عاطفة الأبوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا عز لنا ولا فلاح -جماعات وأفرادًا- إلا إذا تمسكنا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في أمورنا كلها؛ صغيرها وكبيرها، وترسمنا خطاه، وهدايتنا للحق على قدر متابعتنا النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الدقائق أذكر بجانب من شخصية النبي صلى الله عليه وسلم فأتكلم عن رسول الله الأب كيف كان يتعامل مع بناته ومع أسباطه أبناء بناته.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71،70]. أما بعد:
لا عز لنا ولا فلاح -جماعات وأفرادًا- إلا إذا تمسكنا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في أمورنا كلها؛ صغيرها وكبيرها، وترسمنا خطاه، وهدايتنا للحق على قدر متابعتنا النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الدقائق أذكر بجانب من شخصية النبي صلى الله عليه وسلم فأتكلم عن رسول الله الأب كيف كان يتعامل مع بناته ومع أسباطه أبناء بناته.
النبي صلى الله عليه وسلم يتألم لوفاة أحد من أولاده ويبكي حزنًا لذلك، فهذا من الرحمة المحبوبة لله، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: شهدنا بنتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان، قال فقال: «هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل»، قال: فنزل في قبرها (رواه البخاري: 1285). وبكاؤه صلى الله عليه وسلم ليس خاصًا لفقد أولاده الكبار بل يبكي على الصغير أيضًا ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يَجُودُ بِنَفْسِهِ فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله. فقال: يا ابن عوف إنَّها رحمة ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (رواه البخاري: 1303).
بل يحزن النبي صلى الله عليه وسلم لوفاة أسباطه الصغار ويبكي لذلك فعن أسامة بن زيد قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رسول إحدى بناته تدعوه إلى ابنها في الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فأخبرها أنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب» فأعادت الرسول أنَّها قد أقسمت ليأتينها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ ابن جبل، فدفع الصبي إليه ونفسه تَقَعْقَع، كأنَّها في شَنِّ ففاضت عيناه، فقال له سعد: يا رسول ما هذا؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنَّما يرحم الله من عباده الرحماء» (رواه البخاري: 7377، ومسلم: 923).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفضي أحيانًا لبناته بسره فيخصهن دون غيرهن ببعض أسراره فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبًا بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسر إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري: 3624، ومسلم: 2450).
كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع بناته المال مع القدرة على ذلك فيرفدهن؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. قال: «يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا» (رواه البخاري: 2753، ومسلم: 206).
النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بالإصلاح بين أصهاره وبناته، حينما يحصل بينهم خلاف يعكر صفو الحياة الزوجية حتى تعود الأمور إلى مجاريها ويزول ما في الأنفس؛ فعن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليًا في البيت، فقال: «أين ابن عمك؟» قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: «انظر أين هو؟» فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه، ويقول: «قم أبا تراب، قم أبا تراب» (رواه البخاري: 441، ومسلم: 2409). ففيه تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصهاره، وحسن معاملته لهم، وبهذا تزداد المحبة والاحترام بينه وبينهم من جهة، وبينهم وبين زوجاتهم من جهة أخرى.
الخطبة الثانية:
من الأمور المشكلة عند البعض منع النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الزواج على فاطمة رضي الله عنها، فعن الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ، وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحًا ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ، قَالَ الْمِسْوَرُ: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَإِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ مُضْغَةٌ مِنِّي وَإِنَّمَا أَكْرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهَا، وَإِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَبَدًا، قَالَ: فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ» (رواه البخاري: 3729، ومسلم: 2449).
بوب البخاري على الحديث (باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف)؛ ففاطمة رضي الله عنها أصيبت بأمها ثم بأخواتها واحدة بعد واحدة، فلم يبق لها من تستأنس به ممن يخفف عليها الأمر، فخشي عليها النبي صلى الله عليه وسلم الافتتان في دينها، وأن يقع منها أمر محرم بسبب الغيرة، ففي رواية للبخاري (3110): «إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا... وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلاً، وَلاَ أُحِلُّ حَرَامًا وَلَكِنْ وَاللَّهِ لاَ تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ أَبَدًا». فمنع النبي صلى الله عليه وسلم عليا من الزواج على ابنته فاطمة بمقتضى بشريته فولي المرأة أب أو أخ يسوؤه أن يُتَزَوج على موليته لما يحصل من تكدر خاطرها وهذه صفة كمال حيث عمل على بقاء ابنته من غير ضرة وعمل على عدم تكدر خاطرها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي عواطف بناته تجاه أزواجهن فلا يكرههن على مفارقتهم ولا يصر على طلاق بعضهن من زوجها حتى في حال الكفر؛ فعن ابن عباس قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاصي بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحًا (رواه الترمذي: 1143)، وقال: هذا حديث ليس بإسناده بأس ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث ولعله قد جاء هذا من قبل داوود بن حصين من قبل حفظه فتأخر إسلام أبي العاص بن الربيع ست سنين أو سنتين وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذمته وأبو العاص في مكة وزينب في المدينة ولم يكرهها النبي صلى الله عليه وسلم على فسخ نكاحه فبقيت هذه المدة ثم بعد أن أسلم أبو العاص بن الربيع زمن الهدنة رد النبي صلى الله عليه وسلم إليه زوجته.
هذه العاطفة الجياشة والحنان المتجدد لا تمنعه أن يكون صارما إذا كان الأمر متعلقا بحق الخالق فلا مهادنة ولا سكوت ففي حديث أبي هريرة «فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا».
أما تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أسباطه أولاد بناته فكان يحملهم أحيانا إما لانشغال بناته بمرض أو بغيره أو إظهار لمحبتهم أو لغير ذلك؛ فعن أبي قتادة الأنصاري قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص -وهي ابنة زينب رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم- على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها" (رواه البخاري: 516، ومسلم: 543).
ومن شدة محبته لأسباطه ربما قطع الأمر المهم لأجلهم؛ فعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: «صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]» فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما" (رواه الترمذي: 3774، وقال هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد).
يرشد أسباطه للخير ويحثهم عليه وهم صغار تربية لهم على الخير لينشؤوا عليه؛ فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت إنَّك تقضي ولا يقضى عليك وإنَّه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت" (رواه والترمذي: 464، وغيره وحسنه).
يبين لهم الأمر إذا كان محرمًا ويمنعهم منها وإن كانوا صغار؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كِخْ كِخْ، ليطرحها، ثم قال: أما شعرت أنَّا لا نأكل الصدقة» (رواه البخاري: 1491، ومسلم: 1069).
- التصنيف:
- المصدر: