لا أحب الآفلين

منذ 2014-02-23

الله عز وجل هو أظهر ما يكون لسليم الفطرة فهو ظاهر لبصيرته، فيكون يقينه بوجوده أكبر من يقينه بالحسوسات المادية. وفي الوقت ذاته، فإن الله عز جل هو أخفى ما يكون عن الحواس الخمسة المُفرغَة من الروح السامية والعقل الزكي الذكي.

كانت حجته البالغة على قومه، إبراهيم عليه السلام، كان يدرك أن قومه يؤمنون بوجود ربهم ولكنهم ضلوا الطريق في التعرف عليه فأراد أن يرشدهم بشكل عملي.

قال الله في كتابه الكريم {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75-79].

 

  • القواعد التي اتبعها نبي الله أمام قومه في التعرف على الإله:

    1- أن من صفات المخلوق الأفول والغياب. ولذلك فقد رفض كل ما كان مآله إلى الأفول.

    2- أن وجود الله مسلم به لنبهاء البشر فلا محل لعاقل نابه للحيرة في هذا الأمر. وإنما تكون الحيرة والتساؤل في التعرف على الإله وعلى ما الدور الذي أراده لنا أن نقوم به في الكون من الميلاد إلى الوفاة.

    3- أن معرفة الإله وصفاته والدور الذي أراده لنا أن نقوم به في الكون لابد لها من الاستعانه بالإله نفسه. فهو أقدر من العقل البشري على التعريف بنفسه.

     
  • تأمل أعمق في حجة الأفول:

    إن إبراهيم عليه السلام قدم سبيل الإيمان في حجته على قومه بطبيعة وجود الله عز وجل بالرغم من عدم رؤيته له! وقد رأينا أنه يكره الأفول ويعتقد أن صفة الأفول يستحيل وجودها في الإله الحق، لقد فكر إبراهيم عليه السلام بجلاء غريب ونفوذ بصيرة مدهش، لقد وجد أن كل ما هو ظاهر لحواسنا المادية مآله إلى الأفول، وأنه لكي يجد الإله الحق الذي لا يأفل يجب ألا يبحث في فئة المُدركات المادية، فيجب أن يكون الله غير مدرك بحواسنا المادية حتى يجوز بديهيًا أن يتوفر فيه صفة عدم الأفول، وهكذا نرى عجباً، نرى أن إبراهيم عليه السلام توصل بقريحته المفطورة على التفكير العميق الجلي إلى أنه لكي تتوفر صفة عدم الأفول يجب أن يصاحبها شرط عدم الظهور المادي، فالله عز وجل هو غير آفل ولذلك فإنه يستحيل ظهوره لحواسنا الخمسة المادية! فالظهور لحواسنا المادية وعدم الأفول لا يجتمعان.
    ملحوظة: هذا الأمر مُطَبَق في الحياة الدنيا فقط فقواعد الآخرة مختلفة ولا مجال لسرد الاختلاف في هذا المقال.
     
  • حاسة الروح:

    إن الإنسان تعرف على الله عز وجل بإحساسه العميق بوجوده وهذا هو أصل الإيمان بوجود الله. فالمؤمن يحس بوجود الله عز وجل دون أن يدركه بحواسه المادية. ولكنها الروح، ذلك السر العجيب الذي يستخدم أجسامنا في التعايش مع الكون المادي. هذه الروح لها قدرة البصيرة التي ترى بها الله عز وجل رؤية أعمق وأجلى من رؤية البصر المحدودة.
     
  • أدلة وجود الله ... لماذا؟

    إن استخدام الاستدلال على وجود الله هو من باب إزالة الدرن عن حاسة البصيرة الروحية. ونسرد بعض الأدلة على سبيل المثال لا الحصر:
    1- اكتشاف بداية للكون وأنه محدود زمانًا ومكانًا وذلك ضد ما كان سائداً في طفولة البشرية العلمية، وبالتالي فإن وجود بداية للكون أصبحت حقيقة لا ريب فيها ولابد لكل حدث أن يكون له مُحدث.

    2- الحياة واستحالة خلقها باستخدام العلم البشرى مهما ربا وتطاول، وقد تم التحدي بخلق ذبابًا أمد الدهر في القرءان الكريم، وهذا التحدي وإن كان دليلًا على وجود الله وتفرده بخلق الحياة فإنه يدل أيضًا أن القرءان الكريم هو من لدن العزيز الحكيم.

    3- وضع قوانين الطبيعة من لدن الله تعالى وطاعة الكون لها طاعةً لله، حيث أن كل تصرف في الكون يمكن نظريًا "تبريره" بسلسلة من "الأسباب" تنتهي بالقوانين الأساسية للكون، ولكن من ألف هذه القوانين؟ واختارها بعناية تفوق التصور البشري؟ إنه الله تعالى.

    4- قيومية الله على هذه القوانين حفاظًا على استقرارها (من حيث صيغها الرياضية وقيم ثوابتها الفيزيائية) وإمساكًا بهذا الاستقرار الكون أن يزول.

    وأقول أن مثل هذه الأدلة وغيرها هي ليست للإنسان المؤمن بفطرته والمتمتع بحاسته الروحية التي يدرك بها معية الله وقيومته، بل أن هذه الأدلة هي كالدواء الذي يساعد من تلوثت فطرته وحاسته الروحية لكي يعود إلى صوابه باستخدام العقل ويجلى بصيرته من أدرانها، فينير الله حياته من جديد بنوره الذي أنار به السموات والأرض، فوجود الله أثبت من أن يُبرهن عليه فهو وجود بديهي ولذلك فإن العقل يستدل على وجوده بآثار هذا الوجود ولكن يستحيل عليه برهان وجوده لأن البديهيات لا يُمكِنُ برهانها!.
     
  • الإلف يُفقد الإنسان احساسه:

    الإنسان لا يشعر بنعمة تنفسه للهواء من حوله ليل نهار بالرغم من قيام حياته بها ... لماذا؟ لأنه تعود على وجودها حتى أنه لا يكاد يشعر بها بالرغم من دورها البالغ في حياة الإنسان فالإنسان عادةً ما ينسى شكر الله على منحه نعمًا لمجرد أنها مستديمة!! وقد لا ينسى شكر الله (إن كان مؤمناً بلغة عصرنا) على النعم المؤقتة!، مع أن العقل يقضي بأن النعم المستمرة أولى بالشكر من النعم المؤقتة!! يالها من غفلة مضحكة مبكية، بل إنه مما يدعو للسخرية أن كثيراً من الناس أبدلوا شكر النعمة المستمرة بالغضب والتبرم من غياب هذه النعمة أحيانًا، وكأن هذه النعمة أصبحت حقًا مُكتَسبًا. ياله من جحود أو غفلة أو كليهما.
     
  • إلحاد الغفلة ... معناه:

    الإلحاد هو أكبر انتكاسة للعقل البشري وأعظم ارتكاسة للروح الإنسانية، وأسباب الإلحاد وأنواعه كثيرة وليس هذا المقام مناسبًا لسرد أسباب وأنواع الإلحاد، ولكننا سنتناول بالبحث هنا نوع واحد من الإلحاد هو ما أسميه "إلحاد الغفلة". إن فئةً من الجنس البشرى من دوام تعودها منذ أن كانت سليمة الفطرة على الإحساس بالله فقدت هذا الإحساس لإلفه وعدم تجديده فانقلبت من عمق الإحساس بالله إلى إنكار وجوده بالكلية واعتبرت أن الموجودات هي محصورة في الكون المادي فقط بل وتوارثت هذا الاعتقاد من جيل لآخر. فلقد ذهبت حماقة الإنسان الملحد به إلى أن ينكر ما هو ليس بآفل لا لسبب إلا أنه ليس بآفل!!!
     
  • الوقاية من إلحاد الغفلة:

    والوقاية من الغفلة عامةً هو تدريب النفس على عدم الإلف والتعود، فلو أن الإنسان صلى لربه عز وجل حيث يكون العبد أقرب لله من أي وقت آخر ولاسيما وقت سجوده بتدبر وتفكر في كل صلاة كأنها صلاته الأولى لله عز وجل. ولو أن الإنسان تفكر دوماً في أن الأصل في النعم هو "عدم وجودها" وليس العكس و وأن الاستثناء "هو رزق الله" إيانا هذه النعم. لو طبق الإنسان المسلم هذا لَشَكر الله كل صباح أن مد له نعم الأمس إلى اليوم ولم يقبضها منه وبالتالي يظل على صلة وطيدة بالله عز وجل عقلياً ونفسياً فيقل احتمال فتنة إلحاد الغفلة بعون الله ومشيئته. ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بطريقة عملية بذكره دوماً للأذكار اليومية في الأوقات المختلفة حتى تكون هذه الأذكار جُنةً ووقاية لنا من الغفلة حيث أن الكثير منها هو شكر لله تعالى على نعمه الغامرة. ولا يفوتنا هنا أن ننبه أنه لا يجوز لنا أبداً أن نغفل عن معاني الأذكار المروية بسيب كثرة قولها فنألفها ونعتادها. فلا يُعقل أن نغفل عن معاني الأذكار التي تقينا الغفلة!!
     
  • الخلاصة: الله عز وجل هو أظهر ما يكون لسليم الفطرة فهو ظاهر لبصيرته، فيكون يقينه بوجوده أكبر من يقينه بالحسوسات المادية. وفي الوقت ذاته، فإن الله عز جل هو أخفى ما يكون عن الحواس الخمسة المُفرغَة من الروح السامية والعقل الزكي الذكي.

    وأخيرا أقول أن خفاء الله عز وجل عن حواسنا المادية مرتبط بقمة ظهوره تعالى لبصائرنا وعقولنا (عدم أفوله). فالله تعالى هو الظاهر الباطن.

    والله أعلى وأعلم 

أحمد كمال قاسم

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 4,573

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً