمع عليه التعب والخسارة.

هذا الربط الإلهي بين العيدين وبين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما، وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن حتى ما ندب إليه الدين، وهو في ظاهر أمره دنيوي، كالتجمل والتحلي والتعطر والتوسعة على العيال، وإلطاف الضيوف، والمرح، واختيار المناعم والأطايب، واللهو، مما لا يخرج إلى حد السرف والتغالي والتفاخر المذموم.

فمن تحرّر المحاسن في الإسلام أن المباحات إذا حسُنت فيها النيّة، وأريد بها تحقيق حكمة الله، أو شكر نعمته انقلبت قربات، إلى الغاية التي نطق بها الحديث الصحيح: «حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ » [رواه البخاري ومسلم].

كِلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جلال وجمال، وتمام وكمال، وربط واتصال، وبشاشة تُخالط القلوب، واطمئنان يُلازم الجنوب، وبسط وانشراح، وهجر للهموم واطراح، وكأنه شباب وخطته النضرة، أو غصن عاوده الربيع فوخزته الخضرة، فلو وصف العيد نفسه وصف الخائل المزهو، وخلع على نفسه كل ما انتهى إليه خيال الشعراء، لكان مُقصّراً عن الغاية مما وصفه الإسلام به، ولكان نازلاً عن المنزلة التي وضعه فيها، وليس السِرّ في يومه الذي يبتدئ بطلوع شمس، وينتهي بغروبها، وإنما السِرّ فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وإفضال، وما يغشى النفوس المستعدة للخير فيه من سمو وكمال.

العيد في نظرة الإسلام مُلتقى عواطف تتقارب، بين طوائف كانت في أمسِه تتحارب، ففيه يتنزَّل الغني المترف، ويصعد الفقير المترب، فيلتقيان في عالم من عوالم المثال كما يقول الصوفية، هو خير ما ظلَّت الإنسانية تنشُده فلا تجده، يتجلى العيد بجلاله على الغني فينسى تألهه بالمال، ويذكر أن كل من حوله إخوانه أولاً وأعوانه ثانياً فيمحو إساءة عامٍ بإحسان يوم، ويتجلَّى على الفقير بجماله فيُنسى متاعب العام، ومكاره العام، وتمحو بشاشة العيد من نفسه آثار الحقد والتبرم والضيق، ولا تتفتح أمام عينيه إلا الطريق الواصلة بالله، المؤدية إلى الخير، وتنهزم في نفسه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء.

هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام، وكما حققها المسلمون الصادقون يوم كانوا، فكان هذا الدين من العام زاد الرحلة بآثاره، ثم بانتظاره للعام كله، وكانت آثاره في النفوس كآثار الحمَّام في الأبدان رحضاً للأبدان، وبعثاً للنشاط، فأين نحن اليوم من هذه الأعياد، وأين هذه الأعياد منا؟ وأين آثار العبادة فيها من آثار العادة؟

آفة محاسن الإسلام -وما محاسن شيء كله حسن- هذه الظواهر المتقلّبة التي سمون مجموعها عادة، فهي التي تتسلّط على تلك المحاسن بالطمس والتشويه حتى تمسخ الجمال، ثم تنسخ التأثير، ثم تفسخ العقد، فلا يبقى للجمال استهواء للنفوس ولا تأثير فيها، ولا سلطان عليها، وقد تبدأ بالإلف يعقبه أنس، يعقبه تأثّر، يعقبه اعتبار، يعقبه تحكّم، يعقبه تحيكم، ثم ينتهي بأسوأ ما ينتهي إليه تعاقب الأطوار، وهو النزول عن حكم الدين في ثبوته، والعقل في تقبيحه وتحسينه، والفكر في تأنيه ووزنه وقياسه وترتيبه وتقديره لحكم العادة المضطربة المتقلّبة، فتُصبح هي الحاكمة المقبّحة المحسّنة المقدّرة، وهي صاحبة الاعتبار الأول في تقدير الحياة، ثم تتسامى إلى المسلمات اليقينية، فتمسّها بالتشكيك ثم إلى الحقائق الدينية فتبتليها بالتزهيد فيها أو بالتبغيض، وهذا هو شرّ ما وصل إليه المسلمون بالنسبة إلى شعائر دينهم: تهجر بين أقوام فيصبح هجرها عادة تخشى مخالفتها والخروج عنه، ويُقيمها أقوام بحكم العادة لا بحكم الدين، وآية ذلك أن فاعلها يأتي بها متبرماً متثاقلاً مقدراً لعتاب الناس لا لعذاب الله، وهذا التناقض في آثار العادة واقع بين المسلمين مشهود مشهور.

ونحن لا ننكر أن عوائد الناس تابعة لأحوال الناس رقيّاً وانحطاطاً، فالأمة الراقية ترقى عادتها في الغالب؛ لأن عادتها تتشعب من مقوماتها، والأمة المنحطة تنحط عاداتها، والمسلمون اليوم في أحطّ دركات الانحطاط، فلا عجب إذا كانت عاداتهم المتحكمة فيهم من نوع حالتهم العامة. فمناشئ العادات فيهم هي أخصّ أحوالهم من الجهل والأمية والفقر والذلة والهوان وموت الشعور بالكرامة والشرف، ويقظة الشعور بالمهانة والنقص في النفس وفي الجنس والنفور من القريب والخضوع لحكم الغريب، فقل ما شئت في عادات تتكون من هذه الأمشاج الخبيثة، ثم حدّث ولا حرج عن الآثار السيئة لتحكم هذه العادات في حياة المسلمين، ثم ابكهم مع الباكين، حينما تمد هذه العادات السخيفة مدَّها فتنصبُّ على الدين، فتصبح موازينه مأخوذة بالاعتبارات العادية، وأحكامه خاضعة للاعتبارات العادية، وأعماله تابعة للاعتبارات العادية، وَواقعنا اليوم هو هذا، فليسلم العقلاء مِنّا بهذا الدافع وليُعالجوا الحالة على ضوئه، وحِذار من المُكابرة فيه، فشرُّ الخلال أن نركب الكبيرة ثم نُكابر فيها فنصيرها كبيرتين، وتحجبنا المُكابرة عن العلاج فنكون من الهالكين.

بلونا أمرَ المسلمين في القرون الأخيرة شهادة للحاضر، وتلقفاً لأخبار الغائب، وبدأنا بأنفسنا فوجدنا أنا ما أوتينا إلا من ضعفِ سلطانِ الدين على نفوسنا، وَ وزننا للأشياء كلها بالميزان العادي، وتحكيمنا للعادات السخيفة التي نبتت فينا في عصور الانحطاط.

هذه شعيرة الحج على جلالتها أصبحت مُتأثرة بالعوائد، فلا يُحفّز معظم المسلمين إليها ذلك الحافز الديني، ولا تدفعهم إلى تحمّل لأوائها تلك الغاية السامية التي شرع الحج لتحقيقها، وإنما يُحفّز معظم الناس إليها الافتتان الشائع بالتلقيب، كأنهم يتبرمون بأسمائهم المجرّدة من كثرة التبذُّل والاستعمال، فيسعون في إضافة لقب أو وصف، كما يتهالك الخليون الفارغون على الألقاب الحكومية الزائفة، ويبذلون فيها الجعائل، وإن ذلك لمن هذا، وفي الأمم إذا تداعت للسقوط مُشابه من البناء إذا تداعى للانهيار.

وهذه شعيرة الصوم خلت بين المسلمين من روحها التي تزكي وتجلب الرُّوح والاطمئنان، وأصبحت وظيفة عادية يقوم بها القائمون تأثراً بالعادة، لا انسياقاً للدين، ويتركها المنتهكون لحرمات الله، فيشيع الترك، فيكون هو العادة الجارية، ويكون الصوم شذوذاً خارقاً للعادة، وكلا الأمرين واقع في الأقطار الإسلامية، فالمحافظة على الصوم تغلب في الجزائر مثلاً اتباعاً لعادة المجتمع المتشدّد مع المفطرين، وهذا المجتمع المتشدّد في الصوم مُتساهلٌ إلى أقصى الحدود مع تاركي الصلاة، فلو كان للشعائر سلطانها الديني على النفوس لما أفطر في رمضان أحد، ولما ترك الصلاة أحد، ولما كان للعادة دخلٌ في هذا المجال، ولو كان المتشدّدون مدفوعين بدافعٍ ديني لكان تشدّدهم مع تاركي الصلاة أقوى وأشدّ، وأولى وأوكد.

وعمود هذه الكلمة هو الأعياد، ولكن ضرورة التمثيل خرجت بنا عن الجُدَد إلى الحِيد بعض الشيء، فلنعدّ إلى العيد، ولنقل: إن المسلمين جرّدوا هذه الأعياد من حِليتها الدينية، وعطلوها من تلك المعاني الروحيّة الفوارة، التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة، مع تجهم الأحداث، وبالبشر مع عبوس الزمن، وأصبحوا يلقون أعيادهم بهمم فاترة، وحسٍ بليد، وشعورٍ بارد، وأَسِرَّة عابسة، وكأنها عملية تجارية تتبع الخصب والجدب، وتتأثر بالعسر واليسر والنفاق والكساد، لا صبغة روحيّة ذاتية تؤثر ولا تتأثر.

ولولا نفحات فطرية تهبُّ على نفوس الصغار القريبين من الفطرة، فتتجلّى فيها بعض معاني العيد، فتطفح بشراً على وجوههم، وتنبعث فرحاً في شمائلهم، ونشاطاً في حركاتهم، واجتماعاً على المَحبة في زمرهم، واتجاهاً إلى المُبهجات في مجتمعاتهم، لولا ذلك لكانت المآتم أعمر بالحركة وأدلّ على الحياة من أعيادنا.

العادات محكمة... ويقيّد الفقهاء إطلاق العادة بأن تكون محقّقة لمصلحة، أو دافعة لمفسدة، وبأن لا تنقض نصّاً شرعيّاً، ولا تعاند حكماً إجماعيّاً، فإن لم تكن كذلك كانت باطلة مردودة، ونحن نقول: إن عاداتنا مع سخافتها، أصبحت حاكمة يرجع الناس إليها عن عقولهم وأفكارهم ومصالحهم وعن دينهم أيضاً.

لو أوتينا الرشد لكان لنا من أعيادنا الدينية الجليلة مواقف لتصحيح الانتساب، ومواقيت لتصفية الحساب، ولعلمنا أن نفس المؤمن تتّسع للدين والدينا، وأن كمال أحدهما كفيل بكمال الآخر، وأن طروق الضعف لأحدهما مؤذن بطروقه للآخر.

ويوم كان الدين كاملًا في النفوس كانت الدنيا مملوكة لتلك النفوس، ويوم أضعنا الدين أضعنا الدنيا، فلا يذهب الخرّاصون مذاهبهم في العلل والأسباب؛ فهم بعض تلك الأسباب، ولا يُتعبوا أنفسهم في "الوصفات" لدواء أمراضنا، فهم بعض أمراضنا، ونحن أعرف بدائنا ودوائنا، ومن آداب النبوة فينا "الحميَة رأس الدواء" فأنجع الأدوية لأدوائنا الحمية..

الحمية من المَطامع والشهوات فهي التي أفسدت علينا ديننا ودنيانا، وإذا فعلت هذه الحمية فعلها خفّت الأخلاط فخفّت الأغلاط، فتجدّد النشاط، فهُدِينا إلى سواءِ الصراط.

الحمية رأس الدواء والحمية لا تفتقر إلى إرشاد طبيب. فلنخرس هذه الببغاوات المردّدة لفرية أعداء الإسلام بأن الداءِ آتٍ من الإسلام، وأن الدواءَ في التحلّل منه، وليربع كل ناعقٍ من هؤلاء على خلعه، وليعلم أنه فينا كالضرسِ المؤوف كل الخير في قلعه.


محمد البشير الإبراهيمي (ت 1373هـ - 1954م)

نُشر عام 1373هـ الموافق 1954م


المصدر: [آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي]، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م، (4/291) - بتصرف.
 
المصدر: موقع الدرر السنية
  • 1
  • 0
  • 10,789

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً