الشروط الربانية لقبول النفس الزكية
إنها بيعة مع الله لمن أراد الفوز والنجاة، لله أن يشترط فيها ما شاء، وليس للمؤمن إلا التنفيذ إن أراد إمضاء العقد والبيعة، وأن يثبت عليها حتى يلقى ربه، بالكيفية التي يختارها الله، وفي الوقت الذي يأمر به، وساعتها يستحق العبد البشارة، وساعتها لن يخشى الموت، وساعتها سيضحك ضحكة صافية لا تظهر على وجهه إلا لحظة موته.
أنفُس جعل الله لها شروطاً للشراء وأعد لها جنة عرضها السماوات والأرض ثمناً، ما أعظمها من صفقة رابحة، وما أجزل العطاء من ملك كريم قادر، إنهم الصفوة المختارة من البشرية كلها فلا توجد جماعة أفضل منهم ولا أعظم غنيمة منهم، هؤلاء العقلاء في دنيا تلهث وراء نزواتها وشهواتها، تبيع الغالي النفيس بثمن دنيئ رخيص، ويحسبون أنهم مهتدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وهذه الشروط السبعة التي يجب أن تتوافر في النفس المعروضة على الله ليقبلها ويمنحها كل هذه العطايا، قد ذكرها الله سبحانه وتعالى في الآية التالية لآية عرض الصفقة، فقال سبحانه: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112].
التوبة، العبادة، الحمد، السياحة، الركوع والسجود، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ حدود الله.
سبعة صفات منها ما يخص العبد بينه وبين نفسه، ومنها بين العبد وربه، ومنها بين العبد وغيره من المخلوقات ومنها معاملة الناس، فليس في الإسلام تفرقة بين تصرف المسلم في خلوته أو في تصرفه في مسجده ودار عبادته ولا تصرفه مع غيره من الناس، فالإسلام شامل لكل مظاهر الحياة، يحكم تصرفات المسلم في كل مكان، حتى في أدق لحظاته خصوصية، ويحكمه في كل وقت قبل أن يولد - بتنظيم علاقة أبيه وأمه - إلى بعد أن يموت - كيف يدفن وكيف يوزع ميراثه - .
إنها بيعة مع الله لمن أراد الفوز والنجاة، لله أن يشترط فيها ما شاء، وليس للمؤمن إلا التنفيذ إن أراد إمضاء العقد والبيعة، وأن يثبت عليها حتى يلقى ربه، بالكيفية التي يختارها الله، وفي الوقت الذي يأمر به، وساعتها يستحق العبد البشارة، وساعتها لن يخشى الموت، وساعتها سيضحك ضحكة صافية لا تظهر على وجهه إلا لحظة موته.
فعند لحظة الموت تأتي البشارات للمؤمن بأنه انتهى من عناء الدنيا، وأنه وفى بعهده مع ربه، فيقول الله سبحانه عن لحظة الموت ونزول الملائكة للمؤمن لتُطمئِنُه وتزيل عنه وحشته وخوفه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، ولهذا عندما يأتي الموت بلالا بن رباح رضي الله عنه قالت زوجته كأي زوجة يموت زوجها: "واحزناه"، فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت وقال: "لا تقولي واحزناه، وقولي: وافرحتاه، ثم قال:غداً نلقى الأحبة محمداً و صحبه".
وعندما حضرت الوفاة معاذا بن جبل رضي الله عنه قال: " مَرْحَبًا بِالْمَوْتِ، حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ، اللَّهُمَّ كُنْتُ أَخَافُكَ فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْجُوكَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الدُّنْيَا، وَطُولُ الْبَقَاءِ فِيهَا لِجَرْيِ الأَنْهَارِ، وَلا لِغَرْسِ الأَشْجَارِ، وَلَكِنْ لِظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَمُكَابَدَةِ السَّاعَاتِ، وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ".
وعندما أصاب السلاح حرام بن ملحان رضي الله عنه وضُرِب في مؤخرة رأسه لم ينطق بكلمة، لم يصرخ، لم يسب ويشتم قاتله، ما خرج منه إلا ما قد ملأ جوفه أثناء حياته فقال: " فزت ورب الكعبة ثم خر ميتا ".
إن هذه الأوصاف لتحتاج منا إلى وقفات لنتدبر كل معنى فيها حتى نعلم الشروط، فيُقبِل من يُقبِل على تلك الصفقة التي لا تترك للمؤمن شيئا من الدنيا ولا تجعله يهتم بها في قليل أو كثير، وليبتعد من يبتعد من أراد لنفسه الخسران والحرمان، فكل الخلق يموت فاختر كيف تعيش وكيف تموت.
يحيى البوليني
- التصنيف:
- المصدر: