عودة البلاشفة
منذ 2012-12-10
تعتبر الثورة البلشفية من أكثر ثورات التاريخ المعاصر دموية وإرهابا وقمعا ، فهي الثورة الأشد وحشية وفتكا بالخصوم والمعارضين السياسيين والأيدلوجيين، واليوم مصر تعاني من أعراض مشابهة ، وإرهاصات متتالية ، وعلامات وأمارات ، كلها تدل على بوادر ظهور أشباه ونظائر لمثل هذا التنظيم السياسي والفكري المتطرف الدموي.
تعتبر الثورة البلشفية من أكثر ثورات التاريخ المعاصر دموية وإرهابا وقمعا ، فهي الثورة الأشد وحشية وفتكا بالخصوم والمعارضين السياسيين والأيدلوجيين ، والعجيب أن هذه الثورة قد نشأت في أجواء وظروف خاصة جعلت من أقلية فكرية وسياسية تقود واحدة من أشد المجازر روعا وفزعا في التاريخ الحديث والمعاصر .
كانت روسيا القيصرية في أواخر أيامها تعاني تراجعا سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا واجتماعيا ، أجبر قياصرتها على إفساح المجال أمام المعارضة لئن تدخل الساحة السياسية ، وذلك بعد رفض وتمنع طويل ، وتشكلت المعارضة من حزبين رئيسيين : حزب الاشتراكيين الثوريين وهو يميل ناحية الاعتدال ، وحزب العمل الديمقراطي الاشتراكي وهو حزب الماركسيين ، وهو منقسم على نفسه إلى فريقين ، فريق متطرف راديكالي وهو البلاشفة بقيادة لينين ، وفريق أقل تطرفا وأكثر انفتاحا وهم المناشفة ، وبعد ثورات عمالية وشعبية كبيرة استطاع البلاشفة أن يقودوا الحزب الماركسي للإطاحة بحكم آخر قياصرة روسيا في أكتوبر سنة 1917 .
بدأت الشعوب الروسية الكبيرة متعددة الأعراق والقوميات والديانات في بناء مؤسساتها الحكمية بعد سقوط حكم القياصرة ، وتتلمس طريق الحرية ، فعقدت أول انتخابات في نوفمبر من نفس السنة لتشكيل برلمان الثورة وكانت انتخابات نزيهة وحرة ، وهنا كانت المفاجأة الصادمة حيث حصل حزب الاشتراكيين الثوريين على غالبية مقاعد البرلمان ، في حين لم يحصل البلاشفة قادة الثورة الفعليين سوى على نسبة قليلة من مقاعد البرلمان ، مما أغضب لينين بشدة ودعا صراحة إعادة الانتخابات وناضل من أجل ذلك ، ولكنه لم يفلح بسبب رفض الروس لذلك ، وفي يوم 6 يناير سنة 1918 حل البلاشفة البرلمان المنتخب بالقوة واستولوا على مقاليد الأمور ، وقاموا بحملة اعتقالات واسعة في صفوف معارضيهم ، ونتيجة هذه الممارسات الديكتاتورية من جانب البلاشفة اندلعت الحرب الأهلية في روسيا من سنة 1918 حتى سنة 1921 ، وراح ضحيتها الملايين من القتلى والجرحى والمعاقين والمشردين والمهجرين ، وأبيدت وهجرت شعوب بأكملها ، وذلك كله على يد البلاشفة الدمويين وقائدهم السفاح لينين ، وجيشهم الأحمر الشهير ، وبسبب أن الأقلية لم تنزل على حكم الأغلبية ، وأن الأقلية لم تحترم رأي الأغلبية ، وأصرت على فرض رأيها ، وإجبار الشعب على قبول رأيها وأفكارها وأيدلوجيتها ، ومن أجل ذلك أريقت دماء الملايين من أبناء الشعب الروسي .
اليوم مصر تعاني من أعراض مشابهة ، وإرهاصات متتالية ، وعلامات وأمارات ، كلها تدل على بوادر ظهور أشباه ونظائر لمثل هذا التنظيم السياسي والفكري المتطرف الدموي ، ولكن بصور مختلفة تناسب طبيعة العصر ، وربما يسارع البعض بنفي وجودها ، أو يتهم كاتب هذه السطور بالجهل والتعصب والسذاجة ، ولكن الأحداث الجارية في مصر منذ عدة أسابيع تكشف أن الأمر قد أصبح واقعا لا يمكن تجاهله .
فالفترة الانتقالية التي تعيشها الدول والمجتمعات التي تقوم فيها الثورات الشعبية أو يسقط فيها نظام ويقوم آخر ، عادة ما تكون فترات تتداخل فيها المسارات السياسية والاجتماعية والفكرية ، وتحدث بها فراغات ثقافية واسعة نتيجة الحالة الثورية الجديدة التي تميل غالبا في تحطيم كل ما هو قديم ، كما أن هذه الفترات تتصف بقدر كبير من السيولة وعدم التماسك وتكون بيئتها مهيأة لاستقبال شتى الأفكار والمناهج والأطروحات ، مهما كانت مجافية لهوية وتراث وثقافة وعقيدة هذه المجتمعات ، وأمثال هذه الأجواء هي التربة الخصبة لنمو هذه الأفكار والأيدلوجيات العنيفة .
فحوادث الاعتداء على مقرات حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين التي وقعت في الأيام ألخيرة لا يمكن عزوها جميعا لبلطجية النظام البائد أو أعوان الفلول ،كما يحلو للكثيرين أن يريحوا أنفسهم من عناء البحث في هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة والتي تعتبر جديدة وغير مألوفة على مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي مازالت تعلي شأن الدم والنفس البشرية ، فكثير ممن اشترك في حوادث الاعتداء على المقرات والأفراد المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين اتضح بالبحث والتحقيق أنهم ينتمون إلى حركات سياسية جديدة مثل حزب الدستور الذي أسسه الدكتور البرادعي ، والتيار الشعبي الذي أسسه حمدين صباحي ، وإلى الحركات الاشتراكية والثورية التي خرجت من رحم ثورة 25 يناير مثل الاشتراكيين الثوريين وجبهة العمل الاشتراكي والحزب الشيوعي ، إضافة للحركات الناصرية التي دبت فيها الحياة مع قيام الثورات العربية بعد أن ظلت فترة طويلة في حالة سبات وتراجع شعبي وتنظيمي ، علاوة عن ظهور مجموعات شبابية صغيرة العدد تتبني فكر الأناركية ، وهو فكر في غاية الخطورة إذ يروج لنظرية تفكيك المجتمعات والدول ، والحياة في ظل الفوضوية الشاملة التي يكون فيها كل فرد في عالمه الخاص متحررا من كل سلطة أو رقابة .
فالتجاذب السياسي القائم بين الإسلام والعلمانية أفرز حالة من الاستقطاب الشديد الذي أضفى على الأجواء في مصر توترا ملحوظا ومتزايدا تمثل في كثرة حوادث الاعتداءات والتي كانت في معظمها ضد التيار الإسلامي بصورة خرجت كثيرا عن حد الصراع السياسي المعتاد ، فحالات العنف ضد أنصار التيار الإسلامي بلغت مستويات مقلقة ، وأصبح الاستهداف اليوم على الهوية ، فقد رصدت العديد من حالات العنف غير المبرر ضد أشخاص لا ينتمون لأي حزب سياسي بسبب هيئتهم وسمتهم الديني ، فقد تعرض عشرات الملتحين والمنتقبات والمحجبات للعديد من حوادث العنف البدني واللفظي والمعنوي ، بعدما كانت هذه الشريحة من المجتمع محترمة يجلها الجميع .
نحن إزاء حالة جديدة على المجتمع المصري نتيجة إصرار القوى العلمانية والليبرالية على تمديد أمد الفترة الانتقالية من أجل إسقاط الحكم الإسلامي الذي لم تكتمل تجربته ولم يشرع في إرساء دعائم حكمه ، فمشاحنات ومناكفات سياسية وفكرية وثقافية أججها إعلام مبارك ، ونخبة فضائية لم تلتحم مع الشارع المصري أبدا ، ولم تتواصل معه إلا عبر العوالم الافتراضية في الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي ، تصر على أن تلعب دور الوصي على المصريين ومصادرة حقه في الاختيار ، وتقوم بتأجيج المشاعر وإزكاء الأحقاد وإثارة الضغائن ، وتتبني هذه المجموعات الثورية الصغيرة التي وجدت لنفسها دورا في المشهد السياسي بعد الثورة وتقتات على بقاء الأوضاع ملتهبة ، فعشرات بل قل مئات الائتلافات الثورية ، عدد أفراد بعضها لا يتجاوز أصبع اليدين ، يريدون أن يبقوا تحت الأضواء ، وملء السمع والبصر ، يتحدثون باسم الشعب ، كأن التسعين مليون مصري قد أعطوهم وكالة للحديث والكلام .
المسئول الأول عن ظهور أمثال هذه الأفكار والمجموعات هم قيادات المعارضة العلمانية والأقلية الليبرالية التي تصر على تمرير أجندتها ، وفرض وصايتها على الشعب ، أيضا يسأل عن ظهورها الفاشلون والخاسرون في انتخابات الرئاسة الذين أثبتت الأيام أن الحسد قد أكل قلوبهم ، فلم نسمع من واحد من هؤلاء الخاسرين كلمة إدانة واضحة وصريحة أو بلهجة حادة وقاطعة للمشاركين في الهجوم على مقرات وشباب وقيادات الإخوان ، بل على العكس تماما فخطابات هذه النخبة العفنة التي أكل الغل والغيظ قلوبها ، تحمل كثيرا من الإشارات السلبية والضمنية في تأييد هذه الجرائم المنظمة ، من عينة " لن يجري الاستفتاء إلا على جثثنا " , " لا يمكن عقد الاستفتاء مطلقا وسنوفقه بالقوة " ، " سنستخدم كل الوسائل من أجل إيقاف الاستفتاء " ، وعلى صعيد آخر تتبني النخبة العفنة خطابا عدائيا تجاه السلطة الشرعية المنتخبة ، وتطعن في شرعيتها ليل نهار ، ويصل التحريض لاستعداء المجتمع الدولي وطلب التدخل الصريح في شئون مصر ، وذلك كله على لسان أعضاء النخبة الفضائية والأقلية الليبرالية .
مصر أمام مفترق طرق غاية في الحساسية والخطورة ، ومعالجة ظهور هذه الأفكار الدموية والمجموعات الفوضوية يحتاج لقدر كبير من التعقل والحكمة والحسم وأيضا السرعة ، في ظل غياب الأمن وإصرار الداخلية على تصفية حسابها مع المصريين ، ورفض العمل من أجل تأديب الشعب والانتقام لمصابها في الثورة ، فيجب على الحكومة حصر هذه المجموعات ووضعها قيد المراقبة والمتابعة ، وتضييق المنافذ الفكرية والثقافية التي تمثل روافد تحريضية مستمرة لهذا الشباب الغر الذي تعبث به يد الأفكار الفاشلة التي سقطت في بلد منشأها ، وتجد الآن من يريد إحياءها في بلادنا ، كما يجب على الدعاة والعلماء التحذير من خطر هذه المجموعات الفوضوية ، واستيعاب هؤلاء الشباب والجلوس معهم وسماع أفكارهم وأطروحاتهم واحترامها مهما كانت بعيدة أو جافية ، كما يجب العمل الجدي والسريع على الانتقال من هذه المرحلة الغائمة والضبابية إلى مرحلة الاستقرار وبناء المؤسسات ، لأن هذه المرحلة الانتقالية بمثابة البيئة الحاضنة لكل هذه الأفكار والتنظيمات المتطرفة ، وذلك قبل أن نفاجئ بجيش أحمر جديد يرفع رايات المنجل والشاكوش في قلب بلد الأزهر المنيف .
شريف عبد العزيز الزهيري
[email protected]