من كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له

منذ 2013-09-04

هل فكر أحدنا في التوفير للدعوة، نعم التوفير للدعوة، ألسنا كلنا اعتدنا التوفير لأمور مادية بحتة وقد تكون ليست ذات بال، فبعضنا يقتر على نفسه أحياناً ويصنع ما يسمى بترشيد الإنفاق من أجل أن يجمع مبلغاً من المال لشراء سيارة جديدة وربما لشراء شيء من الأثاث، والكثير يعمل ذلك من أجل أن يشيد بيتاً يؤمن له مستقبله ومستقبل أولاده، ومع هذا لم نفكر في تشييد مستقبلنا السرمدي..


إن الناظر بتأمل في أحوال كثير من المسلمين اليوم ليكاد يجزم أنهم يعيشون لدنياهم فقط، وكأن الآخرة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وعذابها المقيم، أحلام ليست واقعاً سننتهي إليه ولا محالة، وإلا فما هو سبب قعودنا عن كثير من أعمال الطاعات التي هي في مقدورنا دون كبير كلفة أو بالغ مشقة.

ولنضرب لذلك مثلاً: هل فكر أحدنا في التوفير للدعوة، نعم التوفير للدعوة، ألسنا كلنا اعتدنا التوفير لأمور مادية بحتة وقد تكون ليست ذات بال، فبعضنا يقتر على نفسه أحياناً ويصنع ما يسمى بترشيد الإنفاق من أجل أن يجمع مبلغاً من المال لشراء سيارة جديدة وربما لشراء شيء من الأثاث، والكثير يعمل ذلك من أجل أن يشيد بيتاً يؤمن له مستقبله ومستقبل أولاده، ومع هذا لم نفكر في تشييد مستقبلنا السرمدي.

قرأت عن مشروع تتبناه هيئة خيرية، وهو عبارة عن بناء مجموعة من المساجد في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، يكلف بناء المسجد الواحد منها أثني عشر ألف ريال تقريباً. يا إخوة ألسنا كلنا نعلم أجر بناء المساجد وتعميرها، ألسنا كلنا نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة»، لِمَ لا نفكر في التوفير من أجل بناء بيت في الجنة؟ لِمَ نبخل على أنفسنا! {ومَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأَنتُمُ الفُقَرَاءُ} [محمد: من الآية 38]. انظر إلى هذا المبلغ الذي يستطيع أحدنا توفيره بسهولة، والذي لو أردنا توفيره من أجل شراء سيارة لما ترددنا في فعل ذلك طرفة عين.

وإليك مثلاً آخر، تقول تلك الهيئة: إن تكلفة المصحف الواحد وإيصاله إلى تلك البلاد ثلاثة ريالات، أتدرون ما هي الثلاث ريالات! إنها قيمة قطعة من الحلوى أو قارورتين من المشروبات الغازية، ألا نستطيع الامتناع عن تلك المشروبات بضعة أيام من أجل أن نشتري مصحفاً لأحد أبناء المسلمين، إنه صدقة جارية يبقى لك بعد مماتك، ولعل قارئه كلما قرأه دعا لمن تبرع به، وكم ينشر من علم وخير، ولا تستكثر يا أخي الأجر، فالله كريم واسع الفضل والعطاء، وكلتا يديه يمين سحاء الخير، ليلاً نهاراً.

ولو جال أحدنا بخاطره وتمعن في مصروفاته اليومية فإنه سيجد نفسه قادراً على التخلي عن كثير منها، واستبدالها بما ينفعه في أخراه: {وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المطففين: من الآية 26].

ولقد شرع الإسلام التكافل المالي بين المسلمين، ومن المواساة والترابط وسد الحاجات وفي الحديث: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: "بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً فقال رسول الله: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له». فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (رواه مسلم)، صورة رائعة لتطبيق هذا النظام، وذلك عندما يوجد في المجتمع المسلم بسبب بعض الظروف طوائف بلغت من الفقر حداً لا تستطيع معه تلبية حاجياتها الأساسية، فعند هذه الحالة يلزم الإسلام أصحاب فضول الأموال أن يخرجوا من فضول أموالهم -ولو من غير مال الزكاة- ما يسد حاجة إخوانهم.

إننا نعيش اليوم أحوال ضرورة توجب علينا ما لا يجب في الأحوال العادية، ذلك أننا نعلم يقيناً بوجود حاجة ماسة لكثير من المسلمين في عدة جوانب، فكثير من المسلمين يموتون جوعاً أو عطشاً أو برداً، فهم بحاجة إلى المال للحفاظ على حياتهم، والإبقاء على مهجة المسلم واجب.

وكثير منهم يتنصرون بسبب عمل النصارى الدؤوب في الدعوة إلى دينهم، وقعودنا نحن عن هذا الواجب، فأولئك المسلمون بحاجة إلى المال الذي يوظف دعاة ويمدهم برسائل الدعوة، والحفاظ على الدين من أهم الواجبات.

وهناك أسرى كثيرون للمسلمين في بقاع شتى، وبلاد إسلامية محتلة من قبل الكفرة، وتلك وهذه تحتاج إلى المال من أجل فكاك أسرها، وقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "يجب على الناس افتداء أسراهم وإن استغرق ذلك جميع أموالهم".

لقد شرعت الزكاة لسد تلك الحاجات وأشباهها، فإذا انسدت حاجتهم لم يكن هناك مسوغ لأخذ غير الزكاة من أموال الأغنياء، وللأغنياء عندئذ التوسع في المباحات ما لم يبلغوا حد الإسراف.

لكن قد يحدث أن لا تفي أموال الزكاة بسد تلك الحاجات، إما لقلتها أو لأن كثيراً من الأغنياء امتنعوا عن أدائها ولا سلطه تلزمهم بدفعها، أو حينما لا يتمكن من إيصالها إلى المحتاجين في الوقت المناسب، كأن يرى المسلم معصوماً يشرف على الهلاك جوعاً أو عطشاً، أو أسيراً مسلماً حانت فرصه لافتدائه وإن لم يفتد الآن فسيقتل، وغير ذلك من الصور.

فمن أجل هذه الحالات وأشباهها أوجب الفقهاء على المستطيع، وهو من يجد فضل مال أن يخرج من ماله ما يسد حاجة المحتاج. وإن كان العلماء قد اختلفوا في مسألة (هل في المال حق سوى الزكاة)، إلا أنه عند تحرير محل النزاع نجد أن هناك قدراً مشتركاً لم يختلفوا فيه، فقد اتفقوا على وجوب نفقة الزوجة والأولاد مثلاً، وهذا لا شك مال يجب على الإنسان إخراجه غير مال الزكاة، وقد اتفقوا على وجوب إطعام المشرف على الهلاك جوعاً، ولو من غير مال الزكاة.

فبناء على هذا يظهر أن محل الخلاف بين الفريقين في إيجاب حق دوري، مقدر بقدر معين يلزم كل من ملك نصاباً، في جميع الأحوال، فبهذا يكون موضوعاً خارج عن محل الخلاف -ولهذا لم أعرض وجهة نظر الفريق القائل بأن في المال حقاً سوى الزكاة. ويدل على ذلك أن القائلين بعدم إيجاب مال سوى الزكاة في المال هم أنفسهم يستثنون الأحوال العارضة، فهذا الجصاص الحنفي يقول: "إن المفروض إخراجه هو الزكاة المفروضة إلا أنه تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء، نحو الجائع المضطر، والعاري المضطر، أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه" (أحكام القرآن للجصاص 3/131).

وهذه المسألة تشهد لها أدلة كثيرة:

فأولها: القواعد الكلية للشريعة ومقاصدها العامة، التي جاءت بحفظ مصالح العباد، والتي حرمت دين المسلم، ونفسه، وعرضه، وعقله، وماله، وجعلت تلك الأشياء من الضروريات التي يجب المحافظة عليها وإن ترتب على ذلك بعض المفاسد.

وما من شك أن مفسدة ذهاب الدين، أو هلاك النفس أعظم من مفسدة أخذ مال الغير الذي يفيض عن حاجته الأساسية. ووضوح هذا الأمر يجعل من غير المستغرب أن ينقل الإجماع على ذلك، وممن نقل الإجماع ابن العربي المالكي، والقرطبي، قال ابن العربي المالكي: "وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة، فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق العلماء" (أحكام القرآن لابن العربي 1/95-6، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/242).

والقواعد الكلية للشريعة ومقاصدها العامة كافية في إيجاب هذا الأمر، لكني أورد طائفة من الأحاديث والآثار التي توجب ذلك، مقرونة بكلام العلماء، زيادة في البيان وتقوية في الحجة.

فمن تلك الأدلة:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم» (رواه البخاري ومسلم)، فقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان يفعله الأشعريون إذا أرملوا وبشرهم بأنه منهم وهم منه، وهذا دليل على أنه لا يريد أن يكون المجتمع طبقتين: طبقة مترفة تكدس الأموال في جيوبها، وطبقة معوزة لا تجد غنى يغنيها، وفي ذلك من الفساد ما فيه" (نظرية الضرورة لجميل مبارك ص 342).

وقد صح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة رضي الله عنهم: أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم أيها على السواء. قال ابن حزم: "فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف له منهم" (المحلى 6/158).

وعن أبي بكر رضي الله عنه: "أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة، من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس، أو كما قال، وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي بعشرة" (الحديث رواه البخاري 6/587 رقم 3581) قال ابن حجر في فتح الباري: "وفيه التوظيف في المخمصة" (ص 6/600).

وفي حديث مسلم في القوم الذين جاؤوا رسول الله، مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة، فخطب الناس وحثهم على الصدقة فتصدق الناس حتى تجمع كومان من الطعام، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تهلل وجهه كأنه مذهبة، فتمعُّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث دليل على كراهته وجود مضطرين في المجتمع المسلم وفيه من يملك مواساتهم، وإزالة الضرورة عنهم، فلما رأى إسراع الصحابة، رضوان الله عليهم، إلى مواساة هؤلاء تهلل وجهه ورضي بما صنعوا، إيماء إلى أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه أعضاء المجتمع المسلم كله (نظرية الضرورة 342).

آثار الصحابة:

لقد كان عام الرمادة بمثابة الاختبار، لواقعية هذا النظام، ولمقدرته على تجاوز الأزمات، ولقد كان للفاروق عمر بن الخطاب مواقف رائعة جداً في ذلك، تعكس عظمة الإسلام وروعة نظامه.

وقد أورد ابن سعد في الطبقات جملة من الآثار عن عمر بن الخطاب في موقفه من المجاعة تدل كلها إما نصاً أو معنى على وجوب التكافل بين المسلمين، وأن على أصحاب فضول الأموال أن ينفقوا من فضول أموالهم، حتى يسدوا حاجات الفقراء، بل وعلى والي المسلمين أن يأمرهم بذلك، وهذا يكون إذا لم تف أموال الزكاة، أو أموال بيت مال المسلمين بذلك.

فمن هذه الآثار: أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص عام الرمادة: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى العاصي بن العاصي، سلام عليك، أما بعد أفتراني هالكاً ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثا، ثلاثاً" (الطبقات 3/ 310).

وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب حرم على نفسه اللحم عام الرمادة حتى يأكله الناس (الطبقات 3/313).

وعن ابن عمر أن عمر قال: "لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم إلا أن أدخل على كل أهـل بيت عدتهم فيقاسمونهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بحيا فعلت، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم" (الطبقات 3/ 316).

وقال رضي الله عنه: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين" قال ابن حزم في إسناد هذا الأثر إسناده في غاية الصحة والجلالة (المحلى 6/ 158).

وعن علي بن أبي طالب: "إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه" (رواه ابن حزم 6/158).

نصوص العلماء في ذلك: لقد كانت هذه المسألة من الأهمية بمكان عند العلماء، حتى أنهم بحثوها في مواطن متعددة وإليك جملاً من نصوصهم:

الحنفية:


قال الجصاص: "إن عارية هذه الآلات -يعني القدر والفأس ونحوها- قد تكون واجبة في حال الضرورة إليها، ومانعها مذموم مستحق للذم، وقد يمنعها المانع لغير الضرورة، فينبئ ذلك عن لؤم، ومجانبة أخلاق المسلمين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (أحكام القرآن للجصاص 3/ 584).

وعند المالكية: في أحكام القرآن لابن العربي: "وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء".

وقد قال مالك: "يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذلك إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة نظر أصحها عندي وجوب ذلك عليهم" (أحكام القرآن 1/59-60).

وقال القرطبي: "واتفق علماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، يجب صرف المال إليها، قال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع، وهو يقوي ما اخترناه" (تفسير القرطبي 2/ 242).
وفي الشرح الكبير لمختصر خليل: "وقاتل المضطر جوازاً، رب الطعام، ولو مسلماً، إن امتنع من دفعه له، عليه، أي على أخذه منه، بعد أن يعلم ربه، أنه إن لم يعطه قاتله، فإن قتل ربه -رب الطعام- فهدر" (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 2/116 بتصرف يسير).

الشافعية:


في كتاب الأطعمة: قال في مغني المحتاج: "أو وجد طعام حاضر غير مضطر له لزمه أي غير المضطر إطعام مضطر معصوم مسلم أو ذمي أو نحوه كمعاهد، ولو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأصح للضرورة الناجزة بخلاف غير المعصوم كالحربي، فإن امتنع وهو أو وليه غير مضطر في الحال، من بذله بعوض لمضطر محترم، فله أي المضطر قهره على أخذه، وإن احتاج إليه المانع في المستقبل، وإن قتله" (4/ 308-309).

وفي نهاية المحتاج: "ومن فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين، ككسوة عار، وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال، على القادرين وهم من عنده زيادة على كفاية سنة لهم ولممونهم، وهل المراد من نفع ضرر من ذكر: ما يسد الرمق أم الكفاية؟ قولان، أصحهما ثانيهما، فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على ما يليق بالحال من شتاء أو صيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناهما من أجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع، كما هو واضح" (نهاية المحتاج 7/ 149).

الحنابلة:


بحثت في عدة مواطن من كتبهم: في كتاب الصيد والذبائح، فعند المغني: "وجملته أنه إذا اضطر فلم يجد إلا طعاماً لغيره، نظرنا فإن كان صاحبه مضطراً إليه، فهو أحق به ولم يجزئ لأحد أخذه منه، لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه الضرورة، وإن أخذه منه أحد فمات لزمه ضمانه، لأنه قتله بغير حق، وإن لم يكن صاحبه مضطراً إليه، لزمه بذله للمضطر لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم، فلزمه بذله كما يلزمه بذل منافعه في إنجائه من الغرق والحريق، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه لأنه مستحق له دون مالكه، فجاز له أخذه كغير ماله، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه فإن قتل المضطر فهو شهيد، وعلى قاتله ضمانة، وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر، لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكنه أخذه بشراء أو استرضاء.." (المغني مع الشرح 11/80).

وفي منار السبيل: "ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه كثياب لدفع برد، ودلو، وحبل لاستقاء ماء، وجب على ربه بذله مجاناً بلا عوض؛ لأنه تعالى ذم على منعه بقوله: {ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [الماعون:7]، فإن احتاج ربه إليه فهو أحق بالملك من غيره لتميزه بالملك" (انظر منار السبيل كتاب الأطعمة 2/419).

في كتاب الديات: "وإن اضطر إلى طعام وشراب لغيره فطلبه منهم فمنعه إياه مع غناه عنه في تلك الحالة، فمات بذلك، ضمنه المطلوب منه لما روي عن عمر أنه قضى بذلك، ولأنه اضطر إليه فصار أحق به ممن هو في يده وله أخذه قهراً، فإذا منعه إياه تسبب إلى إهلاكه بمنعه ما يستحقه، فلزمه ضمانه، كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك" (المغني مع الشرح 8/580، وانظر منار السبيل كتاب الديات 2/335).

وفي قواعد ابن رجب الحنبلي: "القاعدة التاسعة والتسعون: ما يدعو إلى الانتفاع به من الأعيان ولا ضرر في بذله لتيسيره وكثرة وجوده أو المنافع المحتاج إليها يجب بذله مجاناً بغير عوض في الأظهر.. ثم نقل عن شيخ الإسلام أن المضطر إلى الطعام إن كان فقيراً وجب بذله له مجاناً لأن إطعامه فرض كفاية لا يجوز أخذ العوض عنه بخلاف الغني.. " (قواعد ابن رجب 228).

قول ابن حزم: كما مر فإن ابن حزم نافح عن هذا الأمر بقوة، وحشد له جملة من الأدلة، وقد قال رحمه الله تعالى: "وفرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بذلك، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف وأعين المارة".

قول ابن تيمية: قال رحمه الله: "فأما إذا قدر أن قوم اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكاناً يأوون إليه، إلا ذلك البيت فعليه أن يسكنهم، وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثياباً يستدفئون بها من البرد، أو إلى الآت يطبخون بها، أو يبنون أو يسقون يبذل هذا مجاناً، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلواً يستقون به أو قدراً يطبخون فيها، أو فأسا يحفرون به، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره، والصحيح وجوب بذل ذلك مجاناً إذا كان صاحبها مستغنياً عن تلك المنفعة وعوضها، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [الماعون:4-7] وفي السنن عن ابن مسعود قال كنا نعد الماعون عارية الدلو والقدر والفأس" (مجموع الفتاوى 28/98).

تنبيهان:

الأول: قد يتساءل البعض فيقول هذه شيوعية أو اشتراكية؟

والجواب: شتان ما بين الثرى والثريا، وكما قال الشاعر:


 

ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصى


إن النظام المالي للشيوعية يقوم على أسس منها:

1- إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتاً وإحلال الملكية الجماعية بدلاً منها.

2- المساواة في الأجور.

3- تطبيق مبدأ من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته.

وهذه أسس خيالية تصادم الفطرة ولذلك فشلت فشلاً ذريعاً كما هو الواقع. أما النظام الإسلامي، فيما سبق الحديث عنه، فيرمى إلى أن لا يوجد في المجتمع الإسلامي مضطرون لا يجدون حاجاتهم الأساسية، مع تمكن البعض من سد حاجاتهم وإزالة الضرورة عنهم، ولا يرى الإسلام مانعاً من أن توجد فوارق بين أبناء المجتمع وهذا ما نص عليه القرآن في مواطن عدة (للتوسع انظر: فصل الشيوعية من كتاب مذاهب فكرية معاصرة، للأستاذ محمد قطب)، قال تعالى: {ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًّا} [الزخرف:32].

الثاني: لا يقولن قائل أن وجوب سد حاجة الفقراء، مقصورة على الأغنياء، ذوي المال الوفير، بل إن وجوب ذلك منوط بكل من وجد فضلاً من المال كما مر آنفاً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الآثار المروية عن عمر.

الخاتمة:

وبعد هذه الأدلة الناصعة، وكلام العلماء الجلي: أقول: أيها المسلمون ويا أيها الدعاة، ألسنا نرى بأم أعيننا ونسمع بآذاننا عن إخوان لنا في الدين يموتون كل يوم جوعاً، ومرضاً، وخوفاً وتشريداً، أفلا نقول لأنفسنا كما قال عمر بن الخطاب: "هل نرى هؤلاء يموتون، ونعيش نحن، بل ونتنعم، ونتلذذ بكل ما لذ وطاب، ولا يفوتنا من الكماليات شيء؟"، إننا بحق في حاجة إلى الأخوة الإسلامية كما جاء بها الإسلام.



هيثم بن جواد الحداد

 

المصدر: مجلة البيان
  • 10
  • 0
  • 23,306

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً