المآلات الحضارية لحكم العسكر

منذ 2013-07-25

يكمن الخطر والسوء في الحكم العسكري في العلاقات القائمة بين الناس، فعندما يكون الجند طرفا ويقع الخلاف بين الجانبين، يكون فرق بين خصمين، يحمل أحدهما السلاح والآخر أعزل، يتكلم الأول بسلاحه والثاني بعقله، فينتصر السلاح ويسكت العقل مرغما..


بعد أن استعرض المؤرخ الأستاذ محمود شاكر (التاريخ الإسلامي: 6/ 13 فما بعدها) ملامح نفسية العسكر ابتداء من عصر الصحابة وحتى قيام الدولة المملوكية، خرج بخلاصة هامة، تعد من أنفس ما قرأت في هذا الباب، إذ إن الرجل تجاوز في كتابه السرد التاريخي إلى النفوذ إلى فلسفة الأحداث وتحليل أسبابها.

وتستطيع أخي القارئ إن أمعنت النظر في الكلام أن تفسر عددا من الأمور التي تشاهدها الآن، والتي كانت في تاريخ مضى، من أمثال: معرفة السبب في التراجع الحضاري الذى أصاب أمتنا، وسر الانهزام أمام الأعداء في عدد من المعارك، وسر عزل العسكر للرئيس المصري محمد نجيب، وعزلهم للرئيس محمد مرسي الآن، وأمور أخرى أتركها لفطنة القارئ، فقال رحمه الله:

"ويكمن الخطر والسوء في الحكم العسكري في العلاقات القائمة بين الناس، فعندما يكون الجند طرفا ويقع الخلاف بين الجانبين، يكون فرق بين خصمين، يحمل أحدهما السلاح والآخر أعزل، يتكلم الأول بسلاحه والثاني بعقله، فينتصر السلاح ويسكت العقل مرغما، فتنعدم الحرية ويقع الجور. ويتم كبت الفكر ويحدث للناس الذل: فيكرهون المتسلطين وتكون المفاصلة بين المسؤولين والرعية، ولكن لا يمكن للسكان أن يظهروا ذلك، وإنما يكون سرا.

وتتأخر البلاد اجتماعيا كما تتأخر اقتصاديا إذ يحرص الطغاة على الإفادة من وضعهم فيجمعون ما يمكنهم جمعه، ناهيك عن أعمال السلب والنهب والتعديات التي يقوم بها القادة العسكريون وأتباعهم سواء أكان عن طريقهم مباشرة أم عن طريق جندهم والذين يقلدونهم أيضا.

ويقل الإنتاج لأن السكان يهملون ذلك؛ كي لا يتعرضون للنهب أو الدفع، أو الطغيان عليهم. وتضعف المعنويات فلا يمكن للناس أن يقاتلوا، فباسم من يقاتلون؟ ولمن يحاربون؟ ولماذا يسيرون للغزو؟ وكيف يقاتل الذليل؟ وهل تُفتح البلدان بقطعان العبيد؟ لذا تضيع البلاد ويدخلها الأجنبي. وقد لوحظ هذا الأمر من القديم، لذا كان الجند يقيمون بعيدا عن أهل المدن في معسكرات خاصة بهم نائية نسبيا عن تجمعات السكان؛ كي لا يحدث هذا الصدام غير المتكافئ ويحدث انشقاق رغم أن الجميع في الماضي جند وغير جند كانوا مسلحين، وسلاحهم واحد غير أن للجند مزية مهما يكن.

ومن هنا نشأت مدن الكوفة والبصرة والفسطاط... ولكن حين يكون الحكم عسكريا فلا بد من أن يحمي نفسه بالجند المسلحين الذين يكونون بجانبه في المدن في مقر الحكم وفي دوائره الرسمية، ودائما بأسلحتهم، ويغدون ويروحون بها وهنا يقع الخطر، بل وبلباسهم العسكري دائما كي يُعرَفوا فلا يؤذون، بل ويفضلون ذلك على طريقة الشباب الذين يحبون التباهي والجند شباب وذلك كي يرهبهم الناس، ويتصرفون بما يحلو لهم ويدعمهم قادتهم في كل شيء كي يضمنوا جانبهم ويكسبوا طاعتهم وينفذوا أوامرهم وقت الشدة وأثناء الملمات. وهنا يقع الفساد وتعم المنكرات ويحدث الصدام الشعوري والعملي.


كما يكمن الخطر العسكري في المسؤول نفسه، فهو يملك الجند جميعا، وعليهم طاعته سواء أكانت طاعة الأمير وأولي الأمر، أم طاعة الجندية التي تفرض، أم طاعة جبرية في الوقت الحاضر إذا ألزم الجند عليها سواء أكانت في غير معصية أم في معصية، فالقائد يبقى قائدا باستمرار والجندي يبقى جنديا على الدوام، ومعنى ذلك أن القائد يتصرف بأمور الجندي ويكلفه بما يحلو لنفسه، ولا يمكن رد أمر له، أو مخالفته، فإن ذلك يؤدي إلى الموت وخاصة أثناء الحرب أو الحركة وتكون أوامر القائد حسب الهوى، ويقلد القائد الأقل رتبة من هو أعلى منه وهكذا...، والضابط قد تربى على السيف وعاش معه فلا يحكم عقله، وإنما ينطق بالسيف ويتعامل معه وينفذ به رأيه وهواه.

وليس معنى هذا أنه لا يوجد قادة عسكريون صالحون على مدار التاريخ فلقد وجد أمثال محمود نور الدين زنكي، وصلاح الدين... ولكن هذه النسبة قليلة وما إن ينتهي الضابط الصالح حتى يرجع العرف العسكري. بل إن العسكري الصالح قلما يطول أمره لأنه يقف أمام أهواء الذين دونه فيشعرون بالضغط والكبت فيعملون على إزاحته بصورة أو بأخرى. ومن هنا كان أصحاب القوة من العسكريين في العصر العباسي الثاني هم سبب الضعف الذي أصاب الأمة سواء أكانوا عربا أم تركا أم فرسا فالسيف واحد بأية يد كان" انتهى كلامه.


نقله: أحمد سعد
 

أحمد سعد الدمنهوري

باحث شرعي أزهري

  • 1
  • 0
  • 1,848

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً