"الحاجب المنصور".. قائد المسلمين في الأندلس الذي لم يُهزم

منذ 2014-01-21

توفي محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور في 27 رمضان 392 هـ في مدينة سالم، وهو عائد من إحدى غزواته على برغش، التي أصيب فيها بجروح، وكان قد أوصى بأن يدفن حيث مات، كان يشتكي علة النقرس، وقد ترك المنصور من الولد اثنين عبد الملك وعبد الرحمن، غير ابنه عبد الله الذي قتل عام 380 هـ. وقد بلغت غزواته التي غزاها بنفسه 57 غزوة، لم يهزم في أحدها قط.




التاريخ الإسلامي حافل بالأعلام والنجوم المتلألئة، الذين ملأوا الدنيا عدلا، وجاهدوا لتوسيع رقعة الإسلام ورفعة الدين، من هؤلاء محمد بن أبي عامر، أو من يُعرف في التاريخ الإسلامي بالحاجب المنصور.
 
هو الحاجب المنصور محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وكان جدُّه عبد الملك المعافري من العرب الفاتحين، الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد رحمه الله، فنزل بالجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، واستقرَّ بها، وكان والد المنصور (عبد الله بن عامر) من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان، وقد مات في مدينة طَرَابُلُس الغرب، وهو عائد من أداء فريضة الحج، وأمه هي بُرَيْهَة بنت يحيى من قبيلة بني تميم العربية المعروفة.
 
نشأته رحمه الله:

نشأ محمد بن أبي عامر في هذا البيت نشأة حسنة، وظهرت عليه النجابة منذ نعومة أظفاره، وقد سار على خطى أهله وسَلَك سبيل القضاء؛ فتعلَّم الحديث والأدب، ثم سافر إلى قُرْطُبَة ليُكمل تعليمه.
 
 
ابن أبي عامر في قصر الخلافة:
 
كان ابن أبي عامر ذا طموح كبير وهمة عالية وذكاء وقَّاد، وعمل كاتبًا للقاضي محمد بن إسحاق ابن السليم، الذي رأى من نبوغه ما جعله يوصي به عند الحاجب، جعفر بن عثمان المصحفي، في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، الذي ولاه وكالة ابنه عبد الرحمن سنة (356هـ).
 
وقد أُعجب الحكم المستنصر بأخلاق محمد بن أبي عامر، وذكائه ونباهته وحُسن تصرُّفه، كما بهره هذا النبوغ العلمي، الذي يحوزه ذلك الشاب، ولقد كان الحكم كما سبق عالمًا وخبيرًا بالأنساب ومؤرخًا، فلا شَكَّ أن هذا كان من أهم أسباب تقريبه لابن أبي عامر وحبِّه إيَّاه.
 
توفي عبد الرحمن وهو طفل صغير، ثم ولدت صبح ولدها الثاني هشامًا، فتولَّى وكالته أيضًا ابن أبي عامر سنة (359هـ)، ولم يلبث أن تدرَّج في المناصب العليا، فعُيِّنَ أمينًا لدار السكة، وكُلِّفَ بالنظر على الخزانة العامة وخُطة المواريث، ثم أصبح قاضيًا لإِشْبِيلِيَة ولبلة، ثم عَيَّنه مديرًا للشرطة الوسطى، ثم ولاَّه الأمانات بالعدوة، فاستصلحها واستمال أهلها، ثم عينه الحكم قاضي القضاة في بلاد الشمال الإفريقي، وأمر عماله وقوَّاده هناك، ألا يقطعوا أمرًا إلاَّ بمشورته، ثم عينه الحكم المستنصر ناظرًا على الحشم وهو في مرض موته.
 
ومن المدهش في أمر محمد بن أبي عامر، أنه لم يتولَّ عملاً إلاَّ وأداره ببراعة وكفاءة، فاقت براعة من سبقوه، رغم أنه دونهم في السنِّ والخبرة، وأنه كانت تزيد عليه المناصب والتكاليف، فيستطيع أن يجمع بينها مهما اختلفت وتكاثرت، ويُبْدي بعد كل هذا مهارة فائقة في الإدارة والتصرف، رغم أن الدولة كانت في عصرها الذهبي؛ أي إن الأعمال كانت في الغاية من التفنن والدقة، وتتطلب خبرة وإتقانًا.
 
 
وفاة المستنصر:
 
بعد وفاة الحكم المستنصر، تولى ولده هشام المؤيد بالله الخلافة، وصفا الحال لحزب هشام المؤيد بالله، وهذا الحزب متمثِّل في الحاجب جعفر المصحفي، وأم الخليفة الصغير صبح البشكنسية، وهي الشخصية القوية في القصر، التي كانت أحب نساء الحكم إليه، وأحظاهن عنده. ثم ابن أبي عامر الشخصية القوية، التي تتولَّى العديد من الأعمال، والتي يتكئ عليها جعفر المصحفي، في كل عمل مهم.

 
الهجوم على ممالك المسلمين:
 
وما لبثت الخلافة الجديدة، أن تعرضت في الأندلس لحادث خطير؛ إذ ما أن علم نصارى الشمال بوفاة الحكم المستنصر، وجدوا الفرصة سانحة لنقض كلَّ ما كان بينهم وبينه، من عهود ومواثيق، وشرعوا يُهاجمون الثغور الإسلامية هجمات عنيفة، بغرض الثأر من المسلمين وإضعافهم؛ فلا يجدون فرصة لاستجماع قواهم من جديد، ولا يجد حاكمهم الجديد أيضًا الفرصة لتوطيد مُلكه؛ فيستطيع من بعدُ أن يُوَجِّه لهم الضربات العنيفة، التي اعتادوها في عهد الحكام الأقوياء؛ ومن هنا فقد اشتدَّت هجمات نصارى الشمال، على الثغور الإسلامية، بل وتخطّوها حتى كادت حملاتهم تصل إلى قُرْطُبَة، عاصمة الخلافة الإسلامية في الأندلس.
 
وكأنَّ ضعف الخليفة الصغير، قد انسحب على رجال الدولة جميعًا، فلم يُقدم أحد على كفاح النصارى وردِّهم، ولا يجدون أحدًا يتقدَّم لهم، كما أن حاجب الخلافة جعفر المصحفي، كان ضعيفا مترددا خائر الرأي، ليس له عزيمة، ولا يدري ماذا يفعل، وهو يجبن عن الخروج لملاقاة العدوِّ، بل بلغ به الأمر بالرغم من قوة الجيش الذي تركه الحكم المستنصر، ووفرة المال والسلاح والعتاد أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سدِّ نهرهم، ظنًّا منه أن هذا قد يُنجيهم من ضربات النصارى المتلاحقة، إلا أن ابن أبي عامر استعد لصد هجمات النصارى، والذود عن الخلافة الإسلامية في الأندلس.
 
 
بزوغ نجم الحاجب المنصور:
 
استعدَّ ابن أبي عامر لهذه الغزوة أفضل استعداد، وقاد الجند، وأخذ معه المال، وسار في رجب سنة (366هـ) إلى الشمال، وهرب من أمامه جيش النصاري، ثم استطاع الاستيلاء على حصن الحامة وربضه، وعاد إلى قُرْطُبَة بعد اثنين وخمسين يومًا من خروجه إلى الغزو محملاً بالسبي والغنائم، ففرح الناس بذلك فرحًا عظيمًا، وزاد حبُّهم وتقديرهم له؛ إذ استطاع بشجاعته وإقدامه رفع الذلِّ والعار عنهم، وكذلك أحبه الجنود الذين كانوا معه؛ لِمَا رأوا من كثرة جوده، وكرم عشرته، وشجاعته في الحرب، فأحبوه والتفُّوا حوله، وزاد هو إحسانًا إليهم.
 
وهكذا انتهت الغزوة الأولى لصالح المسلمين عامة، ولصالح ابن أبي عامر خاصة، ولم تفتر همة ابن أبي عامر بعد هذه الغزوة؛ بل سارع بهمة عالية إلى استغلال آثارها على كافَّة المستويات.
 
 
محمد بن أبي عامر وغالب الناصري:
 
عرف ابن أبي عامر ما في نفس غالب الناصري، حاكم الشمال، من العداوة للمصحفي، وبأنه يرى نفسه فوقه، ويُغضبه أن يكون المصحفي في الحجابة، وفي مراتب الدولة، وهو الذي بلا تاريخ ولا سابقة، فسعى ابن أبي عامر للدفاع عن غالب، عند الخليفة الصغير وأُمِّه، فرُفع بذلك قدره، وأُعطيَ لقب ذي الوزارتين، وأصبح هو وابن أبي عامر المسئولَيْنِ عن الإعداد للصوائف؛ فهو المسئول عن جيش الثغر، وابن أبي عامر المسئول عن جيش الحضرة (أي الجيش المكلف بالدفاع عن قُرْطُبَة)، وفي عيد الفطر من العام نفسه (366هـ)، اتجه ابن أبي عامر بالجيش إلى الشمال، واجتمع ابن أبي عامر بغالب بن عبد الرحمن الناصري في مدينة مجريط (مدريد الآن)، واتجها بالجيش إلى قشتالة، وفتحا حصن مُولَة، وغنموا وسبوا كثيرًا، وكان غالب ورجاله قد أبلوا أحسن البلاء، حتى كانوا سببًا في هذا الفتح.
 
وكان غالب قد أحب ابن أبي عامر، لما رآه من مواهبه، أو لما رأى من سعيه للدفاع عنه، ورَفْع قدره عند الخليفة وأمه، ودوره في أن يُلَقَّب بذي الوزارتين، أو لما كان من العداوة بينه وبين المصحفي؛ فمن ثَمَّ رأى أن ابن أبي عامر أحق بالحجابة من المصحفي.
 
أيًّا ما كان الأمر، لسبب مما سبق، أو لكل هذه الأسباب معًا، فلقد توطَّدت العلاقة بين غالب الناصري ومحمد بن أبي عامر، إلى الحدِّ الذي تنازل فيه غالب، عمَّا أبلاه وجنوده في الفتح، فنُسب ذلك كله إلى ابن أبي عامر، فأرسل الرسائل إلى قُرْطُبَة، تُشيد بما كان منه ومن بطولته وجهاده، وعظم الفتح الذي تمَّ على يديه، ثم اتفقا على عزل المصحفي، ذلك الحاجب الضعيف متردِّد الرأي، وقال غالب لمحمد بن أبي عامر: "سيظهر لك بهذا الفتح اسم عظيم وذِكْر جليل، يشغلهم السرور به عن الخوض فيما تُحدثه من قصة، فإيَّاك أن تخرج عن الدار حتى تعزل ابن جعفر عن المدينة وتتقلدها دونه!؛ لأن ابن جعفر المصحفي كان متوليًا لقُرْطُبَة العاصمة، وعَزْل هذا الوالي أول طريق عزل المصحفي عن الحجابة.
 
عاد ابن أبي عامر إلى قُرْطُبَة، ومعه الغنائم والسبي، فاستمال بهذا الفتح الكبيرِ العامةَ والخاصةَ، وعَرفوا فيه حُسن النقيبة، وبُعد الهمة، فما كاد يصل ابن أبي عامر إلى قُرْطُبَة، حتى أمر الخليفة في اليوم نفسه، بعزل محمد بن جعفر المصحفي عن مدينة قُرْطُبَة، وتولية ابن أبي عامر المدينة، فأظهر ابن أبي عامر في حُكم المدينة كفاءة منقطعة النظير.
 
ولما رأى الحاجب جعفر المصحفي، ما آل إليه أمر ابن أبي عامر من القوة، وما بدا من تضعضع قوته وانحسار نفوذه، بادر إلى استمالة غالب، فخطب ابنة غالب لابنه، وما أن علم ابن أبي عامر بالأمر، حتى أرسل إلى غالب يُناشده العهد، ويخطب ابنة غالب لنفسه، وسانده في ذلك أهل دار الخلافة، فخرج طلب خطبة أسماء إلى ابن أبي عامر من قصر الخلافة في الزهراء، وبهذا كان الميزان  كله في صالح ابن أبي عامر، فوافق غالب على تزويج ابنته أسماء له، وتم عقد القران بالفعل في المحرم سنة (367هـ)، وعندها أيقن المصحفي بالنكبة، وكفَّ عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء، وانفضَّ الناس عن المصحفي، وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قُرْطُبَة ويروح، وهو وحده وليس بيده من الحجابة سوى اسمها.
 
 
نهاية جعفر المصحفي:
 
وبعد أن تمَّ عقد قران ابن أبي عامر على أسماء ابنة غالب، خرج ابن أبي عامر في غزوته الثالثة، فخرج إلى طليطلة في غرَّة صفر 367هـ، واجتمع مع صهره غالب، ونهضا معًا إلى الشمال النصراني، فافتتحا حصن المال، وحصن زنبق، ودخلا مدينة شلمنقة، واستولوا على أرباضها، ثم عاد ابن أبي عامر بالغنائم والسبي، وبعدد كبير من رءوس النصارى، بعد أربعة وثلاثين يومًا من خروجه، فزادت حفاوة الخليفة به، وقلده خُطَّة الوزارتين للتسوية بينه وبين صهره، ورفع راتبه إلى ثمانين دينارًا في الشهر، وهو راتب الحجابة في ذلك الوقت، ثم زُفت أسماء بنت غالب إلى محمد بن أبي عامر في ليلة النيروز من قصر الخليفة في عرس لا مثيل له في الأندلس، ثم قلَّده الخليفة خُطَّة الحجابة إلى جانب جعفر المصحفي.
 
ثم تغيَّر الخليفةُ على جعفر وسخط عليه، وأمر بعزله هو وأولاده وأقاربه عن أعمالهم في الدولة، والقبض عليهم، فسارع محمد بن أبي عامر إلى محاسبتهم، حتى استصفى كل أموالهم، ومزَّقهم كل ممزق، وأيقن جعفر المصحفي بأنه هالك لا محالة، فحاول استرضاء ابن أبي عامر، إلاَّ أن ذلك لم يُجْدِ شيئًا، حتى توفي سنة (372هـ) في سجنه، وقيل: قُتل. وقيل: دست إليه شربة فيها سُمّ.
 
 
وفاة الحاجب رحمه الله:
 
توفي محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور في 27 رمضان 392 هـ في مدينة سالم، وهو عائد من إحدى غزواته على برغش، التي أصيب فيها بجروح، وكان قد أوصى بأن يدفن حيث مات، كان يشتكي علة النقرس، وقد ترك المنصور من الولد اثنين عبد الملك وعبد الرحمن، غير ابنه عبد الله الذي قتل عام 380 هـ.  وقد بلغت غزواته التي غزاها بنفسه 57 غزوة، لم يهزم في أحدها قط.
 
 
 
وقد وضعت على قبره رخامة نُقِش عليها الأبيات التالية:
 
آثاره تنبيك عن أخباره *** حتى كأنك بالعيان تراه
 
تالله لا يأتي الزمان بمثله *** أبدًا ولا يحمي الثغور سواه 
 
المصدر: رسالة الإسلام
  • 3
  • 0
  • 13,420

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً