الجيوش الصليبية في آسيا الصغرى
قرر الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين أن يتعامل بحزم مع جودفري؛ فطلب من جودفري بوايون أن يقسم الولاء له، وهذا يعني أنه سيقسم أن يكون تابعاً للإمبراطور البيزنطي في الأراضي التي يمتلكها المسلمون الآن[1]، وبالتالي فإن جودفري لو نجح في أخذها فسيأخذها لصالح الإمبراطور البيزنطي لا لصالح نفسه، وبذلك يتحدد الوضع القانوني للبلاد منذ البداية، ويحتفظ الإمبراطور بكل الحقوق للدولة البيزنطية، وكان هذا - لا شك - طلباً قاسياً، وشرطاً في غاية الصعوبة!
بين الإمبراطور البيزنطي وجودفري:
قرر الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين أن يتعامل بحزم مع جودفري؛ فطلب من جودفري بوايون أن يقسم الولاء له، وهذا يعني أنه سيقسم أن يكون تابعاً للإمبراطور البيزنطي في الأراضي التي يمتلكها المسلمون الآن[1]، وبالتالي فإن جودفري لو نجح في أخذها فسيأخذها لصالح الإمبراطور البيزنطي لا لصالح نفسه، وبذلك يتحدد الوضع القانوني للبلاد منذ البداية، ويحتفظ الإمبراطور بكل الحقوق للدولة البيزنطية، وكان هذا - لا شك - طلباً قاسياً، وشرطاً في غاية الصعوبة!
إن جودفري بوايون يدين بالولاء لإمبراطور آخر قد تتعارض أهدافه وأوامره مع الإمبراطور الأول، ثم إن جودفري جاء بناءً على دعوة الكنيسة الكاثوليكية؛ فكيف يُعطِي ولاءه للإمبراطور الذي يرعى الكنيسة الأرثوذكسية، ثم فوق ذلك وقبل كل ذلك إنه يريد لنفسه السيطرة والملك، وليس في اعتباراته أيُّ حقوق ماضية، أو وقائع تاريخية، إنه يتعامل بأسلوب القراصنة، ولا يحتاج لمبرر كي يستولي على أملاك غيره[2]!
ونتيجة لهذه العوامل فإن جودفري قرر أن يُسوِّف في الاستجابة لطلب الإمبراطور البيزنطي وذلك حتى تأتي بقية الجيوش الصليبية، ومن ثَمَّ يستطيعون أخذ موقف موحَّد يحمي أحلامهم، ولا يورِّطهم فيما لا يريدونه.
غير أن الإمبراطور البيزنطي لم يعجبه هذا السلوك، وأدرك أهداف جودفري؛ ولذلك فقد قرر عدم الانتظار، وأخذ قرار قطع التموين الغذائي عن جيش جودفري، فما كان من الجيش الصليبي إلا أن ردَّ بسلب ونهب الضياع والقرى المحيطة بالقسطنطينية، وتأثر الإمبراطور البيزنطي، وقرر العدول عن رأيه، وأعاد التموين للجيش الصليبي، بل واستضاف الجيش الصليبي في ضاحية بيرا Pera(وهي من ضواحي القسطنطينية)[3]، ولكنه ظل مطالباً جودفري بأن يقسم له بالتبعية والولاء؛ ولكن جودفري ماطل من جديد، وظل على هذه المماطلة ثلاثة أشهر كاملة من يناير إلى آخر مارس سنة 1097م، بل إنه رفض أن يقابل الإمبراطور البيزنطي أصلاً.
جودفري يقسم بالولاء للإمبراطور البيزنطي:
في أوائل إبريل 1097م علم الإمبراطور البيزنطي أن الجيش النورماندي الإيطالي (وهو الجيش الخامس) قد قارب الوصول إلى القسطنطينية، وكان يعلم قوة هذا الجيش وبأسه، ولم يرد له أن يلتقي مع جيش جودفري إلا بعد الانتهاء من مشكلة جودفري؛ لذلك قرر من جديد أن يستثير جودفري بقطع الإمدادات عنه، فردَّ جودفري بمهاجمة بيرا ونَهْبها، ثم إحراقها، بل قام بمهاجمة أسوار القسطنطينية نفسها[4]، وهنا اضطر الإمبراطور البيزنطي أن يخرج الجيش البيزنطي بكامل عدته وقوته؛ فلم يستطع جودفري الصمود طويلاً أمامه، وأدرك حجمه الحقيقي؛ ومن ثَمَّ قرر في بساطة أن يغيِّر مبادئه وولاءه، ويقسم يمين التبعية للإمبراطور البيزنطي[5]!
وهكذا عقدت اتفاقية في أوائل إبريل 1097م أقسم بموجبها جودفري بوايون بالولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي، وسُجِّل في هذه الاتفاقية أن كل الأراضي التي كانت مملوكة للدولة البيزنطية قبل موقعة ملاذكرد ستعود ملكيتها للدولة البيزنطية في حال تحريرها على يد جودفري وجيشه، وهذا يعني أن طموح الدولة البيزنطية لا يقف على آسيا الصغرى فقط؛ بل يشمل أيضاً مدن أعالي الشام والعراق مثل أنطاكية والرها، بل إن بعض التفسيرات البيزنطية للاتفاقية شملت بيت المقدس نفسه على اعتبار أنه كان مملوكاً للدولة البيزنطية أيام الإمبراطور جستنيان (حكم من 527 إلى 565م)؛ وهذا سيؤدي إلى صراع طويل بين البيزنطيين والصليبيين طوال القرن التالي لهذه الاتفاقية[6].
وبعد هذه الاتفاقية أظهر الإمبراطور البيزنطي الوُدَّ الكبير لجودفري، ومنحه كمّاً هائلاً من الهدايا القيمة[7]، غير أنه بسرعة نقله إلى آسيا الصغرى ليتجنب لقاءه مع جيش بوهيموند النورماندي؛ وبذلك يستطيع أن يُملِي شروطه على بوهيموند بمفرده[8].
وصول جيش بوهيموند:
ما إن عبر جودفري بجيشه إلى آسيا الصغرى حتى وصل بوهيموند النورماندي، وكان هذا الجيش قد ركب البحر من إيطاليا، ونزل عند مدينة أفلونا Avlonaفي ألبانيا؛ ليخترق البلقان في طريقه إلى القسطنطينية[9]. وقد أفزع هذا الجيش الإمبراطور البيزنطي لا لقوته وبأسه فقط ولكن لتذكيره بما فعله رسل باليل النورماندي[10]، وكذلك ذكريات حصار القسطنطينية (473هـ) سنة 1081م على يد الأمير بوهيموند نفسه الذي يأتي على رأس جيشٍ أضعاف الجيش القديم، إضافةً إلى الجيوش الصليبية الأخرى[11].
بوهيموند يعلن الولاء:
كانت هذه مخاوف الإمبراطور البيزنطي غير أن بوهيموند قرر سلوك أسلوب آخر يضمن له المكاسب العظيمة؛ لقد أدرك بوهيموند قوة الإمبراطورية البيزنطية، وأدرك أيضاً أن الجيوش الصليبية لن تستطيع احتلال البلاد الإسلامية دون مساعدة البيزنطيين[12]، وأدرك ثالثة الخلاف الذي حدث بين الإمبراطور البيزنطي وجودفري، وكيف انتهى هذا الخلاف بقسم جودفري بعد أن فَقَد هيبته.
أدرك بوهيموند من البداية ذلك، وبالتالي قد تتاح له فرصة أن يتزعم الجميع إذا ناصره في ذلك الإمبراطور القويّ، وعليه فقد أمر بوهيموند جنوده بالسلوك الحسن أثناء سيرهم في الأراضي البيزنطية[13]، وتوجَّه مباشرة إلى القسطنطينية، وعلى أسوارها ترك تانكرد ابن أخته على رئاسة الجيش، وتوجَّه هو إلى مقابلة الإمبراطور ليعلن بين يديه دون مقاومة قسمه بالولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي[14].
ولكنه في ذات الوقت لم يعلن هذا القسم دون مطالب، فقد طلب صراحة أن يمنحه الإمبراطور البيزنطي إقطاعية كبرى في منطقة أنطاكية، وقد وافق الإمبراطور على هذا الطلب لتصبح هذه الاتفاقية بمنزلة الميلاد الأول لإمارة أنطاكية النورماندية فيما بعد[15]، وفوق ذلك فقد طلب بوهيموند من الإمبراطور البيزنطي أن يجعله قائداً عامّاً لكل الجيوش المشاركة في الحروب؛ غير أن الإمبراطور رفض هذا الأمر[16]، ولعله رفض ذلك لكي لا يُرضِي جيشاً على حساب آخر، وبذلك تظل كل المفاتيح في يده هو دون أن يثير حفيظة أحد عليه.
وبعد هذه الاتفاقية نقل الإمبراطور البيزنطي الجيش النورماندي إلى آسيا الصغرى ليحتل موقعه إلى جوار جيش جودفري بوايون، وكان ذلك في 26 من إبريل سنة 1097م[17].
ريمون الرابع يخضع بالولاء للإمبراطور:
كان الجيش الثاني في الوصول هو جيش جنوب فرنسا والبروفنسال تحت قيادة الأمير ريمون الرابع أمير تولوز والبروفنسال، والذي سلك طريقاً بريّاً، ووصل إلى القسطنطينية في أواخر إبريل سنة 1097م بعد أن قام ببعض التجاوزات في الطريق؛ مما حدا بالجيش البيزنطي أن يردعه في بعض المواقف[18].
وعند وصول هذا الجيش إلى القسطنطينية طلب الإمبراطور البيزنطي من الأمير ريمون الرابع أن يحذو حذو الأمراء السابقين، ويقسم له بالتبعية والولاء، ولكن هذا الطلب جاء متعارضاً تماماً مع أحلام ريمون الرابع الذي كان يريد قيادة كل الجيوش بحكم أنه المبعوث الرسمي للبابا الكاثوليكي، وفي جيشه أديمار المندوب البابوي؛ فكيف يقسم الآن لراعي الكنيسة الأرثوذكسية.
ثم إنه رأى أن منافسه اللدود بوهيموند النورماندي قد أصبح صديقاً حميماً للإمبراطور؛ وهذا يعني أن ريمون إن أقسم بالولاء للإمبراطور، فقد يجعله تحت سيطرة إمرة بوهيموند وهذا ما لا يقبله ريمون أبداً؛ لذلك أعلن ريمون الرابع رفضه تماماً لهذا القسم[19]، وأعلن أنه ما جاء إلى هنا إلا للمحاربة من أجل السيد المسيح لا من أجل الإمبراطور البيزنطي، لكن الإمبراطور أصرَّ على هذا الطلب مما أنذر بصدام مسلح قريب[20]، وزاد الطينة بلة أن بوهيموند أراد الصيد في الماء العكر وذلك بإعلانه أنه في حال الصدام بين ريمون الرابع والإمبراطور البيزنطي؛ فإنه سينضم بقواته النورماندية القوية إلى الإمبراطور البيزنطي!
وهنا تدخل جودفري بوايون وأقنع ريمون الرابع أن يرضخ للإمبراطور لقرب مواقع المسلمين، وأن احتمال هجومهم على الصليبيين قريب، فوافق ريمون على حلٍّ وسط يحفظ له ماء وجهه وهو أن يقسم على احترام حياة الإمبراطور وشرفه، وألا يرتكب أمراً يغضب الإمبراطور[21]، وإزاء هذه الأزمة قَبِل الإمبراطور بهذا الحل، بل إنه اجتمع بريمون الرابع اجتماعاً خاصّاً ذكر له فيه بدهاء أنه لا يطمئن لإعطاء بوهيموند إمارة الجيوش كلها، ولقد أتت هذه التصريحات أُكُلها، وهدأت نفس ريمون، وقرَّر أن يتحالف بقوة مع الإمبراطور البيزنطي[22].
الجيوش الصليبية في آسيا الصغرى:
وصل الجيش الأخير وهو جيش روبرت أمير نورمانديا ومعه ستيفن أمير بلوا[23]، ولكنه وصل متأخراً عن بقية الجيوش، وكان قد جاء عن طريق إيطاليا ثم ركب البحر إلى البلقان، ومنها اخترق الدولة البيزنطية إلى القسطنطينية، ولم يُسبِّب أية مشكلة في طريقه[24]، ولم يمانع زعيما هذا الجيش في القسم بالتبعية والولاء لإمبراطور الدولة البيزنطية، ومن ثَمَّ تم إغداق الهدايا عليهما، ثم ساعدهما الإمبراطور في عبور البسفور إلى آسيا الصغرى ليلحق هذا الجيش بالجيوش التي سبقت[25].
بهذا تكون الجيوش الخمسة قد وصلت، ولم تخسر في الطريق شيئاً تقريباً من قواتها، اللهم إلا ما حدث للجيش الرابع من هلكة في البحر إثر العاصفة البحرية، ولكنه كان جيشاً صغيراً غير مؤثِّر، وبهذا وصلت الأعداد الغفيرة إلى آسيا الصغرى بلاد المسلمين.
ومن المهم الآن أن نذكر أن أقل تقدير للمقاتلين الرجال في هذه الحملة الهائلة كان ثلاثمائة ألف مقاتل، بينما يصطحبون معهم نساءهم وأطفالهم بأعداد ضخمة، وصلت بالحملة إلى مليون إنسان، وقوم جاءوا معهم بسبعمائة ألف امرأة وطفل جاءوا ليستوطنوا لا ليحاربوا قوماً ثم يعودوا.
أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي فإنه رفض عرضاً من الصليبيين بقيادة الجيوش بنفسه، وآثر أن يبقى في القسطنطينية الحصينة ملقياً بالجيوش الصليبية في التجربة، غير أنه حرص على إمداد الجيوش الصليبية بالمؤن اللازمة، وبالعيون والأدِلاَّء الخبيرة، وأيضاً ببعض الضباط البيزنطيين أصحاب الخبرة في حروب المسلمين، وهكذا صار الصدام بين الصليبيين والمسلمين قاب قوسين أو أدنى[26].
________________
[1] Runciman: op. cit., p. 149
[2] Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 281.
[3] Brehier, op. cit., p 113; Chalandon: Alexis Comnene, p.p. 178-179.
[4] Albert d` Aix, p.p. 307-308.
[5] Runciman: op. cit., p. 151.
[6] Guillaman: de tyr, 1, p.p. 87-88; Grousset: op. cit. 1, p. 19.
[7] Michaud: Hist. des Croisades, 1, p. 179.
[8] Chalandon: Alexis Comnene, p. 138.
[9] Setton: op., p. 155; Runciman: op. cit. 1, 155.
[10] Schomberger: Racit de Byzance et des Croisades. Vol ll, p. 82.
[11] Cam. Med. Hist vol. 5 p. 282.
[12] Grousset: Hist des Croisades, 1, p. 21.
[13] Chalandon: Premiere Croisade, p.p. 133-136.
[14] Chalandon: Premiere Croisade, p. 132.
[15] Iorga: Breve Hist. des Croisades, p. 51.
[16] Brehier: op. cit., p. 311.
[17] Cam. Med. Hist vol. 5 p. 281.
[18] Grousset: Hist. des Croisades 1, p.p. 24-25.
[19] Runciman: op. cit. 1, p. 136.
[20] Raymond d`Aigles: Hist. Occid. 111, p. 238.
[21] Cam. Med. Hist vol. 5 p. 283; Anna Comnena, pp. 239-231; Gesta Francorun, p. 13; Raymond d`Agueiler, in Petrs (ed.), pp. 140-142; William of Tyre: 1, pp. 139-146.
[22] Runciman: op. cit. 1, p. 164.
[23] Michaud: Hist. des Croisades Croisades, 1. p. 178.
[24] Foucher de Chartres (Hist. Occid. 111), p.p. 331-332.
[25] Chalandon: alexis Comnene, p.p. 188-189.
[26] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 27
- التصنيف:
- المصدر: