نعمة الكلام

منذ 2014-03-01

على المسلم أن يسأل نفسه قبل التكلم: هل هناك مقتضى للكلام؟ فإن وجد تكلم وإلا فالصمت أولى، بل إنه يثاب على صمته.


الحمد لله المنعم على عباده بنعم لا تعد ولا تحصى {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل من الآية:18]، وشكر النعمة يكون بحسن استعمالها {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم من الآية:7]، ونعمة الكلام من أجلِّ النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وفضله بها عن سائر المخلوقات قال تعالى: {الرَّحْمَـٰنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4].

وعلى قدر جلال النعمة يعظم حقها، ويستوجب شكرها، ويستنكر كنودها، وقد أرشدنا الإسلام إلى كيفية الاستفادة من هذه النعمة المسداة، فإنك لو ذهبت لتحصى كلام الناس لوجدت جله لغوًا ضائعًا، أو هذرًا مضيعًا، وما لهذا ركب الله تعالى الألسن في الأفواه.

قال تعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، وقد بينت الآية الكريمة أن جُلّ الكلام لا خير فيه إلا من ثلاث: أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، وهذه الثلاث لها أجر عظيم شريطة الإخلاص لله تعالى، ومن هنا فقد وضع الإسلام ضوابط للكلام منها:

- مقتضيات للكلام:

على المسلم أن يسأل نفسه قبل التكلم: هل هناك مقتضى للكلام؟ فإن وجد تكلم وإلا فالصمت أولى، بل إنه يثاب على صمته.

عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: سمِعتُه يقولُ: «خمسٌ لهنَّ أحسنُ من الدُّهْمِ المُوقَفةِ: لا تَكلَّمْ فيما لا يعنيك، فإنَّه فضلٌ ولا آمَنُ عليك الوِزرَ، ولا تَكلَّمْ فيما لا يعنيك حتَّى تجِدَ له مَوضعًا، فإنَّه رُبَّ مُتكلِّمٍ في أمرٍ يعنيه قد وضعه في غيرِ موضعِه فعُيِّب، ولا تُمارِ حليمًا ولا سفيهًا، فإنَّ الحليمَ يُقليك، وإنَّ السَّفيهَ يُؤذيك، واذكُرْ أخاك إذا تغيَّب عنك بما تحِبُّ أن يذكُرَك به، وأعْفِه ممَّا تُحِبُّ أن يُعفيَك منه، واعمَلْ عملَ رجلٍ يرَى أنَّه مجازًى بالإحسانِ مأخوذٌ بالإجرامِ». (الترغيب والترهيب) [4/26].

ولا يتأتى ذلك إلا إذا ملك الإنسان لسانه، فيلجمه حيث يريد الصمت، ويضبطه حيث المقال، أما الذين تقودهم ألسنتهم إنما تقودهم إلى مصارعهم، قال ابن مسعود: "والذي لا إله غيره لا أجد على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان".

يقول الماوردي: "اعلم أن الكلام ترجمان يُعبّر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على رد شوارده، فحق على العاقل أن يحترز من زللـه، بالإمساك عنه، أو بالإقلال منه". (نضرة النعيم- فضل الكلام والصمت).

"فإن للثرثرة ضجيج يَذْهَبُ معه الرشد، فإن أكثر الذين ينحدرُ منهم الكلامُ يكاد يجزمُ مستمِعُهُم بأنهم لا يستمدون كلامَهُم من وعى يقظٍ" (الأخلاق) للغزالي.

قال صالح بن عبد القدوس:

 

وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن *** ثرثارة في كل ناد تخطب


 

قال الحسن بن هانئ:

 

إنّما العاقل من *** ألجم فاه بلجام

 

لذ بداء الصّمت خيـ *** ر لك من داء الكلام (الآداب الشرعية) [38].


 

واعلم أن للكلام شروطًا لا يسلم المتكلم من الزّلل إلا بها، ولا يعرى من النقص إلا بعد أن يستوفيها، وهي أربعة- كما بينها الماوردي (نضرة النعيم)-:

الشرط الأول: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إمّا في اجتلاب نفع، أو دفع ضرر.
الشرط الثاني: أن يأتي به في موضعه.
الشرط الثالث: أن يقتصر منه على قدر حاجته.
الشرط الرابع: اختيار اللفظ الذي يتكلم به، لأن اللسان عنوان الإنسان.

- الصمت:

"وعندما يريد الإنسان أن يصفى ذهْنَهُ، ويرتب أفكاره يرْكُنُ إلى الهدوء، والعزلة أحيانًا، ولا جرم أن الإسلام يوصى بالصمت ويعده وسيلة مهذبة للتربية". (الأخلاق) للغزالي.
وللصمت فوائد منها: أنها مطردة للشيطان، وعون على أمر الدين، واستقامة للإيمان، ونجاة من النيران.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصحًا أبا ذر: «عليك بطُولِ الصَّمتِ، فإنَّه مطرَدةٌ للشَّيطانِ، وعونٌ لك على أمرِ دِينِك». المنذري (الترغيب والترهيب) ص:[4/23].

فاللسان حبل مرخى بيد الشيطان إن لم يملك الإنسان أمره كان مُدْخِلاً للنفايات التي تلوث القلب وتضاعف فوقه الحجب.

وقال رسول الله: «لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ». الألباني (صحيح الترغيب) ص[2865]، وأول مراحل الاستقامة أن يرح الإنسان نفسه مما لا يعنيه «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ». الترمذي [4/558].

وقال معاذ بن جبل: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فكان مما قاله رسول الله ناصحًا معاذ: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟». قُلْت: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: فأخذ بلسانه وقال: «كُفَّ عليك هذا». فقُلْت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال:«ثكلتك أمك يا مُعاذٍ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم». الترمذي [5/12] (الموسوعة الشاملة).

وروى الترمذي أن رسول الله قال: «من صمت نجا». الترمذي [2503]، انظر موسوعة أطراف الحديث النبوي [8/387]، إحياء علوم الدين [3/108]).


والإسلام يوجهنا إلى أدب الحديث:

أولا: بالبعد عن اللغو:

فهو من أركان الفلاح، ودلائل الاكتمال، وقد ذكره الله تعالى بين فريضتين محكمتين (الصلاة والزكاة)، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:1-4].

ولو أحصى العالمُ ما يُشْغِلُ أفرادهُ من اللَّغو في القول، والعمل لراعه أن أكثر القصص المشهورة، والصحف المنشورة، والخطب، والإذاعات، والفضائيات لغو مطرد تتعلق به الأعين، وتميل إليه الآذان، ولا ترجع بشيء، والإسلام يكره اللغو لأنه يكره سفاسف الأمور؛ فهو مضيعة للعمر في غير ما خُلِق الإنسان من أجله وهو الجد والعمل، فبقدر بعد الإنسان عن اللغو تكون مكانته في الجنة.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:  تُوفِّي رجلٌ فقال رجلٌ آخرُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يسمَعُ: أبشِرْ بالجنَّةِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أولا تدري؟ فلعلَّه تكلَّم فيما لا يعنيه أو بخِل بما لا ينقُصُه». المنذري (الترغيب والترهيب) ص[4/29].

فالبعد عن اللغو صفة من صفات عباد الله قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا} [القصص من الآية:55]، {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، وكذلك صفة من صفات الجنة قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} [الواقعة:25].

واللاغي لضعف الصلة بين فكره ونطقه قد يلقى كلمة تكون سببا في هلاكه فالفرق بين الإيمان والكفر كلمة، وبناء البيت وهدمه كلمة، والسلم والحرب كلمة قال الشاعر:


 

يموت الفتى من عثرة بلسانه *** وليس يموت المرء من عثرة الرجل (الأخلاق) للغزالي.


 

قال الشاعر:


 

أحفظ لسانك أيّها الإنسان *** لا يلدغنّك إنّه ثعبان

 

كم في المقابر من قتيل لسانه *** كانت تهاب لقاءه الشّجعان. (الأذكار) للنووي [ص298].


 

وقالوا: "من كثر لغطه كثر غلطه".


ثانيا: بالقول الحسن:

فهو أدب عال أخذ به الله تعالى أهل الديانات جميعا، فهو من حقيقة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل في عهد موسى عليه السلام، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ} [البقرة:83].

فالكلام العف الطيب يصلح مع العدو والصديق.

فيكون من أثره مع الصديق: حفظ المودة، واستدامة الصداقة، ويضعف كيد الشيطان. قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء:53]، فالشيطان يجعل من الخلاف التافه نزاعًا داميًا، والقول الجميل يسد عليه الطريق، {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة من الآية:91]

عن جابر قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ». مسلم [4/166] (الموسوعة الشاملة).


ومع الأعداء، فهو يطفئ نار خصومتهم ويكسر حدته ويدفع شرورهم. قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وقد عايشنا قصصا لأناس ظاهروا العداء للإسلام وبعدما عاينوه من حسن خلق باتوا من أشد المدافعين والمناصرين للإسلام. فمن يتذكر صورة عمر رضي الله عنه وهو يسل سيفه يريد رسول الله، ثم يتحول ليكون الفاروق يعرف قدر مقابلة الإساءة بالحسنى، وفي هذا المقام الكثير من القصص.

- ولطف التعبير يصلح مع الناس مع اختلاف أحوالهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «إنَّكَم لن تَسَعُوا الناسَ بأموالِكم، ولكن يَسَعُهم منكم بسطُ الوجهِ وحسنُ الخُلُقِ». ابن حجر العسقلاني (فتح الباري) [ص10/474].

بل يرى الإسلام الحرمان مع القول الحسن أفضل من العطاء مع البذاءة. قال تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّـهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].

- كما أنه من متطلبات الدعوة {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل من الآية:125]، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت من الآية:46].


ثالثا: التنزه عن مخاطبة السفهاء (مداراة السفهاء):

انظر إلى تعويد اللسان القول الحسن، "روى مالك عن يحيى بن سعيد: أن عيسى عليه السلام مر بخنزير على الطريق، فقال له: أنفذ بسلام، فقيل له: أتقول ذلك لخنزير؟!، فقال: إني أخاف أن أعود لساني النطق السوء". (الأخلاق) للغزالي.

"بل إن القول الحسن ولطيف الكلام من صفات الأنبياء والمرسلين وأصحاب المروءة فهم يترفعون عن البذيء من القول كما يترفعون عن مخاطبة السفهاء ؛ فمن الناس من يعيش صفيق الوجه شرس الطبع سليط اللسان لا يحجزه عن المباذل يقين، ولا تلزمه المكارم مروءة عديم الحياء، فإذا وجد مجالًا للحديث أطلق لسانه بالفحش والبذاءة لا يوقفه شيء، والرجل النبيل لا ينبغي أن يشترك مع أمثال هؤلاء في حديث؛ فإن استثارة نزقهم فساد كبير وسد ذريعته واجب شرعي". (الأخلاق) للغزالي.

حدث أن وقف رجل من أولئك الجهال أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يريد الدخول، فرأى النبي أن يحاسنه حتى صرفه، ولم يكن من ذلك بد فالحلم فدام السفيه ولو تركه يسكب ما في طبيعته الفظة لسمع ما تنزهت عنه أذناه.

عن عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ» فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ». البخاري [8/12].

عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. قَالَ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ» قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ». البخاري [8/12].


وهذا مسلك تصدقه التجارب، فإن الرجل قد يفقد خلقه مع من لا خلق له، ولو أن الإنسان انشغل بتأديب كل جهول يلقاه لأعيته الحيل، فمدارة السفهاء من صفات عباد الرحمن قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص من الآية:55].

فقد يفقد المرء كظم غيظه بعد حلم بيد أن المسلم الفاضل يصبر على الأذى أكثر من ذلك، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَعَ رَجُلٌ بِأَبِي بَكْرٍ، فَآذَاهُ، فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ آذَاهُ الثَّانِيَةَ، فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّالِثَةَ، فَانْتَصَرَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ انْتَصَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَجَدْتَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُكَذِّبُهُ بِمَا قَالَ لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَرْتَ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَجْلِسَ إِذْ وَقَعَ الشَّيْطَانُ». أبو داود [4/274].

فمداراة السفهاء أمر من الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وليس معنى مداراة السفهاء قبول الدنية، فالفرق بينهما واضح: فالأولى هي ضبط النفس عن عوامل الاستفزاز طوعا، أو كرها، والثانية قبول الدنية والاستكانة بما لا يقبله عرف ولا دين، وقد أعلن الإسلام محبته لمداراة السفهاء وكراهيته لقبول الدنية قال تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّـهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ سَمِيعًا عَلِيمًا . إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:148-149].

رابعا: بالبعد عن النزق والهوى:

"فيضع الإسلام الصمامات لصيانة الكلام بتحريم الجدل وسده لأبوابه حقا كان، أو باطلًا ذلك أن هناك أحوال تستبد بالنفس وتغرى بالمثالية فيكون حب الانتصار عنده أهم من إظهار الحق". (الأخلاق) للغزالي.


عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ». أبو داود [4/253] (الموسوعة الشاملة).

يقول الغزالي: "هناك أناس أوتوا بسطة في ألسنتهم تغريهم بالاشتباك مع العالم، والجاهل، والكلام لديهم شهوة فلو سلطوا ألسنتهم على أمر من أمور الناس أفسدوه، وإذا سلطوه على حقائق الدين شوهوه".

عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ». البخاري [3/131] (الموسوعة الشاملة).

وقال: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ». الترمذي (ت. شاكر) [5/378]، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].

وفد واحد من هؤلاء الأغرار على النبي صلى الله عليه وسلم- عليه شارة حسنة- فجعل النبي يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه أن يأتي بكلام يعلو كلام النبي، فلما أنصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يحب هذا وإضرابه يلُّون ألسنتهم للناس لي البقر بلسانها المرعى، كذلك يلوي الله تعالى ألسنتهم ووجوههم في النار».

رُوى أن رسولَ الله خَرجَ على الصحابة وهُم يتمارون في أمرٍ من أمور الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغْضبْ مثْلِه، ثم انْتَهرنَا، فقال: «مهلا يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا ذروا ألمراء؛ لقلة خيره ، ذروا لمراء فإن المؤمن لا يماري ذروا ألمراء؛ فإن الممارى لا أشفع له يوم القيامة، ذروا ألمراء ؛ فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا ألمراء؛ فكف بالمرء إثما ألا يزال مماريا ذروا ألمراء؛ فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها، ووسطها، وأعلاها لمن ترك ألمراء وهو صادق ذروا ألمراء؛ فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان ألمراء».

خامسا: 

البعد عن مجالس القاعدين الذين عندهم فضل أموال يستريحون في ظلها وينشغلون بأخبار الناس وأحاديثهم فتكون الغيبة والنميمة ونشر الإشاعات والخوض في الأعراض هو غاية مجلسهم. قال تعالى:{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ . الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ . نَارُ اللَّـهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ . إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ . فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1-9].

 

إلهي

دعاك أهل الصلاح بصالح أعمالهم *** ففرجت بعفوك عن كرباتهم

وجئتك وقد عظمت مآثمي *** وقد علمت أن عفوك أعظم

ففرج اللهم عني كربتي *** إنك أنت الأعز الأكرم

محسن العزازي

كاتب إسلامي

  • 16
  • 3
  • 23,476

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً