أقسام العدل وصوره
لا يخفى أن من ثمرات هذا العدل ترغيب أعداء الإسلام بالدخول فيه، والإيمان بأنَّه هو الدين الحقُّ، وكم من حادثة عدل حكم فيها قاضي المسلمين لغير المسلم على المسلم اتباعًا للحق، فكانت السبب في تحبيبه بالإسلام ثم في إسلامه...
"والعدل ضربان:
1- مطلق: يقتضي العقل حسنه، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخًا، ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو: الإحسان إلى من أحسن إليك، وكفِّ الأذية عمن كفَّ أذاه عنك.
2- وعدل يعرف كونه عدلًا بالشرع، ويمكن أن يكون منسوخًا في بعض الأزمنة، كالقصاص وأروش الجنايات، وأصل مال المرتد. ولذلك قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة من الآية:194]، وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى من الآية:40]، فسمي اعتداء وسيئة، وهذا النحو هو المعني بقوله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل من الآية:90]، فإنَّ العدل هو المساواة في المكافأة، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه، والشرَّ بأقلَّ منه" (مفردات ألفاظ القرآن؛ للراغب الأصفهاني، ص: [552]).
صور العدل
العدل له صور كثيرة، تدخل في جميع مناحي الحياة، نقتصر على ذكر أهمها، فمنها:
1- عدل الوالي:
والوالي سواء كانت ولايته ولاية خاصة أو عامة يجب عليه أن يعدل بين الرعية. وأن يستعين بأهل العدل.
قال ابن تيمية، بعد أن ذكر عموم الولايات وخصوصها، كولاية القضاء، وولاية الحرب، والحسبة، وولاية المال قال: "وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية، فأيُّ مَن عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان- فهو من الأبرار الصالحين، وأيُّ مَن ظلم وعمل فيها بجهل، فهو من الفجار الظالمين" (مجموع الفتاوى: [28/68]).
وقال أيضًا: "يجب على كلِّ ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذَّر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل (مجموع الفتاوى: [28/68]).
2- العدل في الحكم بين الناس:
سواء كان قاضيًا، أو صاحب منصب، أو كان مصلحًا بين الناس، وذلك بإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء من الآية:58].
3- العدل مع الزوجة أو بين الزوجات:
بأن يعامل الزوج زوجته بالعدل سواء في النفقة والسكنى والمبيت، وإن كن أكثر من واحدة، فيعطي كلًّا منهنَّ بالسوية.
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء من الآية:3].
أما إذا كان له ميل قلبيٌّ فقط إلى إحداهن، فهذا لا يدخل في عدم العدل، قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:129].
قال ابن بطال: "قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ}؛ أي: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم في حبهنَّ بقلوبكم حتى تعدلوا بينهنَّ في ذلك؛ لأنَّ ذلك مما لا تملكونه وَلَوْ حَرَصْتُمْ يعنى ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك. قال ابن عباس: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهنَّ ولو حرصت. قال ابن المنذر: ودلت هذه الآية أن التسوية بينهنَّ في المحبة غير واجبة" (شرح صحيح البخاري: [7/336]).
4- العدل بين الأبناء:
قال صلى الله عليه وسلم: «
» (رواه البخاري: [2587] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه)، ويكون العدل بين الأولاد في العطية.تنبيه: في حالة النفقة الواجبة يعطي الوالد كل واحد من الأولاد ما يحتاجه، فلو احتاج أحد أبنائه إلى الزواج، زوجه ودفع له المهر؛ لأن الابن لا يستطيع دفع المهر، ولا يلزم أن يعطي الآخرين مثل ما أعطى لهذا الذي احتاج إلى الزواج؛ لأن التزويج من النفقة، كذلك النفقة على الدراسة، إلى غير ذلك. انظر: الشرح الممتع؛ لابن عثيمين [11/80]).
والهبة، والوقف، والتسوية بينهم حتى في القُبَل، فعن إبراهيم النخعي قال: "كانوا يستحبون أن يعدل الرجل بين ولده حتى في القُبَل" (رواه ابن أبي شيبة في المصنف: [6/234]).
5- العدل في القول:
فلا يقول إلا حقًّا، ولا يشهد بالباطل، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152].
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135].
6- العدل في الكيل والميزان:
قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام من الآية:152] "يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعَّد على تركه في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6]، وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان" (تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير: [3/364]).
7- العدل مع غير المسلمين:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].
"وفي كون العدل مع الأعداء الذين نبغضهم أقرب للتقوى احتمالان:
الأول: أن يكون أقرب إلى كمال التقوى، وذلك لأنَّ كمال التقوى يتطلب أمورًا كثيرة، منها هذا العدل، والأخذ بكلِّ واحد من هذه الأمور يقرب من منطقة التقوى الكاملة.
الثاني: أن يكون أقرب إلى أصل التقوى فعلًا من ترك العدل مع الأعداء، ملاحظين في ذلك مصلحة للإسلام وجماعة المسلمين، وذلك لأنَّه قد يشتبه على ولي الأمر من المسلمين في قضية من القضايا المتعلقة بعدو من أعدائهم، هل التزام سبيل العدل معه أرضى لله؟ أو ظلمه هو أرضى لله باعتباره معاديًا لدين الله؟ وأمام هذا الاشتباه يعطي الله منهج الحل، فيقول: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}؛ أي: مهما لاحظتم أنَّ ظلمه لا يتنافى مع التقوى، فالعدل معه أقرب للتقوى.
ولا يخفى أن من ثمرات هذا العدل ترغيب أعداء الإسلام بالدخول فيه، والإيمان بأنَّه هو الدين الحقُّ، وكم من حادثة عدل حكم فيها قاضي المسلمين لغير المسلم على المسلم اتباعًا للحق، فكانت السبب في تحبيبه بالإسلام ثم في إسلامه" (الأخلاق الإسلامية؛ لعبد الرحمن حبنكة الميداني: [1/581]).
- التصنيف: