من بدع الجنائز
فمن فضل الله علينا أن بين لنا الخير من الشر، والتوحيد من الشرك، والهدى من الضلال، والحق من الباطل، والسنة من البدعة، والحلال من الحرام، والفرض من الواجب، والمحتسب من المكروه، والمباح من غيره، وبذلك أكمل الدين، وأتم على عباده النعمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن فضل الله علينا أن بين لنا الخير من الشر، والتوحيد من الشرك، والهدى من الضلال، والحق من الباطل، والسنة من البدعة، والحلال من الحرام، والفرض من الواجب، والمحتسب من المكروه، والمباح من غيره، وبذلك أكمل الدين، وأتم على عباده النعمة، فله الحمد والمنة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة من الآية:3].
ولكن أكثر الناس عن نهج الدين القويم مائلون، وعن طريقه معوجون، وعن اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم منحرفون، فلقد زادوا في الدين ما لم يأذن بالله، وما ليس لهم به حجة ولا برهان، وإنما حملهم على ذلك الجهل في الدين، واتباع الهوى، والتبعية للأعداء، والتقليد الأعمى للآباء: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ . وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف:22-23].
فشوهوا ببدعهم صورة الدين النقية، وسودوا صفحته الناصعة، ومن هذه البدع ما يلي:
أولاً: ما يسمونه بالإسعاد، وذلك بأن تقوم المرأة بالنواح على الميت، فتقوم معها نساء أُخريات يساعدنها على النياحة، وهذا من فعل الجاهلية وعاداتها التي جاء الشرع فأبطلها؛ فعن أم سلمه رضي الله عنها قالت: لما مات أبو سلمه، قلت: غريب، وفي أرض غربة؛ لأبكينه بكاء يُتحدث عنه فكنت قد تهيأت للبكاء عليه، إذ أقبلت امرأة من الصعيد -عوالي المدينة- تريد أن تسعدني -أي تساعدني على البكاء والنوح- فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: « » مرتين، فكففت من البكاء، فلم أبك" (رواه مسلم: [922]).
وعن أنس رض الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينُحن، فقلن: يا رسول الله إن نساءً أسعدتنا في الجاهلية أفنسعدهن؟ فقال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه النسائي: [1852]، وأحمد: [12620]. وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، [3/197]. [13055]).
ثانياً: الأذان عند القبر عند دفن الميت، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "الأذان عند القبر بدعة منكرة، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا فعله أحد ممن يقتدى به" (الدرر السنية في الأجوبة النجدية: [5/142]).
ثالثاً: تلقين الميت والقراءة على القبر، المقصود بتلقينه: تذكير الميت بعد دفنه بالشهادتين، وما سوف يسأل عنه: "من ربك، ما دينك، من نبيك... إلخ".
قال ابن القيم رحمه الله: "وكان إذا فرغ من دفن الميت قام على قبره هو وأصحابه، وسأل له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم" (زاد المعاد: [1/522]).
رابعاً: قراءة "الفاتحة" و"يس" وغيرهما، قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "لا تشرع قراءة "يس" ولا غيرها من القرآن على القبر بعد الدفن، ولا غير الدفن، ولا تشرع القراءة في القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولا خلفاؤه الراشدون، كل ذلك بدعة" (مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: [5/407]).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "قراءة الفاتحة على الموتى لا أعلم فيها نصاً من السنة، وعلى هذا فلا تقرأ، لأن الأصل في العبادات الحظر والمنع، حتى يقوم دليل على ثبوتها، وأنها من شرع الله عز وجل" (مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [17/219]).
خامساً: وضع الشجر، أو جريد النخل على القبر، قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "لا يشرع غرس الشجر على القبور، لا الصبار ولا غيره، ولا زرعها بشعير أو حنطة، أو غير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في القبور ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، أما ما فعله مع القبرين اللذين أطلعه الله على عذابهما من غرس الجريدة، فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم وبالقبرين؛ لأنه لم يفعل ذلك مع غيرهما، وليس للمسلمين أن يحدثوا شيئاً من القربات لم يشرعه الله عز وجل" (مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: [5/407]).
سادساً: الاجتماع في مكان للتعزية؛ قال ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزيةُ أهلِ الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء، ويقرأ له القرآن، لا عند قبره ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة" (زاد المعاد: [1/527]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "والتعزية في الحقيقة ليست تهنئة، كما ظنها بعض العوام يحتفل بها، ويوضع لها الكراسي، وتوضع لها الشموع، ويحضر لها القراء والأطعمة، لا، التعزية تسلية وتقوية للمصاب أن يصبر" (شرح رياض الصالحين: [1/34]).
سابعاً: اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت، والمستحب أن يعد جيران الميت طعاما، ثم يبعثوا به إلى أهل الميت؛ لحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما جاء نعي جعفر رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الترمذي: [919]، وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجة: [1599]، وأحمد: [1660]، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: [1739]).
ثامناً: جعل المصاحف عند القبور للقراءة للأموات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما جعل المصاحف عند القبور لمن يقصد قراءة القرآن هناك وتلاوته فبدعة منكرة، لم يفعلها أحد من السلف" (مجموع الفتاوى: [24/302]).
تاسعاً: وقف الأوقاف لتلاوة القرآن وتثويبه للميت، قال الألباني رحمه الله: "من البدع وقف الأوقاف سيما النقود لتلاوة القرآن العظيم، أو لأن يصلي نوافل، أو لأن يهلل، أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويهدي ثوابه لروح الواقف أو لروح من زاره" (أحكام الجنائز؛ ص: [256]).
عاشراً: استئجار من يقرأ القرآن للأموات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "استئجار الناس ليقرئوا ويهدوه إلى الميت ليس بمشروع، ولا استحبه أحد من العلماء" (مجموع الفتاوى: [24/300]).
الحادي عشر: الختمة على هيئة الاجتماع وتثويبها، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "اجتماع الناس في البيوت للقراءة على روح الميت لا أصل له، وما كان السلف الصالح رضي الله عنهم يفعلونه، والاجتماع عند أهل الميت وقراءة القرآن ووضع الطعام، وما شابه ذلك؛ فكلها من البدع " (مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [17/219]).
الثاني عشر: رفع القبور وتجصيصها؛ فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: « »" (رواه مسلم: [969]).
وعن جابر رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ" (رواه الترمذي: [1052]. وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: [1709]).
قال ابن القيم رحمه الله: "ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تعلية القبور ولا بناؤها بآجر، ولا بحجر، ولبن، ولا تشييدها، ولا تطيينها، ولا بناء القباب عليها، فكل هذا بدعة مكروهة مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم... فسنته صلى الله عليه وسلم تسوية هذه القبور المشرفة كلها، ونهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه، وكانت قبور أصحابه لا مشرفة ولا لاطئة، وهكذا كان قبره الكريم، وقبر صاحبيه، فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء، لا مبني ولا مطين، وهكذا كان قبر صاحبيه، وكان يعلم قبر من يريد تعرف قبره بصخرة" (زاد المعاد: [1/ 524-525]).
الثالث عشر: تخصيص زيارة المقابر يوم وليلة العيد، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "والخروج إلى المقابر في ليلة العيد، ولو لزيارتها بدعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه أنه كان يخصص ليلة العيد، ولا يوم العيد لزيارة المقبرة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « » (رواه أبو داود: [71]، والنسائي: [1578]، وابن ماجة: [46]، وصححه الألباني في ظلال الجنة: [25]).
فعلى المرء أن يتحرى في عباداته، وكل ما يفعله مما يتقرب به إلى الله عز وجل" (مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [17/ 292-293]).
الرابع عشر: الذكرى الأربعينية، قال العلامة ابن باز رحمه الله: "لأصل فيها أنها عادة فرعونية، كانت لدى لفراعنة قبل الإسلام، ثم انتشرت عنهم وسرت في غيرهم، وهي بدعة منكرة لا أصل لها في الإسلام" (مجموع فتاوى ابن باز: [13 /398-399]).
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن السلف الصالح إقامة حفل للميت مطلقاً، لا عند وفاته ولا بعد أسبوع، أو أربعين يوماً، أو سنة من وفاته، بل ذلك بدعة.
وبدع الجنائز أكثر مما ذكرنا، ولكن هذه أشهرها -فيما نعتقد-، فيجب على المسلم أن يتبع ولا يبتدع، وأن يسير على ما سار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وصحابته الكرام، وعلماء الأمة الربانيين الذين ساروا ويسيرون على ما سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبده قايد الذريبي
- التصنيف:
- المصدر: