الدعوة بالقرآن وأبواب الهداية

منذ 2013-03-05

لقد كان القرآن الكريم ولا يزال المفتاح الذي يُستفتح به طريق الهداية، أو البوابة التي دلفوا منه إلى طريقها، والأمثلة والأدلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، والمواقف كثيرة قديمًا وحديثًا..


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا يشك أحد من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن أكثر وأعظم سبب للهداية هو كتاب الله "القرآن الكريم".

لقد كان ولا يزال المفتاح الذي استفتح به هؤلاء طريق الهداية، أو البوابة التي دلفوا منه إلى طريقها، والأمثلة والأدلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، والمواقف كثيرة قديمًا وحديثًا، لكني أكتفي بموقف واحد من مواقف السيرة النبوية فيه دليل لما قلت؛ إنه موقف لأول سفير في الإسلام الذي فتحت المدينة المنورة بسببه، ودخل الإسلام ووصل لكل بيوتها تقريبًا على يديه، إنه مصعب بن عمير رضي الله عنه.

يروي لنا القصة ابن هشام رحمه الله فيقول في سيرته: "ومن أروع ما يُروى من نجاحه -أي مصعب- في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا يريد دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلس على بئر يُقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك، فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارنا فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا. فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد؛ قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: "إن يجلس أُكلِّمه". وجاء أسيد فوقف عليهما متشتمًا، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: "أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ فقال: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام وتلا عليه القرآن، قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا هذا الدين؟" (اهـ ابن هشام [1/435] وما بعدها).

"ولما عاد أسيد إلى سعد بن معاذ قال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم! ولما ذهب سعد إلى مصعب ليطرده ويكفه عن الدعوة، فعل معه مصعب مثل ما فعل مع أسيد، ورد سعد بمثل ما رد أسيد بعد أن قرأ عليه القرآن، ولما عاد إلى قومه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به".

وتروي عائشة رضي الله عنها قصة رحيل الصديق من مكة بسبب الاضطهاد والأذى، ورد ابن الدَّغِنَةِ له على أن يكون في جواره؛ لأن مثله لا يخرج ولا يُخرج، وحتى يقبل القرشيون هذا الجوار وينفذوه اشترطوا على ابن الدَّغِنَةِ أن يأمر الصديق بألا يستعلن بالقرآن كي لا يفتن أبناءهم ونساءهم -زعموا-، فكان أبو بكر يعبد ربه في داره يصلي ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وفي رواية: فيتقذف إليه لدرجة أنهم يزدحمون لدرجة أنهم يتساقطون من الزحام، والقصة في (البخاري)، وكان الصديق رجلاً أسيفًا لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن.

أرأيتم أثر القرآن في فتح مغاليق القلوب وإقامة الشاردين على طريق الله؛ ليس في هذين الموقفين فحسب.. بل في سائر المواقف؟!

وهل أسلم أحد دون أن يمر بكتاب الله؟ وهل فتح قلبه بغير كلام الله؟

فلم لا نستغل نفس الوسيلة في حياتنا الدعوية هذه الأيام؟ لم لا تكون الدعوة بالقرآن؟ لم لا تدور دروسنا وخطبنا ومواعظنا، بل وحواراتنا في فلك القرآن؟!

لم لا وقد ذكر الله تعالى أنه هدى في أكثر من موضع في القرآن؟! فمنها ومِن أولها: {ذلك لْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين} [البقرة:2]، وقال: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِين} [لقمان: من الآية 3].

وكثيرًا ما يأتي ذكر الهدى والرحمة وربطه بالقرآن، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وكذا ذكرت السنة: «تَرَكْتُ فيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُما كِتابَ الله وسُنَّتي وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْض» (رواه الحاكم، وصحّحه الألباني)، وأيضًا: «أبْشِرُوا فإن هذا القُرآنَ طَرَفُهُ بِيَدِ الله وطَرَفُهُ بِأيْدِيكُمْ فَتَمَسَّكُوا به فإِنَّكُمْ لَنْ تَهْلَكُوا ولَنْ تَضِلَّوا بعدَهُ أبَداً» (رواه الطبراني، وصحّحه الألباني).

حتى عد العلماء القرآن ثلث الهداية، فهي في ثلاثة:

الأول: البيت: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين} [آل عمران:96].

الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: من الآية 52].

الثالث: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.

إن البعض قد يعتذر فيقول: الناس لا يفهمون ولا يتأثرون! الناس يحتاجون للقصص والمواعظ أكثر من القرآن! إلى غير ذلك من الاعتراضات النابعة عن عدم الفهم أولاً، وعدم القدرة على توظيف القرآن وآياته في الدعوة.

إن الداعية إذا استشعر عظمة القرآن وكان معايشًا له متعمقًا فيه فإن أثر قراءته لا يقارن بأثر قصة أو حكاية أو موعظة من هنا أو هناك، ومن كان في ريب من ذلك فليقرأ كتاب: "بالقرآن أسلم هؤلاء للمؤلف عبد العزيز سيد هاشم"، وليطالع السيرة بتمعن حتى يظهر له صدق ما أقول.

أيها الأحبة الكرام:


إنها دعوة إذن للعودة إلى القرآن والاجتهاد في استعماله في الدعوة إلى الله تعالى.

ولكي نكون عمليين؛ فهذه أفكار مقترحة لتطبيق هذه الفكرة:

1- إعداد مقاطع مؤثرة أو سور كاملة من القرآن الكريم، ونسخها على الأشرطة والأقراص المدمجة (CD)، وتيسير وصولها للناس.

2- إعداد تفسير ميسر للسور القصيرة جزء عم كمثال، وطبعه ونسخه صوتيًا وتوزيعه على الناس.

3- إقامة مسابقات في حفظ وتفسير بعض سور القرآن القريبة إلى الناس: كـ (يوسف، مريم، الكهف، يس، الملك)، وغير ذلك.. مع رصد ما يناسب من الجوائز التشجيعية.

4- توفير المصاحف المفسرة: كالتفسير الميسر -إعداد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف- في المساجد بدلاً من أو مع المصاحف الخالية من التفسير، مع حثِّ المصلين على المطالعة فيه بالكلام، والإعلان عن ذلك بلوحات أو لافتات مناسبة.

5- توفير الأجزاء الأخيرة مفسرة للأطفال في مقارئ حفظ القرآن الكريم في الدور والمساجد، وقراءة ما تيسر من ذلك، وحثهم على مطالعته في المنازل مع طرح عدة أسئلة حوله مع الإثابة.

6- إهداء المصاحف ذات الأحجام الصغيرة للمدعوين، وحثهم على القراءة فيها بذكر فضيلة ذلك.

7- عقد الندوات والمحاضرات حول قدر وفضل القرآن الكريم وثواب التلاوة والحفظ.

8- العناية بالتدبُّر من خلال دروس التفسير في المساجد، وذكر مفاتيح ذلك ووسائله.

9- الاهتمام بمقرأة القرآن في المناطق وتنشيطها بما يتاح من الوسائل وحث المصلين وغيرهم على الالتحاق بها، والأخذ بوسائل التشجيع المناسبة لذلك (كرصد عمرة مثلاً لمن يختم القرآن حفظًا خلال عام واحد، توزيع الكتيبات وغيرها على الحفـَّاظ عقب كل سورة، وغير ذلك من وسائل التشجيع)، مع الإعلان الدائم عن مواعيد المقرأة، وحث المصلين، وغيرهم.. على الاشتراك فيها بوسائل متنوعة كذكر الفضائل أو الثمرات الحاصلة فيها أو ما رصد من جوائز، مع تنويع صور الدعوة من إعلان يوزع في الطرقات، وكذا يلصق ويعلق بالمساجد المجاورة مع الدعوة الفردية كذلك.

يتأكد مع ذلك كله حسن اختيار المحفظين القائمين على المقارئ، وحسن إعدادهم لربط الناس بالقرآن والتلقي منه مباشرة، والانقياد لتعاليمه، واستنباط ذلك من الآيات المتلوة والمحفوظة، وفتح الباب للمناقشة والتفهم لما يحفظ، ولفت الانتباه إلى أن المقصد ليس الحفظ فحسب، بل الحفظ مع الفهم؛ ليكون التطبيق والعمل.

10- اختيار بعض الآيات من القرآن وإحسان طباعتها ورفعها وتعليقها في أماكن مناسبة يراها الناس للتأكيد على قضايا معينة أو مجموعة أوامر، ثم تغير كل أسبوع أو أسبوعين (كاختيار آيات الحاكمية مثلاً وتوزيعها في الحي في هذه اللوحات مع ذكر شيء يسير جدًا -ولو كلمات- من المعاني تحتها، وانتقاء العناوين المناسبة بمراجعة العلماء والدعاة)، ومرة أخرى آيات الحجاب، وثالثة آيات الحث على الصلاة، وآيات التوبة، وآيات دعوة النصارى إلخ..

11- الاستعمال المباشر للآيات في الدعوة، كأن يقرأ الداعية بعض الآيات على المدعو ويفسرها له مع الانتقاء والاختيار، كآيات القصص في سورة الكهف مثلاً أو غيرها، مع حسن التلاوة وحسن العرض واستنباط الفوائد منها.

12- توفير القصص القرآني بصورة ميسرة للأطفال مقروءًا ومسموعًا، مع استخراج الدروس والعبر.

13- عقد درس للقصص القرآني، قصص الأنبياء أسبوعيًا.

14- يتلو ذلك عقد درس في التفسير بطريقة ميسرة يفهمها طبقات المصلين المختلفة.

15- مقرأة الفجر وفكرتها تلاوة ثلاث آيات يوميًا على المصلين، وذكر تفسيرها مبسطًا وحث الحضور على حفظها، ومتابعة ذلك أسبوعيًا لمريدي الحفظ.

16- تعليم المصلين تدبُّر القرآن في درس مستقل أو بذكر وسيلة واحدة قبل الدرس الأسبوعي في التفسير من الكتب التي تُعنى بذلك، مثل: تعليم تدبر القرآن لهاشم الأهدل، مفاتح تدبر القرآن لخالد اللاحم، أو تدبر القرآن لـسلمان بن عمر السنيدي، أو غير ذلك..

17- ربط المواقف المختلفة بالقرآن، وتذكير الناس بما يرتبط بها من آيات: كحدوث زلزال مثلاً، أو نزول بلاء، أو غير ذلك.. وبغير تكلف.

18- استفتاح الخطب ببعض آيات القرآن المتعلقة بموضوع الخطبة، وكذا الختام بها لترسخ في ذهن السامعين.

19- من الممكن أن تلقى مجموعة خطب في تفسير القرآن إما مسلسلاً حتى يختم، وإما بانتقاء بعض السور القصيرة.

20- حث الناس على القيام بالقرآن وذكر فضائل ذلك.

21- استغلال موسم رمضان لتقوية علاقة المصلين والمسلمين بالقرآن بما ذكر من وسائل وغيرها.. ولا يخفى الارتباط بين الصيام والقرآن.

وبعد.. فهذه بعض الأفكار المقترحة للدعوة بالقرآن، وتقوية علاقة المسلمين بالقرآن، وأُوقن أن ما ذكر لا يساوي شيئًا إذا ما قورن بما لم يذكر، لكنها إضاءة على الطريق لعل الدعاة ينتفعون بها.

نسأل الله أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وشفيعنا يوم نلقاه. آمين.



إيهاب الشريف -  20 - ذو القعدة - 1432هـ الموافق 17 - أكتوبر - 2011م
 

  • 6
  • 0
  • 24,123

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً