تجديد الدين بين الأصالة والعصرانية
التجديد في الدين ليس معناه الإتيان بنموذج جديد، بل المراد منه إعادة القديم في حلة جديدة ليبدو مماثلاً لحالته الأولى، وإزالة ما طال بعض مسائله من إهمال ونسيان أوتشويه وتزييف..
الإسلام دين عالمي لا يتأثر بحدود المكان أو الزمان، بمعنى أنه دين يتناسب مع الحالة المكانية والزمنية التي يعيشها الناس، وهو معنى دقيق نوَّهت إليه السُنة النبوية في أكثر من موضع، فجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «» (أخرجه أبو داود في سننه: [4/109/4291]، والحديث صححه الألباني في الصحيحة رقم: [599]).
وهناك العديد من الأحاديث والآثار الدالة على حفظ الله لهذا الدين بواسطة علماء هذه الأمة ودعاتها ومصلحيها بما يمارسونه من دور تجديدي للمسائل الدينية التي درست أو نالها التشويه والتشويش والغبش، لتناسب الزمان والمكان وحال ساكنيه.
فالتجديد في الدين ليس معناه الإتيان بنموذج جديد، بل المراد منه إعادة القديم في حلة جديدة ليبدو مماثلاً لحالته الأولى، وإزالة ما طال بعض مسائله من إهمال ونسيان أوتشويه وتزييف، ولعل تعريف أبي بكر العلقمي يكون من أفضل التعريفات وأخصرها، حيث عرَّف العلقمي التجديد بأنه: "إحياء ما اندرس من العمل من الكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما" (فيض القدير للمناوي: [1/14]).
أما تعريف المناوي للتجديد فجاء بتفصيل أكثر، فقال في تفسير عبارة: «» الواردة في الحديث السابق: "أي يُبين السنة من البدعة، ويُكثر العلم، وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم، قالوا: ولا يكون إلا عالِماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة" (فيض القدير للمناوي: [2/281]).
فالتجديد بهذا الطرح لم يكن بالأمر السيئ، بل كان أمراً مطلوباً، بل أساسياً؛ لإتمام مسيرة الدعوة، وتبليغ دين الله للناس في مشارق الأرض ومغاربها، إلا أن طرحاً مغايراً لهذا المنحى أخذ في الظهور شيئاً فشيئاً، حتى صار كالورم في جسد هذه الأمة، فرأينا أُناساً يتناولون مسائل الدين بصورة تختلف عن تناول السلف لها، بدعوى مسايرة العصر، تحت زعم التجديد، عابثين بأبسط قواعد المنهجية والعقلانية في التناول.
وهو طرح يصادم بشكلٍ أساسي الكثير من القواعد الدينية والأسس العقلية التي يقوم عليها أمر هذا الدين، فليس لأحد الحق في إحداث ما لم يكن من أمر هذا الدين، أو إنقاص ما كان منه، إلا بنص صحيح صريح لا شبهة فيه، فالله تعالى قد كمَّل الدين وأحكم مسائله قبل أن يفارق نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا، يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة من الآية:3].
كما أن زيادة أمر ما في هذا الدين من غير نص مردود على صاحبه، غير مقبول مهما علا شأن صاحب هذه الزيادة، أو زاد علمه أو كبر سلطانه، فلا محل للزيادة والافتئات على الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا الإهمال والترك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «» (متفق عليه: البخاري: [3/241/2697]، ومسلم: [5/132/4589]).
بل إن فهم النص الشرعي -وإن لم نزد فيه أو ننقص- مرتبط بأفهام سلفنا من الصحابة وتابعيهم رضوان الله عليهم؛ لأنَّ الوحي نزل بين ظهرانيهم، وعلى أسماعهم تُلِيَ من فِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم لهم مُبلِّغاً ومُفسِّراً ومصححاً ومُرشِداً ومعيناً، فأغناهم وأغنانا معهم -بالتبعية- عن إعمال عقولنا في ما لا عقل فيه من دقائق هذا الدين، وفيما اختلفت فيه الآراء وتحيّرت، ويعضد هذا المذهب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «» (سنن الترمذي: [5/26/2641]، والحديث حسّنه الألباني في الصحيحة رقم: [1348]).
ولئن كان التجديد (المنحرِف) يتّسم قديماً بشيء من المنطقية والعقلانية، فالتجديد في العصر الحديث -أو ما يمكن أن نطلق عليه مُسمّى (العصرانية)- يتّسم في أكثر جوانبه بالانحراف العقلي والمنطقي قبل الانحراف الديني والسلوكي.
وهو انحراف يقترب إلى حدٍ كبير من الطروحات الليبرالية والعلمانية لمسائل الألوهية والدين والغيب في الغرب المسيحي، ولا عجب في ذلك فزاعمي التجديد اليوم من أهل التغريب والتزييف أفراخ لهذا الغرب، ووكلاء عنه في بلاد الإسلام، يُنفِّذون مخططاته، ويسيرون وِفق مناهجه.
ورغم ارتباط التجديد (المنحرِف) بالعقل إلا أن غالب الطروحات التي نراها لمسائل الدين وما يخص ألوهية الله وربوبيته، وغير ذلك من مسائل الاعتقاد والسلوك، تتَّسِم بالانحراف العقلي وسذاجة المنطق، والإغراق في الإنكار والرفض لكثير من ثوابت الدين ومحكماته.
ومن عجائب أمر هذا التيار ارتباطه الشديد بالمنطق العلماني، بحيث يسهل على المتتبع لرواده ومناصريه كشف علمانيتهم -وهو ليس بالأمر الخفي- فنظرة سريعة على مؤلفات القوم ومحاضراتهم وأقوالهم المبثوثة في القنوات الفضائية وعلى مواقع الانترنت، يتبين للمتابع أنهم ما أرادوها إلا علمانية قبيحة، تزيح الدين عن واقع الحياة والناس، والدين الإسلامي على وجه الخصوص.
فعلى يدّ المجددين (المزيفين) حُورِب الكثير من المحكمات الدينية، وأصبح الدين مشاع لكل أحد تحت دعوى حرية التفكير، وحرية الفهم لنصوص الكتاب والسنة، في تعاطي عجيب يقترب في كثير من مناحيه من موجة الإرجاف الغربي في تناول الإسلام وما يتعلق به وبمعتنقيه.
والظاهر أن أعمدة الفساد في الغرب -ومعاونيهم في الشرق- قد أيقنوا أن هدم الإسلام لن يكتب له النجاح عبر المواجهات المباشرة والطعن الصريح في الوحيين (القرآن الكريم والسنة المطهرة)، ولذلك توجهوا إلى مطية تفسير النصوص وإعادة فهمها ليتناسب مع طروحاتهم التغريبية التي تلبس رداء التجديد زوراً وبهتاناً، لينخدع بذلك من لا علم عنده ولا دراية له بأساليبهم.
والتجديد بفهمه المغلوط له أصول قديمة في التراث الإسلامي حيث تلبست به عدة فِرَق، منها الخوارج والشيعة والصوفية وغير ذلك من الفِرَق، ثم على رأس كل هؤلاء كانت فِرقة المعتزلة، فهي بحق أكبر مدرسة عقلية (بالمفهوم الفاسد المقدِّم للعقل على النص) شهدها التاريخ العقدي الإسلامي في القديم والحديث.
فحركة العصرانية في الحديث تقابل من حيث الهدف وطريقة التناول موجات التأويل التي تبنتها الفِرَق الإسلامية في القديم سيما الخوارج والشيعة، وتقابل الفهم الباطني للنصوص عند الصوفية والفلاسفة، وتقابل شطحات العقل الاعتزالي ومن سار على نهجه في القديم، فهذه الفِرَق لم تعترض النص القرآني أو الحديثي بشكلٍ صريح، وإنما توجهت إلى تفسير النص وتأويله وِفق هوى أصحابها، وهو نفس المنطق المتبع عند أساطين مدرسة التجديد الحديثة في التعامل مع النصوص والقضايا الإسلامية الكبرى.
لكن الملاحظ في مدرسة التجديد الحديثة اعتمادها بشكلٍ كبير على الفكر الاعتزالي، بحيث يَصدُق عليها وعلى أتباعها مُسمّى "معتزلة العصر"، فعلى أنقاض مدرسة الاعتزال القديمة قامت مدرسة التجديد الحديثة، متفقين على أصول عامة أهمها "تعظيم دور العقل وجعله حاكماً لا محكوماً".
وقد كان أول ظهور لهذه المدرسة على يد السيد أحمد خان الهندي الذي عاش من سنة 1817م إلى 1897م، ثم على يد جمال الدين الأسد آبادي الإيراني، المشهور بالأفغاني الذي عاش من سنة 1838م إلى سنة 1897م، وأخذت تترسخ على يد تلميذه وصاحبه محمد عبده المصري (1849-1905)م، وتأثر بهذه المدرسة وأفكارها رشيد رضا (1865-1935)م، بواسطة أستاذه محمد عبده، وإن كان قد تغير كثيراً بعد موت أستاذه، وخالفه في كثير من الأمور (ينظر: التجديد في الفكر الإسلامي؛ د. عدنان أمامه، ص: [364]).
فقد كانت هذه الأسماء هي الموجة الأولى من موجات التجديد "المنحرِف"، ثم تبع هذه الموجة موجات أشد وأكبر، فانضم إليها أسماء جديدة، غير أنها كانت أكثر فجاجة من رعيل التجديد الأول، فكانت طروحاتهم غاية في الانفلات بعكس طروحات السابقين -في العصر الحديث- الذين حرِصوا -رغم شذوذاتهم- على الاستئناس بالوحي وببعض الفهوم القديمة المؤيدة لهم.
وختاماً:
يحسن التنبيه على أمر؛ وهو تفاوت المتأثرين بالعصرانية أو "التجديد المنحرِف"، فهم ليسوا سواءً في هذا الأمر، فمنهم المُضلَل، ومنهم الجاهل، ومنهم الحاقد على الإسلام وأهله، ومنهم كذلك المحب للإسلام لكنه متأثر بموجات التغريب، فليس من الإنصاف والعدل وضع الجميع في سلة واحدة، والحكم عليهم بمنطوق واحد، وإن كنا مطالَبين برد افتراءات الجميع؛ لكن معرفة حال المخالف تفيد في حالات الرد على شبهه واعتراضاته وتفسيراته الخاطئة للنص المختلف عليه.
رمضان الغنام
كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.
- التصنيف: