الغضب آداب وأحكام

منذ 2013-12-23

الغضب في اللغة: الشدة، ورجل غضوب أي شديد الخلق، والغضوب الحية الخبيثة؛ لشدتها، والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض سُمِّيَت بذلك لشدتها


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: "فإن الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة قلَّ ما يتمكن منه إلا اغتاله"[1]، والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منه أحد بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال -كما سيأتي بيانه- "والغضب ينسي الحرمات، ويدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات"[2] وقد قيل:

 


وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا
(صبح الأعشى: [9/196]، جمهرة الأمثال: [1/356]، الأغاني: [12/250]، ونسبه لعبد الله بن معاوية الجعفري).

 


كما قيل:
وعين البغض تبرز كل عيب *** وعين الحب لا تجد العيوبا
(ثمار القلوب في المضاف والمنسوب: [1/327]، المستطرف في كل فن مستظرف: [455]).


 

وكثير مِنَّا لا يحسن الغضب إن غضب، ولم نُربِّ أنفسنا وأولادنا كيف نغضب ولماذا نغضب وفي هذه الخاطرة جمعت ما يَسَّر الله تعالى جمعه من آيات، وأحاديث، وحكم، وشعر، وغيرها مما يتعلق بهذا الموضوع سائلا المولى جل جلاله التوفيق والسداد.

تعريف الغضب:

عَرَّف الغضبَ جمعٌ من علماء اللغة وغيرهم، واختلفت العبارات، واتفقت الثمرة فكلمة (الغضب) يدرك معناها الصغير، والكبير بلا تكلف أو تعب فتوضيح الواضحات -كما يقال- من الفاضحات، وقد يزيده غموضًا وإشكالًا قال المناوي رحمه الله تعالى: "والغضب كيفية نفسانية وهو بديهي التصور"ا.هـ[3]؛ ومع ذلك لابد من ذكر شيء من ذلك:

قال القرطبي رحمه الله تعالى: "والغضب في اللغة: الشدة، ورجل غضوب أي شديد الخلق، والغضوب الحية الخبيثة؛ لشدتها، والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض سُمِّيَت بذلك لشدتها" ا.هـ (تفسير القرطبي: [1/150]).

وقيل في معناه: "تغيُّر يحصل عند فوران دم القلب ليحصل عنه التشفي في الصدر" (التعريفات: [168]).


 

وقيل: "الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه".

أسباب الغضب:

بواعث الغضب، وأسبابه كثيرة جدًا، والناس متفاوتون فيها، فمنهم مَن يَغضب لأمر تافه لا يُغضب غيره وهكذا، فمِن أسباب الغضب:

أولًا:

العُجب.


 

فالعجب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة إن لم يُعقل بالدين وذلك برده ودفعه فالعجب قرين الكِبْر وملازم له، والكِبْر من كبائر الذنوب فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبر» (رواه مسلم: [91]، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام» (رواه أبو داود: [4341]، والترمذي: [3058] من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقال: "حسن غريب"، وصححّه ابن حبان: [385]).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "المهلكات ثلاث إعجاب المرء بنفسه وشح مطاع وهوى متَّبع" (رواه البزار: [3366]، والبغوي: [33] بإسناد ضعيف).

ولهذا فقد كان السلف يُحذرون من أسباب العُجب، ولو لم تكن مباشرة فعن سليم بن حنظلة قال: بينا نحن حول أُبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة، فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال: "إن هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع" (رواه ابن أبي الدنيا في التواضع: [51]، كما رواه الدارمي: [527]، والخطيب في الجامع: [925] من قول سعيد بن جبير).

وجاء أن يحيى بن زكريا لقي عيسى بن مريم صلى الله عليهما وسلم فقال: أخبرني بما يُقرِّب من رضا الله، وما يُبعد من سخط الله؟ فقال: "لا تغضب". قال: الغضب ما يبدأه وما يعيده؟ قال: "التعزز والحمية والكبرياء والعظمة" (الزهد: [44]).

ثانيًُا: المِراء.

قال عبد الله بن الحسين: "المِراء رائد الغضب فأخزى الله عقلًا يأتيك به الغضب" ا.هـ (البيان والتبيين: [1/208]).

وللمراء آفات كثيرة منها: الغضب لهذا فقد نهى الشارع عنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا» (رواه أبو داود: [4800] من حديث أبي أمامة رضي الله عنه).

ثالثًا: المزاح.

 

إن المزاح بدؤه حلاوة *** لكنما آخره عداوة
يحتد منه الرجل الشريف *** ويجتري بسخفه السخيف
(أدب الدنيا والدين: [309]).


 

فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه: إما بكلام لا فائدة منه، أو بفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جادًا ولا لاعبًا» (رواه أحمد: [4/221]، وأبو داود: [5003]، والترمذي: [2160] من حديث يزيد بن سعيد رضي الله عنه وقال الترمذي: "حسن غريب").

 


وقال أبو هقان:
مازح صديقك ما أحب مزِاحًا *** وتوق منه في المزاح مزاحا
فلربما مزح الصديق بمزحةٍ *** كانت لباب عداوة مفتاحا


 

ذكر خالد بن صفوان المزاح فقال: "يَصُكُّ أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، ويُنشقه أحرق من الخردل، ويُفرغ عليه أحرَّ من المرجل ثم يقول: إنما كنت أمازحك".


 


قال محمود الوراق:
تَلََقَّى الفتى أخاه وخدنه *** في لحن منطقه بما لا يُغتفر
ويقول كنت ممازِحًا وملاعبًا *** هيهات نارك في الحشا تتسعر

ألهبتها وطفقت تضحك لاهيَا *** مما به وفؤاده يتفطر
أو ما علمت ومثل جهلك يتقى *** أن المزاح هو السباب الأكبر
(الآداب الشرعية لابن مفلح: [2/221]).


 

وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "إياك والمزاح فإنه يجر القبيح ويورث الضغينة" (رواه ابن أبي شيبة: [7/243]).


 

واحذر ممازحة تعود عداوة *** إن المزاح على مقدمة الغضب


 

وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: "إذا كان المزاح أمام الكلام كان آخره اللطم والشتام".

رابعًا: بذاءة اللسان وفحشه.


 

بشتم أو سب أو تعيير مما يوغل الصدور، ويثير الغضب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبغض الفاحش البذيء» (رواه الترمذي: [2003]، وابن حبان: [5693] من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وقال الترمذي: "حسن صحيح").

ومن أسباب الغضب أيضًا: الغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه قال الغزالي رحمه الله تعالى: "ومن أشد البواعث عليه عند أكثر الجهال: تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكِبر همة" ا.هـ (إحياء علوم الدين: [3/173]).

أنواع الغضب:

الأول: الغضب المحمود.


 

وهو ما كان لله تعالى عندما تنتهك محارمه، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان إذ أن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان قال تعالى عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد علمه باتخاذ قومه العجل {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150].

أما غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله تعالى فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل" (رواه مسلم: [2328]).

ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال: «بهذا أُمِرتُم؟ -أو لهذا خُلِقتُم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم»، فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه" (رواه أحمد: [2/178]، وابن ماجة: [85] واللفظ له، قال البوصيري رحمه الله تعالى: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات" ا.هـ، مصباح الزجاجة: [1/14]).

وما أكثر ما تُنتهك محارم الله تعالى في هذا الزمان علنًا وسرًا، فكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا همَّ لها سوى نشر الرذيلة، ومحاربة الفضيلة، وإشاعة الفاحشة، وبث الشبهات، وتزيين المنكر، وإنكار المعروف، والاستهزاء بالدين وشعائره فهذا كله مما يوجب الغضب لله تعالى وهو من الغضب المحمود، وعلامة على قوة الإيمان، وهو ثمرة لحفظ الأوطان، وسلامة الأبدان، وتظهر ثمرة الغضب هنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد على الشبهات أما السكوت المطبق مع القدرة على التغيير فسبب للهلاك فعن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استيقظ من نومه وهو يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شرٍ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» -وحلَّق بأصبعه وبالتي تليها- قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»" (رواه البخاري: [3402]، ومسلم: [2880]).

وكذلك من الغضب المحمود: الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء، وانتهاك للأعراض، واستباحة للأموال، وتدمير للبلدان بلا حق .

الثاني: الغضب المذموم. 

وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالحمية الجاهلية، والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية، وانتشار حِلَق تحفيظ القرآن الكريم، ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور، وسفر المرأة بلا محرم.


 

ويظهر ذلك جليًا في كتابة بعض كُتَّاب الصحف فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك، ولا همَّ له سوى مسايرة العصر! سواءً وافق الشرع المطهر أو خالفه فالحق عندهم ما وافق هواهم والباطل ما حدَّ من مبتغاهم قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ . وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ . وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:45-52].

الثالث: الغضب المباح.

وهو الغضب في غير معصية الله تعالى ولم يتجاوز حدَّه كأن يجهل عليه أحد، وكظمه هنا خير وأبقى قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران من الآية:134]، ومما يُذكر هنا: "أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }، فقال لها: قد عفا الله عنك. قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال: اذهبي فأنت حرة" (رواه البيهقي في الشعب: [8317]).


 

وتغضب حتى إذا ما ملكتَ *** أطعتَ الرضا وعصيتَ الغضب
(قرى الضيف: [1/49]، يتيمة الدهر: [1/49]).


 

وقال نوح بن حبيب: "كنت عند ابن المبارك فألحوا عليه. فقال: هاتوا كتبكم حتى أقرأ. فجعلوا يرمون إليه الكتب من قريب ومن بعيد، وكان رجل من أهل الري يسمع كتاب الاستئذان فرمى بكتابه فأصاب صلعة ابن المبارك حرفُ كتابه فانشق، وسال الدم، فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن ثم قال: سبحان الله كاد أن يكون قتال ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه" (رواه البيهقي في الشعب: [8320]).

قال ابن حبان رحمه الله تعالى: "والخلق مجبولون على الغضب، والحلم معًا، فمن غضب وحلم في نفس الغضب فإن ذلك ليس بمذموم ما لم يخرجه غضبه إلى المكروه من القول والفعل على أن مفارقته في الأحوال كلها أحمد" ا.هـ (روضة العقلاء: [141]).

درجات الناس في قوة الغضب:

"الأولى: التفريط؛ ويكون ذلك بفقد قوة الغضب بالكلية أو بضعفها.

الثانية: الإفراط؛ ويكون بغلبة هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين ولا تبقى للمرء معها بصيرة ونظر ولا فكرة ولا اختيار.

الثالثة: الاعتدال؛ وهو المحمود وذلك بأن ينتظر إشارة العقل والدين" (انظر: إحياء علوم الدين: [3/179]).

علاج الغضب:

«ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء» (رواه البخاري: [5354]).

ومن الأدوية لعلاج داء الغضب:

أولًا: الاستعاذة بالله من الشيطان.

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36].

عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: "كنت جالِسًا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد» فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تعوَّذ بالله من الشيطان»، فقال: وهل بي جنون" (رواه البخاري: [3108]).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته" ا.هـ (التبيان في أقسام القرآن: [265]).

ثانيًا: تغيير الحال.

عن أبى ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» (رواه أحمد: [5/152]، وأبو داود: [4782]، وصحّحه ابن حبان: [5688]).

ثالثًا: ترك المخاصمة والسكوت.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: "ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك وخصوصًا في الأقوال السيئة لا تضرك بل تضرهم إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها، وسوّغت لها أن تملك مشاعرك، فعند ذلك تضرك كما ضرتهم، فإن أنت لم تصنع لها بالًا، لم تضرك شيئًا" (الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: [25]).



 


يخاطبني السفيه بكل قبحٍ *** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهةً وأزيد حِلمًا *** كعود زاده الإحراق طيبا


 

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «علِّموا وبشِّروا ولا تُعسِّروا وإذا غضب أحدكم فليسكت» (رواه أحمد: [3/239]، والطيالسي: [2608]، والبخاري في الأدب: [245]).

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "وهذا أيضًا دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرًا من السباب وغيره مما يعظم ضرره، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله ما امتلأتُ غضًبا قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت" ا.هـ (جامع العلوم والحكم: [1/146]، وانظر قول مورق في الزهد: [305]).


 

قال سالم ابن ميمون الخواص:

 


إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظنَّ أني *** عييتُ عن الجواب وما عييتُ

شرار الناس لو كانوا جميعًا *** قذى في جوف عيني ما قذيتُ
فلستُ مجاوبًا أبدا سفيها *** خزيتُ لمن يجافيه خزيتُ
(روضة العقلاء: [140])
.

 


وقيل:
ولقد أمرُّ على السفيه يسبني *** فمررتُ ثمَّتَ قلتُ لا يعنيني

 


وقال الصفدي:
واستشعر الحلم في كل الأمور *** ولا تسرع ببادرة يومًا إلى رجل
وإن بليت بشخص لا خلاق له *** فكن كأنك لم تسمع ولم يقل

 

رابعًا: الوضوء.


 

عن عطية السعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الغضب من الشيطان؛ وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» (رواه أحمد: [4/226]، وأبو داود: [4784]).

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق وضوء» (رواه أحمد: [3/61]، والترمذي: [2191]، والحاكم: [4/551]، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح").

خامسًا: استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ.

فمن استحضر الثواب الكبير الذي أعده الله تعالى لمن كتم غيظه وغضبه كان سببًا في ترك الغضب والانتقام للذات، وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة نجد جملة من الفضائل لمن ترك الغضب منها:

1- الظفر بمحبة الله تعالى والفوز بما عنده قال تعالى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].

ومرتبة الإحسان هي أعلا مراتب الدين.

وقال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاثة مَن كنَّ فيه آواه الله في كنفه، وستر عليه برحمته وأدخله في محبته»، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: «مَن إذا أُعطي شكر، وإذا قَدِر غفر، وإذا غَضِب فتر» (رواه الحاكم: [1/214]، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد"، والبيهقي في الشعب: [4/154] وضعَّفه).

2- ترك الغضب سبب لدخول الجنة: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله دلني على عملٍ يدخلني الجنة. قال: «لا تغضب ولك الجنة» (رواه الطبراني في الأوسط: [2353]، وفي مسند الشاميين: [21]، قال المنذري: "رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح" ا.هـ، الترغيب والترهيب: [3/300]، وروى نحوه ابن حبان في روضة العقلاء: [138]).

3- المباهاة به على رؤوس الخلائق: عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن كظم غيظًا وهو يقدِر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء» (رواه أحمد: [3/440]، وأبو داود: [4777]، والترمذي: [2493]، وقال: "هذا حديث حسن غريب").

4- النجاة من غضب الله تعالى: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله ما يمنعني من غضب الله؟ قال: «لا تغضب» (رواه ابن حبان: [296])، فالجزاء من جنس العمل، ومن ترك شيئًا لله عوَّضه الله تعالى خيرًا منه.

وقال أبو مسعود البدري رضي الله عنه: "كنت أضرب غلامًا لي بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي «اعلم أبا مسعود»، فلم أفهم الصوت من الغضب قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود... اعلم أبا مسعود»، قال: فألقيت السوط من يدي. فقال: «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام»، قال: فقلت لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا" (رواه مسلم: [1659]).

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب واحذر أن تظلم من لا ناصر له إلا الله" ا.هـ (البيان والتبيين: [1/456]).

5- زيادة الإيمان: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وما من جرعة أحب إليَّ من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا» (رواه أحمد: [1/327]، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما).

6- كظم الغيظ من أفضل الأعمال: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «ما من جرعة أعظم أجرًا ثم الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» (رواه أحمد: [2/128]، والبخاري في الأدب: [1318]، وابن ماجة: [4189]، قال البوصيري رحمه الله تعالى: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات" ا.هـ، المصباح: [1496]).

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ما تجرَّع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم، وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم، والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة، ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز" ا.هـ (الاستقامة: [2/272]).

سادسًا: الإكثار من ذكر الله تعالى؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فمن اطمئن قلبه بذكر الله تعالى كان أبعد ما يكون عن الغضب قال عكرمة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف من الآية:24] "إذا غضبت" (رواه ابن جرير: [15/226]، والبيهقي في الشعب: [8296]).

سابعًا: العمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصني. قال: «لا تغضب»، فردَّد مِرارًا قال: «لا تغضب» (رواه البخاري: [5765]).

وهنيئًا لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: "هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلام كلي، ولهذا ردَّد. فلما أعاد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عرف أن هذا كلام جامع، وهو كذلك؟ فإن قوله: «لا تغضب»، يتضمن أمرين عظيمين:

أحدهما: الأمر بفعل الأسباب، والتمرن على حسن الخلق، والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخلق، من الأذى القولي والفعلي. فإذا وفق لها العبد، وورد عليه وارد الغضب، احتمله بحسن خلقه، وتلقاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه، فإن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه، وهذا منه.

الثاني: الأمر -بعد الغضب- أن لا ينفذ غضبه: فإن الغضب غالبًا لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه. فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرَّمة التي يقتضيها الغضب. فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة، فكأنه في الحقيقة لم يغضب. وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية، والقوة القلبية" ا.هـ (بهجة قلوب الأبرار: [136]).

قال ميمون بن مهران: "جاء رجل إلى سلمان رضي الله عنه فقال: يا أبا عبد الله أوصني. قال: لا تغضب. قال: أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك. قال: فإن غضبت فاملك لسانك ويدك" (أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت: [610]، وانظر: جامع العلوم والحكم: [1/147]).

ثامنًا: النظر في نتائج الغضب؛ فكثير الغضب تجده مصابًا بأمراض كثيرة كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص، كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم" (المستطرف: [406]).

وقيل: "من أطاع الغضب أضاع الأرب".


 

وقال الكريزي:
ولم أرَ في الأعداء حين اختبرتهم *** عدوًا لعقل المرء أعدى من الغضب
(روضة العقلاء: [222]).


 

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: "والغضب هو غليان دم القلب المؤذي عنه خشية وقوعه أو طلبًا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرَّمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان، وكثير من الأقوال المحرَّمة كالقذف والسب والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر كما جرى لجبلة بن الأيهم" ا.هـ (جامع العلوم والحكم: [1/147]).

وكثيرًا ما نسمع أن والِدًا قتل ولده، أو ولدًا قتل والده فضلًا عن غيرهم بسبب الغضب، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام، ووقع الطلاق، وتهاجر الجيران، وتعادى الإخوان، وقامت بين الدول الحروب.

عن وائل رضي الله عنه قال: "إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله هذا قتل أخي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أقتلته؟» فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال: نعم قتلته. قال: «كيف قتلته؟» قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته" (رواه مسلم: (1680]).

قال مروان بن الحكم في وصيته لابنه عبد العزيز: "وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سَوْرَة الغضب، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة فإن أول من جعل السجن كان حليمًا ذا أناة" ا.هـ (جمهرة خطب العرب: [2/191]).

وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامل من عماله: "أن لا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبت على رجل فاحبسه فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه" ا.هـ (المستطرف: [415]).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الغضب مرض من الأمراض، وداء من الأدواء فهو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الأبدان فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه" ا.هـ (إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان: [53]).

وقال رحمه الله تعالى: "إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحلم فإنه كلب إن أفلت أتلف" ا.هـ (الفوائد: [50]).

وقال المعتمر بن سليمان: "كان رجل ممن كان قبلكم يغضب، ويشتد غضبه فكتب ثلاث صحائف، فأعطى كل صحيفة رجلًا.

وقال للأول: إذا اشتد غضبي فقم إليَّ بهذه الصحيفة وناولنيها.

وقال للثاني: إذا سكن بعض غضبي فناولنيها.

وقال للثالث: إذا ذهب غضبي فناولنيها.

وكان في الأولى: اقصر فما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضًا.

وفي الثانية: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.

وفي الثالثة: احمل عباد الله على كتاب الله فإنه لا يصلحهم إلا ذاك .ا.هـ (المستطرف: [415]).

تاسعًا: أن تعلم أن القوة في كظم الغيظ ورده؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس الشديد بالصُّرَعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (رواه البخاري: [5763]، ومسلم: [2609]).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "أي مالك نفسه أولى أن يُسمَّى شديدًا من الذي يصرع الرجال" ا.هـ (حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود: [13/271]).

وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد" ا.هـ (الاستقامة: [2/271]).

وقال الزرقاني رحمه الله تعالى: "لمَّا كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ، وقد ثارت عليه شدة من الغضب، فقهرها بحلمه، وصرعها بثباته، وعدم عمله بمقتضى الغضب كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه" ا.هـ (شرح الزرقاني: [4/327]).


 

ليست الأحلام في حال الرضا *** إنما الأحلام في حال الغضب


 

وعن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بقوم يصطرعون فقال: «ما هذا؟»، فقالوا: يا رسول الله فلان ما يصارع أحدًا إلا صرعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أفلا أدلكم على مَن هو أشد منه؛ رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه»" (رواه البزار قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "البزار بإسنادٍ جيد" ا.هـ فتح الباري: [10/519]).


 

ألا إن حلم المرء أكرم نسبة *** تسامى بها عند الفخار حليم
فياربِّ هب لي منك حِلمًا *** فإنني أرى الحلم لم يندم عليه كريم


 

قال المسترشد بالله في وصيته لقاضيه علي بن الحسين الزينبي: "أن يجعل التواضع والوقار شيمته، والحلم دأبه وخليقته، فيكظم غيظه عند احتدام أُواره واضطرام ناره مجتنبًا عزة الغضب الصائرة إلى ذلة الاعتذار" ا.هـ (صبح الأعشى: [10/275]).

عاشرًا: قبول النصيحة والعمل بها؛ فعلى من شاهد غاضبًا أن ينصحه، ويذكره فضل الحلم، وكتم الغيظ، وعلى المنصوح قبولُ ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما استأذن الحر بن قيس لعيينة فأذن له عمررضي الله عنه  فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزْل -أي العطاء الكثير- ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى همَّ به. فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله" (رواه البخاري: [4366]).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وهكذا الغضبان فإنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول، ويفعل ما يفعل؛ ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك، وكذلك يلطم وجهه، ويصيح صياحًا قويًا، ويشق ثيابه، ويلقي ما في يده؛ دفعًا لألم الغضب، وإلقاء لحمه منه، وكذلك يدعو على نفسه وأحب الناس إليه فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء، وهو غير طالب لذلك في الحقيقة فكذلك يتكلم بصيغة الإنشاء وهو غير قاصد لمعناها، ولهذا يأمر الملوك وغيرهم عند الغضب بأمور يعلم خواصهم أنهم تكلموا بها دفعًا لحرارة الغضب وأنهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم - بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك إذا سكن غضبهم، وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده أو صديقه فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة" ا.هـ (إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان: [47]).


 

والحلم آفته الجهل المضرُّ به *** والعقل آفته الإعجاب والغضب


 

الحادي عشر: أخذ الدروس من الغضب السابق؛ فلو استحضر كل واحد مِنَّا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده قال ابن حبان رحمه الله تعالى: "سرعة الغضب من شيم الحمقى كما أن مجانبته من زي العقلاء، والغضب بذر الندم فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسد به بعد الغضب" ا.هـ (روضة العقلاء: [138]).


 

لا تغضبن على قوم تحبهم *** فليس ينجيك من أحبابك الغضب
(المدهش: [2/298]).


 

الثاني عشر: اجتناب وإزالة أسباب الغضب.


 

وقد ذكرت جملة منها؛ قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم؛ السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم، وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى من المكاره التي لا يمكنه ردُّها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون" ا.هـ (الوسائل المفيدة: [16]).

الثالث عشر: معرفة أن المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة فتركه إغلاق لباب من أبواب العصيان.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة، وكان نهاية قوة الغضب القتل، ونهاية قوة الشهوة الزنى جمع الله تعالى بين القتل والزنى، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام، وسورة الإسراء، وسورة الفرقان، وسورة الممتحنة، والمقصود أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة" ا.هـ (زاد المعاد: [2/463]).

الرابع عشر: قال ابن حبان رحمه الله تعالى: "لو لم يكن في الغضب خصلة تذم إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب" ا.هـ (روضة العقلاء: [140]).

لذا فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» (رواه البخاري: [6739]، ومسلم: [1717] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة أقوال وهي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد: أحدها: لا يصح ولا ينفذ؛ لأن النهي يقتضي الفساد. والثاني: ينفذ. والثالث: إن عرض له الغضب بعد فهم الحكم نفذ حكمه، وإن عرض له قبل ذلك لم ينفذ" ا.هـ (إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان: [65]).

وقال مُعلِلًا المنع: "إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد" ا.هـ (إعلام الموقعين: [1/217]).

لهذا كان من وصية أمير المؤمنين عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في القضاء: "وإياك والغضب والقلق والضجر" (رواه الدارقطني: [4/206]، ووكيع في أخبار القضاة: [1/70] و[283]، وابن عساكر في تاريخ دمشق: [32/70]).

صور من هدي السلف عند الغضب:

سب رجل ابن عباس رضي الله عنهما فلما فرغ قال: "يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى" (المستطرف: [201]).

وقال أبو ذر رضي الله عنه لغلامه: "لِمَ أرسلت الشاة على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغيظك. قال: لأجمعن مع الغيظ أجرًا أنت حر لوجه الله تعالى" (البيان والتبيين: [1/456]، المستطرف: [/201]).

وأسمع رجل أبا الدرداء رضي الله عنه كلامًا، فقال: "يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعًا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه".

قال الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى لابنه: "يا بني إذا أردت أن تواخي رجلًا فأغضبه، فإن أنصفك وإلا فاحذره" (المستطرف: [203]، وروي ذلك عن لقمان عليه السلام كما في روضة العقلاء: [/91]).

 


إذا كنت مختصًا لنفسك صاحبًا *** فمن قبل أن تلقاه بالود أغضبه
فإن كان في حال القطيعة منصفًا *** وإلا فقد جربته فتجنبـه

 


وقال محمد بن حماد الكاتب:

 

فأعجب من ذا وذا أنني *** أراك بعين الرضا في الغضب
(قرى الضيف: [5/44]، صبح الأعشى: [9/198]، يتيمة الدهر: [5/44]).


 

وأختم بما رواه عطاء بن السائب عن أبيه قال: 

"صلى بنا عمار بن ياسر رضي الله عنه صلاة فأوجز فيها فقال له بعض القوم: لقد خففت أو أوجزت الصلاة، فقال: أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قام تبعه رجل من القوم هو أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي اللهم، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين»" (رواه ابن أبي شيبة: [6/44]، وأحمد: [4/264]، والنسائي: [1305] واللفظ له، وصحّحه ابن حبان: [1971]).

والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وزاد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــ


 

المراجع:


 

[1] (إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان: [49]).
[2] (قرى الضيف: [4/224]، يتيمة الدهر: [4/224]).
[3] (فيض القدير: [6/81]).


نايف بن أحمد الحمد

 

المصدر: صيد الفوائد
  • 10
  • 0
  • 78,066

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً