الفرار - الفرار (1)

منذ 2014-03-09

لَم يكن قرار الرجل بالرحيل فِرارًا بقدرِ ما كان إقرارًا منه بالرفض وعدم الخنوع؛ إذ ماذا يفعل وقد تكالَبَت عليه الخُطوب، وتعالَتْ صيحاتُ الباطل، وانزوى الحقُّ على استحياءٍ في ذاك الجانبِ اللامرئيِّ من حيِّز الوجود، وصار المُهرولون بين أروقةِ الباطل أبطالًا، والمُتسلِّقون فوق جُثَث المُصلِحين دعاةَ سلامٍ وحياة؟!

"فلنرحَل إذًا مِن هذا العالَم المُتناقض بكل ما فيه، ولْنختَرْ فِراقًا نحن عليه مُجبَرون، فأينما ذهبْنا فستذهب معنا أمانينا، ولن تستطيع جحافل الظلم أن تقهرَ نزعةَ التمرد على القهر داخلنا، وربما وجدنا هناك خيارًا أفضلَ لا وجود فيه للمتناقضات!"... بقرار الرحيل المُلحِّ على الرجل بدا الرجلُ شاحبًا رغم ثورة الحُلم داخله؛ فقد أيقَن أن الغُربة التي يعيشها بين ذويه، لا مكان فيها لتحقيقِ حُلمه أن يحيا كإنسانٍ يحترم وجوده، ويدرك حِكمة خَلقه، ويوقن أن هذه الحياةَ ما هي إلا ممرٌّ للآخرة، وأصبح كلُّ همه كيف يكون الممرُّ آمنًا رغم المخاطر، سهلًا رغم الصعاب؟!

بعنفٍ - لاحدَّ له - داهمت الرجلَ سيولُ الأسئلة، وبين كِفَّتَيِ الميزان وجد نفسه يترنَّح، هل يُعَدُّ تقصيرًا منه قرارُه بالرحيل؟!

وهل غياب العدل معناه تركُ الباب مفتوحًا لمخالب الظُّلم تنهش في جسد المبادئ؟!

وهل يُعَد الرحيلُ فرارًا من المعركة بين ما هو كائن وما هو مُفتَرَض أن يكون؟!

"لا عليك، ماذا بوسعك أن تفعل؟!"، هكذا حدَّثَتْه نفسه، تواسي فيه انكسارًا وحزنًا وهمًّا لا حدَّ له؛ فقد أعيَتْه الحِيَل، وضرَبَت في جذور وجوده معاوِل القهرِ والتهميش والإقصاء، لدرجة أشعَرَتْه أنه يمشي فوق الماء، ويطير في الهواء، مذعورًا مَدْحورًا!

لَم يكن قرار الرجل بالرحيل فِرارًا بقدرِ ما كان إقرارًا منه بالرفض وعدم الخنوع؛ إذ ماذا يفعل وقد تكالَبَت عليه الخُطوب، وتعالَتْ صيحاتُ الباطل، وانزوى الحقُّ على استحياءٍ في ذاك الجانبِ اللامرئيِّ من حيِّز الوجود، وصار المُهرولون بين أروقةِ الباطل أبطالًا، والمُتسلِّقون فوق جُثَث المُصلِحين دعاةَ سلامٍ وحياة؟!

"لا تُرهِق نفسك، ألَمْ أُخبِرْك أنك غريب؟ والغريب لا بد له من دَفْع الضريبة، والضريبة لا بد لها من جُباة!"، هكذا تحاولُ النَّفس مواساته؛ فقد حفرت بصمة وجودِه على شاطئ الحياة أخاديد الدموع، فما يكاد يقفُ على عجزٍ منه وتقصير إلاَّ واغرورقَتْ عيناه بدموعٍ ترثي تقصيرَه وعجزه، مع أنها في الأصلِ تبكي تطاولَ الآخَرين وإجحافَهم، وجحودَهم ونكرانهم!

"هوِّن عليك؛ فلك قِبلة هم يجهلونها"، هكذا النفس تحاوره؛ فقد أيقنَتْ أن قِبلة الرجلِ مغايرة تمامًا لِقبلة مَن يعاشر؛ فهم قبلتهم الدُّنيا بمتاعها وغرورها، وهو قِبلته الآخرة بنعيمها وجنانها؛ {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، وفيها يقول ابن كثير: "يقول تعالى مخبرًا عن حقارةِ الدنيا وزوالِها وانقضائها، وأنها لا دوامَ لها، وغاية ما فيها لهوٌ ولعب: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]؛ أي: الحياة الدائمة الحق التي لا زوالَ لها ولا انقضاءَ، بل هي مستمرةٌ أبَدَ الآباد.

وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]؛ أي: لآثَروا ما يَبْقى على ما يَفْنى".

"فليكن فرارًا إذًا وليس رحيلًا!"، هكذا تذكَّر قولَ الحقِّ سبحانه وتعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]، وفي "مدارج السالكين" (1/469 - 481) للعلامة ابن القيم كلامٌ مطول مفيدٌ عن منزلة "الفرار" من منازل السائرين.

وقال القرطبي رحمه الله: لَمَّا تقدم ما جرى من تكذيبِ أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم لذلك، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمدُ؛ أي: قُلْ لقومك: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]؛ أي: فِرُّوا مِن معاصيه إلى طاعته.

وقال ابنُ عباس: فِرُّوا إلى الله بالتوبةِ من ذنوبكم، وعنه: فِرُّوا منه إليه، واعمَلوا بطاعته.

وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}: اخرُجوا إلى مكةَ.

وقال الحسين بن الفضل: احتَرِزوا من كلِّ شيء دون الله، فمَن فرَّ إلى غيره لم يمتنع منه.

وقال أبو بكر الوراق: فِرُّوا من طاعةِ الشيطان إلى طاعة الرحمن.

وقال الجُنَيد: الشيطانُ داعٍ إلى الباطل، ففِرُّوا إلى اللهِ يمنَعْكم منه.

وقال ذو النُّون المِصري: ففِرُّوا من الجهلِ إلى العلم، ومِن الكفر إلى الشُّكر.

وقال عمرُو بن عثمان: فِرُّوا من أنفسِكم إلى ربِّكم، وقال أيضًا: فِرُّوا إلى ما سبق لكم مِن الله، ولا تعتمدوا على حركاتِكم.

وقال سهل بن عبدالله: فِرُّوا مما سوى اللهِ إلى الله؛ {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]؛ أي: أُنذِرُكم عقابَه على الكفر والمعصية"؛ الجامع لأحكام القرآن (17/53 - 54).

"سأفرُّ إلى ربي"، هكذا كان قراره الأخير, وما أجمَلَه مِن قرارٍ!

د. خاطر الشافعي

  • 3
  • 0
  • 1,968
 
المقال التالي
الفرار (2)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً