رحلة مشتاق

منذ 2006-08-06

الحمد لله الذي سهل لعباده إلى مرضاته سبيلاً، وأوضح لهم الهداية وجعل الرسول عليها دليلاً، ورضي لهم نفسه رباً، والإسلام ديناً، ومحمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً..

 

أحمده حمد من لا رب له سواه، وأشكره على جزيل فضله وعطاياه، وأشهد أن الحلال ما أحلَّه، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، الذي يأمر وينهى، ويفعل ما يشاء..

 

وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المرتضى، الذي لا ينطق عن الهوى، أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أوضح السبل، أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها.. فصلوات الله وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار.. وصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار..

 

أما بعد :

فهذه رحلة مع مشتاق.. نعم مشتاق إلى دخول الجنّات.. ورؤية رب الأرض والسماوات..

إنه حديث عن المشتاقين..المعظّمين للدين.. الذين تعرّض لهم الشهوات.. وتحيط بهم الملذّات.. فلا يلتفتون إليها.. هم جبال راسيات.. وعزائم ماضيات.. عاهدوا ربهم على الثبات.. قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. يرون الناس عن طريق الاستقامة يتراجعون.. وهم على طاعاتهم ثابتون.. أعظم ما قربهم إلى ربهم ثباتهم على دينهم، وسرعة توبتهم بعد ذنبهم..

 

إنهم قوم إذا أذنبوا استغفروا، وإذا ذكروا ذكروا، وإذا خوِّفوا من عذاب الله انزجروا..

يتركون لذة الملك والسلطان.. والمنعة والمكان.. في سبيل النجاة من النيران.. والفوز برضا الرحمن..

{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ.أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}..

 

هم بشر من البشر.. ما تركوا اللذائذ عجزاً عنها، ولا مللاً منها.. بل لهم غرائز وشهوات، ورغبة في الملذات.. لكنهم قيدوها بقيد القوي الكريم؛ يخافون من ربهم عذاب يوم عظيم.. عاهدوا ربهم على الطاعة لمّا قال لهم: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}.. فثبتوا على دينهم حتى ماتوا مسلمين..

لم يفلح الشيطان في جرّهم إلى خمر خمار، ولا مخالطة فجار، ولا سفر إلى بلاد الكفار،الناس يتساقطون في الحرام.. وهم ثابتون على الإسلام.

 

فعجباً لهم ما أشجعهم.. وأقوى عزائمهم وأثبتهم.. الكل يتمنى أن يعيش عيشهم، إن لم يتمنى ذلك في الدنيا.. تمنّاه في الأخرى..

 

ومن تشبه بهم، فأراد الهداية المُرْضِية والسعادة الأبدية.. فلا ينبغي أن يقعد على أريكته.. وينتظر أن تنزل عليه الهداية من السماء، أو يشربها مع الماء.. كلا، بل عليه أن يسعى إلى تحصيلها، ويبحث عن سبل اتباعها.. ومن يخطب الحسناء لا يغله المهر.

 

وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) فأمر بطلبها، وسلوك سبلها للفوز بها..

 

وانظر إلى ذاك الشاب النضر، الذي نشأ في بيت عز وسلطان، ومنعة ومكان..

كان معظّماً عند قومه، مهيباً في بلده، مقدّماً بين أقرانه، فريداً في زمانه، انظر إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه..

كان مجوسياً يعبد النار، وكان أبوه سيّدَ قومه، وكان يحبه حباً عظيماً، وقد حبسه في بيته عند النار.. ومع طول ملازمته للنار، اجتهد في المجوسية حتى صار قاطن النار الذي يوقدها. وكان لأبيه بستان عظيم يذهب إليه كل يوم، فشغل الأب في بنيان له يوماً في داره، فقال لسلمان: فانطلق إلى ضيعتي فاصنع فيها كذا وكذا..

ففرح سلمان وخرج من حبسه، وتوجه إلى البستان.. فبينما هو في طريقه إذ مرَّ بكنيسة للنصارى، فسمع صلاتهم فيها، فدخل عليهم ينظر ماذا يصنعون.. وأعجبه ما رأى من صلاتهم، ورغب في اتباعهم، وقال في نفسه: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه.

 

فسألهم عن دينهم، فقالوا: أصله بالشام، وأعلم الناس به هناك..

فلم يزل عندهم، حتى غابت الشمس..

فلما رجع إليه، قال أبوه: أي بني أين كنت؟ قال: إني مررت على ناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من أمرهم وصلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا..

 

ففزع أبوه، وقال: أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم.. قال: كلا والله، بل دينهم خير من ديننا..

فخاف أبوه أن يخرج من دين المجوس، فجعل في رجله قيداً، ثم حبسه في البيت..

فلما رأى سلمان ذلك، بعث إلى النصارى رسولاً من عنده يقول لهم: إني قد رضيت دينكم ورغبت فيه، فإذا قدم عليكم ركب من الشام من النصارى فأخبروني بهم.

 

فما مضى زمن حتى قدم عليهم ركب من الشام -تجار من النصارى- فبعثوا إلى سلمان فأخبروه. فقال للرسول: إذا قضى التجّار حاجاتهم وأرادوا الرجوع إلى الشام فآذنوني.

فلما أراد التجار الرجوع أرسلوا إليه، وواعدوه في مكان، فتحيل حتى فك القيد من قدميه.. ثم خرج إليهم فانطلق معهم إلى الشام.. فلما دخل الشام، سألهم من أفضل أهل هذا الدين علماً ؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة. فتوجه إلى الكنيسة، فأخبر الأسقف خبره، وقال له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحب أن أكون معك، أخدمك، وأصلي معك، وأتعلّم منك.. فقال له الأسقف: أقِم معي.

فمكث معه سلمان في الكنيسة، فكان سلمان يحرص على الخيرات، والتعبّد والصلوات.

 

أما الأسقف فكان رجل سوء في دينه؛ كان يأمر الناس بالصدقة ويرغّبهم فيها، فإذا جمعوا إليه الأموال اكتنـزها لنفسه، ولم يعطها المساكين. فأبغضه سلمان بغضاً شديداً، لكنه لا يستطيع أن يخبر أحداً بخبره، فهو غريب، قريب العهد بدينهم.. فلم يلبث الأسقف أن مات.. فحزن عليه قومه، واجتمعوا ليدفنوه. فلما رأى سلمان حزنهم عليه قال: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغّبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً. قالوا فما علامة ذلك؟ قال: أنا أدلّكم على كنزه، فمضى بهم حتى دلّهم على موضع المال، فحفروه، فأخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وفضة.

 

  فقالوا والله لا ندفنه أبداً. ثم صلبوه على خشبة، ورجموه بالحجارة. وجاءوا برجل آخر، فجعلوه مكانه في الكنيسة. قال سلمان: "فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس، كان خيراً منه، أعظم رغبة في الآخرة، ولا أزهد في الدنيا، ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه، فأحببته حباً ما علمت أني أحببته شيئاً كان قبله. فلم يزل سلمان يخدمه، حتى كبر وحضرته الوفاة، فحزن على فراقه، وخاف أن لا يثبت على الدين بعده، فقال له: "يا فلان .. قد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي؟" قال: "أي بني، والله ما أعلم أحداً على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدّلوا، وتركوا كثيراً مما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه فالحق به". فلما توفي الرجل العابد، خرج سلمان من الشام إلى العراق، فأتى صاحب الموصل فأقام عنده، حتى حضرته الوفاة، فأوصى سلمان لرجل بنصيبين. فشدّ رحاله إلى الشام مرة أخرى..

 

 

حتى أتى نصيبين، فأقام عند صاحبه طويلاً، حتى نزل به الموت، فأوصاه أن يصاحب رجلاً بعمورية بالشام. فذهب إلى عمورية، وأقام عند صاحبه، واكتسب حتى كانت عنده بقرات وغُنَيْمَة. ثم لم يلبث العابد أن مرض ونزل به الموت، فحزن سلمان عليه، وقال له مودعاً: "يا فلان إلى من توصي بي؟" فقال الرجل الصالح: "يا سلمان، والله ما أعلم أصبح على مثل ما نحن فيه أحد من الناس آمرك أن تأتيه -يعني لقد غير الناس وبدلوا-،

ولكنه قد أظلّك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين ( أي جبلين أسودين ) بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته.. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل". ثم مات ودُفن فمكث سلمان بعمورية ما شاء الله أن يمكث، وهو يلتمّس من يخرج به إلى أرض النبوة.

 

فما زال كذلك، حتى مرَّ به نفر من قبيلة كلب -تجار- فسألهم عن بلادهم، فأخبروه أنهم من أرض العرب. فقال لهم: تحملوني إلى أرضكم، وأعطيكم بقراتي وغنيمتي؟

 

قالوا: نعم. فأعطاهم إياها، وحملوه معهم. حتى إذا قدموا به وادي القُرى، طمِعوا في المال، فظلموه وادّعوا أنه عبد مملوك لهم، وباعوه لرجل من اليهود. فلم يستطع سلمان أن يدفع عن نفسه؛ فصار عند هذا اليهودي يخدمه، حتى قدم على اليهودي يوماً ابن عم له من المدينة، من يهود بنى قريظة، فاشترى سلمان منه. فاحتمله إلى المدينة، فلما رآها، ورأى نخلها وحجارتها، عرف أنها أرض النبوّة التي وصفها له صاحبه. فأقام بها، وأخذ يترقّب أخبار النبي المرسل.

 

ومرت السنوات.. وبعث الله رسوله عليه السلام، فأقام بمكة ما أقام، وسلمان لا يسمع له بذكر؛ لشدة ما هو فيه من الخدمة عند اليهودي، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومكث بها، وسلمان لا يدري عنه شيئاً. فبينما هو يوماً في رأس نخلة لسيده يعمل فيها، وسيّده جالس أسفل النخلة.. إذ أقبل رجل يهودي من بني عمه حتى وقف عليه، فقال : أي فلان، قاتل الله بني قيلة -يعني الأوس والخزرج- إنهم الآن لمجتمعون على رجل بقباء، قدم من مكة يزعمون أنه نبي. فلما سمع سلمان ذلك، انتفض جسده، وطار فؤاده، ورجفت النخلة حتى كاد أن يسقط على صاحبه، ثم نزل سريعاً وهو يصيح بالرجل: ماذا تقول؟ ما هذا الخبر؟

فغضب سيده، ورفع يده فلطمه بها لطمة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك..

 

فسكت سلمان، وصعد نخلته يكمل عمله وقلبه مشغول بخبر النبوة، ويريد أن يتيقّن من صفات هذا النبي التي وصفها صاحبه (يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة).

فلما أقبل الليل، جمع ما كان عنده من طعام، ثم خرج حتى جاء إلى رسول الله وهو جالس بقُباء، فدخل عليه، فإذا حوله نفر من أصحابه، فقال: "إنه بلغني أنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة فجئتكم به". ثم وضعه سلمان بين يدي النبي عليه السلام، واعتزل ناحية ينظر إليه ماذا يفعل؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام، ثم التفت إلى أصحابه فقال: «كلوا»، وأمسك هو فلم يأكل. فلما رأى سلمان ذلك قال في نفسه: هذه والله واحدة (لا يأكل الصدقة) وبقي اثنتان. ثم رجع إلى سيده..

 

وبعدها بأيام جمع طعاماً آخر، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّم عليه ثم قال له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هديّة أهديتها كرامة لك -ليست بصدقة-

ثم وضعها بين يديه صلى الله عليه وسلم، فمدّ يده إليها، فأكل وأكل أصحابه. فلما رأى سلمان ذلك قال في نفسه: هذه أخرى وبقي واحدة (أن ينظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم).. ولكن أنى له ذلك؟

رجع سلمان إلى خدمة سيده وقلبه مشغول بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكث أياماً، ثم مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه، فإذا هو في بقيع الغرقد.. قد تبع جنازة رجل من الأنصار، فجاءه فإذا حوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزراً بواحدة، مرتدياً بالأخرى -كلباس الإحرام-. فسلّم عليه، ثم استدار ينظر إلى ظهره، هل يرى الخاتم الذي وصف له صاحبه! فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم استدارته، عرف أنه يستثبت في شيء وُصف له، فحرك كتفيه فألقى رداءه عن ظهره، فنظر سلمان إلى الخاتم فعرفه، فانكب عليه يقبّله ويبكي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تحوّل»،أي اجلس أمامي. فاستدار حتى قابل وجه النبي عليه السلام..

 

فسأله صلى الله عليه وسلم عن خبره، فقص عليه قصته، وأخبره أنه كان شاباً مترفاً، ترك العز والسلطان طلباً للهداية والإيمان، حتى تنقّل بين الرهبان يخدمهم ويتعلم منهم،

واستقرّ به المقام عبداً مملوكاً ليهودي في المدينة.

ثم أخذ سلمان ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودموعه تجري على خدّيه؛ فرحاً وبشراً ثم أسلم، ونطق الشهادتين، ومضى إلى سيده اليهودي، فزاده اليهودي شغلاً وخدمة..

 

فكان الصحابة يجالسون النبي صلى الله عليه وسلم، أما هو فقد شغله الرق عن مجالسته، حتى فاتته معركة بدر ثم أحد. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له : «كاتب يا سلمان»، أي اشتر نفسك من سيدك بمال تؤديه إليه.

 

فسأل سلمان صاحبه أن يكاتبه، فشدّد عليه اليهودي، وأبى عليه إلا بأربعين أوقية من ورق، وثلاثِمائةِ نخلة يجمعها فسائل صغار، ثم يغرسها، واشترط عليه أن تحيا كلُّها..

فلما أخبر سلمان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما اشترط عليه اليهودي، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أعينوا أخاكم بالنخل»..

 

فأعانه المسلمون، وجعل الرجل يمضي إلى بستانه فيأتيه بما يستطيع من فسيلة نخل.. فلما جمع النخل، قال صلى الله عليه وسلم: «يا سلمان، اذهب ففقر لها -أي احفر لها- لغرسها، فإذا أنت أردت أن تضعها فلا تضعها حتى تأتيني فتؤذنني»..

 

فبدأ سلمان يحفر لها -وأعانه أصحابه- حتى حفر ثلاثَمائة حفرة..

ثم جاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم معه إليها، فجعل الصحابة يقرّبون له فسيلة النخل، ويضعه صلى الله عليه وسلم بيده في الحفر، قال سلمان : "فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها نخلة واحدة". فلما أدى النخل إلى اليهودي، بقي عليه المال..

 

فأُتى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بذهب من بعض المغازي، فالتفت إلى أصحابه وقال: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» فدعوه له. فقال صلى الله عليه وسلم: «خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان»، فأخذها سلمان، فأدّى منها المال إلى اليهودي، وعُتِق..

ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات..

 

هذا خبر سلمان الفارسي .. الذي ترك العيش الهني، والوطن الرضي، وأنواع الشهوات، وسافر في البلاد، وتنقّل بين ذل الخدمة ورِقِّ العبودية؛ طلباً للهداية الأبدية..

 

عظَّم الخالق في نفسه، واستأنس بذكره وقربه، وتنعّم بمناجاته وحبه، فصغر ما دونه في عينه .. تعب أياماً قليلة، أعقبته راحةً طويلة؛ إذا ذُكرت له الجنات طارت نفسه شوقاً إليها، وتخيل لو أنه فيها ينعّم، ومن أشجارها يأكل، وإلى خالقها ينظر.. فينسى عند ذلك شدةَ العذاب، وجليلَ المصاب..

 

فلله مـــا أبهـــــى ثبـــاتهــــم لــه          وقد حصلت تلك الجوائز تقسم

دعـــاهم فلبّـــوه رضـــا ومحبـــة          فلمـــا دعوه كان أقـــرب منهم

ينــــادونــه يــا رب يـــا رب إننـــا          عبـــيدك لا نبغي سواك وتعلـم

ولو كان يرضي الله نحر نفوسهم          لـــدانوا بها طوعاً ولله   سلّموا

كمــا بذلـــوا عند الجهاد نحورهم          لأعــدائه حتى جرى منهم الدم

ولله أكبــــاد هنـــالك أودع الغرام          بهــــا فالنـــــار فيهـــا   تضــرّم

ولله أنفـــــاس يكـــــاد بحــــرّهــا         يــذوب المحب المستهام   المتيم

ولله أفضــــــال هنـــــاك ونعمـــة          وبـــر وإحسان وجــود   ومرحم

ولله كـــــم من عـــــبرة مهراقــة          وأخـــرى على آثــارها     لا تقدم

وقــد شرقت عين المحب بدمعها          فينظر من بين الدموع    ويسجِم

فبــالله مــا عذر امرئ هو مؤمن          بهـــذا ولا يسعـــى لـــه    ويقدم

ولكنمــا التوفيق بالله إنــه يخص          بـــه مـــن شاء فضلاً     وينعـــم

 

 

ومن الناس من يشتاق إلى الهداية، ولكن يمنعه منها بغضه لبعض الصالحين أو مواقف وقعت له معهم، فحمل في نفسه عليهم. أو تجده يعلّق صلاحه واستقامته بأشخاص يعينونه على الدين، فإذا فسدت أحوالهم أو فرّق الدهر بينهم، انتكس عن الدين، وعصى رب العالمين..

 

وهذا حال أولئك المرتدّين الذين علّقوا إسلامهم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، فما داموا يخالطونه ويحدثهم ويساكنونه فهم ثابتون على الدين، بل قُوّام في الأسحار، صُوّام في النهار. ولكن ما إن فارق سواده سوادهم، حتى ارتدوا على أدبارهم، وكفروا بعد إسلامهم.. حتى قال لهم أبو بكر رضي الله عنه: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"..

 

نعم ..الله حي لا يموت، يسمع دعاء الداعين، ويقبل توبة التائبين.. من لجأ إليه كفاه، ومن فرَّ إليه قربه وأدناه.. إن ذكره العبد في نفسه ذكره في نفسه، وإن ذكره في ملأ ذكره في ملأٍ خير منهم.. من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً، تقرب إليه باعاً.. ومن استقر في قلبه الإيمان، ثبت على عبادة الرحمن، وإن اشتد البلاء وانتقل معي إن شئت إلى هناك، انتقل إلى هناك..

 

وادخل إلى المدينة.. وانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد جلس مع أصحابه الكرام، فحدثهم عن البيتِ الحرام، وفضلِ العمرة والإحرام، فطارت أفئدتهم شوقاً إلى ذاك المقام، فأمرهم بالتجهّز للرحيل إليه، وحثّهم على التسابق عليه، فما لبثوا أن تجهّزوا، وحملوا سلاحهم وتحرّزوا. فخرج صلى الله عليه وسلم مع ألف وأربعمائة من أصحابه، مهلّين بالعمرة ملبّين، يتسابقون إلى البلد الأمين.

 

فلما اقتربوا من جبال مكة.. بركت القصواء -ناقة النبي عليه السلام-، فحاول أن يبعثها لتسير، فأبت عليه. فقال الناس: خلأت القصواء.. (أي عصت)، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» ( يعني فيل أبرهة لما أقبل به مع جيش من اليمن يريد هدم الكعبة فحبسهم الله عن ذلك )..

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها».. ثم زجرها فوثبت، فتوجه إلى مكة حتى نزل بالحديبية قريباً من مكة، فتسامع به كفار قريش، فخرج إليه كبارهم ليردّوه عن مكة، فأبى إلا أن يدخلها معتمراً..

 

فما زالت البعوث بينه وبين قريش، حتى أقبل عليه سهيل بن عمرو، فصالح النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعودوا إلى المدينة، ويعتمروا في العام القادم. ثم كتبوا بينهم صلحاً عاماً، وفيه :

اشترط سهيل: أنه لا يخرج من مكة مسلم مستضعف يريد المدينة إلا رُدَّ إلى مكة، أما من خرج من المدينة وجاء إلى مكة مرتداً إلى الكفر فيُقبل في مكة.

 

فقال المسلمون: سبحان الله !! من جاءنا مسلماً نرده إلى الكافرين !! كيف نرده إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟

فبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم شاب يسير على الرمضاء، يرفل في قيوده وهو يصيح: يا رسول الله.. فنظروا إليه، فإذا هو أبو جندل ولد سهيل بن عمرو، وكان قد أسلم فعذّبه أبوه وحبسه، فلما سمع بالمسلمين تفلّت من الحبس وأقبل يجر قيوده، تسيل جراحه دماً، وتفيض عيونه دمعاً..

 

ثم رمى بجسده المتهالك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون ينظرون إليه،

فلما رآه سهيل غضب !! كيف تفلت هذا الفتى من حبسه..

ثم صاح بأعلى صوته : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ..

فقال صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نقض الكتاب بعد»..

قال: فو الله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً..

فقال صلى الله عليه وسلم : «فأجزه لي».. قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: «بلى فافعل».. قال: ما أنا بفاعل. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم..

 

وقام سهيل سريعاً إلى ولده يجره بقيوده، وأبو جندل يصيح ويستغيث بالمسلمين، يقول:

"أي معشر المسلمين أُرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت من العذاب ".. ولا زال يستغيث بهم حتى غاب عنهم.. والمسلمون تذوب أفئدتهم حزناً عليه؛ فتى في ريعان الشباب يُشدد عليه العذاب، وينقل من العيش الرغيد إلى البلاء الشديد،وهو ابن سيد من السادات.. طالما تنعّم بالملذّات، وتلذذ بالشهوات..

ثم يُجرّ أمام المسلمين بقيوده ليعاد إلى سجنه وحديده.. وهم لا يملكون له شيئاً..

 

مضى أبو جندل إلى مكة وحيداً، يسأل ربه الثبات على الدين، والعصمة واليقين،أما المسلمون فقد رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهم في حنق شديد على الكافرين، وحزن على المسلمين المستضعفين.. ثم اشتد العذاب على الضعفاء في مكة حتى لم يطيقوا له احتمالاً، فبدأ أبو جندل وصاحبه أبو بصير، والمستضعفون في مكة يحاولون التفلّت من قيودهم، حتى استطاع أبو بصير رضي الله عنه أن يهرب من حبسه، فمضى من ساعته إلى المدينة يحمله الشوق، ويحدوه الأمل في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

 

مضى يطوي قفار الصحراء، تحترق قدماه على الرمضاء، حتى وصل المدينة. فتوجّه إلى مسجدها.. فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه، إذ دخل عليهم أبو بصير عليه أثرُ العذاب، ووعثاءُ السفر، وهو أشعث أغبر، فما كاد يلتقط أنفاسه حتى أقبل رجلان من كفار قريش فدخلا المسجد، فلما رآهما أبو بصير فزع واضطرب، وعادت إليه صورة العذاب.. فإذا هما يصيحان: يا محمد، رده إلينا، العهدُ الذي جعلت لنا "..

 

فتذكّر النبي صلى الله عليه وسلم عهده لقريش أن يرد إليهم من يأتيه من مكة، فأشار إلى أبي بصير أن يخرج من المدينة، فخرج معهما أبو بصير، فلما جاوزا المدينة نزلا لطعام، وجلس أحدهما عند أبي بصير، وغاب الآخر ليقضي حاجته.. فأخرج القاعد عند أبي بصير سيفه، ثم أخذ يهزّه ويقول -مستهزءاً بأبي بصير-: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل..

 

فقال له أبو بصير: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً.. فقال: أجل والله، إنه لجيد لقد جربت به، ثم جرّبت..

فقال أبو بصير: "أرني أنظر إليه"، فناوله إياه.. فما كاد السيف يستقر في يده، حتى رفعه ثم هوى به على رقبة الرجل فأطار رأسه.. فلما رجع الآخر من حاجته، رأى جسد صاحبه ممزقاً، مجندلاً.. ففزع، وفرَّ حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو..

 

فلما رآه صلى الله عليه وسلم مقبلاً فزعاً، قال:«لقد رأى هذا ذعراً».. فلما وقف بين يديه صلى الله عليه وسلم صاح من شدة الفزع، قال: قُتِل والله صاحبي، وإني لمقتول ..

فلم يلبث أن دخل عليهم أبو بصير، تلتمع عيناه شرراً، والسيف في يده يقطر دماً.. فقال:

"يا نبي الله، قد أوفى الله ذمّتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فضمّني إليكم.. قال صلى الله عليه وسلم: «لا»..

فصاح أبو بصير بأعلى صوته، قال: "أو يا رسول الله أعطني رجالاً أفتح لك مكة"، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: «ويل أمه مسعِّر حرب لو كان معه رجال».. ثم تذكّر عهده مع قريش فأمر أبا بصير بالخروج من المدينة.

 

فسمع أبو بصير وأطاع..

نعم، وما حمل في نفسه على الدين، ولا انقلب عدواً للمسلمين؛ فهو يرجو ما عند الحليم الكريم من الثواب العظيم، الذي من أجله ترك أهله، وفارق ولده، وأتعب نفسه، وعذّب جسده..

 

خرج أبو بصير من المدينة، فاحتار أين يذهب.. ففي مكة عذاب وقيود، وفي المدينة مواثيق وعهود.. فمضى إلى سيف البحر -في شمال جدة- فنزل هناك، في صحراء قاحلة، لا أنيس فيها ولا جليس..

 

فتسامع به المسلمون المستضعفون بمكة، فعلموا أنه باب فرج انفتح لهم؛ فالمسلمون في المدينة لا يقبلونهم، والكفار في مكة يعذّبونهم.. فتفلّت أبو جندل من قيوده، فلحق بأبي بصير، ثم جعل المسلمون يتوافدون إليه في مكانه، حتى كثر عددهم، واشتدّت قوّتهم.. فجعلت لا تمر بهم قافلة تجارة لقريش، إلا اعترضوا لها..

 

فلما كثر ذلك على قريش، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله أن يضمّهم إليه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن يأتوا المدينة.. فلما وصل إليهم الكتاب استبشروا وفرحوا..

 

لكن أبا بصير كان قد ألمّ به مرض الموت، وهو يردد قائلاً: "ربي العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر".. فلما دخلوا عليه وأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بسكنى المدينة، وأن غربتهم انتهت، وحاجتهم قضيت، ونفوسهم أمنت، فاستبشر أبو بصير.. ثم قال وهو يصارع الموت: أروني كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فناولوه إياه.. فأخذه فقبّله، ثم جعله على صدره، وقال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله .. ثم شهق ومات..

 

نعم، مات أبو بصير، ولم يذق من لذة الدنيا شيئاً..

مات، وهو قد خدم الدّين، وجاهد لرب العالمين..

مات، لكنه استراح من عناء هذه الدار.. ويرجى أن يكون في دار القرار..

ينظر فيها إلى وجه رب الأرض والسماء، الذي سفك من أجله الدماء، ومات مشرّداً في الصحراء..

 

ولإن غلِّقت دونه أبواب الأرض، فلعله فتحت له أبواب السماء..

قال الله تعالى: {هَـذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ.جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ.مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ.وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ.هَـذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ.إِنَّ هَـذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}..

 

فطوبى لأبي بصير..

من يثبت اليوم مثل ثباته.. شابٌ أسعده الله بطاعته.. وحفظه برعايته.. وتولاه بعنايته..

همّه في الجد والطلب.. وبدنه في الصلاة والقُرَب.. فلو رأيت بكاءه في الخلوات.. وعند تلاوة السور والآيات.. لسمعت لصدره أنّات.. ورأيت في وجهه حسرات.. أذاقه الله طعم محبّته.. ونعمه بمناجاته.. فقطعه ذلك عن الشهوات.. وجانب اللذات.. فهو راضٍ كل الرضا .. وإن اشتد عليه البلاء..

 

وأنت يا من لم تبتلى ببلائه، ولم تُضَرَّ بضرائه.. يا من تتقلب في النعم، ولا تخشى النقم..

يا من تنادى في الليل والنهار.. لطاعة العزيز الغفار.. أنت يا من ملّت منك الشهوات.. وتتابعت الزلات وعظمت السيئات.. أما آن لك أن تتوب وتترك الذنوب وتؤوب..

وربك ينظر إليك ويرقب.. ويسخط ويغضب.. والملائكة تسجل وتكتب.. وتحصي وتحسب..

وأنت سادر في غفلاتك..

أفلا تصبر على فراق لذة لراحة عظيمة.. وجنات كريمة..

 

فاصــبر قليـلاً إنمـا هـي ساعـة             فإذا أصبت ففي رضى   الرحمن

فالقوم كانوا يألمون ويصبـرون             وصبـــرهم في طاعــة الرحمن

فاتعــب قليــل حياتك الدنيا تجـد             راحاتِها وســـرورَهـــا بجنـــان

بــالله ما عذر امرئ هو مؤمـن             حقـــاً بهــــذا ليــــس باليقظــان

بــل قلبه في رقدة فإذا استفــاق          فلبســــه هــــو حلــة الكسلان

 

كانوا يطيعون الله.. ويقدمون لأجله أرواحهم.. ويبذلون أموالهم وأبدانهم.. ولا يمنّون عليه ذلك.. فهم المؤمنون حقاً ..

 

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ.قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ..

 

ومهما اشتد البلاء.. فهو قليل ما دام أن الجنة هي الجزاء..

يستشعر العبد وقت بلائه أن الله قريب مجيب، يسمع أنّاته، ويجيب دعواته، يعظم له أجرَه، ويضع عنه وزرَه، والله لا يضيع أجر المحسنين..

فمن تصبّر على مفارقة الشهوات؛ وغض بصره عن المحرمات، وحفظ سمعه عن الأغنيات، وعف فرجه عن الفواحش والآثام، ويده ورجله عن مواقعة الحرام.. بل من حاسب نفسه بما نظرت إليه عيناه، أو سمعته أذناه، أو مشت إليه رجلاه، أو لمسته يداه..

 

من كان يعلم أن الله للعباد بالمرصاد، يناقشهم الحساب، يراقب النظرات واللحظات، والكلمات والهمسات.. يحاسبهم على مثاقيل الذرّ، ويراهم في البر والبحر..

فمن كان هذا حاله.. خفّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه.. وليبشر بالنعيم المقيم بجوار الحليم الكريم، الذي يهون معه كل عذاب وبلاء..

 

في السنة العاشرة من الهجرة.. خرج مسيلمة الكذاب في اليمامة -في نجد من الجزيرة العربية-، فادّعى النبوة، وأنه رسول أنزل عليه قرآن.. ومن قرآنه أنه كان يقول: والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً..

 

ويهذي هذياناً، يسميه قرآناً، فاستخفّ قومه فأطاعوه! فاتّبعه سفهاء رعاع، حتى صار له جند وأتباع.. فاغترّ بقوّته، وتطاول بسطوته، فأرسل بكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول فيه: ( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد فإني قد أُشركت في الأمر معك، وإن لنا نصفَ الأرض ولقريشٍ نصفَ الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون ) ..

 

فلما قرأ الكتاب على النبي عليه السلام، عجب من جرأة مسيلمة على الملك العلاّم ! فكتب إليه.. "بسم الله الرحمن الرحيم.. من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"..

 

ثم تلفّت رسول الله حوله، ينظر في وجوه أصحابه، يلتمس منهم رجلاً فطناً جريئاً يحمل هذا الكتاب -إلى مسيلمة الكذاب- فابتدر حبيب بن زيد رضي الله عنه.. شاب ما أسَرَتْهُ عن خدمة الدين شهوة، ولا انشغل عن ربه بلذة.. امتلأ قلبه تصديقاً وإيماناً، وقطع الليل تسبيحاً وقرآناً.. أخذ الكتاب من يد النبي الأوّاب ومضى به.. من المدينة إلى اليمامة.. فسار أكثر من ألف ميل، حتى وصل إلى مسيلمة.. فلما دخل على مسيلمة الكذاب، ناوله الكتاب..

فنظر مسيلمة في الكتاب، فغضب وأزبد وأرعد.. ثم جمع قومه حوله، وأوقف حبيب بن زيد بين يديه، وسأله عن هذا الكتاب ..

 

فقال حبيب: هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم..

فقال مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال حبيب: نعم.. أشهد أن محمداً رسول الله .. قال: وتشهد أني رسول الله؟

فقال له حبيب مستهزئاً: إن في أذني صمماً عما تقول -يعني أنت أقلّ وأذل من أن يُسمع كلامك-.

فأعاد عليه مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال حبيب: نعم، أشهد أن محمداً رسول الله ..

قال: وتشهد أني رسول الله ؟ فقال حبيب : إني لا أسمع شيئاً !!

فأعاد عليه السؤال .. فكرر حبيب الجواب ..

 

فغضب مسيلمة .. ودعا السيّاف..

وأمره أن يطعن بالسيف في جسد هذا الفتى، وهو يكرر عليه السؤال.. ولا يسمع إلا جواباً واحداً، لا يزيده إلا غيظاً وحقداً.. فأمر مسيلمة السياف أن يفتح فم حبيب ويقطع لسانه..

فأمسك به الجنود وفتحوا فمه، حتى قطع السياف لسانه الذاكر، ثم أوقفوه بين يدي مسيلمة الفاجر، والدماء تسيل من فمه الطاهر..

 

فصاح به مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فأشار حبيب برأسه: نعم .. قال : وتشهد أني رسول الله؟

فأشار برأسه: لا .. فأمر مسيلمة سيافه، فقطع يده، ثم قطع رجله، وجدع أنفه، واحتزّ أذنه.. وراح يقطّع جسده قطعة قطعة، ولحمه يتساقط .. ودماؤه تسيل .. وهو ينتفض على الأرض، ويئن من الألم.. حتى مات رضي الله عنه..

 

نعم.. قُطِع لسانه، ومُزِّقَ جسده، وكُسّرت عظامه؛ في سبيل رضا الرحمن جل جلاله ..

حتى إذا أوقف بين يديه يوم القيامة، فسأله ربه: يا عبدي لم قُطع لسانك، وجُدع أنفك، وبُترت يدك، وسُفِك دمك..

قال: في رضاك يا رب العالمين، وما لجرح إذا أرضاكم ألم ..

 

نعم.. من أجلكم يا ربِّ، تنقلب الآلام إلى غرام، والأنات إلى لذات، والبكاء إلى حداء، والدماء إلى مسك وفيحاء.. ولئن عُذبت يا رب في الأرض، فبيض وجهي يوم العرض..

 

عندها يفرح ربه بلقائه.. ويبدل ألمه بنعمائه، يرفع درجته، ويغفر زلّته، ولعله يناجيه ربه فيقول: يا عبدي تقلّب في النعيم كما تشاء..

فاليوم أنعمك نعيماً لا شقاء معه أبداً.. وأعطيك مُلكاً لا تشارك فيه أحداً..

الملائكة يدخلون عليك من كل باب.. والنعيم بين يديك يأخذ بالألباب.. ولدينا مزيد وزيادة .. وفرحة وسعادة..

فآهٍ .. ما أحسن تلك المحاضرة.. مع ملِكِ الدنيا والآخرة..

{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ.هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ.لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ.سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيم}..

 

نعم هو رب رحيم.. حياة القلوب في محبته، وأنس النفوس في معرفته.. وراحة الأبدان في طاعته.. ولذّة الأرواح في خدمته.. وكمال الألسن بالثناء عليه وذكره.. وعزّها بالتعبّد له وشكره.. فأهل ذكره هم أهل مجالسته.. وأهل طاعته هم أهل كرامته..

أما أهل معصيته فلم يقنطهم من رحمته.. فإن تابوا فهو حبيبهم.. وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم.. يبتليهم بأنواع المصائب لييغفر لهم المعائب ..

 

{الـم.أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ.وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ.مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ}..

 

وبعض الناس.. تشتاق نفسه إلى الهداية، لكنه يمنعه الكبر من اتباع شعائر الدين!

نعم، يتكبّر عن تقصير ثوبه فوق الكعبين، وإعفاء لحيته ومخالفة المشركين، فجمال مظهره أعظم عنده من طاعة ربه..

وبعض النساء كذلك.. لا تزال تتساهل بأمر الحجاب؛ حرصاً على تكميل زينتها، وحسن بزّتها.. أو تعصي ربها بنتف حاجبها، أو تضييق لباسها.. وإذا نُصِحت استكبرت وطغت..

ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبَر.. فكيف إذا كان هذا الكبر مانعاً من الهداية!!

 

كان جبلة بن الأيهم.. ملكاً من ملوك غسّان.. دخل إلى قلبه الإيمان.. فكتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه يستأذنه في القدوم عليه.. فسرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً.. وكتب إليه عمر: أن اقدم إلينا.. ولك مالنا وعليك ما علينا.. فأقبل جبلة في خمسمائة فارس من قومه.. فلما دنا من المدينة لبس ثياباً منسوجة بالذهب.. ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بالجوهر.. وألبس جنوده ثياباً فاخرة..

ثم دخل المدينة.. فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه، حتى النساء والصبيان..

 

فلما دخل على عمر رحَّب به وأدنى مجلسه.. فلما دخل موسم الحج حج عمر، وخرج معه جبلة..

فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة.. فالتفت إليه جبلة مغضباً .. فلطمه فهشم أنفه.. فغضب الفزاري، واشتكاه إلى عمر بن الخطاب..

 

فبعث إليه فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف.. فهشمت أنفه!

فقال: إنه وطئ إزاري؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه.. فقال له عمر: أما الآن فقد أقررت، فإما أن ترضيه، وإلا اقتصّ منك ولطمك على وجهك..

قال: يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة!

قال عمر: يا جبلة.. إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه، فما تفضله بشيء إلا بالتقوى..

قال جبلة: إذن أتنصّر..

قال عمر: من بدّل دينه فاقتلوه، فإن تنصرت ضربت عنقك..

فقال: أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين..

قال: لك ذلك، فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة.. وسار إلى القسطنطينية فتنصّر..

فلما مضى عليه زمان هناك، ذهبت اللذّات.. وبقيت الحسرات، فتذكّر أيام إسلامه، ولذّة صلاته وصيامه.. فندم على ترك الدين.. والشرك برب العالمين..

 

فجعل يبكي ويقول:

 

تنصّرت الأشرافُ من عار لطمــة          وما كان فيها لـــو صبرت لها ضرر

تكنفنــي منهـــا لجــــاج ونخــــوة          وبعــت لها العيــن الصحيحة بالعور

فيـــاليـــت أمــي لم تلدني وليـتني          رجعت إلى القول الذي قال لي عمر

وياليتنــي أرعى المخاض بقفــرة          وكنت أســير في ربيعــــة أو مضــر

ويالــيت لي بالشـام أدنى معيشـة             أجالس قومي ذاهب السمع والبصر

 

ثم ما زال على نصرانيته حتى مات.. نعم، مات على الكفر لأنه تكبّر عن الذلة لشرع رب العالمين..

 

فمن أراد السعادة الأبدية.. فليلزم عتبة العبودية.. وليكن لربه أكثرَ تواضعاً وذلاً.. يسجد بين يديه.. ويتقرب إليه مستجيباً لأمره.. منتهياً عن نهيه وزجره..

قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ..

 

وقد يرغب المرء في الهداية .. ويستقيم عليها زماناً.. ثم يُغرى بمتع الدنيا.. إما بجاه، أو وظيفة أو مال، أو صداقة.. فيترك دينه لأجلها.. أو يلتف عليه أقران يزيّنون له الشهوات.. ويدعونه إلى الملذّات.. فيشاركهم في منكرهم.. ويسكت عن معصيتهم..

 

فينتقل من عز الطاعة إلى ذل المعصية.. فيرتدّ على عقبيه بعد إذ هداه الله..

وفي الصحيحين: أن رجلاً كان قارئاً كاتباً، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي، وقد كان حفظ البقرة وآل عمران.. وكان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران ارتفع قدره عند الصحابة.. فأغراه بعض المشركين بدنيا ومال ونساء.. فارتدّ عن الإسلام ولحق بعباد الأصنام، طلباً لهذه المتع..

 

وأخذ يستهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له..

فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، فقال: «اللهم اجعله آية».. فلم يلبث أن مات.. نعم مات، وانقطعت اللذات.. وبقيت الحسرات، وعظمت السيئات..

 

فلمّا مات.. حفروا له فدفنوه.. فلما أصبحوا.. مرّوا بقبره، فإذا الأرض قد نبذته فوقها.. وإذا جثته ملقاة على التراب.. فعجبوا !! كيف أخرج من قبره !!

فقالوا: هذا من فعل محمد وأصحابه.. ثم عادوا فحفروا له، وأعمقوا .. فدفنوه ..

فأصبحوا.. فمروا بقبره.. فإذا الأرض قد لفظته فوقها..

 

فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا أكثر ما استطاعوا.. فدفنوه .. فأصبحوا، فمروا بقبره.. فإذا الأرض قد لفظته فوقها.. فقالوا: هذا ليس من فعل البشر.. فتركوه منبوذاً على الأرض.. تمرّ به الكلاب فتفتح رجليها فوقه.. وتبول على وجهه.. والثعالب تنهش من لحمه.. والغربان تأكل من جسده..

 

نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ..

 

ومن الناس من يستقيم زماناً على الطاعات.. ويأنس برب الأرض والسموات..

يتلذذ بمناجاته.. ويحي قلبه بمحبته.. وتأنس نفسه بمعرفته.. لكنه يرى أهل المعاصي والشهوات، فيشتاق أن يجرّب عيشهم.. ويتمتعَ متعهم؛ يظن أنهم سعداء.. فلا يلبث أن يتبين له الكربُ والبلاء..

 

ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم.. وكان حصناً منيعاً.. فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنّع عليهم.. وأثناء حصارهم أطلّت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم..

فأعجبته، وتعلّق قلبه بها.. فراسلها: كيف السبيل إليك؟

فقالت: أن تتنصّر وتصعد إليَّ.. فتنصّر وتسلّل إليها..

مسكين؛ ظن أن السعادة في امرأة ينكحها، وخمر يشربها..

 

فلما فقده المسلمون اغتمّوا لذلك غمّاً شديداً.. ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا.. فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم.. فتساءلوا عنه.. وعلى أي حال هو الآن؟! .. فنادوا باسمه: يا ابن عبد الرحيم.. فأطلَّ عليهم.. فقالوا: قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك؟ ما فعلتْ صلاتك؟

 

فقال: لقد أنسيت القرآن كله.. ولا أذكر منه إلا آية واحدة.. قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}..

قال الله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}..

هذا خبر ابن عبد الرحيم.. أُغري بفتنة النساء، فأشرك برب الأرض والسماء.. وقد يغرى المرء بالمال.. فيكفر بالكريم المتعال..

 

وانظر إلى الأعشى بن قيس..

فكان شيخاً كبيراً شاعراً.. خرج من اليمامة -من نجد- يريد النبي عليه الصلاة والسلام.. راغباً في دخول الإسلام.. مضى على راحلته.. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بل كان يسير وهو يردّد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً:

 

ألم تغتمض عيناك ليلـــة أرمدا          وبتَّ كما بات السليـــمُ مسهــــدا

ألا أيهـــذا السائلي أيـــن يممت          فإن لها في أهـــل يثرب مــوعدا

وآليــت لا آوي لهــــا من كلالة           ولا مــن حَفىً حتى تلاقي محمدا

نبــي يرى ما لا تـــرون وذكرُه          أغـــار لعمـري في البلاد وأنجدا

أجدِّك لم تسمــع وصـــاة محمد          نبــيِّ الإلــه حيث أوصى وأشهدا

إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى          ولا قيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثلــه          فترصــد للأمر الذي كان أرصـدا

 

وما زال يقطع الفيافي والقفار.. يحمله الشوق والغرام إلى النبي عليه السلام..

راغباً في الإسلام.. ونبذ عبادة الأصنام.. فلما كان قريباً من المدينة.. اعترضه بعض المشركين فسألهوه عن أمره؟

فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم، فخافوا أن يسلم هذا الشاعر.. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل، فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس..

 

فقالوا له: يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك.. قال: بل دينه خير وأقوَم..

قالوا: يا أعشى، إنه يحرّم الزنا.. قال: أنا شيخ كبير، وما لي في النساء حاجة..

فقالوا: إنه يحرّم الخمر.. فقال: إنها مذهبة للعقل، مذلّة للرجل، ولا حاجة لي بها..

فلما رأوا أنه عازم على الإسلام، قالوا: نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك، وتترك الإسلام..

قال: أما المال، فنعم.. فجمعوها له، فارتدّ على عقبيه، وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره..

واستاق الإبل أمامه، فرحاً بها مستبشراً.. فلما كاد أن يبلغ دياره، سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات..

{ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ..

 

وإذا أردت أن تتيقن بعاقبة مخالطة الفساق وأهل الفساد.. فانظر إلى عبيد الله بن جحش.. كان مجالساً للنبي صلى الله عليه وسلم.. بل كان ممن أوذي في دينه وضيق عليه في مكة، فهاجر مع المسلمين إلى الحبشة.. ترك أهله وبلده.. وماله وبيته.. في سبيل الله..

وكانت معه زوجته أم حبيبة..

فكثرت مخالطته للنصارى، وابتعد عن المسلمين..

فما زال حاله يتردّى.. حتى أصبح يوماً فقال لزوجته أم حبيبة:

إني نظرت في الأديان فلم أر ديناً خيراً من النصرانية.. ففزعت، وقالت: والله ما هو خير لك، واتق الله..

فلم يلتفت إليها، بل كفر بربه.. وعلّق الصليب على صدره.. وأكبّ على الخمر يشربها.. ويخالط النصارى.. حتى مات..

 

نسأل الله الثبات على دينه حتى الممات..

ولعظيم أثر الصحبة في الثبات..

أمر الله المؤمنين والمؤمنات.. بلزوم الصالحين والصالحات.. وحذّرهم من حال غيرهم..

فقال الله : {وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً.وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}..

 

ومما يزيد المؤمن صلابة في دينه، وثباتاً عليه.. أن يحمل همّ الدين.. أن يكون مؤثراً في العصاة لا متأثراً بهم.. ينصح هذا.. ويعظ ذاك.. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر..

 

يدعو بالشريط النافع والكتاب المؤثر والنصيحة الصادقة.. ليزداد إيماناً مع إيمانه.. وقوة في استقامته..

وانظر إلى الجبال الراسيات والخطى الثابتات.. انظر إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه.. وتأمّل في حرصه على الدعوة إلى الله.. واعْجب من قوة ثباته على الدين..

 

أخرج ابن سعد في الطبقات، والطبري في الرياض النضرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته كان يدعو إلى الإسلام في مكة سراً. وكان المسلمون يختفّون بدينهم.. فلما تكامل عددهم ثمانية وثلاثين رجلاً، ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور.. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر.. إنّا قليل»..

 

  فلم يزل أبو بكر يلح عليه حتى خرج صلى الله عليه وسلم.. إلى المسجد وخرج المسلمون معه.. وتفرّقوا في نواحي المسجد.. كل رجل في عشيرته.. وقام أبو بكر في الناس خطيباً -فكان أول خطيب دعا إلى الله- فلما رأى المشركون من يسفّه آلهتهم، ويتنقص دينهم، ثاروا على أبي بكر وعلى المسلمين، فجعلوا يضرِبونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً.. وأبو بكر يجهر بالدّين.. فأحاط به جمع منهم فضربوه، حتى وقع على الأرض.. وهو كهل قد قارب عمره الخمسين سنة، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة.. وجعل يطأ على بطنه وصدره.. ويضربه بنعلين مخصوفين، ويحرفهما على وجهه .. حتى مزّق لحم وجهه، وجعلت دماؤه تسيل.. حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وأبو بكر مغمى عليه..

 

فجاءت قبيلته بنو تيم يتعادون، ودفعوا المشركين عنه.. وحملوه في ثوب.. ولا يشكّون في موته، حتى أدخلوه منزله.. وقعد أبوه وقومه عند رأسه.. يكلّمونه فلا يجيب.. حتى إذا كان آخر النهار.. أفاق، وفتح عينيه.. فكان أول كلمة تكلّم بها أن قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟

 

فغضب أبوه وسبّه.. ثم خرج من عنده.. فقعدت أمه عند رأسه.. تجتهد أن تطعمه أو تسقيه.. وتلحّ عليه.. وهو يردد: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم..

فقالت: والله مالي علم بصاحبك..

فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب، فسليها عنه -وكانت أم جميل مسلمة تكتم إسلامها-

فخرجت أمه حتى جاءت أم جميل فقالت:

إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت أم جميل: ما أعرف أبا بكر، ولا محمداً.. ولكن إن أحببت مضيت معك إلى ابنك.. قالت: نعم..

 

فمضت معها.. فلما دخلت على أبي بكر، وجدته صريعاً دنفاً.. ممزق الوجه، ودماؤه تسيل.. فبكت وقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر.. وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم..

فالتفت إليها أبو بكر، وما يكاد يطيق، فقال: يا أم جميل.. ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قالت : هذه أمك تسمع..

قال: فلا شيء عليك منها.. قالت: سالمٌ صالحٌ.. قال: فأين هو؟ قالت: في دار أبي الأرقم.. فقالت أمه: قد عرفت خبر صاحبك.. فكل واشرب الآن..

 

فقال: لا، إن لله علي أن لا أذوق طعاماً أو شراباً.. حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فأراه بعيني..

فأمهلتاه.. حتى إذا أظلم الليل.. وهدأ الناس..

حاول أن يقوم .. فلم يستطع.. فخرجت به أمه وأم جميل يتكئ عليهما.. حتى ادخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكبّ عليه يقبّله..

وأكبَّ عليه المسلمون.. ورقّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّة شديدة.. وأبو بكر يقول: بأبي وأمي أنت يا رسول الله.. ليس بي من بأس، إلا ما نال الفاسق من وجهي..

 

ثم قال: يا رسول الله.. هذه أمي برة بولدها.. وأنت رجل مبارك.. فادعها إلى الله عز وجل، وادع الله لها.. عسى الله أن يستنقذها بك من النار..

فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعاها إلى الله.. فأسلمت..

فهذا الحرص العظيم من أبي بكر.. كان أول ثمراته أن ثبّته الله على الدين.. فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، شكك بعض الناس في موته..

 

وقام عمر رضي الله عنه بسيفه يتهدد من يقول بموته..

فيرقى أبو بكر المنبر بخطى ثابتات، ويفصل النزاع بقوله: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"..

ثم ترتدّ قبائل حول مكة.. فيقف لهم أبو بكر ثابتاً راسياً، حتى أعاد قوّة الإسلام..

بل إن من ثمرات هذا الحرص أن أسلم على يديه أكثرُ من ثلاثين صحابياً، ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة..

 

وينبغي على الفتى والفتاة .. بل على المسلمين والمسلمات.. إذا عرضت لأحدهم شهوة.. أو شعر في قلبه بقسوة.. أو أحس بفتور عن الطاعات، ورغبة في المحرمات.. أن يشكو همّه إلى أخٍ ناصح أمين.. وقد كان بعض السلف يقول لبعض: تعال بنا نؤمن ساعة..

 

وروى الترمذي والنسائي بسند حسن، أن مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه كان يخرج من المدينة إلى مكة مختفياً، ويذهب إلى البيوت التي يحبس فيها أسرى المسلمين فيطلقهم من قيودهم، ويحملهم إلى المدينة.. فدخل مكة ليلة من الليالي، وواعد أحد الأسرى في موضع منها..

 

فبينما هو يمشي إليه.. إذ مرَّ بامرأة بغيٌ بمكة -يقال لها عناق- وكانت صديقة له في الجاهلية.. فلما رآها اختبأ في ظل جدار فرأته، فأقبلت إليه..

 

فلما نظرت إلى وجهه عرفته، فقالت: مرثد ؟ قال: مرثد.. قالت: مرحباً وأهلاً، هلمّ فبت عندنا الليلة.. فقال: يا عناق حرّم الله الزنا.. فقالت: لتفعلن أو لأفضحن.. قال: لا..

 

فصاحت: يا أهل الخيام.. هذا الرجل يحمل أسراكم.. ففزع مرثد وهرب.. فتبعه ثمانية منهم فدخل حديقة.. واختبأ في غار فيها.. فدخلوا وراءه فأعماهم الله عنه.. فرجعوا إلى رحالهم.. فلبث في مخبئه يسيراً.. ثم خرج إلى موضع صاحبه..

فحمله معه حتى خرج به من مكة.. ففكَّ عنه قيوده حتى أتيا المدينة.. نعم، وصلا المدينة.. لكن قلبه لا زال يتذكر تلك المرأة، فلم يطق صبراً.. فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أنكِحُ عناقاً -أتزوجها-؟ فأعرض عنه.. فأعاد عليه: يا رسول الله، أنكح عناقاً..

 

فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم.. حتى أنزل الله: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.. فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: « يا مرثد: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}.. فلا تنكحها ».

 

فرضي الله عن مرثد.. تأمّل كيف تدارك نفسه رضي الله عنه بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حتى ذهب ما وسوس به الشيطان له..

 

وذكر أبو نعيم في الحلية:

عن عمرو ابن ميمون بن مهران قال: بعدما كبر أبي وذهب بصره.. قال لي: هلمّ بنا إلى الحسن البصري.. فخرجت به أقوده إلى بيت الحسن البصري، فلما دخلنا على الحسن قال له أبي: يا أبا سعيد.. قد أنست من قلبي غلظة، فاستلن لي منه..

فقرأ الحسن {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ.ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ.مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ}..

فبكى أبي.. حتى سقط، وأخذ يضرب برجله الأرض..

كما تضرب الشاة المذبوحة.. وأخذ الحسن البصري يبكي معه وينتحب..

فجاءت الجارية، فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرّقوا..

 

فأخذتُ بيد أبي فخرجت به.. فلما صرنا في الطريق، وكزني أبي في صدري وكزة، ثم قال: يا بني، لقد قرأ علينا آيات.. لو فهمتها بقلبك لأبقت فيه كلوماً -أي جروحاً-..

نعم..

لا بد من شكوى إلى ذي مروءة          يناجيك أو يسليك أو يتوجع

 

ومن أعظم وسائل الثبات على الدين..أن يكون المرء طائعاً لله في سرّه وعلنه..

صحّ عند ابن ماجة وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم قال «لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثوراً».. قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، لا نكون منهم ونحن لا نعلم..

قال: «أما إنهم إخوانكم.. ومن جلدتكم.. ويأخذون من الليل كما تأخذون.. ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.. »

 

خلت امرأة برجل يوماً.. فكان الشيطان ثالثهما.. فدعته إلى الفاحشة، فقال: إن رجلاً يبيع جنّة عرضها السموات والأرض.. بلذة فانية، لمجنون..

 

  وقد كان الصالحون يعجبهم أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح -بينه وبين ربه لا يعلمها أحد-، من صدقة في السر أو نصيحة لمقصر أو كفالة يتيم أو أرملة ومسكين، أو قيام في الأسحار وصيام في النهار ودعاء واستغفار.. أو ختم للقرآن.. وذكر دائم للرحمن.. والله لا يضيع أجر المحسنين..

 

كان أبو بكر رضي الله عنه إذا صلّى الفجر خرج إلى الصحراء، فاحتبس فيها شيئاً يسيراً.. ثم عاد إلى المدينة..

فعجب عمر رضي الله عنه من خروجه، فتبعه يوماً خفية بعدما صلى الفجر.. فإذا أبو بكر يخرج من المدينة ويأتي على خيمة قديمة في الصحراء.. فاختبأ له عمر خلف صخرة..فلبث أبو بكر في الخيمة شيئاً يسيراً، ثم خرج.. فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة.. فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء.. وعندها صبية صغار..

 

فسألها عمر: من هذا الذي يأتيكم؟

فقالت: لا أعرفه.. هذا رجل من المسلمين، يأتينا كل صباح.. منذ كذا وكذا..

قال فماذا يفعل: قالت: يكنس بيتنا، ويعجن عجيننا، ويحلب داجننا.. ثم يخرج..

فخرج عمر وهو يقول: لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر.. لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر..

 

ولم يكن عمر رضي الله عنه بعيداً في تعبّده وإخلاصه عن أبي بكر.. فقد خرج مرة رضي الله عنه إلى ضواحي المدينة.. فإذا برجل عابر سبيل نازل وسط الطريق.. وقد نصب خيمة قديمة، وقعد عند بابها.. مضطربَ الحال، فسأله عمر: من الرجل؟ قال: من أهل البادية.. جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله.. فسمع عمر أنين امرأة داخل الخيمة.. فسأله عنها؟

 

فقال: انطلق رحمك الله لحاجتك.. قال عمر: هذا من حاجتي.. فقال: امرأتي في الطلق -يعني تلد- وليس عندي مال ولا طعام ولا أحد..فرجع عمر إلى بيته سريعاً.. فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي: هل لك في خير ساقه الله إليك؟ قالت: وما ذاك؟ فأخبرها بخبر الرجل.. فحملت امرأته معها متاعاً.. وحمل هو جراباً فيه طعام، وقدراً وحطباً، ومضى إلى الرجل..

 

ودخلت امرأة عمر على المرأة في خيمتها..وقعد هو عند الرجل، فأشعل النار وأخذ ينفخ الحطب.. ويصنع الطعام، والدخان يتخلل لحيته.. والرجل قاعد ينظر إليه..فبينما هو على ذلك، إذ صاحت امرأته من داخل الخيمة.. يا أمير المؤمنين، بشّر صاحبك بغلام..

 

فلما سمع الرجل، أمير المؤمنين.. فزع وقال: أنت عمر بن الخطاب.. قال: نعم.. فاضطرب الرجل، وجعل يتنحّى عن عمر.. فقال له عمر: مكانك.. ثم حمل عمر القدر، وقربه إلى الخيمة وصاح بامرأته.. أشبعيها..

فأكلت المرأة من الطعام، ثم أخرجت باقي الطعام خارج الخيمة..

 

فقام عمر فأخذه فوضعه بين يدي الرجل.. وقال له: كُلْ، فإنك قد سهرت من الليل..

ثم نادى عمر امرأته فخرجت إليه..

فقال للرجل: إذا كان من الغد.. فأتنا نأمر لك بما يصلحك..

 

وهكذا كان من بعدهم..

فكان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق بها.. ويقول: إن صدقة السر تطفىء غضب الرب.. فلمّا مات وجدوا في ظهره آثار سواد.. فقالوا: هذا ظهر حمّال.. وما علمناه اشتغل حمالاً.. فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة.. من بيوت الأرامل والأيتام؛ كان يأتيهم طعامهم بالليل.. لا يدرون من يحضره إليهم، فعلموا أنه الذي ينفق عليهم..

 

وصام أحد السلف عشرين سنة.. يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأهله لا يدرون عنه.. كان له دكان يخرج إليه إذا طلعت الشمس ويأخذ معه فطوره وغداءه.. فإذا كان يوم صومه تصدق بالطعام.. وإذا كان يوم فطره أكله.. فإذا غربت الشمس، رجع إلى أهله وتعشى معهم..

نعم.. كانوا يستشعرون العبودية لله في جميع أحوالهم..

 

هم المتّقون حقاً.. وأولياء الله صدقاً.. والله يقول: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً.حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً.وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً.وَكَأْساً دِهَاقاً.لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً.جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً}..

فطوبى لقلوب ملأتها خشيته.. واستولت عليها محبته..

أصبحت الطاعة لهم عادة.. والحركات والسكنات لهم عبادة..

 

والله لو جالست نفســك خالياً          وبحثتهـــا بحثـــاً بــلا روغـان

لوجدت خير العيـش عيشهــم          فإن ..تقعد رجعت بذلة وهوان

فالحق شمس والعيون نواظر           لا تختفـــي إلا علــى العميـان

والقلب يعمى عن هداه مثلما           تعمــى وأعظـــم هــذه العينان

وصــلاحه وفــلاحه ونعيمــه          تجـــريد هـــذا الحـــب للرحمن

فإذا تخلّــى منه أصبح حائراً          ويعود في ذا الكون ذا خسران

 

وعلى من وفّقه الله للاستقامة على هذا الدين.. أن لا يغترّ بطول استقامته.. ولا كثرةِ صلاته وعبادته.. بل يسأل ربه الثباتَ على الدين.. والعصمةَ واليقين..

وانظر إلى محطّم الأصنام.. وباني البيت الحرام.. إبراهيمَ عليه السلام.. يبني البيت وهو يبتهل إلى ربه ويقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام}.. ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ..

وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :«اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»..

وكان يستعيذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر -يعني من الضلال بعد الهدى-..

 

ومن أقوى وسائل الثبات.. الاشتغال بميراث الأنبياء، من طلب العلم النافع، وحضور مجالسه، ومخالطة أهله، وقراءة كتبه.. والعالم أشدُّ على الشيطان من ألف عابد.. وفضل العالم عل العابد كفضل القمر على سائر الكواكب..

 

 

وختاماً.. فإن من وسائل الثبات على الدين..

أن يتصوَّر العبد عاقبة صبره على الطاعات، ومجانبة المحرّمات..

فكيف يبيع العاقل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بعيش زائل كأنه أحلام.. كيف تباع جنةٌ عرضها الأرض السموات، بسجن مليء بالبليّات.. ومساكنُ تجري من تحتها الأنهار، بأعطان آخرها الخراب والبوار.. وكيف تباع أبكارٌ كأنهن الياقوت والمرجان، بقذرات دنسات مسافحات.. وأنهارٌ من خمر لذة للشاربين، بشراب مفسد للدنيا والدين.. وكيف تباع لذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم، بالنظر إلى وجه فاجرة قبيح دميم.. وسماعُ الخطاب من الرحمن، بسماع المعازف والألحان..

وكيف يباع الجلوسُ على منابر اللؤلؤ يوم المزيد، بالجلوس مع كل شيطان مريد..

 

نعم.. كيف ترغب عنها !! وهي دار غرسها الرحمن بيده.. وجعلها مقراً لأحبابه.. ووصف دخولها بالفوز العظيم.. وملكَها بالمُلك الكبير.. فإن سألت عن تربتها فهي المسك والزعفران.. وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن.. وحصباؤها لؤلؤ وجوهر.. وبناؤها فضة وذهب.. وإن سألت عن ثمرها فأحلى من العسل.. وإن سألت عن ورقها فألين الحلل.. أما أنهارها فأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه.. وأنهار من خمر لذة للشاربين.. وأنهار من عسل مصفّى.. وطعامهم فاكهةٌ مما يتخيّرون.. ولحمُ طير مما يشتهون..

ولباس أهلها الحرير والذهب.. وفرشها بطائن في أعلى الرتب.. وخدمهم ولدان مخلدون.. كأنهم لؤلؤ مكنون..

 

هـــــم في روضاتها يتقلبون.. وعلى أسرّتها يتّكئون.. ومـن ثمارها يتفكّهــون.. ويطوف عليهم ولدان مخلدون..

{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـنِ وَفْداً.وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً}..

فواعجباً لها كيف نام طلابها؟ وكيف لم يتسابق إليها عشّاقها !

وربهم يناديهم بقوله :

{يعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ.}..

 

 

أيها الأخوة والأخوات..

هذه وسائل الثبات.. لمن أراد السلامة والنجاة..

ونحن في زمن كثرت فيه الفتن.. وتنوّعت المحن.. فتن تفتن الأبصار.. وأخرى تفتن الأسماع.. وثالثة تسهّل الفاحشة.. ورابعة تدعوا إلى المال الحرام..

حتى صار حالنا قريباً من ذلك الزمان.. الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما: «فإن وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين منكم، يعمل مثل عمله».. قالوا: يا رسول الله، أو منهم؟ قال:«بل منكم». حديث حسن..

وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال:«بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء».. نعم، طوبى للغرباء..

 

وإنما يعظم الأجر للعامل الصالح في آخر الزمان.. لأنه لا يكاد يجد على الخير أعواناً.. فهو غريب بين العصاة.. نعم غريب بينهم.. يأكلون الربا ولا يأكل.. ويسمعون الغناء ولا يسمع.. وينظرون إلى المحرّمات ولا ينظر.. بل ويقعون في السحر والشرك.. وهو على التوحيد..

 

وعند البخاري: قال صلى الله عليه وسلم:«لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌ منه حتى تلقوا ربكم».. وأخرج البزار بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال:« يقول الله عز وجل: ((وعزّتي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين.. إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة)) ..

نعم.. من كان خائفاً في الدنيا، معظّماً لجلال الله.. أمن يوم القيامة، وفرح بلقاء الله، وكان من أهل الجنة الذين قال الله عنهم:

 

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ.قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ.فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ.إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}..

أما من كان مقبلاً على المعاصي.. همّه شهوة بطنه وفرجه.. آمناً من عذاب الله، فهو في خوف وفزع في الآخرة..

قال الله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}..

 

فتوكّل على الله إنك على الحق المبين.. ولا تغتر بكثرةِ المتساقطين.. ولا ندرةِ الثابتين.. ولا تستوحش من قلة السالكين..

 

يـــا معرضــــاً عمـــا يراد به وقد          جـــــدَّ المسيــــر فمنتهـــــاه داني

جـــذلان يضحـــك آمنـــاً متبختـراً          وكــــأنه قــــد نـــال عقــــد أمــان

خلـــع السرور عليه أو في حلــه          طـــردت جميــــع   الهمِّ   و الأحزان

يختـــــال فـــي حلل المسرة ناسياً          مــــا بعدهـــا   مـــن حلّــة   الأكفان

مــــا سعيـــه إلا لــــطيب العــيش          في الدنيا ولو   أفضى إلى   النيران

قد باع طيب العيش في دار النعيم          بذا الحطـــام   المضمحـــل الفـاني

 

 

 

أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لفعل الخيرات.. وترك المنكرات.. وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن..

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك..

وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله..

محمد بن عبد الرحمن العريفي

دكتور وعضو هيئة التدريس بكلية إعداد المعلمين

  • 35
  • 3
  • 49,121
  • نوح ابوعون

      منذ
    [[أعجبني:]] جزى الله الشيخ خير جزاء وانفع المؤمنين من علمه وعلم العلماء الباقين واحسن في اسلوبهم من الدعوه الى الجهاد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً