الدعوة في الحج أمانة
يتوافد على بيت الله العتيق في موسم حج كل عام من آفاق الأرض مئات الآلاف من البشر من كافة الثقافات وبعامة الألسنة، وعامتهم من ذوي العاطفة الدينية الجياشة التي أقبلت على الله تعالى وجهدت في نيل رضاه سبحانه فمنهم من باع أرضه، ومنهم من رهن بيته، ومنهم من مكث السنين الطوال يجمع الدينار فوق الدينار حتى تمكن بعد لأي وطول انتظار من توفير متطلبات حجه والمال الذي سينفقه في سبيل ذلك. هذه هي النفسية المشرئبة للخير، المتطلعة للظفر برحمة الله تعالى وغفرانه.
يتوافد على بيت الله العتيق في موسم حج كل عام من آفاق الأرض مئات الآلاف من البشر من كافة الثقافات وبعامة الألسنة، وعامتهم من ذوي العاطفة الدينية الجياشة التي أقبلت على الله تعالى وجهدت في نيل رضاه سبحانه فمنهم من باع أرضه، ومنهم من رهن بيته، ومنهم من مكث السنين الطوال يجمع الدينار فوق الدينار حتى تمكن بعد لأي وطول انتظار من توفير متطلبات حجه والمال الذي سينفقه في سبيل ذلك. هذه هي النفسية المشرئبة للخير، المتطلعة للظفر برحمة الله تعالى وغفرانه.
إلا أن المتأمل في واقع الحجيج اليوم يشاهد مظاهر جهل صارخة في الدين بعامة، وفيما يتعلق بأمر الأنساك بصفة خاصة، وليس هذا فحسب؛ بل إن السنَّة في أحيانٍ تتحول في عقلية بعضهم إلى بدعة، والجهل إلى معرفة. وعند إرادة تحليل أسباب تلك الأمية الشرعية المخيفة نجدها تعود إما إلى تقصير الحاج في التفقه بالدين ومعرفة الأحكام التفصيلية المتعلقة بشأن الحج والعمرة والزيارة، وإما إلى جغرافية المكان العسرة الفهم في مكة والمشاعر على الآتي لها لأول مرة، وإما إلى مبادرة كثير من الجهلة وأنصاف المتعلمين إلى الفتيا والتوقيع عن رب العالمين، وإما إلى وجود عدد ليس بالقليل من المعنيين بشأن الحج من أصحاب البعثات والحملات والمؤسسات العاملة في الموسم ممن أعمتهم الدنيا فصيَّرت شغلهم الشاغل كيف تتضخم أرصدتهم ويجنون المزيد من الربح.
فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجود جهد كبير ومنظم لطوائف من أهل الزيغ والضلالة تستهدفت إغواء الحاج، وتعمل على استثمار الموسم في تزييف باطلها والدعوة إلى ضلالاتها، مستغلة الغفلة عنها، والأجواء العالمية العاملة على إطفاء الدين الخالص وتجفيف منابعه والحيلولة دون نجاح مواسمه، ورغبة بعض المعنيين بشأن الحج في الظهور بمظهر المتسامح مع كافة الطوائف والمذاهب؛ مع أن القوم لن يرضيهم غير نهج عقائدهم واتباع مذاهبهم.
ومع الجهود الضخمة المشكورة التي تبذلها المؤسسات الرسمية وكثير من الأفراد والمؤسسات الدعوية والاجتماعية الخيرية لمساندة الحجيج وعونهم في جانب التوعية والتوجيه إلا أن تلك الجهود لم ترقَ بعدُ إلى مستوى الحد الأدنى، وما زالت غير متناسقة البتة مع الجهود الضخمة المبذولة في عمارة الحرمين الشريفين والعناية بالمشاعر وتوفير سبل الراحة والأمن والطمأنينة للحجاج والزائرين.
ولو أردنا أن نتعرف على بواعث ذلك الإشكال الضخم مع صدق النوايا الموجود فيما نحسب والله حسيب الجميع لوجدناه يعود مثلاً في كثير من مؤسسات التوجيه الرسمية العاملة في الحج إضافة إلى محدودية الإعداد والتخطيط إلى ضعف الكفاءة، والرتابة والجمود، والخوف من الخطأ، ومهابة التجديد والإبداع، وسيطرة عقلية الاحتكار، ووجود فئات محدودة ولكنها بالغة التأثير داخل بعض تلك الجهات أشغلت نفسها والآخرين عن الممارسة وبذل الجهد المطلوب بتصنيف الناس وإشعال معارك متوهمة أدت إلى إقصاء كثير من أهل العلم والدعوة القادرين على تقديم عطاء متميز في هذا الموسم المبارك افتراءً وظلماً وعدواناً.
وحين نتجه إلى الجهات الدعوية الخيرية العاملة في الحج نجد كثيراً منها ينطلق من الإدارة بالمال لا الفكر، ويعاني من ضيق في الأفق، وضعف في التخطيط، وقلة المتابعة، كما يعاني من أزمة تكرار الأعمال القائمة، ومحدودية التنسيق والتكامل مع الجهات العاملة. وفي المقابل فإن كثيراً من الأشخاص المهتمين بالدعوة والتعليم من خلال موسم الحج نجدهم يعانون من محدودية الإمكانات أو ضعف الجدية ومحدودية المبادرة.
وهذا لا يعني عدم وجود أعمال وبرامج تتسم بالجد والقوة، كلاَّ؛ فهي كثيرة بحمد الله وإحسانه؛ بدليل ما نراه من تحسُّن في هذا المضمار عاماً بعد آخر، لكن الحديث عن الممكن فعله، وعن وجود فجوة واسعة بين الواقع والمأمول، وعن ضرورة إحداث حراك ضخم نوعاً أو كمّاً في دوائر الجهات المعنية بالدعوة والتوجيه في الحج؛ ليتعمق من خلالها التدين، ويذيع العلم، وينتشر الخير، وتحارَب البدعة، وتضيق مساحات الأمية الشرعية.
وفي اعتقادي أن المدخل الصحيح للرقي بشأن التوجيه والتوعية في الحج يكمن في الآتي:
- النظر إلى الجهود المبذولة في الحج من كونها مجرد توعيةٍ وتوجيهٍ بشأن المناسك وبعض أحكام الدين تستهدف شخص الحاج في زمن الحج وهي كذلك إلى كونها جهداً كبيراً محكماً وعملاً منظماً يستهدف شخص الحاج ومَنْ خلفه من بني جلدته في زمن الحج وما بعده، يصحَّح عبره النهج، ويهذَّب السلوك، ويملك الحاج من خلاله قوة في الإيمان، وطريقة راشدة في التلقي والاستدلال، وباعثاً على الدعوة وتبليغ ما يعلم من أمر الدين. عندما نصل إلى هذا المستوى نكون قد استثمرنا فرصة مهدرة تستهدف نخبة مختارة من أهم نخب المسلمين وخيارهم، وحُلْنا بين قوى الاستكبار وأذنابهم في بلداننا، والذين يسعون إلى تسطيح التدين وتجفيف منابع الخير، والحيلولة بين الناس ودين الله عز وجل.
- تشجيع كل صاحب جهدٍ خيِّرٍ ومنهج منضبط على المبادرة والعمل، ومساعدته، والقيام بتأهيله، وفتح قنوات للانطلاق والعمل أمامه، والحرص على تسديده أثناء وبعد العمل، وفي المقابل الاستعداد لتحمُّل ما قد يصدر عن بعض العاملين من تصرُّف خاطئ غير مقصود واجتهاد غير سوي ووضعه في مساقه الطبيعي، وبخاصة متى كان الدافع خيراً والنية صادقة.
- فتح مؤسسات متخصصة في جوانب الدعوة والتوعية المختلفة في مواسم الحج بدلاً من جعلها تحت مظلة واحدة، وعدم قصرها على الجهات الرسمية، بحيث تكون هذه للكتاب، وتلك للشريط، والأخرى للمصاحف وترجمات معاني القرآن، وغيرها للدعاة والمترجمين، فإن تعسر التقسيم النوعي فلا أقل من التقسيم المكاني بحيث تكون هذه للمطارات، وتلك لمدن الحجيج، وثالثة للمواقيت، ورابعة لعرفة و مزدلفة، ويمكن تقسيم منى على أكثر من مؤسسة بحيث يتم الدخول في شراكات حقيقية فاعلة بين مؤسسات العمل الخيري والمؤسسات الرسمية، لتتكامل الجهود وتُستوعَب الطاقات كما هو الحال في جهد إمارة مكة المكرمة المشكور في ما يتعلق بالسقيا والرفادة، ومشروع تعظيم البلد الحرام، وهيئة العناية بالزوار المنطلقة سابقاً من أمارة المدينة، وكما هو التنظيم المعتمد لدى وزارة الحج فيما يتعلق بمؤسسات الأدلاَّء والطوَّافة.
- تفعيل الدرس والتوجيه والإفتاء داخل الحرمين الشريفين وساحاته العامة ومساجد مكة والمدينة من خلال اختيار شخصيات علمية ودعوية مقبولة ومؤثرة لدى الحجاج، وقادرة على النطق المباشر بلغات المسلمين الحية سواء كانوا من داخل المملكة أم من خارجها ما داموا من المشهود لهم بالعلم والكفاءة، ومن الأشخاص المعروفين بالاتزان والحكمة؛ إذ الوضع الراهن اليوم مع الجهود المبذولة لا يزال دون المستوى المقبول بحده الأدنى، وبخاصة متى علمنا أن هذه البلاد الطيبة يعيش في كنفها ويتعلم في جامعاتها آلاف من القادرين على الإسهام الفاعل في هذا الجانب، والذي سيزيل عنها ما قد يوجه لها من لوم، ويرقى متى تم بالبناء المعنوي للحرمين ومساجد مكة والمدينة رقياً عالياً يجعله يتوازى مع الجهود التي فاقت في أحيانٍ المنشودَ فيما يتعلق بالعمارة الحسية.
- تولية شأن الدعوة والتوعية في موسم الحج لجهة مستقلة متخصصة في هذا الجانب ليس لها عمل إلا ذلك، كما هي الحال في رئاسة شؤون الحرمين، ومرتبطة بولاة الأمر مباشرة، ويزداد مسيس الحاجة لذلك في وقتنا بعد فتح أبواب العمرة طوال العام؛ على أنه ما لم يتم اختيار الكفاءات الفاعلة لتلك الجهة، والقادرة على الإبداع وتفعيل كافة الطاقات فسيبقى الأمر عملياً في مكانه.
- تأسيس شركة أو مؤسسة متخصصة في الإنتاج الفني والإعلامي لإعداد جملة مناسبة من المواد العلمية والدعوية المتعلقة بالعمرة والحج والزيارة وما لا ينبغي جهله، بالسبل والوسائل واللغات المختلفة، والقيام بتسبيلها وتشجيع كل جهد عامل على نشرها وتوزيعها بمقابل أو غير مقابل، على أن لا تعتمد على الترجمة، بل تكون كتابات أصيلة من مُجيدٍ، لكل لغة، من شخصيات معروفة لأبناء تلك البيئات ومقبولة فيها.
- قيام علماء الآفاق ودعاتهم بواجبهم في هذا الجانب، بحيث تنشأ مؤسسة في كل بلد مهيأ لذلك، تكون متخصصة في تأهيل الحجاج والمعتمرين، وتفقيههم فيما يحتاجون إليه من معارف وأحكام.
- تفعيل دور سفارات المملكة وقنصلياتها والملحقات الدينية والثقافية في توعية الحجاج وإرشادهم وهم ما زالوا في بلدانهم، ولو من خلال توزيع كتاب وشريط وخارطة لمكة والمدينة والمشاعر أثناء إعطاء التأشيرة لكل حاج ومعتمر وهو ما زال في بلده.
- فتح حوارات سنوية جادة يدعى إليها كل كفؤ قادر لمناقشة التوعية في الحج، وسبل تطويرها والرفع من كفاءتها.
اللهم هيئ لأمتنا من أمرها رشدها، واحفظ عليها عقيدتها وأمنها ومصادر قوتها، وهيئ لها من أمرها رشداً، وصلى الله وسلم على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
- التصنيف: