الاعتبار بالأمطار
في كل خلق الله عبرة وعِظة، وفي المطر عبرة وعظة، عظات المطر لا تنقضي، وعبره لا تنتهي، وحسبنا أن نقف عند عِبرة أو عِبرتين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك الذي بيده أزمة الأكوان، وهو القادر القاهر العزيز الديان، له الحمد والشكر، ونستزيده من فضله والرضوان. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، اتصف بكل كمال وتنزه عن كل نقصان. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى الإنس والجان، فبلغ رسالته، وأرشد إلى طاعته، وزجر عن العصيان.
اللهم فصل على هذا النبي الكريم، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله؛ فإن التقوى هي كنز المؤمنين، وراقبوا الله تعالى في جميع أحوالكم، فإنه مطلع على قلوبنا أجمعين، ولا تخفى عليه خافية في السماوات ولا الأرضين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ . فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 48-50].
لكَ الحمدُ حمدًا نستلذُّ به ذكرًا *** وإن كنتُ لا أحصي ثناءً ولا شكرا
لكَ الحمدُ حمدًا طيبًا يملؤ السما *** وأقطارها والأرضَ والبرَّ والبحرا
لكَ الحمدُ مقرونًا بشكركَ دائمًا *** لكَ الحمدُ في الأولى لك الحمدُ في الأخرى
(مطرنا بفضل الله ورحمته) هكذا ينبغي أن نقول عندما يصيبنا الغيث برحمة الله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ} [النحل: 53].
أيها المؤمنون: في كل خلق الله عبرة وعِظة، وفي المطر عبرة وعظة، عظات المطر لا تنقضي، وعبره لا تنتهي، وحسبنا أن نقف عند عِبرة أو عِبرتين، اسمعوا هذا الموقف العظيم، الذي ينبئ عن قلب يحمل إيمانًا عظيمًا: عن عبد العزيز بن يزيد الأيلي قال: حج سليمان يعني: ابن عبد الملك، ومعه عمر بن عبد العزيز، فأصابهم برق ورعد حتى كادت تنخلع قلوبهم، فقال سليمان: يا أبا حفص! هل رأيت مثل هذه الليلة قط، أو سمعت بها؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا صوت رحمة الله، فكيف لو سمعت صوت عذاب الله! بمثل هذا التفكر يزيد إيمان المسلم بعظمة الله، ولا يكون سطحيًا، يتوقف عقله عند مجرد الإعجاب بهذا المنظر أو ذاك.
أيها المسلم! استمع لهذه الآية بقلبك، وتدبرها، يقول الحق تبارك وتقدس: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43].
إليكم حادثة يسيرة لعلها تفتق أذهاننا على مواطن التدبر في ملكوت الله، يقول الشيخ محمد الشعرواي رحمه الله: "حدثنا أمير بلدة اسمها (الشريعة) وهي تقع بين الطائف ومكة، عام 1372ه، عن امرأة صالحة تحفظ القرآن؛ اسمها آمنة، هذه المرأة كان لها بنتان؛ تزوَّجتا؛ وأخذ كُلُّ زَوْجٍ زوجته إلى مَحَلِّ إقامته؛ وكان أحدُ زَوْجَي البنتين يعمل في الزراعة؛ والآخر يعمل بصناعة الشُّرُك (والشُّرُك هي الأواني التي تصنع من الطين)، فقالت آمنة لزوجها: ألاَ تذهب لمعرفة أحوال البنتين؟ فذهب الرجل لمعرفة أحوال البنتين، فكان أول مَنْ لقي في رحلته هي ابنته المتزوجة مِمَّنْ يحرث ويبذر، فقال لها: كيف حالك وحال زوجك وحال الدنيا معك أنت وزوجك؟ قالت: يا أَبتِ! أنا معه على خير، وهو معي على خير، وأما حال الدنيا؛ فَادْعُ لنا الله أنْ يُنزِل المطر؛ لأننا حرثنا الأرض وبذرْنَا البذور؛ وفي انتظار رَيِّ السماء، فرفع الأب يديه إلى السماء وقال: اللهم إنِّي أسألك الغَيْث لها، وذهب إلى الأخرى؛ وقال لها: ما حالك؟ وما حال زوجك؟ فقالت: خير، وأرجوك يا أبي أن تدعوَ لنا الله أنْ يمنع المطر؛ لأننا قد صنعنا الشِّرَاك من الطين؛ ولو أمطرتْ لَفسدتِ الشُّرُك، فَدَعا لها، وعاد إلى امرأته التي سألته عن حال البنتين؛ فبدا عليه الضيق وقال: هي سَنة سيئة على واحدة منهما، وروى لها حال البنتين؛ وأضاف: ستكون سنة مُرْهِقة لواحدة منهما، فقالت له زوجته: لو صبرت؛ لَقُلْتُ لك: إن ما تقوله قد لا يتحقق؛ والله سبحانه قادر على ذلك. قال لها: ونعم بالله، قولي لي كيف؟ فقالت: ألم تقرأ قول الله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} [النور: 43]. فسجد الرجل لله شكرًا أن رزقه بزوج تُعينه على أمر دينه، ودعا: اللهم اصْرِف عن صاحب الشِّراكِ المطر؛ وأفِضْ بالمطر على صاحب الحَرْث. وقد كان. هذه الحادثة اليسيرة تشير إلى تفكر امرأة صالحة في آية من آيات الله في المطر، وآيات الله فيه لا تنقضي.
وإذا جفت العيون السواقي *** واستحالت رياضنا مجدبات
وبدا وجه أرضنا مكفهرا *** قابلتك الغيوم بالبشريات
فإذا بالمغيث يزجي سحابا *** ويفيض الثجاج من معصرات
تكتسي الأرض حلة من نضار *** في وجوه وضاءة مبهجات
إن في مسرح الحياة اعتبارا *** في ثنايا آياتها المائلات
يقول الإمام القيم محمد ابن القيم: "وبالجملة فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم، كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء، وإذا شاء، وهو مع لينه ورخاوته حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض، إلى أن يأذن له ربه وخالقه في إرسال ما معه من الماء، فيرسله وينزله منه مقطعا بالقطرات، كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته، فيرش السحاب الماء على الأرض رشا، ويرسله قطرات مفصلة، لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه، حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عُينت كل قطرة منها لجزء من الأرض، لا تتعداه إلى غيره. فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا منها قطرة واحدة، أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة، لعجزوا عنه. فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقًا للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني في الأرض الفلانية بجانب الجبل الفلاني، فيَصِل إليه على شدة من الحاجة والعطش، في وقت كذا وكذا، ثم كيف أودعه في الأرض، ثم أخرج به أنواع الأغذية والأدوية والأقوات".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10، 11].
اللهم بارك لنا في كتابك العظيم، واهدنا بفضلك صراطك المستقيم. وامنحنا فقها في الدين، وقوة في اليقين، وأعطنا كتبنا باليمين، واجعلنا من أصحاب اليمين. إنك لطيف بالمؤمنين.
مشاري بن عيسى المبلع
- التصنيف: