شاهد على مأساة الفلوجة
منذ 2006-06-23
من قلب الفلوجة المحاصرة، مأساة الأموات في ظل الحصار..
بقلم: أحمد
منصور
ربما يتحدث الناس دائماً عن مأساة الأحياء في الصراعات والحروب، ويعتبر كثيرون من البسطاء أن الأموات في مثل هذه الظروف قد ارتاحوا من عناء الحياة. غير أني هنا ربما في غرابة من بعض الناس سوف أتحدّث عن مأساة الأموات في مدينة الفلوجة المحاصرة للأسبوع الثالث من القوات الأمريكية فيما يتعرض أهلها للقصف الأمريكي بشكل دائم، حتى بعد الإعلان عن هدنة هشّة بينها وبين المدافعين عن المدينة، فقد بقيت جثث العائلة التي استشهد من أفرادها أربعة وعشرون فرداً معظمهم من النساء والأطفال ليلة الأربعاء السابع من أبريل، فيما لم يتبق سوى طفل ورجل واحد من أفرادها، بقيت جثث هؤلاء الشهداء مع آخرين يومين في مسجد أبو أيوب الأنصاري في حي الجولان، لسبب بسيط هو أن أهل الحي لم يستطيعوا دفن الموتى لأن مقبرة المدينة تقع في المنطقة التي تسيطر عليها القوات الأمريكية شمال المدينة بين السكة الحديد والطريق السريع.
ولم تسمح لأهل الفلوجة بدفن موتاهم فيها، وكلما حاول الناس
الذهاب للمقبرة
أمطرتهم القوات الأمريكية بوابل من النيران فينضم بعض المشيعين
إلى
مواكب الشهداء، فاضطر الناس بداية إلي محاولة العودة للمقبرة
القديمة داخل
البلدة لدفن بعض الشهداء بها. وقد حضرت صبيحة ذلك اليوم جنازة
فتاة في
الثامنة عشرة من عمرها قتلها قنّاص أمريكي في حي نزال حينما كانت
تطل من
الشرفة، فيما أصاب آخر والدها إصابة بالغة، وقد دفعني لحضور جنازتها
أن مقتلها
تم أثناء وجودنا بالقرب من منزلها، حيث كنا نقوم وقتها بتصوير
اقتحام
القوات الأمريكية للمنطقة الصناعية التي تقع قبالة حي نزال،
فقامت القوات
الأمريكية بإطلاق نار كثيف بعدما جوبهت بنيران المدافعين عن
المدينة.
فاحتمينا بالمنازل حيث وقعنا تحت وابل نيران الطرفين وشاهد
مشاهدو
'الجزيرة' جانباً من المعركة التي تصادف بثنا المباشر وقتها
لبعض الأحداث،
بعدها جاءت الطائرات المروحية فقصفت الحي وأطلق القناصة
النيران علي كل
من يظهر من السكان وكان من بين الضحايا تلك الفتاة.
حينما ذهبنا
صبيحة الأربعاء لحضور الجنازة والاطلاع على حال المقبرة القديمة
وسط المدينة،
كان الناس متذمرين للغاية لأن المقبرة كانت ممتلئة، ويصعب حفر
قبور
جديدة بها، كما أن الشهداء يتزايد عددهم بشكل كبير وكانت هناك
عدة جنازات
ولم تكن جنازة واحدة، فيما كان الجميع يتساءلون في غضب حينما
شاهدوني
مع فريق قناة الجزيرة: أين نذهب بالأموات؟ هل هذه هي
الديمقراطية التي
جاءت بها أمريكا إلينا أن يصل الحال بنا إلى عدم القدرة علي
دفن شهدائنا؟. وسرعان ما
ترك الناس الجنازات والتفوا حولي يحملونني مسئولية نقل هذه
الصورة للعالم علي اعتبار أننا كنا الفريق التليفزيوني الوحيد
في المدينة،
ثم تجمّعوا حولي في مظاهرة كبيرة يهتفون ضد أمريكا ويصرون على
عدم
السماح للقوات الأمريكية بدخول المدينة مهما كان الثمن. وبرز شيخ
ذو لحية
بيضاء من بين الحضور وقال لي افتح الكاميرا وبلغ هذه الرسالة
للعالم، ففتح
المصور الكاميرا فقال بصوت عال وهتف الناس من ورائه "نحن أهل
الفلوجة إما أن
نعيش أعزاء وإما أن نموت شهداء".
من جانب آخر فإن بعض
الأسر في حي نزال
تحديداً -الذي حاصرته القوات الأمريكية عدة أيام وكانوا يطلقون
النار كل
شيء يتحرك فيه حتي سيارات الإسعاف-، اضطروا إلى دفن شهدائهم في
حدائق
المنازل. وأذكر أن القناصة استهدفوا شقيقين من بيت واحد وعجز
أهلهما عن
إخراجهما من البيت للمقبرة وأرسلوا لنا حينما عرفوا بمكان وجودنا،
ونحن محاصرين
تحت نيران القناصة الأمريكيين أن نذهب لنصوّر جثث أبنائهم
ونبثها فربما
يساعد هذا في حل مأساتهم والسماح لهم بنقلها للمقبرة، لكن
القناصة كانوا
يطوّقون المنطقة ولم يتمكن فريقنا من دخول المربع الذي يقع به
البيت،
وعلمنا بعد ذلك أنه خوفاّ من تحلل الجثث اضطر أهل البيت أن
يدفنوا ولديهما
في حديقة المنزل وكذلك فعل آخرون، ولنا أن نتخيل أن فلذة كبدنا
الذي كان
حياً في البيت قبل ساعات أصبح قبره في جانب منه مع باقي الأسرة
من
الأحياء.. كيف يكون حجم الألم لدي أهله وقبره ماثل أمامهم
بالليل والنهار
فلا يلتئم لهم جرح، ولا يجف لهم دمع، فدفن الموتى في المقبرة
يخفف كثيراً
من الآلام عن كون الأسرة ترى قبر ولديها في حديقة البيت بالليل
والنهار.
وقد أبلغني ليلتها
الدكتور رافع العيساوي، مدير مستشفي الفلوجة
عبر الهاتف، أنه أرسل سيارة الإسعاف مرتين لحي نزال لإحضار
حالة حرجة إلا
أن القوات الأمريكية قصفت السيارة وأصيب المسعف ونجا السائق
بأعجوبة
وترك السيارة، فأرسلوا سيارة إسعاف أخرى لقطرها وإحضار
المصابة، وكانت
امرأة فأطلقت القوات الأمريكية أيضاً النيران عليها فعادت
سيارة الإسعاف
الأخرى دون أن تتمكن من فعل شيء، ولا يعرف ما هو مصير المصابة،
فطلب مني
أن أناشد باسمه عبر 'الجزيرة' كل من كان لديه ذرة من إنسانية
أن يتدخل
للتخفيف حتي عن آلام الموتى.
كانت معاناتنا كبيرة
ونحن نقوم بتغطية
أحداث الحصار والمعارك؛ فقد كان الناس حينما يشاهدوننا ونحن
نجوب المدينة
لنتعرف على حقيقة ما يدور فيها، يقولون لنا إن هناك شهداء في
هذا المسجد
أو ذاك المسجد ولا يعرف الناس كيف يصلون للمقبرة. وفي يوم
الجمعة التاسع
من أبريل غامر بعض المشيعين وذهبوا لدفن جثث العائلة المنكوبة
مع شهداء
آخرين في مقبرة قديمة تقع في حي الجولان، هي مقبرة جامع
المعاضيدي، لكن
القوات الأمريكية أطلقت النار على المشيعين فاستشهد ثلاثة منهم
كانوا جميعاً
من الشباب، وأعطاني مدير المستشف، بياناتهم بالكامل، لذا لم
يجد أهل
المدينة بدّاً من تحويل الملعب الرياضي إلى مقبرة للشهداء حتى
يتم استيعاب
جثث الشهداء الذين كانوا يتزايدون كل دقيقة، والذين وصلوا حسب
آخر الإحصاءات من المراكز
الطبية الخمسة في المدينة إلى أكثر من سبعمائة شهيد، علاوة
على ألف ومائتي جريح.
وما زال ضحايا القوات
الأمريكية من أهالي
الفلوجة في زيادة كل يوم، حيث يتم اكتشاف جثث بعض الشهداء تحت
أنقاض منازل في
الأحياء الخارجية للمدينة بعد مرور عدة أيام بسبب هجر الناس
للمناطق،
كما أني حينما مررت بالمستشفى الميداني ليلة السبت العاشر من
أبريل،
وجدت جثث عائلة كاملة ممدة أمام المستشفي تنتمي إلى ثلاثة أجيال
من الجد إلى
الحفيد، حيث قصفتهم القوات الأمريكية بصاروخ، فماتوا جميعاً،
وكانت
بعض الجثث ممزقة حتى أنني لم أحتمّل رؤيتها وطلبت من المصور أن
يصورها،
وتحولت المراكز الصحية ليست فقط مجرد مراكز لعلاج الجرحى، ولكن
أيضاً
كان يكفن بها الموتى.. وتتحرك بهم سيارات عادية إلى المقبرة مع
أحد أقاربهم
إن وجد أو مع أحد المتطوعين.
الأحياء لا يعانون وحدهم من نيران القوات الأمريكية وحصارها لمدينة الفلوجة ولكن الأموات هناك يعانون بشكل أكبر.
- التصنيف: