اللقمة الطيبة
في غمرة اللُّهاث وراء الكسب، وفي حُمّى التّطاحن على لُعاعة الدنيا، وسعير التّكالب على اللذات وتحقيق الشهوات؛ قد يغفل المرء عن محاسبة نفسه: من أين اكتسب المال؟ وفيمَ أنفقه؟ فإنه سيُسأل عن ذلك بين يدي ربّه سبحانه.
في غمرة اللُّهاث وراء الكسب، وفي حُمّى التّطاحن على لُعاعة الدنيا، وسعير التّكالب على اللذات وتحقيق الشهوات؛ قد يغفل المرء عن محاسبة نفسه: من أين اكتسب المال؟ وفيمَ أنفقه؟ فإنه سيُسأل عن ذلك بين يدي ربّه سبحانه.
روى الترمذي وغيره قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح").
الجسد ينمو بالغذاء، فإذا كان الغذاء من حلال نَبَتَ اللحم حلالاً، ووُفِّق صاحبه لعمل الصالحات، وإذا كان من حرام نَبَتَ اللحم منه فكان طعمة للنار.
روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]. ».
فأنت ترى أن الله تعالى أمر بأكل الطّيّب -وأهم وصف للطيّب أن يكون حلالاً- وجعل ذلك مقدّمة وسبباً لعمل الصالحات، ونهى عن أكل الحرام، وجعله مانعاً من قبول الدعاء. بل إنّ ابن عباس رضي الله عنهما جعل أكل الحرام مانعاً من قبول الصلاة فقال: "لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام".
وقول ابن عباس رضي الله عنهما هذا يأخذ حكم الحديث المرفوع -الحديث النبوي-؛ لأن مثل هذا المعنى لا يُمكن أن يقول به من دون خبر لديه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض الصالحين: "من أكَلَ الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، عَلِمَ أم لم يعلم، ومن كانت طُعْمَتُهُ حلالاً أطاعته جوارحه، ووفِّقَت للخيرات".
فالمسلم لذلك يتحرى الحلال الطّيب في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.
واكتساب ذلك الحلال بيِّن، كما أنّ طرق الحرام بيّنة لا تخفى على عامة المسلمين.
نعم تشتبه بعض الأمور، ويختلط على بعض الناس حلالها بحرامها، إمّا للجهل بحقيقتها وأصلها، أو لاختلاف المذاهب وآراء العلماء في حِلّها وحرمتها، فهنا يكون الورع الذي يجعل صاحبه يبتعد عن الشّبهات، ويدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس، ويستبرئ لدينه وعِرضه، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: «... ...».
والورع على درجات ومراتب: ورع العدول، وورع الصالحين، وورع المتّقين، وورع الصديقين. فلا أقل من أن يأخذ المسلم بأضعف هذه الدّرجات، فيحفظ عدالته، ويقي نفسه من العقوبة.
وحقيقة ورع العدول هو البعد عن أشكال الحرام البيّن، فإذا وقع في شيء منها سارع إلى التوبة والاستغفار وردّ المظالم، والإكثار من الحسنات... لعلّ الله يمحو عنه إثم ما فعل.
والورع الأكمل منه هو ورع الصالحين، وهو البعد عن الكسب المشبوه؛ كاختلاط حلال المال بحرامه، أو اكتسابه بطرق مشبوهة. قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: "ردُّ درهم من شبهة أحبُّ إليّ من أن أتصدّق بمئة ألف درهم".
وكلما كثرت الشُّبه التي يقع فيها الإنسان اقترب الكسب من أن يكون حراماً.
أما ورع المتقين فهو ترك ما لا بأس به، مخافة أن يقع فيما به بأس. وقد خرّج الترمذي وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم: « ».
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "إنّي لأحبّ أن أدعَ بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرِقها".
وقال الحسن رحمه الله: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام".
وفي هذا الميدان تسابق السّلف رضوان الله عليهم، وضربوا أمثلة، لولا إسنادها في كتب الآثار لكانت ضرباً من الخيال، لطرافتها، ودقّة الورع فيها.
أما ورع الصديقين فهو ورعُ مَن لا يكسب ولا يُنفق إلا بمقدار ما يُقرّبه إلى ربه زُلفى.
نسأل الله أن يُجمّلنا بالتقوى، ويُحَلّيَنا بالورع، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يرزقنا رزقاً حلالاً طيباً مباركاً فيه، إنه جواد كريم.
محمد عادل فارس
- التصنيف: