{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}

منذ 2013-09-24

لقد أمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا إخوة متحابين تسود بينهم علامات العطف والتراحم، فلا يعتدي كبير على صغير، ولا يظلم قَوِيٌّ ضعيفًا، ولا يهضم متسلطٌ حقوقَ الآخرين.


الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون لقد خلق الله الخلق من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا ويتآلفوا ويتعاونوا على البر والتقوى ويدفعوا الإثم والعدوان عن بعضهم بعضًا، ولقد أمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا إخوة متحابين تسود بينهم علامات العطف والتراحم، فلا يعتدي كبير على صغير، ولا يظلم قَوِيٌّ ضعيفًا، ولا يهضم متسلطٌ حقوقَ الآخرين.

ولقد حرّم الظلم على عباده كما حرّمه على نفسه جل وعلا، كما ورد في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: يا عبادي إني حرّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا» (رواه مسلم)، فالظلم مَرَاتِعُهُ وخيمة وعواقبه أليمة، وما تظالم قوم وحصل فيما بينهم عدوان وطغيان إلا حلّ بهم الهلاك والخسران وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون.

وقد ذكر الله عز وجل في القرآن العظيم أحوال الأمم الغابرة حينما طَغَتْ وبَغَتْ وظَلَمَ بعضُها بعضًا وفَسَقَتْ عن أمر ربها ورسله كيف عذبها عذابًا نكرًا وأخذها أخذًا أليمًا جزاء فعلها الظالم وعدولها وخروجها عن أمر ربها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وأخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن قال له: «لعلي لا ألقاك بعد عامي هذا» ثم أوصاه بوصايا ختمها بقوله عليه الصلاة والسلام: «يا معاذ اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».


وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»، وعند الطبراني بسند صحيح من حديث خزيمة بن ثابت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين».

وروى الحاكم بسند صحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة». فأبشر أيها المظلوم بخير باب فتح لنصرتك، إنه باب الله الذي إذا نصرك فلا غالب لك، وإذا أعانك فلا هازم لك، وإذا آواك فلا طارد لك، وإذا رعاك فلا خوف عليك، وإذا زادك خيرًا فلا راد لفضله.

أما والله إن الظلم شؤم *** وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم


ارفع يديك أيها المظلوم فقد جاء في الصحيح أن أروى بنت أويس استعدت مروان على سعيد بن زيد، قالت: "سرق مني أرضي، فأدخلها في أرضه"، فقال سعيد: "ما كنت لأسرق منها بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرق شبراً من الأرض طوق إلى سبع الأرضين»"، فقال: "لا أسألك بعد هذا"، فقال سعيد: "اللهم إن كانت كاذبة فأذهب بصرها واقتلها في أرضها"، فذهب بصرها ووقعت في حفرة في أرضها فماتت.

أيها الأحبة..

والله لا أدري كيف ينام الظالم قرير العين؟ وهناك من يرفع يديه ويهزها في السحر يدعو على من ظلمه ويلهج بقوله: " يا رب أرنا فيه عجائب قدرتك"، كيف له أن يهنأ بحياة أو طعام وشراب، إن أقرب الأشياء صرعة الظلوم وأنفذ السهام دعوة المظلوم.

 

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا *** فالظلم يرجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه *** (يدعو عليك) وعين الله لم تنم


قال الله جل وعلا: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148]، عن ابن عباس قال: "لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له".
 

أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** ولا تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي، ولكن *** لها أمد، وللأمد انقضاء


وجاء عن بعض السلف قوله:" دعوتان أرجو إحداهما بقدر ما أخاف الأخرى، دعوة مظلوم أعنتُه، ودعوة ضعيف ظلمتُه".

إخوة الإيمان،

كم من الناس من يرجو رحمة الله، ويخشى عقابه، وهو مع ذلك قد ظلم عباد الله، واعتدى عليهم في أموالهم وأعراضهم، فأنى يستجاب لهذا؟ عن أَبي هُريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِلنَّبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فُلاَنَةً تَقُوم اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» (أخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الألباني رحمه الله)، فما أقبح الظلم وما أشنع نتائجه؟ ما أسوأ الظلم وما أفظع خواتمه؟

ألا فاعلموا عباد الله أن للظلم صور وأشكال، وأنماط وأمثال، فمن الظلم أن تعتدي على موظف أو مسكين أو فقير أو غريب لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعًا، تحرمه من وظيفته ظلماً وجوراً، وتمنعه من مرتبة أو درجة محاباة وعدوى، وتحجز عنه راتبه ومستحقاته عدواناً وهوىً، فأين الجلساء والأخلاء، الذين اجتمعوا في ليال ظلماء، يحيكون المكائد، وينصبون المصائد، يخططون للظلم، ويعملون للجرم {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].


أين الظلمة عن يوم الآذان، والحرمان من الجنان، ألم يسمعوا قول الملك الديان: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف من الآية:44]، فالظالم ملعون، لعنه الله جل جلاله، ولعنه رسوله صلوات الله عليه وسلامه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَتُؤَدُّنَ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» (أخرجه مسلم)، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟» قَالَ: "لاَ"، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يوم القيامة» (أخرجه أحمد بإسناد صحيح).

أيها المسلمون:

ومن أنواع الظلم، ظلم الأجراء والعمال، بكل ظلم وإهمال، وبخسهم حقوقهم، وحرمانهم أجورهم، وتأخير رواتبهم، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قالَ رَبُّكُمْ عز وجل: ثلاثةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يومَ القيامةِ، ومن كنتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ، رجلٌ أَعْطَى بِي ثم غَدَرَ، ورجلٌ باعَ حراً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، ورجلٌ اسْتَأْجَرَ أجيراً، فاسْتَوْفَى منهُ ولم يُوْفِه أَجْرَهُ» (أخرجه البخاري)، إن الظلم لا يدوم ولا يطول، وسيَضمحلّ ويزول، والدهر ذو صرفٍ يدور، وسيعلم الظالمون عاقبة الغرور، يقول الحليم الصبور: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء من الآية:227].

أيها الظالم؛

إذا كنت قادراً على الظلم وإنفاذه، والتعدي على المظلوم وعدم إنقاذه، فتذكر قول الجبار: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42]، فعليك بالعفو، وعدم الجفو، واسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله سبحانه على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره من الحور العين ما شاء» (أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الألباني: حسن لغيره).


فاحذر أيها الظالم من التمادي في الظلم والطغيان، فعاقبة ذلك نيران، وحميم وقَطِرَان، قال الواحد المنان: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]، وسوف يكون القصاص العادل وتأدية الحقوق من الحسنات أَخْذًا من الظالم وإعطاءً للمظلوم إضافة لرصيده، وزيادة في الميزان ووضعًا من السيئات التي على المظلوم، حيث تطرح في ميزان الظالم إذا لم تكن له حسنات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» (رواه البخاري).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة»، فقال له رجل: "وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟" قال: «وإن كان قضيبًا من أراك» (رواه مسلم).

وقال عليه الصلاة والسلام: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين» (رواه البخاري ومسلم). قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42-43].

الخطبة الثانية:

أما بعد،

عباد الله إنَّ أنواعَ الظلمِ كثيرةٌ وأساليبَه عديدةٌ، فمن الظلم أَكْلُ أموال الناس بالباطل وأخذُها ظلمًا وظلمُ الناس بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة بالكلام البذيء والفاحش والتطاول على الضعفاء وتعذيبهم، والتطاول كذلك على حرمات الناس وأعراضهم والنيل من أشخاصهم بالجرح والقذف والبهتان والحطّ من قدرهم ومكانتهم. وأظلم الناس لنفسه ولغيره ذلك الذي لا عمل له إلا أعراض الناس، ويسعى بالفساد ويبغيهم الفتنة ويتربص بهم دوائر السوء، حتى إذا حانت له الفرصة هَبَّ مسرعًا منتقمًا ليوقع الأذى بغيره غيرَ عَابِئٍ بالنتائج.

وأظلم من ذلك من يتتبع عورات المسلمين وينشرُ قَالَةَ السوء في المجتمع ويحب أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا وتَعُمَّ الرذيلةُ فلا يبقى خلق ولا دين.

ومن الظلم الكبير ظلمُ الإنسان لنفسه بحملها على المعاصي وزَجِّهَا في غِمَارِ الآثام والموبقات وترك الحبل لها على الغارب تسرح في مراتع الهلكة والخسران التي قد توصلها إلى جحود النعم أو إلى الشرك، قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان من الآية:13].


فلنتقِ الله ونجعل الوازع الديني نُصب أعيننا، ولنعمل بأوامر ديننا، ولْنَسِرْ على هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.


عبد الرحمن الجليل
 

  • 16
  • 3
  • 54,704

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً