طرق تصحيح العقد الفاسد

منذ 2014-01-28

قد جاء هذا البحث في ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف العقد الفاسد. المبحث الثاني: آراء العلماء في تصحيح العقد الفاسد. المبحث الثالث: أسباب الفساد وطرق التصحيح. الخاتمة.

 

تمهيد:

الحمد لله ربِّ العالمين، فاطر السموات والأرض وخالق البشر أجمعين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد:

فلقد اهتم فقهاؤنا الأجلاء بفقه المعاملات المالية اهتماماً كبيراً، فألفت فيه المؤلفات، وصنفت فيه المصنفات، وشرحت فيه المدونات.

ولقد أولى الفقهاء العقود من جهة التقسيم والترتيب والتبويب عناية خاصة، وذلك للتسهيل في فهمها واستيعاب أحكامها، ومن أبرز ذلك العقد من جهة الصحة وعدم الصحة إلى قسمين، كما هو رأي الجمهور، أو ثلاثة كما هو رأي الحنفية، وهو الصحيح والباطل والفاسد.

فذكروا لتلك التقسيمات الأحكام المتعلِّق بها من التعريف، والفرق بين الباطل والفاسد، وأسباب الفساد والبطلان، والتصرُّف في المبيع إذا كان باطلاً أو فاسداً وغيرها من الأحكام الأخرى.

إلا أن هناك مسألة تتعلَّق في هذا الباب لم يُسلِّط الضوء عليها ولم تعطَ مزيداً من البحث والدراسة وهي إذا اعترى العقد بعض الأسباب التي تقدح في صحته وإمضائه، فهل يُلقى هذا العقد ويصار إلى عقد جديد؟ أم يُصحَّح هذا العقد إذا أمكن تصحيحه؟ وما هي طرق التصحيح؟


 

لذلك جاء هذا البحث لدراسة هذا الموضوع وبيان آراء العلماء في حكم التصحيح، وذكر بعض الطرق التي يمكن أن يُصحَّح بها العقد الفاسد.

وقد جاء هذا البحث في ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف العقد الفاسد.
المبحث الثاني: آراء العلماء في تصحيح العقد الفاسد.
المبحث الثالث: أسباب الفساد وطرق التصحيح.
الخاتمة.

والله تعالى أسأل أن يوفقني إلى الخير والصواب، وأن يُجنبني الزلل والضلال، فإن أحسنت فبتوفيق من الله وحده، وإليه يُردُّ الخير كله، وإن أخطأت وقصَّرت فمني ومن الشيطان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المبحث الأول: تعريف العقد الفاسد



 

المطلب الأول: تعريف العقد لغة واصطلاحاً

أولاً "العقد لغة: العهد، والجمع عُقود، وهي أوكد العُهود. ويقال: عَهِدْتُ إلى فلانٍ في كذا وكذا، وتأويله أَلزمته ذلك، فإذا قلت: عاقدته أو عقدت عليه فتأويله أنك أَلزمته ذلك باستيثاق. والمعاقدة: المعاهدة. وعاقده: عاهده. وتعاقد القوم: تعاهدوا. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة من الآية:1]؛ قيل: هي العهود، وقيل: هي الفرائض التي أُلزموها؛ قال الزجاج: أَوفوا بالعُقود، خاطب الله المؤمنين بالوفاء بالعقود التي عقدها الله تعالى عليهم، والعُقود التي يعقِدها بعضهم على بعض على ما يوجبه الدين" (انظر ابن منظور، لسان العرب: [3/279]، الجوهري، مختار الصِّحاح: [1/186]).

ثانياً "العقد الفاسد لغة: من فَسَدَ الشيء يفسُد بالضم، فساداً فهو فاسدٌ وفَسُد بالضم أيضاً فساداً فهو فَسِيدٌ وأفْسَدَهُ ففسَد ولا تقل انفسد والمَفْسَدَةُ ضد المصلحة" (لسان العرب: [3/335]، مختار الصِّحاح: [1/221]).

العقد الفاسد اصطلاحاً: للعلماء في تعريف العقد الفاسد اتجاهان

الاتجاه الأول:



 

وهو رأي جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة حيث عرفوا العقد الفاسد بجملة من التعريفات، منها ما عرفه البصري بقوله هو: "ما لم يستوفِ شرائطه التي يتوقف عليها حصول الغرض بالفعل" (البصري، المعتمد: [1/184]).

وعرَّفه السمعاني بأنه "ما لا يتعلَّق به النفوذ، ولا يحصل به المقصود" (السمعاني، قواطع الأدلة: [41]).

وعرَّفه البيضاوي بقوله: "كون الشيء لم يستتبع الغاية" (البيضاوي، انظر المنهاج مع نهاية السول: [1/96]).

وهذه التعريفات تَصبٌ في مجملها على عدم حصول الغرض والغاية من هذا الفعل.

الاتجاه الثاني:



 

وهو رأي الحنفية حيث عرَّفوا العقد الفاسد بأنه: "ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه" (البخاري، كشف الأسرار: [1/380]).

"فالجمهور قسَّموا العقد إلى قسمين صحيح وغير صحيح (فاسد أو باطل)، أما الحنفية فقسَّموا العقد إلى ثلاثة أقسام: صحيحٌ، وفاسدٌ، وباطل، فالصحيح والباطل قسم مشترك بين الحنفية والجمهور من حيث ثبوت حكمهما والآثار المترتبة عليهما، وإن كان هناك اختلاف لفظي في تعريفهما.

أما العقد الفاسد؛ فخالف فيه الحنفية الجمهور من حيث التعريف والآثار المترتبة عليه، ويرجع بعض العلماء الخلاف في ذلك إلى قضية أصولية وهي فهم أثر النهي الصادر عن الشرع، فهل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟ ثم هل يستوي النهي عن ركن من أركان العقد مع النهي عن وصف عارض للعقد لازم له أو غير لازم؟" (الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي: [4/3087]).

وسيأتي مزيد بحث في المبحث الثالث.

"فالجمهور يرون أن نهي الشارع عن عقد ما يعني عدم اعتباره أصلاً، وإثم من يُقدِم عليه، ولا فرق بين النهي عن ركن من أركان العقد أو النهي عن وصف عارض للعقد ملازم له أو غير ملازم" (الباجي، إحكام الفصول: [126]، الشيرازي، شرح اللمع: [1/297]، الطوفي، شرح مختصر الروضة: [2/430]).

أما الحنفية فيرون: "أن نهي الشارع قد يكون معناه إثم من يرتكبه فقط لا إبطاله، ويفرق بين النهي الراجع إلى أصل العقد -أي الخلل في الصيغة أو العاقد أو في المحل-، فيقتضي بطلان العقد وعدم وجوده شرعاً، وبين النهي العائد لأمر آخر كوصف من أوصاف العقد ملازم له، فيقتضي بطلان هذا الوصف فقط، ولا يتعدى البطلان إلى أصل العقد" (الجصاص، الفصول في الأصول: [1/336]).

ومع ذلك؛ نجد أن هذا الأمر ليس على إطلاقه، فهناك مسائل دخلها فساد ومع ذلك أجازها الجمهور، ومسائل دخلها الفساد أبطلها الحنفية، وسيأتي مزيد بيان ذلك في المبحث الثالث.

المبحث الثاني: آراء الفقهاء في تصحيح العقد الفاسد

اختلف العلماء في المسألة على قولين:

القول الأول: "أن العقد إذا وقع فاسداً فلا يمكن تصحيحه، وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة، والمالكية في قول" (أصول الفتيا، الخشني: [117]).

فقد قال الماوردي الشافعي: "العقد إذا وقع فاسداً لا يصح بزوال ما وقع فاسداً" (الحاوي الكبير، الماوردي: [6/39]).

وقال البهوتي الحنبلي: "العقد الفاسد لا ينقلب صحيحاً" (الحاوي الكبير، الماوردي: [6/39]).

ولكن أصحاب هذا القول لم يُدلِّلوا عليه، ولم أجد في كتب الفقه استدلالاً واضحاً يؤيد هذا الرأي، ولعل هذا الفريق اكتفى بما ذكره الأصوليون عند تناول المبحث المتعلِّق في دلالة النهي، ولعل عدم تصحيح العقد الفاسد يرجع إلى أن الجمهور قسَّموا العقد إلى صحيح وفاسد، فالصحيح هو ما ترتَّب أثره المقصود للمكلّف، والفاسد خلاف ذلك، ويترتَّب على ذلك أن العقد إذا فقد مشروعيته فلا يمكن أن يصحح "ذلك أن الحرمة والمشروعية متنافيان، إذ المشروعية هي الإباحة أو القربة والطاعة، ولا يجتمع قصد القربة والمعصية" (الدريني، بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي: [1/284]).

وقد أشار الشوكاني إلى أن العلماء في جميع الأمصار لم يزالوا يستدلون على أن النهي يقتضي الفساد -البطلان- في أبواب الربويات، والأنكحة، والبيوع، وغيرها (الشوكاني، إرشاد الفحول: [193]).

وبعض العلماء يستدل على عدم جواز تصحيح العقد الفاسد بما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (صحيح مسلم - باب نقض الأحكام الباطلة: [3/1343]).

يقول ابن القيم رحمه الله: "وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده وعدم اعتباره في حكمه المقبول ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً إذ الباطل قد يقال لِما لا نفع فيه أو لما منفعته قليلة جداً وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتَّب عليه مقصوده أصلاً" (ابن القيم، حاشية ابن القيم: [6/169]).

"ويرى بعضهم أن تصحيح العقد الفاسد والمشتمِل على الوصف المقتضي لتحريمه وفساده جمع بين النقيضين فإن الصحة إنما تنشأ عن المصلحة والعقد المحرَّم لا مصلحة فيه بل هو منشأ لمفسدة خالصة أو راجحة" (ابن القيم، حاشية ابن القيم: [6/168]).

"وقد ذكر الأصوليون من الجمهور جملة من الأدلة استندوا عليها تحمل في مجملها على عدم إمكانية تصحيح العقود الفاسدة، إلا أن الغالب على هذه الاستدلالات أنها عقلية محضة، وهناك ردود واعتراضات والرد على الاعتراضات يرجع إليها في مظانها" (انظر على سبيل المثال: الغزالي، المستصفى: [2/101]، الأنصاري، فواتح الرحموت: [1/377]، ابن قدامة، روضة الناظر: [2/656]، القرافي، نفائس الأصول: [4/1769]، الآمدي، الإحكام: [2/299]).

القول الثاني: "ذهب الحنفية والمالكية في قول إلى أن العقد الفاسد يمكن تصحيحه بحذف المفسد، مع الاختلاف في بعض التفاصيل بين المذهبين" (انظر بدائع الصنائع، الكاساني: [7/178]، منح الجليل).

وأساس التصحيح عند الحنفية أنهم يُفرِّقون بين العقد الباطل والفاسد فيرون أن العقد الباطل لا يترتَّب عليه شيء من آثار العقد فيصبح كالمعدوم، أما الفاسد فقد فرَّقوا بين الفساد الضعيف والفساد القوي، فالفساد القوي لا يمكن تصحيحه بخلاف الضعيف، وقد وضع الحنفية معياراً للفساد القوي، وأسوق هذا المعيار من كلام الكاساني حيث يقول: "الأصل عندنا أن يُنظر إلى الفساد، فإن كان قوياً بأن دخل في صلب العقد -وهو البدل أو المبدل- لا يحتمل الجواز برفع المفسد، كما إذا باع عبداً بألف درهم ورطل من الخمر، فحط الخمر عن المشتري فهو فاسد ولا ينقلب صحيحاً. وإن كان الفساد ضعيفاً، وهو ما لم يدخل في صلب العقد، بل في شرط جائز يحتمل الجواز برفع المفسد، كما في البيع بشرط خيار لم يوقت، أو وقت إلى وقت مجهول كالحصاد، أو لم يذكر الوقت، وكما في البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول، فإذا أسقط الأجل من له الحق فيه قبل حلوله وقبل فسخه جاز البيع لزوال المفسد" (بدائع الصنائع، الكاساني: [5/178]).

وقد ذكر ابن رشد أن: "سبب الخلاف في تصحيح العقد الفاسد بناء على أن الفساد هل هو معقول المعنى أو غير معقول؟ فإن قلنا غير معقول المعنى لم يرتفع الفساد بارتفاع المفسد، وإن قلنا معقول ارتفع الفساد برفع المفسد" (بداية المجتهد، ابن رشد: [3/66]).

ولا شك أن الغالب على القضايا المالية أنها معقولة المعنى، ومن جهة أخرى فإن ما ذهب إليه الحنفية هو أيسر للمتعاقدين، وألصق بقواعد الشريعة التي تنص على رفع الحرج وتصحيح العقود بقدر الإمكان (انظر ابن تيمية، مجموع الفتاوى: [29/466]، الكاساني، بدائع الصنائع: [5/217]، السرخسي، المصدر نفسه: [18/85]).

المبحث الثالث: أسباب فساد العقد وطرق التصحيح

ذكرت سابقاً؛ أن الجمهور لا يُفرِّقون بين العقد الفاسد والباطل، أما الحنفية فيُفرِّقون بينهما، وعلى ذلك ما يكون فاسداً عند الحنفية هو بالأصل فاسد أو باطل عند الجمهور وليس بالعكس، وبناء على ذلك سأقتصر على ذكر أهم أسباب الفساد التي وضعها الحنفية، ومن ثم ذكر طرق التصحيح لكل سبب:

السبب الأول: عدم القدرة على التسليم إلا بتحمل الضرر

عدم القدرة على التسليم عقد باطل باتفاق الفقهاء[1]، وذلك كأن يبيع الإنسان سمكاً في الماء أو طيراً في الهواء، أما عدم القدرة على التسليم إلا بتحمُّل الضرر من قبل البائع فهو عقد فاسد عند الحنفية "لأن الضرر لا يستحق بالعقد ولا يلزم بالتزام العاقد إلا ضرر تسليم المعقود عليه، فأما ما وراءه فلا" (بدائع الصنائع، الكاساني: [5/168]، تبيين الحقائق، الزيلعي: [4/47]).

تصحيح العقد عند عدم القدرة على التسليم:

عدم القدرة على التسليم كما مرَّ سابقاً نوعان:

الأول: عدم القدرة على التسليم لكونه خارجاً عن يد البائع كالطير في الهواء أو السمك في الماء أو البعير الشارد، فهذا النوع باطل عند عامة الفقهاء، فإذا وقع فلا يمكن تصحيحه.

الثاني: عدم القدرة على التسليم إلا بتحمُّل الضرر من قبل البائع، فهذا النوع كأن يكون المبيع في موضع يشق على البائع تسليمه ويترتَّب على ذلك ضرر عليه كأن يبيع خشباً من سقف منزله أو حجراً من جدار داره.

فذهب الشافعية إلى أنه إذا ترتَّب على ذلك نقص في مال البائع فإن البيع يبطل؛ ذلك أن النقص فيه تضييع لمال البائع فيكون حراماً، واستثنوا من ذلك اقتطاع جزء من الأرض؛ لأن التمييز يحصل بوضع علامة بين المالكين من غير ضرر (أسنى المطالب، الأنصاري: [2/12]، تحفة المحتاج، ابن حجر الهيثمي: [4/243]).

وأما المالكية فذهبوا إلى أنه يجوز للبائع أن يبيع غير المقدور على تسليمه إلا بتحمُّل الضرر والمشقة كبيع عمود في بناء ولكن بشرطين:

أولهما: انتفاء إضاعة المال الكثير من جهة البائع، كأن يكون البناء ذا قيمة كبيرة وأخذ هذا العمود من البناء ينقصه بشكلٍ كبير.

الثاني: أن يأمَن المعقود عليه من الخراب عند إخراجه من كسر ونحوه، ويعرف ذلك عن طريق أهل الخبرة.

فإذا اختل هذان الشرطان فلا يجوز هذا البيع (شرح مختصر خليل، الحطاب: [5/20]).

وظاهر ما ذهب إليه الشافعية والمالكية فإن غير المقدور على تسليمه إلا بتحمُّل الضرر يبطل البيع إلا على النحو الذي ذكروه، فإذا بطل البيع فلا يُصار إلى تصحيحه.

أما الحنفية فذهبوا إلى أن غير المقدور على تسليمه إلا بتحمُّل ضرر يلحق بالبائع يفسد البيع؛ ذلك أن الضرر لا يستحق بالعقد، أما إذا سلّمه للمشتري فيجبر على أخذه ويمضي البيع ويصحح؛ إذ إن المانع من جواز البيع هو الضرر الذي يلحق بالبائع، وهنا قد سلَّمه باختياره ورضاه.

وقد فرَّق الحنفية بين غير المقدور على تسليمه بأصل الخلقة وغير أصل الخلقة، فغير أصل الخلقة كما مرَّ سابقاً كتسليمه خشباً في سقفه، أو حجارة من جداره.

أما أصل الخلقة كتسليمه إليه أو شعر من شاة حية أو نوى في تمر فهذا يبطل البيع ولا ينعقد حتى لو تم التسليم. وقد أشار ابن نجيم إلى مسألة بيع الصوف على ظهر الغنم، وقال: "بأن القياس يجيز هذا؛ لأنه يمكن تسليمه من غير ضرر يلزمه بالجز إلا أنهم استحسنوا عدم الجواز للنص وهو ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[2]؛ ولأن الجز من أصله لا يخلو عن الإضرار بالحيوان وموضع الجز فيما فوق ذلك غير معلوم فتجري فيه المنازعة" (ابن نجيم، البحر الرائق: [6/81]).

السبب الثاني: الجهالة؛ تنقسم الجهالة عند الحنفية بحسب محلها إلى ثلاثة أنواع: جهالة في المبيع، وفي الثمن، وفي الأجل. أما الجهالة بالنسبة للمبيع مثل أن يقول البائع: بعتك شاة من هذا القطيع أو ثوباً من هذه الثياب من دون تعيين فإن العقد يفسد.

أما بالنسبة للثمن: فإن كان في البلد عدة نقود رائجة فلا بد من تعيين نوع الثمن عند البيع، فإن لم يعين ذلك فإن البيع يفسد؛ لأنه يؤدي إلى جهالة مفضية للمنازعة، واستثنى في الفتاوى الهندية من هذا الفساد أمرين:

"الأول: أن يكون أحد النقود أكثر رواجاً من النقود الأخرى فيصرف إليه.

الثاني: أن تكون النقود سواء في الثمنية فيصح البيع وينصرف إلى أي نقد" (الفتاوى الهندية: [3/123]).

"أما الأجل فإن كان البيع إلى أجل من دون تحديد أجل معين فإن البيع يفسد؛ لأنه يؤدي إلى جهالة مفضية للمنازعة" (انظر بدائع الصنائع: [5/157]).

تصحيح العقد للجهالة:

إذا حصل في العقد جهالة للمدة التي يُسلِّم فيها الدين أو المبيع، سواء كانت الجهالة بعدم تحديد الأجل، أو كانت الجهالة بتحديد أجل لا يمكن معرفة حصوله كنزول المطر، أو قدوم فلان، أو الحصاد، فهذا مبطل للعقد عند الأئمة الأربعة، ذلك أن العقد يؤدي إلى المنازعة الشديدة ما بين المتعاقدين. ولا يمكن تصحيحه عند مالك وأحمد ورواية عن الشافعي، ذلك أن العقد إذا وقع فاسداً لا يمكن تصحيحه، وعلى ذلك إذا أراد البائع والمشتري إكمال الصفقة لا بد من إنشاء عقد جديد (النووي، المجموع: [9/224]).

وذهب الشافعية في رواية أن الأجل الصحيح إذا حدد في مجلس العقد قبل الافتراق يُصحِّح العقد، ذلك أن حكم مجلس العقد حكم حالة العقد (النووي، المجموع: [9/224]).

أما أبو حنيفة والصاحبان -خِلافاً لزفر- فذهبوا إلى تصحيح العقد لأجل الجهالة ولكن بشرطين:

"الأول: أن يُحدِّد المتعاقدان الأجل الصحيح قبل الافتراق، فإذا تفرَّقا قبل تحديد الأجل فالعقد باطل وعند ذلك لا يمكن التصحيح.

الثاني: أن يُحدِّد الأجل الصحيح قبل فسخ العقد من أحد المتعاقدين، فإذا فسخ العقد قبل تحديد الأجل، عند ذلك لا يمكن التصحيح" (الكاساني، بدائع الصنائع: [5/179]، الزيلعي، تبيين الحقائق: [4/60]).

وكأن الحنفية انتقل عندهم العقد على مرحلتين، الأولى فساد العقد ويمكن به التصحيح إذا وجد الشرطان، ثم انتقل إلى المرحلة الثانية وهو بطلان العقد الذي لا يمكن تصحيحه لاختلال الشرطين.

ثالثاً: الشرط المفسد

يشترط لصحة العقد أن يكون خالياً من الشروط المفسدة له، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء، إلا أنهم اختلفوا في ضبط الشرط المفسد للعقد، فالحنابلة يرون أن الشرط المفسد أمران:

"الأول: أن يشترط عقداً في عقد كأن يبيعه بشرط أن يشتري منه شيئاً أو يؤجره.

الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد كأن يشترط له ألا يبيع المبيع أو ألا يهبه" (ابن قدامة، المغني: [4/157]).

أما عند الشافعية "فضابط الشرط الفاسد هو الذي ينافي مقتضى البيع بأن يبيعه شيئاً بشرط ألا يبيعه ولا ينتفع به أو ألا يقبضه أو بشرط أن يبيعه غيره، أو يشتري منه أو يقرضه أو يؤجره أو إذا باعه لا يبيعه إلا له أو ما أشبه ذلك؛ فالبيع باطل في جميع هذه الصور وأشباهها لمنافاة مقتضاه، ولا فرق عندهم بين الشرط والشرطين" (المجموع، النووي: [9/454]).

أما عند الحنفية فالضابط عندهم هو:

"أن يكون الشرط مما لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، أو المعقود عليه وليس فيه تعامل للناس، فمثال الشرط الذي فيه منفعة للمشتري كأن يشتري منه ثوباً بشرط أن يخيطه، أو يشتري قمحاً بشرط حملانه إلى البيت.

وأما ما فيه منفعة للبائع كأن يبيع داراً بشرط أن يسكنها شهراً، أو أرضاً بشرط أن يزرعها سنة. وأما ما فيه منفعة للمعقود عليه كأن يبيع عبداً بشرط أن يعتقه" (تبيين الحقائق، الزيلعي: [4/5]).

أما المالكية "فضابط العقد الفاسد هو ما ينافي مقتضى العقد، وقد وضع المالكية قيداً للشرط المنافي للعقد وهو الشرط الذي فيه تحجير للمشتري في السلعة التي اشتراها، وهذا محل اتفاق بين عامة الفقهاء" (فتح العلي المالك: [1/344]).

تصحيح العقد بالشرط المفسد:

ذكرت سابقاً أن الشرط الفاسد مفسد للعقد عند الفقهاء مع الاختلاف في تحديده، ولكن إذا وقع العقد فاسداً بسبب هذا الشرط هل يمكن تصحيحه؟

بعد النظر في كتب الفقهاء وجدت أن تصحيح العقد بسبب الشرط الفاسد، محل اتفاق بين الفقهاء -خلافاً للشافعية-[3]، مع الاختلاف في صورة وضابط الشرط الممكن تصحيحه.

ويمكن حصر صور تصحيح العقد الفاسد بالشرط في قسمين:

الأول: الحكم بصحة العقد والتصرف فيه سواء أسقط الشرط أم لا.

الثانية: الحكم بصحة العقد والتصرف فيه إذا أسقط الشرط.

أما الصورة الأولى وهو الحكم بصحة العقد سواء أسقط الشرط أم لا، فضابط هذه الصورة عند الحنفية هو في الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولم يرد فيه الشرع ولا العرف بجوازه وليس فيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه ومثال ذلك لو شرط أحد المتعاقدين على الآخر ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه، فالشرط باطل والعقد صحيح[4]، وبمثل هذا الضابط ذهب المالكية[5]، ورواية عن الحنابلة (ابن قدامة، المغني: [4/224]).

وذكر العبدري في (التاج والإكليل): "أن هناك ست مسائل ذكرها الإمام مالك في المدونة أجاز فيها البيع وأبطل الشرط وهي إذا اشترط بيع الجارية عريانة والعبد كذلك، من باع على أن لا زكاة عليه، ومن باع على أن لا عهدة عليه، ومن باع على أن لا مواضعة عليه، ومن باع على أن لا جائحة عليه، ومن باع على أن المبتاع إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا وإلا فلا بيع له" (العبدري، التاج والإكليل: [4/499]).

وقد وضع ابن رشد ضابطاً للشروط المؤثرة في العقد، وقسَّمها إلى ثلاثة أقسام: "الشروط المؤثرة بشكل كبير في صحة العقد كالربا والغرر فإن العقد والشرط يبطلان، وما كان متوسطاً في التأثير فإن الشرط يبطل والعقد صحيح، وما كان خفيفاً فالشرط والعقد صحيحان" (ابن رشد، بداية المجتهد: [2/120]).

ولا شك أن الضابط الذي وضعه ابن رشد يحتاج لضبط أكثر، ذلك أن معرفة تأثير الشرط في العقد من ناحية الكثرة أو التوسط أو القلة يحتاج إلى توضيح، ولذلك المالكية قد اختلفوا في بعض مسائل الشروط ومدى تأثيرها في العقود.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى: "أن الشرط إذا كان مخالفاً لمقصود الشارع فإن الشرط يبطل والعقد صحيح كاشتراط الربا في القرض، واشتراط المؤجر على الأجير عدم الصلاة أو غيرها من الطاعات في المكان المؤجر، أما إذا كان الشرط مخالِفاً لمقصود العقد كاشتراط البائع للمشتري ألا يبيع المبيع أو هبته فإن الشرط والعقد يبطلان" (ابن تيمية، مجموع الفتاوى: [29/148]، [2912]).

أما الصورة الثانية وهو الحكم بالتصرُّف إذا ألغي الشرط فضابطه أن يخالف مقصود البيع كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع أو ألا يهب المبيع.

وقد ذكر ابن رشد سبب الخلاف في ذلك هو: "أن الفساد الواقع بسبب الشرط هل يتعدى إلى العقد أم لا؟ فمن قال يتعدى أبطل البيع وإن أسقط الشرط، ومن قال لا يتعدى قال بصحة البيع إذا أسقط الشرط" (ابن رشد، بداية المجتهد: [2/ 160-161]).

رابعاً: البيع بالإكراه

يشترط في البيع الصحيح عند الفقهاء أن يكون البيع عن تراض بين البائع والمشتري، فإذا أكره أحدهما على البيع بحيث انعدم الاختيار، فإن البيع يفسد عند الحنفية[6]، أما عند الجمهور فالبيع باطل إلا إذا أجازه المكرَه (الدسوقي، حاشية الدسوقي: [2/2]، ابن قدامة، المغني: [6/353]، القليوبي، حاشية القليوبي: [2/156]).

تصحيح البيع في حالة الإكراه:

ذهب الحنفية إلى: "أن الإكراه في العقود والتصرُّفات المالية إما أن يكون ملجئاً أو غير ملجئ، فإن كان ملجئاً بأن يكون التهديد بإتلاف نفس أو عضو منها، فإن العقد يبطل، والعقد الباطل لا يصحح عند الحنابلة، والسبب في ذلك أن هذا النوع من الإكراه يعدم الرضا ويفسد الاختيار" (الكاساني، المبسوط [24/48]، ابن الهمام، فتح القدير [7/298]).

"أما الإكراه غير الملجئ وهو الذي لا يفوت على النفس أو بعضاً منها، كالحبس والضرب بما لا يؤدي إلى القتل، فهذا يفسد العقد ولا يبطله، والسبب في ذلك أنه يعدم الرضا ولكن لا يفسد الاختيار، وذلك لعدم اضطرار المكره إلى الإتيان بما أكره عليه، لتمكنه من الصبر على تحمل ما هدد به، وهذا النوع من الإكراه يمكن أن يُصحّح بإجازة المكره لهذا لا عقد، فإذا أجاز مضى البيع وأصبح لازماً، ذلك أن المانع من البيع هنا هو الإكراه وقد زال" (الكاساني، بدائع الصنائع: [7/188]).

أما الأئمة الثلاثة فلم أجد في كتبهم ما يدل على تصحيح العقد من عدمه في حالة الإكراه، ولكن أصول مذاهبهم وقواعده تقتضي عدم تصحيح العقد في حالة البطلان.

خامساً: الربا

"يشترط لصحة العقد أن يكون خالياً من الربا، فإذا وجد الربا فإنه يفسد العقد عند الحنفية" (بدائع الصنائع، الكاساني: [5/183]).

"ويفسد أو يبطل عند الجمهور" (المغني، ابن قدامة: [4/25]، المجموع، النووي: [9/319]، الفواكه الدواني، النفراوي: [2/73]).

ذلك أن الربا محرم بنص القرآن في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة من الآية:275].

تصحيح العقد عند اشتراط الربا:

إذا اشترط الربا في العقد فإن العقد يفسخ عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة (ابن قدامة، المغني: [4/45]، النووي، المجموع: [9/415]، الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير [3/54]).

وأن من أربى ينقض عقده ويرد فعله وإن كان جاهلاً؛ لأنه فعل ما حرمه الشارع ونهى عنه، والنهي يقتضي التحريم والفساد، لما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رِبا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع رِبانا: ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله» (صحيح مسلم - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم: [2/882]).

قال النووي في شرح الحديث: "المراد بالوضع الرد والإبطال" (النووي، شرح النووي على صحيح مسلم: [8/182]).

قال ابن رشد: "من باع بيعاً أربى فيه غير مستحل لربا فعليه العقوبة الموجعة إن لم يعذر بجهل، ويفسخ البيع ما كان قائماً" (ابن رشد، المقدمات: [503]).

"وذهب الحنفية أن اشتراط الربا في العقد مفسد للعقد وليس مبطلاً له، فيملك المبيع في البيع الفاسد بالقبض، بخلاف البيع الباطل الذي لا يترتب عليه شيء، فالبيع الفاسد (بالربا) عندهم أن العوض يملك بالقبض ويجب رده لو قائماً، ورد مثله أو قيمته لو مستهلكاً، وعليه فإنه يجب رد الزيادة الربوية لو قائمة، لا رد ضمانها" (الكاساني، المبسوط: [12/109]، ابن نجيم، البحر الرائق: [6/136]).

قال ابن عابدين: "وحاصله أن فيه حقين، حق العبد وهو رد علينه لو قائماً ومثله لو هالكاً، وحق الشرع وهو رد عينه لنقض العقد المنهي عنه شرعاً، وبعد الاستهلاك لا يتأتى رد علينه فتعين رد المثل وهو محض حق العبد" (ابن عابدين، رد المحتار: [4/177]).

سادساً: تصحيح العقد عن طريق تفريق الصفقة

إذا اشتملت الصفقة على صحيح وفاسد، أو ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فهل يوجب ذلك فساد باقي الصفقة؟ أم أن هناك طرقاً لتصحيح الصفقة. لا شك أن المذاهب الفقهية الأربعة تصحح العقد عن طريق تفريق الصفقة، ولكنهم مختلفون في تفصيل هذا التفريق؛ ولذلك ارتأيت أن أذكر كل مذهب على حدة لتقريب الآراء للقارئ.

مذهب الحنفية: "إذا جمع في الصفقة بين ما يملكه وما لا يملكه، كداره ودار غيره، فيصح البيع، وينفذ في ملكه بقسطه من الثمن باتفاق أئمتهم، ويصح في ملك غيره موقوفاً على الإجازة. أما إذا جمع فيها بين ميتة ومذكاة أو خل وخمر، فيبطل فيهما، إن لم يسم لكل واحد ثمناً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. أما إذا سمّي لكل واحد منهما ثمناً، فاختلفوا فيها:



 

فذهب أبو حنيفة إلى أن البيع يبطل فيهما، ذلك أن الميتة والخمر ليسا بمال، والبيع صفقة واحدة، فكان القبول في الميتة كالمشروط للبيع في المذبوحة، وهو شرط فاسد للعقد مفسد للعقد في المذبوحة.

وذهب الصاحبان إلى صحة العقد في الحلال بقسطه من الثمن، إذا سمى لكل منهما قسطاً من الثمن، ذلك أن الفساد لا يتعدى المحل المفسد، وهو عدم المالية في الميتة، فلا يتعدى إلى غيرها؛ لأن كلاً منهما قد انفصل عن الآخر بتفصيل الثمن" (انظر السرخسي، المبسوط: [13/4]، الدبوسي، تأسيس النظر: [10]).

مذهب المالكية: "إذا جمعت الصفقة بين حلال وحرام بطلت عندهم، إذا علم العاقدان الحرام أو علِمه أحدهما، أما إذا لم يعلما، كأن باع قلتي خل وخمر على أنهما خلٌّ، فبانت إحداهما خمراً، فله التمسك بالباقي بقسطه من الثمن، ويرجع على البائع بما يخص الخمر من الثمن لفساد بيعه" (انظر مالك، المدونة: [3/553]، المواق، التاج والإكليل: [6/85]).

مذهب الشافعية: ذهبوا إلى أن تفريق الصفقة قسمان: "إما في الابتلاء أو في الدوام" (هناك قسم ثالث لكنه لا يتعلق بالصفقة من جهة الجواز وعدم الجواز، لكن يتعلق باختلاف الحكم، كالجمع ما بين الإجارة والبيع، والإجارة والسلم).

أما في الابتداء "فإذا جمعت الصفقة بين حلال وحرام كخل أو خمر، أو باع ملكه وملك غيره بغير إذن صاحبه، فيصح البيع فيما يجوز بيعه من الحلال، ويملكه بقسطه من الثمن، وفي قول: يبطل فيهما جميعاً، وهذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي في الجديد" (الشربيني، مغني المحتاج: [2/40]، الأنصاري، فتح الوهاب: [1/287]).

أما في الدوام وهو "أن يجمع في الصفقة بين أشياء فيتلف أحدها قبل القبض، فهنا لا ينفسخ العقد، والمشتري بالخيار إما فسخ العقد، وإما إمضاؤه بالباقي بقسطه من الثمن" (الشربيني، مغني المحتاج: [2/40]، الأنصاري، فتح الوهاب: [1/287]).

مذهب الحنابلة: قسَّموا المسألة إلى ثلاثة أقسام

"الأول: أن يبيع معلوماً ومجهولاً صفقة واحدة، كأن يقول بعتك هذه الفرس، وما في بطن الفرس الأخرى، فهذا البيع باطل بلا خلاف في المذهب، ذلك أن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن ولا سبيل إلى معرفته؛ لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، والمجهول لا يمكن تقويمه فيتعذر التقسيط" (ابن مفلح، المبدع: [4/38]).

"الثاني: أن يكون المبيعان مما ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء كدار مشتركة بينه وبين غيره، فهذه المسألة فيها وجهان في المذهب" (ابن قدامة، المغني [4/162]، البهوتي، كشاف القناع: [3/177]):

الوجه الأول: يصح البيع في ملكه بقسطه من الثمن ويفسد فيما لا يملكه، لأن كل واحد منهما له حكم لو كان منفرداً، فإذا جمع بينهما ثبت لكل واحد منهما حكمه.

الوجه الثاني: لا يصح هذا البيع، لأن الصفقة جمعت حلالاً وحراماً فغلب التحريم، ولأن الصفقة إذا لم يمكن تصحيحها في جميع المعقود عليه بطلت في الكل.

الثالث: أن يكون المبيعان معلومين مما لا ينقسم عليهما الثمن بالأجزاء كخل وخمر، فهذا يبطل البيع فيما لا يصح بيعه، أما الآخر ففيه روايتان، إحداهما بالجواز والأخرى بالمنع (ابن قدامة، المغني: [4/162]، البهوتي، كشاف القناع: [3/177]).

سابعاً: تصحيح العقد بتغييره إلى عقد آخر

قد يعتري العقد المراد إبرامه من قبل المتعاقدين بعض الإشكالات والملاحظات، مما يؤدي في إمضائه إلى بعض المحظورات والمخالفات الشرعية، ولكن يمكن أن يصحح هذا العقد بتغييره إلى عقد آخر سليم من هذه الإشكالات. وأصل هذه المسألة هي القاعدة الفقهية "العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني"[7] أو "هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟" (الزركشي، المنثور: [2/371]، السيوطي، الأشباه والنظائر: [166]).

ومعنى ذلك: "أن العقود ينظر إلى مقاصدها ومعانيها، وهي تلك القرائن اللفظية التي توجد في عقد فتكسبه حكم عقد آخر، ولا ينظر إلى الألفاظ التي يستعملها العاقدان حين العقد؛ لأن المقصود الحقيقي هو معنى العقد وليس لفظه" (كامل، القواعد الفقهية الكبرى وأثره في المعاملات المالية: [1/113]).

وعلى ذلك؛ إذا أمكن حمل العقد إذا كان فيه فساد إلى عقد آخر، فهذا أولى تصحيحاً للعقد وتيسيراً للمتعاقدين. وقد ذكر الفقهاء جملة من المسائل صحَّحوا فيها العقد بحمله إلى عقد آخر، من ذلك ما ذكره السيوطي: "لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثمن الأول، فهو إقالة بلفظ البيع؛ لأننا لو اعتبرنا اللفظ -وهو البيع- لم يصح؛ لأنه وقع على بيع المبيع قبل قبضه وهو بيع فاسد. وإن اعتبرنا المعنى إقالة، فهي إقالة صحيحة؛ لأن العقد شمل على جميع عنصر الإقالة" (السيوطي، الأشباه والنظائر: [166]).

وفي فتح القدير ذكر: "مسألة جعل الدراهم والدنانير مسلَّماً فيه، وجعل رأس مال السلم من العروض كالثياب والحبوب، فهذا لا يصح سلماً بالاتفاق؛ لأن المسلم فيه لا بد أن يكون مثمَّناً والنقود أثمان فلا تكون مسلَّماً فيها، ولكن هل يمكن تصحيح هذا العقد يجعله بيعاً في الثياب والحبوب بثمن مؤجل؛ فيه قولان، والذي رجحه صاحب فتح القدير هو أن العقد لا يبطل بل يجعل هذا العقد بيعاً تصحيحاً للعقد" (ابن الهمام، شرح فتح القدير: [7/73]).

وما ذكره أيضاً الزركشي: "فيمن قال لشخص ساقيتك على هذه النخيل مدة كذا بدراهم معلومة، فلو حملنا العقد على أنه مساقاة فإنها فاسدة، إذ إن المساقاة لا تكون بالدراهم، وإنما بما يخرج من الثمر، فيحمل هذا العقد على الإجارة تصحيحاً للعقد" (الزركشي، المنثور: [2/371]).

ثامناً: تصحيح العقد بتقييد الإطلاق في العقد

إذا كان العقد المطلق الذي أبرمه العاقدان يتخلَّلٌه الفساد بسبب هذا الإطلاق، فإنه يُقيَّد بما يزيل هذا الفساد تصحيحاً للعقد، وقد ذكر الفقهاء جملة من المسائل صححوا فيها العقد المطلق من ذلك:

- "لو دفع رجل ألف درهم لشخص مضاربة، على أنهما يشتركان في الربح ولم يُبين مقدار الربح فالأصل أن المضاربة تفسد، إلا أنه يُقيَّد هذا الإطلاق بحمل الربح على التساوي تصحيحاً للعقد" (الكاساني، بدائع الصنائع: [6/85]).

- "إذا استأجر شخص عاملاً على أن يعمل عنده عشرة أيام في عمل معلوم، ولم يبين هذه الأيام، فتكون الإجارة فاسدة؛ لأن الأيام غير معلومة، فتقيد هذه الأيام بما يلي العقد مباشرة تصحيحاً للعقد" (حيدر، درر الحكام: [1/571]).

الخاتمة:

توصّلتُ في هذا البحث المتواضع إلى عدة نتائج منها:

1- أن للعلماء في تعريف العقد الفاسد اتجاهين: أحدهما للجمهور حيث تصب تعريفاتهم في مجملها على عدم حصول الغرض والغاية من الفعل.

وأما الاتجاه الآخر وهو للحنفية حيث عرفوه بأنه ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه. وقد ترتَّب على الاختلاف في التعريف اختلاف في الفروع الفقهية.

2- أساس الاختلاف بين الجمهور والحنفية في مسألة تصحيح العقد الفاسد هو في النهي الوارد عن الشارع هل يقتضي فساد المنهي عنه؟ ثم هل يستوي النهي عن ركن من أركان العقد مع النهي عن وصف عارض للعقد لازم له أو غير لازم؟

3- تصحيح العقد الفاسد مدار خلاف بين الجمهور والحنفية، والذي يراه الباحث هو تصحيح العقد الفاسد بقدر الإمكان، ذلك أنه موافق لأصول الشريعة وقواعدها.

4- لتصحيح العقد الفاسد طرق كثيرة ذكرها الفقهاء وتدور في مجملها حول إزالة أسباب الفساد، ويمكن استنباط طرق جديدة تبعاً لتغير العقود وفق ما يستجد فيها من متغيرات.

ــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1]- (ابن قدامة، الكافي في فقه ابن حنبل: [2/11]، النووي، المجموع: [9/246]، ابن عبد البر، الكافي: [1/363]، السمرقندي، تحفة الفقهاء: [2/48]).

[2]- (رواه البيهقي - باب ما جاء في النهي عن بيع الصوف على ظهر الغنم: [5/340]، قال البيهقي: "تفرَّد برفعه عمر بن فروخ وليس بالقوي وقد أرسله عنه وكيع ورواه غيره موقوفاً").

[3]- (يُعتبر المذهب الشافعي من أكثر المذاهب تضييقاً في الأخذ بالشروط، فلا يعملون بالشرط إلا إذا كان مما يقتضيه العقد كتسليم المبيع، أو فيه شرط لمصلحة المتعاقدين كالخيار والرهن، وما سِوى ذلك من الشروط فإنه يبطل العقد. انظر الشربيني، مغني المحتاج: [2/31]، الشيراوي، المهذب: [1/265]).

[4]- (السرخسي، المبسوط: [13/15]، ابن عابدين، رد المحتار: [4/126]).

[5]- (الدردير، الشرح الكبير: [3/65]).

[6]- (ابن عابدين، حاشية ابن عابدين: [5/83]).

[7]- (القواعد، البركتي: [91]).

 

 

إبراهيم علي الطنيجي
 

  • 3
  • 0
  • 29,997

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً