مصر إلى أين؟
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
يقولون أن الربيع العربي يتحدّد مستقبله الآن في مصر؛ هل يمكن القبول بهذا القول؟
من وجهة نظر سياسية -وليست عاطفية- فإن هذا القول ينطوي على قدر من الصحة؛ يتضح ذلك لو قسّمنا الربيع العربي إلى مرحلتين: (مرحلة الانطلاقة الثورية – مرحلة بناء النظام).
أحدثت الثورات المتتالية في عدد من البلدان العربية موجة تسونامي هائلة أربكت أغلب دول المنطقة التي لم تندلع فيها الثورات بشكلٍ مباشر.
لكن بعد مرور عامين تقريباً؛ يبدو أن هذه الدول قد استطاعت إحتواء المد الثوري بأساليب مختلفة في كل دولة، ثم جلست تترقّب تطورات الحال في دول الربيع العربي.
موجة التسونامي الثانية التي هدّدت النظام العربي القديم؛ تمثَّلت في المرحلة الثانية من الربيع العربي، وهي: بناء النظام، ونِتاج هذه المرحلة كان يمكن أن يتسبب في حِراك ثوري جديد، خاصةً لو أن الأنظمة الناشئة نجحت في تقديم نماذج محفِّزة ومشجعة.
لو قارنا بين عدد الثورات التي اندلعت في مختلف دول العالم عبر التاريخ المعاصر، مع عدد الدول التي نجحت ثوراتها بالفعل في إقامة نظام سياسي جديد يتطابق مع أهداف الثورة؛ سنجد أن الفرق بينهما كبير جداً، بحيث أنه يمكن القول أن أقل الدول هي التي تنجح فيها الثورات بصورةٍ تامة في تحقيق أهدافها، وأكثر قليلاً هي الدول التي تُخفِق فيها الثورات -تماماً- في تجديد النظام السياسي، أما أغلب الدول فيحدث فيها تغيّر نِسبي يدمج ما بين النظام القديم وتطلعات الثورة، في تركيبةٍ متفاوتة في كل دولة بحسب ظروفها السياسية، حيث نجد بعض الدول تغلب فيها سمات النظام القديم، وأخرى تتغلّب فيها سمات التجديد.
في مصر نجحت القوى الإسلامية في تحقيق قفزة هائلة للأمام؛ عن طريق اكتساحها كل الانتخابات التي أُجرِيَت، وكانت الثمرة الأبرز هي تولي رئيس إسلامي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين رئاسة الدولة للمرة الأولى في التاريخ العربي.
لو أضفنا لذلك موقع مصر الريادي المرتكز إلى عوامل تاريخية وجغرافية وسياسية وعسكرية؛ فإن ذلك كان يعني بالضرورة تأثر دول الربيع العربي بهذه القفزة الإسلامية التي تزامنت مع قرب انتهاء المرحلة الانتقالية ودخول مصر إلى مرحلة "رسوخ النظام" أي استقراره واستعصائه على التآمر من قبل أي قوة سياسية- داخلياً وخارجياً.
لكن لو نظرنا إلى كون الربيع العربي لم يبدأ أساساً من مصر، بل لم يكن لمصر أي دور مباشر في اندلاع الثورة التونسية؛ فإنه يمكننا الإجابة على التساؤل حول: مدى تأثير ما يحدث في مصر على الربيع العربي، بما يلي:
لم يكن لمصر دور في مرحلة الانطلاقة الثورية.
أما في مرحلة بناء النظام فقد سبقت مصر بخطوات مهمة؛ وكان لذلك تداعياته الإيجابية في كسر الحاجز النفسي المتعلق بتربُّع سياسي إسلامي على كرسي الحكم.
لكن مع ذلك يصعب علينا القبول بأن تداعي الثورة في مصر يمكن أن يتسبب بصورةٍ مباشرة في غلق ملف الربيع العربي، نعم ربما ينتج عنه انخفاض سقف التوقعات لدى القوى الإسلامية، أو تباطؤ في عملية التقدم الإسلامي في بعض الدول، أو السعي لإيجاد صياغات جديدة في دول أخرى.
لكن من ناحية أخرى؛ فإن التجربة المصرية سوف تقدِّم خبراتها لبقية التجارب الثورية، كما أن عملية قمع القوى السياسية الإسلامية الحادثة الآن في مصر قد ينتج عنها ردة فعل عكسية في الشارع العربي، بسبب تراجع الآمال التي انعقدت على هذا التقدّم الإسلامي، وهذا قد ينشأ عنه مشاعر إحباط تتفاعل لاحقاً متسببة في حِراكٍ ثوري جديد.
كان تلك مقدمة لابد منها، قبل الولوج مباشر للإجابة على التساؤل الأهم، وهو: مصر إلى أين؟
صراع الانقلاب والشرعية:
يوجد في مصر حالياً مساران سياسيان متضادان، بينهما صراع صفري، هما: مسار الانقلاب العسكري، والمتضمن خارطة طريق سياسية، ومسار "الشرعية الدستورية" الذي يدعو إلى إلغاء الانقلاب وخارطته، والعودة إلى المسار الدستوري.
أولاً: مسار خارطة طريق 3 يوليو
على الجانب الرسمي، فإن "خارطة الطريق" التي أعلنت في 3 يوليو الماضي، هي التي يتم تنفيذها بصورةٍ عملية، تحت مُسمّى "مرحلة انتقالية" جديدة تمضي بالبلاد نحو 3 دورات تصويتية متتالية تستغرق بحسب الإعلان الدستوري الصادر في (8-7-2013)م ما لا يقل عن عشرة أشهر، وهي على الترتيب: استفتاء على التعديلات الدستورية- انتخابات برلمانية- انتخابات رئاسية.
لن أعيد سرد معلومات لا شك أن القارئ يعلمها جيداً؛ وسأكتفي بالتركيز على نقاط مهمة تتعلق بهذه الخارطة ومن يقف وراءها.
1- نمط جديد من الشرعية:
السيناريو الذي تطورت وفقه الأحداث منذ الأسبوع الأخير في يونيو الماضي، وصولاً إلى 3 يوليو، يطرح تساؤلات عديدة حول الدور السياسي للقوات المسلحة.
بحسب الدستور الذي وافق عليه الشعب في ديسمبر 2012م؛ فإن الجيش لا يمارس أي دور سياسي، وليس من حقه التدخل في الشأن السياسي بأي صورة من الصور، وحتى القضايا المتعلقة مباشرةً بالأمن القومي يتم مناقشتها في إطار مجلس الدفاع الوطني الذي يترأسه رئيس الدولة، وتتخذ قراراته بالأغلبية.
ما حدث في الأسابيع الماضية أن الجيش أعطى لنفسه دوراً "فوق دستوري" يقوم من خلاله بتقويم المخاطر، وتحديد الأخطاء، ووضع أطر سياسية وزمنية لمحاسبة لرأس الدولة، وكذلك تقويم الاحتجاجات الشعبية وتحديد ما إذا كانت ترقى لمستوى الثورة العامة أم لا، ومن ثم اتخاذ قرار جذري بعزل رئيس جمهورية منتخب قبل عام واحد، وله ملايين المؤيدين.
كانت الركيزة الأساسية لبيان 3 يوليو هي الاستجابة للإرادة الشعبية، وهو ما يطرح تساؤلات دستورية حول كنه هذه الإرادة وكيفية تحديد اتجاهاتها وقياس قوتها في بلد يعاني انقسامات سياسية حادة، ولا يكاد يوجد خيار يحظى بإجماع -أو شبه إجماع- بين مختلف القوى والفئات الشعبية.
هل تقاس الإرادة بـ"صندوق الانتخابات" أم بـ"الحشود الميدانية"؟
الذي حدث أن الجيش اعتمد على "الحشود" في قياس الإرادة الشعبية وتحديد توجهاتها، لكن هذه الحشود لا يوجد معيار دقيق لتعدادها، كما لا يوجد "معايير مقارنة" يمكن من خلالها القول بأن حشداً معيناً يُمثِّل أغلبية المصريين، يعني على سبيل المثال، يوجد لدينا تِعداد لمن يحق لهم التصويت في الانتخابات، كذلك يتم حساب نسبة الذين شاركوا بدقة، ثم تحديد من صوت بنعم ومن صوت بلا، وهكذا يمكن الوصول إلى "الإرادة الشعبية" بنسبة تحقق كبيرة.
لكن فيما يتعلق بالحشود، لا يوجد أي أساس لاستخدامها كمعيار وحيد للإرادة الشعبية، خاصة وأن المبالغة في حساب عدد الحشود، وإمكانية القوى السياسية المخالفة على حشد أعداد مماثلة، يشكك في اعتماد الحشد معياراً لقياس الإرادة الشعبية.
أضف إلى ما سبق أنه في يناير 2011م تركت القوات المسلحة مبارك يخاطب الشعب أكثر من مرة، ومنحته 18 يوماً كاملة، يواجه الحشود بمختلف الطرق الإقناعية، الأمنية والقمعية والسياسية، ثم في نهاية الأمر ضغطت عليه لكي يتنحى عن الحكم، واعتبرت لاحقاً أن ما جاء في بيان التنحي من تكليف مباشر للقوات المسلحة، بمثابة مصدر رئيس لشرعية الممارسة السياسية التي قام بها المجلس العسكري.
لكن في حالة الرئيس مرسي؛ لم تستغرق الحشود الكبيرة أكثر من ست ساعات، ولم يُترك الرئيس لكي يخاطب الناس، ويحاول إقناعهم، أو يستجيب لبعض مطالبهم وينظر تغير مواقفهم.
الخلاصة؛ أننا نتساءل عن أمرين:
من الذي منح القوات المسلحة حق القيام بهذا الدور السياسي الـ فوق دستوري؟
وحتى مع التسليم بهذا الدور؛ فما هي المعايير الثابتة التي استخدمها الجيش في هذه الممارسة السياسية، خاصةً مع التباين الشديد في أدائه بين 25 يناير 2011م و 30 يونيو 2013م؟
وأبرز ما يذكر في هذا الصدد؛ هو استمداد الجيش لشرعيته السياسية في يناير، من بيان التنحي، بينما في يوليو 2013م لا يزال الرئيس مرسي رافضاً للاستقالة متمسكاً بوضعه الدستوري.
نحن أمام وضعية مشابهة للنموذج الجزائري؛ حيث لا يوجد نص دستوري يمنح الجيش دوراً سياسياً، ومع ذلك يظل هو القوة الأكثر تحكماً وسيطرة على مقاليد الحكم في الدولة.
2- الانتقالات المبهمة:
بالعودة إلى خارطة الطريق التي أجملها بيان 3 يوليو وفصلها الإعلان الدستوري، نجد عدداً من التناقضات الغامضة؛ فهذه الخطوات تكاد تتطابق مع المبادرة التي أعلن الرئيس محمد مرسي عن موافقته عليها في خطاب 26 يونيو، ثم إن المطالبات التي رفعتها حركة تمرد وجبهة الإنقاذ تمثَّلت في إقالة الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، لكن الذي حدث بعد عزل د. محمد مرسي، هو أن الانتخابات الرئاسية تأخّرت كثيراً، وتقدم عليها استفتاء دستوري، ثم انتخابات برلمانية دون إبداء للأسباب، بل جاء ذلك مفاجئاً للكثيرين.
أيضاً؛ الفترة الطويلة المتاحة في الإعلان الدستوري لإتمام عملية "التعديل" تبدو أكثر مما يحتاجه الأمر، خاصةً وأن مواد الدستور المعطل تبلغ 234 مادة، بينما المواد المطلوب تعديلها لن تتجاوز بحال 25% من هذه المواد، فضلاً عن تشكيل لجنتين للتعديل دون توفر فائدة حقيقية من ذلك إلا تطويل مدة التعديل.
3- ثغرات زمنية:
تتضمن خارطة الطريق ثغرات زمنية تطرح شكوكاً كبيرة حول إمكانية تسليم السلطة بالفعل في المدة المعلن عنها؛ ولعل تجربة المجلس العسكري التي استغرقت عاماً ونصف العام تُقدّم مؤشرات قوية على أن القوات المسلحة لا تلتزم عادة بالأطر الزمنية المعلن عنها لتسليم السلطة.
أبرز الثغرات هي الفترة ما بين: انتهاء اللجنة الأولى من تعديلات الدستور، وتشكيل واستلام اللجنة الثانية للمشروع الجديد وبدء العمل فيه.
مع ما يكتنف اللجنة الثانية من غموض شديد في معايير تشكيلها وحدود صلاحياتها في التعامل مع مشروع اللجنة الأولى.
4- من يقود خارطة الطريق؟
لا يخفى على أي مراقب محايد؛ أن الذي يدير البلاد بصورة فعلية هو الجيش، وبعيداً عن الاستغراق في جدل اصطلاحي حول ما حدث، هل هو انقلاب عسكري أم لا، فإن الحقيقة الماثلة، أن أغلب دول العالم، وكذلك وسائل الإعلام الأجنبية والخبراء السياسيين، يتعاملون 30 يونيو على أنه "انقلاب عسكري".
النقطة الثانية: هي أنه لا يمكن بحال تجاوز حقيقة أن من يمسك بالأوراق كلها هو القيادة العسكرية، على الأقل داخليا.
ويبقى هنا التساؤل عن القوى الخارجية -ليس في مرحلة ما قبل، لكن في مرحلة ما بعد- وحدود تدخلاتها، وهل يمكن القول أن القرارات المصيرية المتعلقة بالمستقبل السياسي لمصر قد باتت قضية نقاشية على مائدة تضم عدداً من القوى الإقليمية والدولية؟
5- المآلات:
ما هي صورة الدولة -أو النظام- التي تهدف خارطة الطريق إلى الوصول إليها؟
هذا سؤال من الصعب جداً الإجابة عليه.
فالمؤشرات والشواهد الحالية؛ تفيد بأن هناك رغبةً قويةً في إقصاء القوى الإسلامية عن المشهد السياسي، كفاعلين رئيسيين وربما ثانويين أيضاً، مع الدفع بقوى علمانية منافسة بدرجة محسوبة تُدمج ما بين رموز النظام السابق، ورموز الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية، مع مشاركة تبدو رمزية حتى الآن لحزب النور بوصفه دليلاً مطلوباً -لفترة مؤقتة- لإثبات أنه لا توجد معركة ضد الإسلام أو الإسلاميين تحديداً.
البعض يتحدث عن العودة إلى نظام مبارك، وآخرون يتحدثون عن العودة إلى حقبة عبد الناصر، وآخرون يتحدثون عن نموذج مختلط بين هذا وذاك.
بعض السيناريوهات المطروحة؛ تتحدث عن نموذج للحكم، يتضمن كتلة سياسية قوية ومؤثرة، بمشاركة أحزاب أقل حجماً وتأثيراً، في مشابهة واضحة للحالة الجزائرية، وهذه الوضعية تحقق ما تصبو إليه القوى الخارجية من رغبة أكيدة في التعامل مع تركيبة حكم ثابتة نسبياً في مصر، لأنهم لا يتحملون أن تتغير نخبة الحكم كل دورة انتخابية.
نخبة الحكم الثابتة -العابرة للانتخابات- تتيح المجال لصياغة نقاط التقاء مشتركة، ومصالح شخصية، بخلاف النخب المتغيرة.
والحديث هنا عن النخبة الضيقة التي تتولى السلطة التنفيذية، وليس النخبة الواسعة التي تمارس العمل السياسي بصفة عامة.
هناك سيناريو آخر معاكس؛ وهو أن هناك توجه مستقبلي لتفتيت القوى السياسية للإبقاء على حالة الصراع والاستقطاب الداخلية، حتى بدون مشاركة للإخوان المسلمين، وذلك لكي يبقى الجيش حاضراً في خلفية المشهد بصورة مستمرة.
لا يوجد ما يمنع في كافة السيناريوهات من مشاركة الجيش بصورة مباشرة في الحكم عن طريق ترشح -أو اختيار- ضباط سابقين لشغل المناصب الحيوية، بدءاً من "رئاسة الجمهورية".
باختصار:
يبدو أن هناك رغبة واضحة في صياغة نموذج ديمقراطي شبه مغلق -ديمقراطية مقيدة- يعني يسير بحسب شروط ومواصفات معينة، فهو ليس مفتوحاً بحيث يسمح بحدوث مفاجآت من الإسلاميين أو غيرهم، وليس منغلقاً بحيث يتسبب في حِراك ثوري جديد.
ثانياً: مسار الشرعية الدستورية:
اتخذت أغلبية القوى الإسلامية -عدا الدعوة السلفية وحزبها: النور- قرارها مبكِراً بالوقوف خلف الشرعية الدستورية الرئيس المنتخب، فأعلنت تظاهراتها واعتصاماتها قبل 30 يونيو، وبمجرد وقوع الانقلاب، تحولت الاحتجاجات إلى فعل ثوري نشط؛ يهدف إلى إلغاء خارطة الطريق وما ترتب عليها من تداعيات، وإعادة الرئيس إلى منصبه الدستوري، مع تبنّي المبادرة التي أعلن عنها في خطابه الأخير، وأهم بنودها: "تشكيل حكومة ائتلاف وطني، انتخابات برلمانية مبكرة، تشكيل لجنة لتعديل الدستور، تشكيل لجنة مصالحة وطنية".
اتخذت السلطات العسكرية عدة قرارات مبكرة لاحتواء التحركات الجماهيرية الرافضة للانقلاب، فقامت بـ: إغلاق حوالي 17 قناة إسلامية، منع صحيفة الحرية والعدالة، التضييق على التغطية الإعلامية للاحتجاجات الشعبية، تنفيذ حملات اعتقال ودهم لقيادات الإخوان ومقراتهم، وبعض الاعتقالات وقعت في إطار اتهامات رسمية أغلبها يتضمن عبارة "التحريض".
تواكب ذلك مع حملات إعلامية مكثفة لإخراج الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية المتحالفة معهم خارج الدائرة القانونية، سواءً من حيث الفعل أو من حيث التواجد، وذلك للحفاظ على الحالة الثورية ضد الانقلاب بوصفها انعكاساً لتيارات إسلامية وليست انعكاساً لإرادة شعبية.
حتى نُقَوِّم هذه الاحتجاجات التي لا تزال محتدمة حتى كتابة المقال، ونحاول تلمس مساراتها المستقبلية، يمكن أن نستخدم نموذجين، الأول بهدف التقويم، والثاني بهدف توقع المسارات المستقبلية.
النموذج الأول:
يتكون هذا النموذج من 3 مراحل يمكن أن يسلكها الاحتجاج الثوري.
وهي تبدأ بالحالة الاستاتيكية؛ حيث ينفذ المحتجون اعتصامات وتظاهرات يغلب عليها السمة التقليدية والثبات المكاني، وبالتالي تكون تأثيراتها قليلة.
الحالة الثانية:
هي "الديناميكية" وهنا يبدأ المحتجون في توسيع دائرة انتشارهم من خلال تنظيم مسيرات خارج نطاق الاعتصام، مع الإعلان المتكرِّر عن تنظيم مليونيات.
الحالة الثالثة:
التكتيكية، وهنا يشرع المحتجون في اتباع أسلوب المناورة وتوظيف الاحتجاجات لتحقيق أكبر قدر ممكن من الضغط من خلال التحكم في خارطة تحركات المسيرات، ووجهاتها، وزمنها.
استطاع مؤيدو الرئيس مرسي أن يطوروا أداءهم وصولاً إلى الحالة الثالثة، وبذلك أصبحوا أكثر تأثيراً.
في مواجهة هذا التقدّم الميداني، لجأ النظام إلى اتباع أساليب تهدف إلى إعادة تموضع الاحتجاج في حالته الأولى أو الثانية على أكثر تقدير، وتركزت أساليب المواجهة، في:
- رفع كلفة إنشاء اعتصامات جديدة، كما حدث في مجزرة الحرس الجمهوري، وفي اعتصام رمسيس.
- رفع كلفة التوسُّع في المسيرات عن طريق هجمات البلطجية والقناصة المبرمجة التي يسقط ضحيتها عدد متوسط 2-3 قتلى، بالإضافة إلى عشرات الجرحى في كل مسيرة.
- السعي لتأطير الاعتصامات والتظاهرات قانونياً وإعلامياً، باعتبارها تدفع في اتجاه تعطيل المصالح والمنشآت العامة، إزعاج الأهالي... إلخ.
- استخدام سيناريو الخمسينيات، عن طريق اتهام القوى الرافضة للانقلاب بأنها تقف وراء تفجيراتٍ وهجماتٍ غامضة تقع في أنحاء متفرقة من البلاد.
النموذج الثاني:
يستخدم هذا النموذج في توقع مسارات الاحتجاج، وهو يتكون من 3 مراحل أيضاً.
الأولى: مرحلة إثبات الوجود والشرعية.
فقد كان على القوى المؤيدة للشرعية أن تواجه موجة كاسحة من الإعلام والجماهير المتأثرة بالإعلام، والتي تدفع باتجاه سحب الشرعية، ليس عن النظام المنتخب فقط، بل عن مجرد الوجود السياسي للقوى الإسلامية.
وقد تطلب ذلك صبراً وثباتاً وجهداً كبيراً في التواصل مع الناس، والسعي لتقديم صورة إيجابية تتمسك بالسلمية، وترفع شعارات متفق عليها، وقد نجح الإسلاميون بالفعل في تحقيق نتائج إيجابية، وبدأت قطاعات جماهيرية تراجع موقفها وتعيد حساباتها وتشعر بالقلق من التطورات الحادثة.
وقد مثّلت مجزرة الحرس الجمهوري نقطة فارقة في التعاطف الجماهيري، حيث ظهرت القوى المؤيدة للشرعية في موقف "المظلوم"، وهذا الموقف يكون عادة قرينا للحق والمصداقية، ويضفي شرعية وجود للفعاليات الثورية.
المرحلة الثانية: مرحلة التأثير دون الحسم.
في هذه المرحلة تسعى القوى المحتجة لتنشيط وسائل التأثير والضغط، وتفعيلها، وبذلك تكتسب قوة ضاغطة كبيرة، بحيث لا يمكن تجاهلها كما كان الحال في المرحلة الأولى، ويحدث في هذه المرحلة تجاوب جماهيري ملحوظ.
وفي هذه المرحلة يمكن تحسين الشروط التفاوضية، لكن تبقى القدرة على الحسم غير واردة بسبب حالة الاستقطاب، وبسبب تمركز النظام الجديد في مفاصل الدولة.
المرحلة الثالثة: مرحلة الحسم.
الوصول لهذه المرحلة يمكن أن يتم بطريقين، إما بصورة تصاعدية حادة ، حيث تتمدد المشاركات الجماهيرية بدرجة غير مسبوقة في وقت قصير، بحيث لا يمكن بحال تجاوز دلالتها أو التدليس بشأنها، داخلياً وخارجياً، كما تقوم القوى المحتجة بالتصعيد السلمي الحاد عن طريق تعديد نقاط الاعتصام، ومحاصرة النقاط الحيوية ومنعها من العمل... إلخ.
الطريق الثاني: عندما لا يتيسر ما سبق، أو تكون كلفته عالية؛ فإن الحفاظ على الزخم الجماهيري في مستوى مرتفع، مع التمسك بحِراك ثوري تكتيكي يتصاعد تدريجياً، يمكن أن يحقق الحسم لكن في فترة زمنية أطول.
بالنظر إلى واقع الاحتجاجات في مصر؛ يمكن ملاحظة أن القوى المؤيدة للشرعية، تتموضع حالياً في المرحلة الثانية، وتواجه صعوبات شديدة من أجل الحيلولة دون بلوغها مرحلة الحسم.
ومع اعتماد تلك القوى على روافع زمنية -دينية- متمثّلة في الجمع الرمضانية، فإن النظام يسعى بقوة لعرقلة ذلك التقدّم عن طريق زيادة كلفة الحِراك الثوري بصورة مستمرة، ولتنفير الجماهير من المشاركة في ذلك الحِراك.
إلى أين؟
من الصعب توقع السيناريوهات المحتملة لذلك الصراع الصفري بين الانقلاب والشرعية.
بصفةٍ عامة؛ يسعى الانقلابيون إلى حصر الإسلاميين في خانة "الحفاظ على الوجود" وإبعادهم عن التحرُّك من أجل "عودة الشرعية"، لكن حتى الآن تبدو القوى المؤيدة ثابتة وصامدة وترفض تماماً حصر فعالياتها في تلك الدائرة الضيقة.
رغم تعدُّد المبادرات التي تُقدِّم حلولاً للأزمة؛ إلا أنه لا توجد حتى الآن "نقطة وسط" مقبولة من جميع الأطراف، خاصةً مع تنامي الرغبة الإقصائية لدى القوى السياسية المشاركة في الانقلاب، خشية من عودة الإسلاميين وتمركزهم في صدارة المشهد الانتخابي.
يتحرّك المؤيدون للشرعية من خبرة الخمسينيات؛ وبخاصةٍ تجربة الفقيد عبد القادر عودة، الذي أمر المتظاهرين المحتشدين أمام القصر الرئاسي احتجاجاً على قرارات عبد الناصر المقيّدة للحرية في عام 1954م، بالانصراف، حيث اعتبرت ذلك الأمر بمثابة إتاحة الفرصة لعبد الناصر كي يُنكِّل بالإخوان المسلمين ويُلقي بهم في السجون عشرين عاماً، هذه الخبرة تدفع القوى الإسلامية للتمسك حتى النهاية بالبقاء في الميادين حتى تتحقق مطالبهم.
يحاول الانقلابيون بضراوة الدمج بين الإسلاميين والعنف، استدعاءاً للسيناريو الجزائري، ومع الإصرار الشديد من قبل القوى الإسلامية على المحافظة على السلمية، تقع محاولات هنا وهناك -يساندها الإعلام- من أجل الترويج لمناخ مفتعل من العنف، مع الربط القسري بينه وبين الإسلاميين.
الهدف المرحلي للنظام حالياً؛ هو فض الاعتصامات باعتبارها مركز الحِراك الثوري، خاصة بعد اكتسابها رمزية هائلة داخلياً وخارجياً، وتحولها إلى مركز جاذب لقطاعت متنوعة من الجماهير، وحتى القوى الثورية القريبة من الإسلاميين.
يعتمد الانقلابيون في حالة بقاء الاعتصامات، على: حصر الفعاليات الثورية دون مرحلة الحسم، مع سلب المحتجين القدرة على التصعيد، وصولاً إلى "الحالة الاستاتيكية"، بالإضافة إلى تأثير عامل الزمن، الذي يتوقعون أنه سيضعف الزخم الثوري ويصرِف الناس عن متابعته.
في المقابل؛ فإن القوى المؤيدة للشرعية تتوقع حدوث تطورات لصالحها مع تمدد فترة الاحتجاجات، أهمها:
الأول:
توقع الأداء السيئ للحكومة الجديدة، وعجزها عن تحقيق المطالب الشعبية، وبالتالي تزايد مشاعر الإحباط من النظام الجديد.
الثاني:
هو مراجعة كثير من الناس لمواقفهم من الانقلاب، بالنظر إلى التطورات الحادثة، وانكشاف معلومات غائبة، وهذه العودة تأخذ مساراً تصاعدياً يعطي الأمل للمحتجين في أن إطالة أمد الاحتجاج تصب في مصلحتهم نهاية الأمر.
الثالث:
الضغوط على النظام من أجل الإفراج عن الرئيس، ستؤدي في حال أثمرت إلى حدوث طفرة في الفعاليات الثورية بسبب وجود "الزعامة" الجماهيرية الرمزية، ولذلك يُصرّ النظام حتى الآن على عدم الإفراج عنه ومنع التواصل معه بأي صورة.
الرابع:
إدراك كثير من القوى الثورية والرموز السياسية واستيعابهم، للمؤشرات القوية حول العودة من جديد للحكم العسكري.
الخامس:
تنامي حالة التفكك في بنية القوى المؤيدة للانقلاب، وتعدد مقترحات الخروج من الأزمة مع تضاربها، سواءً داخلياً أو خارجياً.
في عبارات محدودة؛ فإن الخيار الوحيد المتاح للقوى الرافضة للانقلاب يتمثّل في الحفاظ على الاحتجاج السلمي، لأن هذه هي الطريقة الأمثل لتحسين شروط التفاوض وتحقيق المطالب بصورة كاملة، فضلاً عن الأهداف الجزئية المتعلقة بالحفاظ على الوجود السياسي.
بالنسبة للقوى الانقلابية؛ فإنها سوف تسعى بقوة إلى تنفيذ سيناريوهات وبدائل متعددة لفض الاعتصام وحظر الاحتجاجات، وقد تلجأ في ذلك إلى استخدام القوة المفرَطة أو النسبية، والأمر بصفة عامة يعود إلى كيفية حساب الأرباح والخسائر السياسية وتوقع ردود الأفعال.
وبحسب النظريات الحديثة في تحليل الصراع السياسي، فإنه ليس واقعياً الافتراض بأن الخصم يتصرّف انطلاقاً من مقتضيات الحكمة والمنطق.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:21].
أحمد فهمي - مجلة البيان - 7/25/2013م
- التصنيف: