قمع السلفيين في تونس

تعيش تونس حالة من الاضطراب عقب الثورة الشعبية الرائعة التي قادها الشعب ضد واحد من أكبر طغاة العصر المدعو زين العابدين بن علي..

والفترة التي قضاها بن علي في الحكم والتي دامت أكثر من 20 عاماً كانت مثالا للعلمانية المتطرفة التي تستبعد الدين كلياً عن منظومة الحياة؛ فاضطهد المحجبات وروّاد المساجد وغيّر قوانين الأحوال الشخصية وجعلها صورة مما هي عليه في بلاد الغرب بدعوى "مساواة المرأة بالرجل ومنحها حريتها"؛ فمنع تعدد الزوجات وأباح اتخاذ العشيقات وفرض قيودا على حق الرجل في تطليق زوجته..

هذه الفترة أدت إلى تحجيم التيار الإسلامي؛ فبعض أنصار هذا التيار هاجر والبعض اعتُقِل والبعض اختبأ خوفاً من الملاحقة، وتحكمت السلطات في المساجد تماما حتى أصبحت بوقا لما يريده بن علي ونظامه العلماني المتطرف الذي كان يبحث عن رضا الغرب عنه وخصوصاً فرنسا التي زادت استثماراتها بقوة في تونس خلال هذه الفترة...

وعندما قامت الثورة وتم خلع الطاغية خرج أنصار التيار الإسلامي بمختلف توجهاتهم ليتنسموا رحيق الحرية وليشاركوا في نهضة بلادهم محاولين تعويض السنوات التي صودرت فيها حريتهم، ومن هؤلاء أصحاب التوجه السلفي الذين تمكنوا من القيام بنشاط كبير داخل المساجد وهو المكان الرئيس الذي ينطلقون منه في كل بلد، واستطاعوا أن يجذبوا إليهم عدداً كبيراً من الشباب مما أثار حفيظة العلمانيين المتطرفين الذين ما زالوا يسيطرون على مفاصل الدولة خصوصا في الجيش والشرطة وهم، وإن كانوا رضوا مرحلياً بالتعاون مع حركة النهضة بسبب شعبيتها في الشارع إلا أنهم يرون في السلفيين خطراً داهماً عليهم كما أنهم يتخوفون من أي تحالف مستقبلي بين السلفيين والنهضة فقرروا التخلص من السلفيين أولاً ثم يتفرغوا بعد ذلك للنهضة...

بدأت المواجهات بين الفريقين تدريجيا بتصريحات هجومية من كبار المسؤولين الذين اتهموا السلفيين "بالتطرف والإرهاب"، وتصاعدت خلال أحداث السفارة الامريكية ووصلت إلى ذروتها في مواجهات بين الأمن والسلفيين بمنطقة دوار هيشر غربي العاصمة حيث قتل شابان من التيار السلفي، وزعمت قوات الأمن "أن سلفيين هاجموا مركزين للأمن، أحدهما بدوار هيشر والثاني بحي خالد بن الوليد في محافظة منوبة، وقاموا بالاعتداء بالسيوف والآلات الحادة على عوني أمن، احتجاجاً على اعتقال مشتبه به في الهجوم على الرائد بالحرس الوطني وسام بن سليمان".

ولكن الرواية التي يسردها أعضاء التيار السلفي تكذب هذه الادعات وتؤكد أن اشتباكاً وقع بين باعة الخمور، وإن الأمن تدخل لفضه، موضحين أن المعتدي على الرائد هو أحد أشهر بائعي الخمور في المنطقة، وأكدوا أنهم تفاجؤوا باتهام التيار السلفي دون تحقيق، معتبرين أن الأمر يهدف إلى ضرب التيار، وأن الاتهام سياسي وله غايات أخرى.

وأكدوا أن قوات الأمن استخدمت الرصاص الحي، مما أدّى إلى مقتل مؤذن جامع النور وأحد شباب التيار إثر توجه أهالي وأصدقاء عدد من المقبوض عليهم للاستفسار حول أسباب اعتقال ذويهم، واتهم التيار السلفي أحزابا معارضة بالسعي لبث الفوضى واستدراج الشباب السلفي إلى العنف...

لا شك أن التيار السلفي لغيابه سنوات طويلة عن الاحتكاك بالشارع والتعامل مع القضايا السياسية المختلفة بسبب القمع والاضطهاد يفتقد الرؤية الشاملة في بعض القضايا كما يفتقد القيادات الحكيمة المدربة على التعامل مع مثل هذه المواقف، ويسهل استدراجه لمعارك جانبية كما يسهل اختراقه وهو ما يورّطه أحياناً في بعض الصدامات التي تشوه من دوره الدعوي الذي ينبغي أن يركز عليه في المرحلة الحالية على أن يعيد ترتيب صفوفه جيدا من أجل النزول للساحة السياسية، ولكن بعد أن يُحدّد المنهج والطريق الذي ينبغي أن يسلكه جيداً مع ترتيب الأولويات ووضع نصب أعينه اعتبار المصالح والمفاسد والرجوع للعلماء العاملين قبل الإقدام على أي موقف.


خالد مصطفى - 17/12/1433 هـ