السلف والسفاح؛ وسلفية في بحور الدماء
لا أحد مُعتبِرًا من السلف؛ أقرّ أبي العباس السفاح أول حُكَّام الدولة العباسية على ما أقدم عليه من سفك للدماء.
لا أحد مُعتبِرًا من السلف؛ أقرّ أبي العباس السفاح أول حُكَّام الدولة العباسية على ما أقدم عليه من سفك للدماء.
العجيب تجرُّأ أحد المنسوبين للعلم والسلف على الاستدلال بفعلة أبي العباس السفاح للتهوين من شأن سفك الدماء. فذاك نمط يشير على أن صاحبه قد تنكَّب طريق العلم الشرعي، وسلك سُبل أصحاب الهوى والابتداع في طرق الاستدلال؛ حائدًا عن سبيل السلف الصالح.
فهذا فقيه أهل الشام أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، لمَّا تغلّب السفاح على بني أمية وأزال دولتهم؛ طلبه عبد الله بن علي عمّ السفاح للمثول بين يديه، فتغيّب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه، وكان قتل منهم يومئذ نيفًا وسبعين.
قال الأوزاعي:
"دخلت عليه وهو على سرير الملك وفي يده خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله، ومعهم السيوف مصلتةً فسلَّمتُ عليه فلم يرد. فتفكرتُ، ثم قلتُ: لأصدقنه، واستبسلتُ للموت.
ثم قال: يا أوزاعي ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ أجهادٌ ورباطٌ هو؟
قال: فقلت: أيها الأمير يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (متفقٌ عليه)".
وهذه المقولة اعتبرها الأوزاعي جيدة في الإجابة؛ بالرغم أنها لم تكن على هوى السلطان، -وهو ما جعله كما يقول الأوزاعي-: نكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم.
ثم قال: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: -أي الأوزاعي-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (رواه البخاري، ومسلم).
فتغيظ أشد مما كان، وقال: ولم ويلك؟! أليست الخلافة وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتل عليها علي رضي الله عنه بصفين؟
قلت: لو كانت وصية ما رضي بالحكمين. فنكس رأسه.
ثم قال: ما تقول في أموالهم؟
فقلت: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرام عليك أيضًا، وإن كانت لهم حلالًا فلا تحل لك إلا بطريقٍ شرعي.
ثم عرض عليه القضاء؛ فرفض الأوزاعي.
فقال: كأنك تحب الانصراف؟
يقول الأوزاعي: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف".
وكان الأوزاعي في تلك الأيام الثلاثة صائمًا فعرض الأمير عليه الفطر عنده فأبى أن يُفطِر عنده.
فأي اعتراف كان من أهل العلم بشرعية هذا النظام، ولنكمل الأمر مع عالِم آخر. صاحب الفتيا بالمدينة، وعليه تفقَّه الإمام مالك صاحب المذهب المشهور.
ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي، كان فقيهًا عالِمًا حافِظًا للحديث والفقه.
يقول الإمام مالك: قال لي ربيعة حين أراد الخروج إلى العراق: إن سمعت أني حدَّثتهم شيئًا أو أفتيتهم فلا تعدُّني شيئًا.
قال: فكان كما قال لما قَدِمَها لزم بيته فلم يخرج إليهم ولم يُحدِّثهم بشيءٍ حتى رجع.
وما ذاك إلا لأنه لم يعترف بشرعيتهم، فاعتزلهم ولم يشاركهم، بعكس المبتدعة المنسوبون للسلفية، فهم يسارعون في هواهم وتكيف الفتيا على حسب حاجة هؤلاء الظلمة.
يقول الإمام مالك: لما قَدَمَ ربيعة على أبي العباس السفاح أمر له بجائزة فأبَى أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلافِ درهم يشتري بها جاريه حين أبَى أن يقبلها، فأبَى أن يقبلها.
ولتعلم أن علماء السلف لم يروا شرعية مُلكِ بني أمية أيضًا؛ لأنه جاء عن غير مشورة المسلمين ورضاهم؛ ولهذا لم ينتصروا لهم لمَّا خرج عليهم السفاح مؤسس الدولة العباسية، فهذا أبو حازم سلمة بن دينار يقول لعبد الملك بن مروان:
"إن آبائك اغتصبوا هذا الأمر من الناس أخذوه عنوة بالسيف من غير شورى ولا اختيار وقد قتلوا من أجله خلقًا كثيرًا وبعد حين رحلوا فلو تدري مصيرهم عند الله".
وهذا يدلّك أنهم لم يُقِرُّوا الحاكم المتغلِّب إلا من باب الأمر والواقع، ويؤكد ما ورد في كلام الفقهاء المتأخرين، أنه لو تغلَّب أحد على هذا الحاكم المتغلِّب الأول لم تجب نصرة الأول، لأنهما بمثابة لص سطا على لصٍ آخر فكلاهما ليس بصاحب حق، بخلاف لو جاء هذا الحاكم عن طريق شورى ورِضًا من الناس فتجب نصرته على من بغى عليه.
وعلى هذا يحمل كلام الإمام مالك حين سُئِلَ عن الخارجين عن الحُكَّام أيجوز قتالهم؟ فقال: "نعم إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فإن لم يكونوا مثله، قال: دعهم ينتقم الله من ظالمٍ بظالمٍ ثم ينتقم من كليهما".
فعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إنما جاء عن شورة وبيعة حقة لا عن طريق استخلاف ووراثة، فروى الآجري في أخبار أبي حفص، وابن كثير في البداية النهاية أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمَّا وُلِّيَ الخلافة خطب في المسلمين قائلاً: "أيها الناس... إني قد ابتُلِيت بهذا الأمر من غير رأي مني ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم".
فصاح الناس صيحة واحدة، قد اخترناك يا أمير المؤمنين فَتول أمرنا باليمن والبركة.
فاعلم مذهب السلف وأهل العلم، من مذهب المبتدعة الذين انتحلوا الاسم وألبسوا الباطل ثوب الحق، رجاء التغرير بالناس وتشويه الدين، بابتداع ما يُخالِف الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
حاتم أبو زيد
- التصنيف: