بابا نويل والدروس المستفادة
لا يمكن أن نرجع عملية التهافت التي تشهدها الساحة الإسلامية والتعلق بأعياد الغرب -وخصوصاً بين الشباب والأطفال- إلى أنها ضربٌ من ضروب التقليد الأعمى وغير الموجَّه فحسب، وقد يكون من الخطأ أن يقتصر جُلَّ جهدنا واجتهادنا في هذه المناسبات، على مجرد إصدار الفتاوى..
لا يمكن أن نرجع عملية التهافت التي تشهدها الساحة الإسلامية والتعلق بأعياد الغرب -وخصوصاً بين الشباب والأطفال- إلى أنها ضربٌ من ضروب التقليد الأعمى وغير الموجَّه فحسب، وقد يكون من الخطأ أن يقتصر جُلَّ جهدنا واجتهادنا في هذه المناسبات، على مجرد إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، والتي لم تعد للأسف مجدية (بمفردها) في هذا العصر، ومن الظلم لواقعنا وتاريخنا وحضارتنا الإسلامية، أن يكون جُل سلاحنا في مواجهة ذلك الغزو الثقافي، عددا من الوريقات التي تعلّق هنا وهناك!!
هناك خلل يكمن في منهجيتنا اليوم، وفي مسار تعايشنا مع الآخر، فمازلنا -ونحن في عصر العولمة والتنافس الفكري والإعلامي- نتعامل مع هذا الواقع بالأسلوب الخطابي القديم، وتنظيم العبارات الملتهبة، غير مدركين بأننا في زمن الطفرة المعلوماتية، وفي عصر سباق المعلومات، وفي واقع يفرض علينا أن نتعامل معه بأسلوبه، وأن نتخاطب معه بعباراته.
لا شك أننا نمتلك المقومات الثقافية، والخلفية المعرفية، والإسناد الشرعي والأخلاقي، ولدينا في ديننا ولله الحمد كنوز ما زالت تربض تحت طبقات من الأتربة لم تصل إليها أيدٍ، ولم تكتحل برؤيتها عين، إلا أننا في المقابل لا نملك الكيفية لاستخدام تلك الكنوز، ومازلنا نحيط أنفسنا بدوائر غليظة من الخوف غير المبرَّر، ونربض خلف سياج منيع عميقٍ من الحذر لخوض تجارب جديدة نعتمد عليها في إيصال ثقافتنا.
مرارة واقعنا تكمن فيمن ينشرون بيننا روح الحرص والحذر والتوجس من كل ما يحيط بنا، فانكفأنا على حالنا وتقرفصنا على ذاتنا في قمقمٍ ضيق خوفاً من أن يقترب منا خطر، أو أن نلتمس من الشر أثر، فما إن أخرجنا رأسنا من ذلك القمقم حتى وجدنا أنفسنا في وسط بحرٍ لجيٍّ متضارب الأمواج، وسقطنا في قاعِ محيطٍ هادر غادر.
مازال عيبُ خطابنا الإسلامي أنه غالبا ما ينتظر المناسبات كي يعلن تمرده عمّا يحاك ضده من تآمر وأحقاد، ومازلنا نتعامل في هذا العصر بنظرية إطفاء الحريق، دون أن نسعى لأخذ الحيطة والحذر من اندلاع ذلك الحريق!!
وربما أن أطفال اليوم، وشباب هذا الجيل آثروا على أنفسهم أن يسرعوا الخطى، للقرب من ذلك العالم الذي يرونه أمامهم مبتهجاً فرحاً مسروراً، لا يحمل على عاتقه هماٌّ ولا هِمَّة، ولا يؤرقه هدف ولا رسالة، ولا يهمه مصير أُمة، فانساقوا معهم متوشحين مئزرهم، مدندنين ديدنهم، متبعين شعائرهم!!
نحن نمتلك من مقومات العزة بديننا ما يؤهلنا لأن نستحق الريادة، ولكننا وللأسف لا نمتلك أسلوب المواجهة أو التوظيف الجيد والمقنع، مع امتلاكنا لتلك المقومات. فإذا ما أتينا على مناسبة عيدية مسيحية كعيد ميلاد المسيح، أو ما يسمى بالكريسماس، وما يصاحبه من طقوس وعقائد مسيحية مثل (بابا نويل)، فإننا نرى العيد بالنسبة للأطفال والمراهقين وقليلٌ من الشباب الطائشين، وكثيرٌ من الكبار الغافلين هو مجرد فرحة، وهدايا، وحلوى، وشعائر، لكن من أين مصدرها؟ وكيفما كان حالها؟ فليس هذا شأنهم، فهم لا يعلمون بالتحديد كنه هذه التقاليد والشعائر، وما هو مصدر هذه الطقوس، وأين يقع الحدّ الفاصل بين الأعياد الإسلاميّة والأخرى المسيحيّة؛ سواء تعلّق الأمر بمناسبات عيد الفطر أو الكريسماس أو عيد ميلاد المسيح أو فالنتاين أو عيد الأم أو ما شابه فالأمر عندهم سواء. لكنّهم يظلّون على العموم لا يعلّقون أهمّية كبيرة على مصدر الأعياد وجذورها. لأنهم وبكلّ بساطة يجدون أعياد الآخرين رائعة من وجهة نظرهم، فلا يشغلون أنفسهم بالنقاشات الطويلة حول الخلفيّات الثقافيّة المتنوّعة لهذه الأعياد.
لدى الغرب اهتمام كما لنا نحن اهتمام، ولكن الفارق بين اهتمامنا واهتمامهم أننا نغفل دائماً مراكز البحث العلمي، والدراسات الاستشرافية للتصدي، أو لتوظيف الأحداث، بينما اهتماماتهم -صغيرها أو كبيرها- لابد أن توظف التوظيف المناسب، فهم لا ينشرون المنشورات، ولا يوزعون البروشورات والمطويات للتحذير من غزو أعياد المسلمين إليهم واهتمامهم بها، ولكنهم يستغلون هذا التمازج والتداخل لتوجيهها إلى الهدف الذي يريدونه وهو التقارب بين الثقافات، أو بمفهومهم توحيد الأديان، وإن كان هذا الأمر هو ما يسعون إليه، وهو ما لا يمكن استساغته في هويتنا الإسلامية، فإننا يمكننا بالمقابل توظيفنا للمناسبات الإسلامية في الغرب، لإيصال رسالتنا الإسلامية المسالمة إليهم.
في بحث أجرته إحدى المجلات الأوروبية حول هذا الموضوع، أراد التربويون والمرشدون الاجتماعيّون في ألمانيا أن يدركوا مغزى ونوعيّة اهتمامات الأطفال والشبّاب بالأعياد، وهل لديهم تفريق بين العيدين كمفهوم شرعي أم أنه جانب سلوكي مجرد؟ وفي هذا الإطار جاءت بادرة كلّ من الباحثتين الألمانيتين: (بتّينا بوسّا) من مصلحة العمل الثقافي، و(ريغينا كرامر) من شبكة العمل الثقافي، اللتين بحثتا مع مجموعة من العناصر النشطة مشروع (الاحتفال بالأعياد). وانطلقت أولى نشاطاتهم في هذا المجال يوم السادس من شهر ديسمبر/ كانون الأوّل بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية أو (نيكولاوس) وعيد الفطر. حيث صادف تزامن العيدين في يوم واحد، فاستغلّ أصحاب هذه البادرة الفرصة للتطرّق إلى موضوع العيدين، وبما أن (الهدية) كانت القاسم المشترك بين العيدين، فقد جاءت الفكرة بأن يتم عرض الهدايا في تلك المناسبة بطريقتين مختلفتين: طريقة الأعياد الإسلامية وطريقة (بابا نويل) أو (نيكولاوس).
تقول (ريغينا كرامر): " كان بإمكان الأطفال اختيار الهدايا بإحدى الطريقتين: إمّا أن يتناولوا هديّة من الهدايا الموضوعة فوق منضدة بمناسبة عيد الفطر، أو أن يتسلّموا هديّتهم من يد (نيكولاوس). إلاّ أنّ الكثير من أطفال العائلات التركيّة أو العربيّة كانوا يفضّلون التوجّه إلى نيكولاوس"، وأضافت: "يبدو أنّ الأطفال يفضّلون أن تقدّم لهم هديّتهم من يد شخص ما أو من صورة تجسّد شخصيّة مثل (بابا نويل)، عن أن يتناولوها بأيديهم من مكان ما!!".
وبالمناسبة فإن (بابا) تعني أب، وكلمة (نويل) تعني ميلاد، وأسطورة (بابا نويل) تعود إلى القرن الرابع الميلادي، وهي مأخوذة من شخصية حقيقية عاشت قديما هي شخصية القديس نيقولا، و(بابا نويل) هو الاسم التركي والعربي لنيكولاوس. وأسقف (ميرا) الحليم نيكولاوس معروف في تركيا من قديم الزّمان، وتقع (ميرا) في تركيا، حيث يحظى الاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية برعاية العسكريّين الأتراك، الذين يعتبرون أنفسهم (حماة الحداثة) في تركيا. وليس من العجيب أن نرى المؤسسّات العسكريّة تنصب -وبكلّ سرور- شجرة العيد المزدانة بشرائط اللمبات، خلال شهر ديسمبر أو يوم عيد رأس السنة!!
فانظروا كيف يسوق الغرب لثقافته!! وكيف يحببون الأطفال والشباب في أعيادهم ومناسباتهم!! بل وحتى في كنائسهم، حيث ينظمون فيها الأنشطة المختلفة والجذابة التي تحقق أهدافهم وسياستهم!!
فلماذا لا نستغل مناسباتنا الإسلامية، ونسوق لثقافتنا إعلامياً واجتماعياً وسياسياً كغيرنا من الديانات الأخرى، بدلا من أن نمر عليها ونحن متقوقعون على أنفسنا، نندب حظنا، ونستنكر على الآخرين التآمر علينا واستغلال ضعفنا!! هل (جدية) الحياة التي نعيش قشورها أمرٌ جعلنا لا نحسن التصرّف في حياتنا على الوضع الذي يليق بنا... كأمة تركنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك...
أسوق مثالاً يدل على برودة تعاملنا مع الأحداث؛ أثناء عملي في الإدارة العامة للوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف والإرشاد، مازلت أذكر ذلك اليوم الذي شهدت فيه ولأول مرة موقف دخول أحد النصارى في الإسلام، ووقفت مشدوهاً مبهوراً بذلك المنظر الذي ربما ما كنت يومها قد رأيت مثله من قبل، إلا ما أتصوره في خيالاتي عند قراءاتي لكتب السير والتاريخ، وتملكتني مشاعر الزهو والفخر والاعتزاز بدين الله الإسلام، إلا أن الملفت والذي أثارني هو ذلك البرود الذي قوبل به هذا الحدث، فلم أر عبارات الترحيب والاستبشار والتهاني من الحاضرين والموجودين، بقدر ما هي عبارات مقتضبة عملية، يطلب فيها الشيخ من الرجل أن يردد بعده "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدً رسول الله"، وبعدها يوجِّه القسم المختص باستخراج شهادة اعتناق الإسلام، لتقديمها له مع بعض الكتب والتي كان في أحيان أخرى يعتذر عن تقديمها لانتهائها من المخازن!!
نعم الإسلام عزيز بذاته في غنىً عنا، ولكن أمانة الإسلام في أعناقنا تقتضي منا أن نخدم هذا الدين على الوجه الذي يليق به، وأن نستغل كل المناسبات للتعريف به.
فلماذا ننتظر دوماً أن نتعرض للفعل حتى نبحث عن رد الفعل؟! ولماذا نقوم دائما بدور المدافع وكأننا متهمون على طول الخط؟! ولماذا ننتظر الأحداث هي التي تحيك تعاملنا مع الآخر، ابتداءً من الأحداث الصغيرة وانتهاء بالجسيمة والكبيرة في تاريخنا المعاصر، كتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر التي أسندنا إليها مهمة تعريف المجتمعات الغربية والشرقية بالإسلام؟؟!!
أعود فأقول... هناك طرائق وسبل يجب إيجادها لنشر ثقافتنا الإسلامية، وهناك أهداف ومُثُل يجب أن تكون حاضرة أمامنا لتوظيف ذلك النشر وذلك الإيصال في ما يعود على إسلامنا بالعزة والكرامة...
- التصنيف:
- المصدر: