ماهية الهوية وكيفية الحفاظ عليها

منذ 2013-09-20

على الرغم من كثرة الكتابات في موضوع الهوية، وكثرة التحذيرات من الانسياق وراء كل ما يصْدُر عن الغرب من أفكار وآراء ومعتقدات؛ إلا أن واقعنا ينذر بخطر شديد فيما يخص هويتنا الإسلامية والعربية، وتعرضها لاختراقات وهجمات من قبل الغرب على مختلف توجهاته وانتماءاته.


على الرغم من كثرة الكتابات في موضوع الهوية، وكثرة التحذيرات من الانسياق وراء كل ما يصْدُر عن الغرب من أفكار وآراء ومعتقدات؛ إلا أن واقعنا ينذر بخطر شديد فيما يخص هويتنا الإسلامية والعربية، وتعرضها لاختراقات وهجمات من قبل الغرب على مختلف توجهاته وانتماءاته.

ومسألة ضياع الهوية الإسلامية، وانسلاخ المسلمين عنها؛ صوَّرها لنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم القائل فيه: «لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه» (أخرجه الحاكم في المستدرك: [4/502/1983]، صححه الألباني).

وفي رواية: قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن إلا اليهود والنصارى؟!» (أخرجه الروياني في مسنده: [2/218/1073]؛ والطبراني في الكبير: [6/186/5943]، والحديث صححه الألباني).

فهذا الحديث يصور لنا مسألة الانسلاخ عن الهوية الإسلامية وضياعها، وبقدر القرب منه أو البعد نقترب ونبتعد عن مسألة الهوية.

تعريف الهوية والهوية الإسلامية:

وردَت كلمة هوية في معاجم اللغة بمعنى: "بئر بعيدة المهواة"، وقيل: هي تصغير كلمة (هوة)، وهي: "كل وهدة عميقة"(المعجم الفلسفي - مجمع اللغة العربية؛ ص: [208]، المطابع الأمرية - القاهرة 1403هـ، 1983م).

والهوية بالمعنى الفلسفي تعني حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وتُسمَّى أيضاً وحدة الذات (لسان العرب لابن منظور: [15/375-376]، دار صادر- بيروت).

وهي بهذا المعنى تتساوى مع مصطلح (هو هو) الفلسفي، والذي يشير إلى ثبات الشيء بالرغم مما يطرأ عليه من تغيرات، فالجوهر هو هو وإن تغيرت أعراضه (لسان العرب لابن منظور؛ ص: [207]، دار صادر- بيروت).

وقد ورد هذا المصطلح (هو هو) بنفس المعنى السابق في حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت: "كنتُ أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه، فلما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين ساقطين، يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنتُ أصنع فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعتُ عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟" قال: نعم والله، قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: فما في نفسك؟ أجاب: عداوته والله ما بقيت" (السيرة النبوية لابن هشام: [3/52]، دار الجيل- بيروت ط1- 1411هـ).

فقول أبي ياسر (أهو هو) إشارة إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته الموصوف بها في التوراة.

وعرفها ابن حزم بقوله: "وَحَدُّ الهوية هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه، إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتة، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر" (الفصل في الملل والنحل لابن حزم الظاهري: [2/107] مكتبة الخانجي- القاهرة- د.ت).

أما الهوية الإسلامية فنقصد بها: "الإيمان بعقيدة هذه الأمة، والاعتزاز بالانتماء إليها، واحترام قيمها الحضارية والثقافية، وإبراز الشعائر الإسلامية، والاعتزاز والتمسك بها، والشعور بالتميز والاستقلالية الفردية والجماعية، والقيام بحق الرسالة وواجب البلاغ، والشهادة على الناس" (الهوية الإسلامية لخليل نوري: ص: [45]).

الهوية الإسلامية والقومية العربية:

لكن الذي يؤسف له أن كثيراً من كتابنا ومثقفينا - في محيطنا العربي - قد سطحوا من مسألة الهوية، وهمشوا من محتواها الإسلامي والعقدي، بل ربما ألغوه تماماً، ومن ثم قصروا مفهوم الهوية على الانتماء للعربية، وبعض المظاهر الحضارية والثقافية والفنية المرتبطة بذلك، والتي تبلورت فيما بعد في فكرة القومية العربية، ولا يخفى على أحد خطورة هذا المنحى، فالقومية العربية حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحدة لهم على أساس من رابطة الدم واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين، وهي صدى للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوروبا (ينظر: الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة: [1/ 444-445]- دار الندوة).

وظهرت هذه الدعوة على يد ثلة من المفكرين النصارى للاستعاضة والحد من فكرة الأمة الإسلامية؛ لتكون فكرة القومية بذلك هي الطعنة الثانية في جسد الأمة الإسلامية بعد سقوط الخلافة على يد أتاتورك عام 1924م.

و"الطابع الأبرز لفكرة القوميَّة العربيَّة أنها قد واكَبها منذ نشأتها خطابٌ بعيد عن الموضوعيَّة، وإيجادِ الحلول العمليَّة الحقيقيَّة لبناء أُمَّة؛ حيث كانت "العواطف" هي صاحبةَ الدور الأبرز في تسويق هذه الفكرة في كِيان الأمة الإسلاميَّة، وأمَّا دورها الموضوعي التطبيقي في بناء أمة لها نظامُها الخاص الفريد المنبثق عن مفاهيمها فكل ذلك كان عائشاً في منطقة العدم؛ إذ لا يوجد نظام متكامل يَنبثق عن الفكرة القوميَّة، وقد وجَدنا أنَّ حَمَلَة هذه الفكرة قد أقاموا أنظمة ودولاً تَحكم الأُمَّة ولا علاقة لها بالفكرة القوميَّة كالملكيَّة والاشتراكيَّة والديمقراطية، فهذه كلها غيرُ مبنيَّة على الفكرة القوميَّة؛ مما يُظهر قصورها "وإنشائيَّتها" على حساب الواقعيَّة التي ينبغي أن تتَّسم بها الهُوية التي تجمع الأمة التي ينبغي أن تُجيب عن أسئلة النهضة، وبناء الأمم والحضارات" (مقال: القومية العربية كهوية - شريف محمد جابر- موقع شبكة الألوكة).

والإشكالية الأخرى في مسألة القومية والهوية أن العرب ككتلة بشرية ومساحة جغرافية لا يجمعهم تاريخ واحد، ولا ثقافة واحدة، فلكل إقليم تاريخه الخاص، وثقافته المرتبطة بظروفه وعاداته وتقاليده، بل أن اللغة تعجز أحياناً عن جمع شتاتهم نظراً لاختلاف اللهجات واللكنات، فـ"الواقع التاريخي يسجِّل أن المنطقة العربية عجَّت بثقافات مختلفة متباينة، بل ومتناقضة في بعض الأحيان، فالثقافة الجاهليَّة التي عاشَت في عقول العرب قبل الإسلام؛ مختلفة أشد الاختلاف عن الثقافة الإسلامية التي ظلَّلتهم وظلَّلت المنطقة على مدى أكثر من ثلاثة عشر قرناً، فإلى أيِّها ننتمي؟ وكيف ننتمي إلى جميع ما عجَّ في المنطقة من ثقافات وهي متباينة مختلفة؟ هل ينتمي الإنسان إلى متناقضات تتنازعه وتُشَتِّت وحدة كِيانه؟!" (مقال: القومية العربية كهوية - شريف محمد جابر- موقع شبكة الألوكة).

هل يوجد تعارض بين الهوية الإسلامية والانتماء الوطني؟

في هذا الصدد يظهر مصطلحان يتعمد البعض الخلط بينهما، الأول منهما هو مصطلح (الوطنية)، والثاني (حب الوطن)، والفرق بينهما وبين مدلولهما كبير، فمسألة حب الوطن مسألة قديمة قدم الإنسان، حيث تعود الإنسان على حب مسكنه، ومربع طفولته، ومرتع صباه وشبابه، وهو معنى جميل، وخلق راق، لا تعارض بينه وبين مفهوم الهوية الإسلامية، بل المسلمون الصادقون من أشد الناس حباً لأوطانهم، ومن أكثرهم حرصاً على جلب الخير، ودفع الضر عنها.

وأما الإشكالية والخلط فيقع في مفهوم (الوطنية)، وهو مفهوم حديث ظهر بعد سقوط الخلافة، وتفتت العالم الإسلامي وانشطاره إلى دويلات صغيرة، وهو مصطلح قد يعمل على إثارة النزعات والعصبيات بين أفراد الأمة الواحدة، بعيداً عن رابط الدين والعقيدة، ويعني الانتماء إلى الأرض والناس، والعادات والتَّقاليد، والفخر بالتَّاريخ، والتفاني في خدمة الوطن، بعيداً عن لحمة الدين، وبذلك تفتت الهوية الإسلامية العامة إلى هويات خاصة، فظهرت هوية مصرية، وأخرى جزائرية، وثالثة عراقية، وصارت العصبيات هي المحرك الأساسي لهذه القوميات والهويات، وربما نشبت بينهم الحروب لأتفه الأسباب.

ولذلك نقول: إن أحب الأوطان لنا هي مكة المكرمة، ثم المدينة المنورة، ثم بيت المقدس، وأما عدا ذلك من بلاد الإسلام فلا نفاضل بينها عصبية، مع احتفاظنا بالحب الفطري والجبلي لأماكننا وبلادنا التي تربينا فيها، ورتعنا وشربنا من مائها.

الليبرالية وتمييع الهويات:

لا يخفي على أحد أن الليبرالية صنيعة غريبة، بل هي آخر منتج خارج من دولاب الفلسفات والمذاهب الغربية، وهي بحق أنضجها، حيث جاءت بعد عناء طويل تعددت فيه السقطات والإخفاقات، جاءت الليبرالية لتصلح ما أفسدته أنظمة كثيرة كالشيوعية والرأسمالية، والعلمانية... وغيرها من المذاهب والفلسفات الغربية هذا من جانب، ومن جانب آخر جاءت لتحل محل الهويات المناوئة للهوية الغربية، وفي محيطنا العربي والإسلامي سعت الليبرالية منذ أن حطت رحالها إلى تذويب الهوية الإسلامية، ومحو معالمها.

فجاءت الليبرالية على عكس القومية لتجعل من المجتمع الواحد مجتمعاً مهترئاً، لا رابط بين أفراده، ولا هم ولا قضية تجمع بينهم، فلا حاكم لأصحابها إلا الغريزة، ولا هدف لهم إلا الانفكاك من كل قيد، والأخطر من ذلك أنها سعت إلى إماتة كل العصبيات والهويات الصالح منها والفاسد، فبالإضافة إلى سعيها إلى القضاء على الهوية القومية والوطنية؛ قضت على الهوية الإسلامية، ومن ثم قضت على الشعور بالعداء نحو أي محتل، وأصدق مثال على هذا ما حدث في العراق وأفغانستان حيث وجدنا هذا الصنف من المفكرين من أوائل من ارتمى في أحضان الغزاة، وزينوا لهم أعمالهم بحجة الإرهاب، ونشر الديمقراطية.

مكونات الهوية الإسلامية:

لكي يصدق على أي هوية لأية جماعة بشرية هذا الاسم لا بد لها من وجود مكونات، أو مقومات تمكنها من البقاء والمنافسة والاستمرارية، وهذه المكونات تتلخص في وجود عقيدة واحدة يؤمن بها أفراد هذا المجتمع، وتاريخ جامع لأيامه وأحواله، وآخر هذه المكونات يتمثل في ثقافة تجمع تحتها لغة أم، وعلوم وفنون، وآداب وعادات وأعراف، والناظر في هويتنا الإسلامية يلحظ بشكل قوي وجود هذه الثلاث، ولمزيد من الإيضاح نفصل القول فيها:

أولاً: العقيدة:

ونقصد بها الدين فكراً وشريعة وعقيدة وسلوكاً، فـ"الهوية الإسلامية في المقام الأول انتماء للعقيدة، يترجم ظاهراً في مظاهر دالة على الولاء لها، والالتزام بمقتضياتها، فالعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية المسلم وشخصيته، وهي أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان، فهي انتماء إلى أكمل دين، وأشرف كتاب نزل على أشرف رسول إلى أشرف أمة، بأشرف لغة، بسفارة أشرف الملائكة، في أشرف بقاع الأرض، في أشرف شهور السنة، في أشرف لياليه وهي ليلة القدر، بأشرف شريعة وأقوم هدي" (الهوية أو الهاوية للدكتور محمد إسماعيل المقدم بحث منشور على الإنترنت؛ ص: [3]).

وعليه فالمسلم المقر بوحدانية الله تعالى، وبرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعمل لهذا الدين عن وعي وإدراك وإيمان جاعلاً قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] دستوراً له، وقانوناً يسير حياته؛ هو مسلم صاحب هوية قوية ثابتة متجذرة، فقد "اعتبر الإسلام أن الدين هو المكون الأول من مكونات الهوية، وعده مرتكز الولاء والبراء، فهو دثار الهوية الإسلامية وشعارها، وجعل القرآن الكريم لهذا العنصر سمات تصون الأمة عن ما آلت إليه الأمم الأخرى التي وحدها الدين في ظل هوية واحدة؛ ولكنها ما لبثت أن اختلفت، فالدين كل لا يتجزأ، فهو يعنى أن تكون الصلاة والنسك والمحيا والممات لله ربّ العالمين، وأن من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، ومن الثابت أن الدين عند الله الإسلام، فالشرائع السماوية السابقة التي حرفت ليست من الإسلام في شيء، وجعل الإسلام شعائر الدين الحسية والغيبية، والأصلية والفرعية من مرتكزات الهوية الإسلامية التي تميز الفرد والمجتمع، وهي من عوامل التميز من حيث المصدر والزمان، والمكان والترتيب، والحكمة والثواب، فهي تختلف عن الشرائع السماوية التي حُرفت وعن ما ابتدعته المذاهب الفكرية الأرضية، وبناء على ذلك فإن المسلم هو من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، ورضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً" (مقال: الفرق بين الهوية الإسلامية والهويات الأخرى د. جمال محمد الزكى - موقع الجمعية الشرعية).

التاريخ:

إن أمة بلا تاريخ هي أمة بلا مستقبل، وبالتالي فهي أمة بلا هوية، وحقيقة الأمر أنه لا وجود لأي أمة بلا تاريخ، فلكل أمة تاريخ على مستوى الفرد والجماعة، لكن المشكلة ليست في التاريخ إنما فيمن يحفظ هذا التاريخ، ويسجل إضاءاته وانطفاءاته، ويستفيد من مواقفه وعبره ودروسه، كذلك فهناك من الأمم من لا تملك تاريخاً مشرفاً، فهي تسعى من حين لآخر في ترقيع تاريخها، وتأليف أمجاد لها، بل وتسعى في أحيان أخرى إلى سرقة التاريخ من غيرها.

وعلى مستوى أمتنا فتاريخها شاهد على أنها أمة ذات هوية قوية مشرفة ومؤثرة ذلك لأن تاريخها يختلف عن تاريخ الآخرين، فهي أمة بدايتها مع بداية الخليقة، ويظهر ذلك من خلال رؤيتنا لمنهج القرآن الكريم في عرض الأحداث التاريخية حيث "يثبت أن التاريخ لا يبدأ بالبعثة النبوية في مكة المكرمة؛ ولكنه يعنى تاريخ النبوة المتصل بآدم عليه السلام الذي خلق الله منه زوجه، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، فغرس القرآن الكريم في نفوس المؤمنين أهمية التاريخ، وضرورة الاعتزاز بأحداثه، وما تمخض عنها، وجعلها مصدر تثبيت للأفئدة وذلك من خلال قصص الأنبياء، ونقاط الالتقاء بين الرسالات، والميثاق الغليظ، والإشهاد على الأنفس" (مقال: الفرق بين الهوية الإسلامية والهويات الأخرى د. جمال محمد الزكى - موقع الجمعية الشرعية).

الثقافة:

الثقافة في نسقها الإسلامي تعنى علوم المجتمع وآدابه وقيمه إلى جانب اللغة المعبر بها، وفي هذا الصدد ظهرت مغالطة كبيرة انساق خلفها الكثيرون، وهذه المغالطة تتمثل في اعتبار عدد من الكتاب والمثقفين الهوية الإسلامية جزءاً من الهوية الثقافية، بمعنى أن يكون المكون الثقافي شاملاً للمكون الديني، وهي مغالطة كبيرة وكارثية في الوقت ذاته، لأنها تعطي إيحاءً بأن هوية الأمة قد تخرج عن الهوية الإسلامية، وحقيقة الأمر أن الهوية الثقافية لأمتنا لا ينبغي لها أن تخرج بحال من الأحوال عن الهوية الإسلامية، فهي محكومة لا حاكمة، تسيرها ضوابط الشريعة وتقيسها، فما وفق الشرع قُبل، وما خالفه رفض ورد، وهذا المعنى هو جوهر الهوية الإسلامية وغايتها.

واللغة حافظة وناقلة لهذه الثقافة، ومن ثم فهي تحفظ للأمة وحدتها وترابطها، وتمكن أفرادها من التواصل والتعبير عن تركيبهم الثقافي والقيمي، وفيما يخض اللغة العربية فهي أصل أصيل، ومركب لازم من لوازم هوية هذه الأمة، فهي لغة القرآن، وضياعها ضياع لهذا الدين.

لذا فإن تعلمها والحفاظ عليها واجب قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" (اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية: [207]، مطبعة السنة المحمدية ط2 - 1369هـ).

لكننا في الوقت ذاته يجب أن نشير إلى أمر هام وهو أن الهوية الإسلامية هوية دينية فكرية، وليست هوية عرقية، أو هوية قومية تقوم على رابط العرق أو اللغة بالأساس، لذلك نرى تحت لواء هذه الهوية من لا يتحدث العربية، ويجيد لغة أخرى كالإنجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية، وهذا لا ينقص من هوية الفرد المسلم على المستوى الفردي إن كان أعجمياً، لكن غياب اللغة أو ضعفها على المستوى المجتمعي العام في المحيط العربي لا شك أنه نقيصة ومطعن في هويتنا الإسلامية.

ومن مكونات الثقافة أيضاً العلوم والفنون والآداب، وهي أمور قد تختلف من مجتمع لآخر في المحيط الإسلامي، لكنها تنضوي جميعها في آخر الأمر تحت لواء الشريعة، والأمر نفسه ينطبق على العرف والعادة، فـ"منها ما أقره الدليل الشرعي وجوباً أو ندباً، أو نفاه تحريماً أو كراهة، كالأمر بإزالة النجاسات، أو النهي عن الطواف عرياناً، وما أشبه ذلك، فما حسنه الشرع من ذلك لا يمكن أن يكون قبيحاً، وما قبحه لا يمكن أن يكون حسناً، فلا يمكن أن يقال: إن كشف العورة كان قبيحاً عند نزول التشريع، وسيكون حسناً بعد ذلك، ومن العوائد ما لم يقره أو ينفيه الدليل الشرعي، لكنه ثابت لا يتغير ولا يتبدل كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع، وعادات النظر والكلام، والمشي والغضب والنوم، فهذه أسباب لأحكام تترتب عليها، فلا يتعلق بها تحسين ولا تقبيح شرعي لذاتها، ولكن باعتبار ذرائعها ومآلاتها، فمن تذرع للأكل بالكسب الحرام فهو قبيح، ومن تذرع له بالحلال فهو حسن، ومن مشى للطاعة فهو حسن، ومن مشى للمعصية فهو قبيح، وهكذا، وقد تكون العادات متبدلة غير ثابتة، فتتبدل أحكامها تبعاً لتبدلها مثل كشف الرأس قد يكون في زمن أو مكان قبيح لذوي المروءات مسقطاً للعدالة عرفاً، وقد يكون في زمن آخر أو مكان آخر غير قادح في العدالة، فيكون الحكم الشرعي تبعاً في ذلك للعرف والعادة" (المختصر الوجيز في مقاصد التشريع (بحث منشور بالإنترنت) الشيخ الدكتور عوض بن محمد القرني؛ ص: [40]).

كيف هددت هويتنا؟

الهوية الإسلامية مستهدفة من يومها الأول، فمنذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومشركو قريش والمنافقون في توافق تام لوأد هذه الدعوة، وإيقاف مدَّها، وبتعاقب السنوات، وتبدل الدول؛ ازدادت الهجمة شراسة وقوة، وبلغت هذه الهجمة ذروتها في العصر الحديث، فلم يدخر أعدائنا جهداً في تفريغ هذا الدين عن محتواه لطمس الهوية الإسلامية والعربية، وقد سار هذا الأمر وفق منهج مرتب ومنظم نوجزه في النقاط الآتية:

1- إضعاف العقيدة، وزعزعة الإيمان.

2- التآمر على اللغة العربية.

3- تقسيم الدين إلى قشر ولُب.

4- استلاب الهوية الإسلامية وتشتيتها.

5- استقطاب المرأة المسلمة، والتغرير بها.

6- إشغال المسلمين بالترفيه والشهوات.

7- السيطرة العلمانية، والترويج لدعوى "العولمة" والتغريب.

8- الاهتمام المبالغ فيه بإحياء الأساطير الوثنية والخرافات الشركية.

9- طمس المعالم التاريخية، والحفريات التي تصحح تاريخ العقيدة.

10- النشاط التنصيري الذي يستغل الفقر والمرض.

11- استغلال العامل الاقتصادي في تذويب الهوية.

12- الحرب النفسية المدعمة بالأساليب التعسفية. (ذكرت هذه النقاط وغيرها بشيء من التفصيل في: الهوية أو الهاوية للدكتور محمد إسماعيل المقدم؛ ص: [31-42]).

كيف نحفظ هويتنا؟

إن موضوع الهوية وكيفية الحفاظ عليها في حاجة إلى جهود ضخمة لا يسع مقال كهذا إلى حصرها، لكننا سنمر عليه مروراً سريعاً نذكر فيه رؤوس أقلام لأهم سبل المواجهة للمحافظة على هويتنا:

- فعلى المستوى العقدي: على المجتمعات الإسلامية حكومة وشعباً تنمية هذا الجانب، والاهتمام به لأنه الضمانة الوحيدة لبقاء واستمرارية الحياة بهذه الهوية، فجانب الدين والعقيدة بالنسبة للهوية بمثابة الروح بالنسبة للجسد، وبفقدها تتحول كل المكتسبات العلمية والثقافية والأدبية إلى نقم، ومنغصات؛ على هذه الشعوب، وإلى معاول هدم لحضارتها.

وهذه التنمية تكون بـ"إحياء حركة تجديد الدين بالمفهوم السلفي الواضح؛ لنعود إلى منابع الإسلام الصافية متمثلة في "منهاج النبوة" بعيداً عن مخلفات القرون، والدعوة إلى حتمية الحل الإسلامي لمعضلات واقعنا الأليم، وتحرير الهوية المسلمة من كل مظاهر الخور والتبعية والتقليد، والقضاء على العقبات التي تحول دون تطبيق الإسلام كمنهج شامل للحياة، والتصدي لمحاولات تذويب الهوية الإسلامية، وقطع صلة الأمة بدينها" (الهوية أو الهاوية للدكتور محمد إسماعيل المقدم؛ ص: [43]).

- وعلى المستوى التأريخي: لابد من العمل على استعادة ذاكرة التاريخ مرة ثانية للوقوف على تاريخ هذه الحضارة، وذلك لأن التاريخ عنصر مهم "من عناصر الهوية الإسلامية، ويشمل ذلك سرد الأحداث السياسية والاقتصادية والعسكرية المتصلة بحقب مختلفة، وتحليلها في ضوء الدوافع والآثار والظروف الزمانية والمكانية، فقد ضمت مصادر الإسلام كثيراً من النصوص التاريخية، والغاية من التحليل استنباط العبر من النصر أو الهزيمة، والتأمل في قصور العقل البشري، فالانتصار سيظل موضع فخر الأجيال المتعاقبة، والهزيمة ستبقى محل اعتبار القرون المتوالية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها" (مقال: الفرق بين الهوية الإسلامية والهويات الأخرى د. جمال محمد الزكي).

- وعلى المستوى الثقافي: لابد لنا من ملء الفراغ الحضاري الذي وصلنا إليه؛ بتطوير معارفنا، والعمل على استيعاب القديم بعقل منفتح، كذلك علينا الحفاظ على اللغة الحافظة والناقلة لهذه الثقافة لأنها الضمانة الوحيدة لاستمرار هذه المكون وتطوره، ولا بأس بعد ذلك من الانفتاح على الآخر للاستفادة من علومه ومعارفه، وهي إشكالية أوجزها الدكتور محمد عمارة في معرض حديثه عن العولمة وكيفية مواجهتها بقوله: "لابد -في مواجهة العولمة الغربية- من التمييز في بين مستويات ثلاث: فهناك (الإنسان الغربي) وهذا لا مشكلة بيننا وبينه؛ بل إن لنا في بعض دوائره الفكرية وتياراته السياسية الكثير من التفهم والمناصر والتأييد، وهناك (العلم الغربي) -وخاصة ثمرات إبداع العبقرية الغربية في العلوم الطبيعية وتطبيقاتها-، وفيه تتمثّل (الحكمة) التي نحن مدعوون بمعايير الدين والدنيا إلى طلبها، والتتلمذ على أهلها، والاستلهام لحقائقها وصوابها، وهناك أخيراً (المشروع الغربي) الذي لا نعاديه إلا عندما ينفي مشروعنا العربي والإسلامي" (مخاطر العولمة على الهوية الثقافية الدكتور محمد عمارة: ص: [44]؛ نهضة مصر للطباعة ط1- 1999م).

- ومن عوامل الحفاظ على الهوية إضافة إلى ما سبق: تعزيز الاعتزاز بالذات، ويأتي ذلك عن طريق تنمية الثقة لدي أفراد المجتمع المسلم في أمته وحضارتها، "فالأمة التي لا تثق بقدراتها، ولا تقدر إمكاناتها الذاتية حق قدرها؛ لا يمكن إلا أن تكون على الدوام ظلاً للآخرين، تابعة لهم، لا تعتمد إلا ما يقولون، ولا تنفذ إلا ما يقررون، وهذا هو التسول الحضاري بعينه، الذي يُمثِّل قمة العجز والفشل والاستسلام أمام التحديات التي تواجهها" (مخاطر العولمة على الهوية الثقافية الدكتور محمد عمارة: ص: [44]؛ نهضة مصر للطباعة ط1- 1999م).

- كذلك لابد من الاستعانة بإعلام إسلامي متخصص متطور ومساير للعصر ولروح الشريعة في آن واحد، لمزاحمة الإعلام الموجه المسيطر على كافة الجوانب الحياتية في عالمنا العربي والإسلامي، حيث صار إعلامنا في ظل هذه العولمة أو بالأصح الأمركة لا يبث إلا ما يخدم أهداف المشروع الغربي، حتى أصبح من الصعب التفرقة بين قنواتنا بما تحمله من محتوى إعلامي؛ وبين القنوات التي تبث من دول الغرب.
 

المصدر: مركز تأصيل

رمضان الغنام

كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.

  • 58
  • 10
  • 139,529

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً