الثلاث المهلكات

منذ 2014-03-21

وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه.

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: لقد اختص الله نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة، ومن هذه الخصائص أنه أوتي جوامع الكلم، وفي يومنا هذا نبقى مع حديث عظيم من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات، فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السَبَرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام» (رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وقال الألباني: "حسن لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم[453]).

فقوله: «ثلاث مهلكات» أي موقعات لفاعلها في المهالك؛ أولى هذه المهلكات: «شح مطاع»، والشح: "هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبّه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره، وذلك هو المفلح، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر من الآية:9] (الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص [49] الناشر: دار الكتاب العربيبيروت).

وقد جاءت السنة النبوية بالتنفير من الشح وذمه والتحذير منه، فقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والشح؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» (رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم [1489])، بل عد النبي صلى الله عليه وسلم الشح من الكبائر المهلكة، فقد أخرج الإمام النسائي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال: «الشرك، والشح، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق».

أيها المؤمنون: إن الشح من شر الخلال التي يتصف بها الإنسان، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع» (رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم[2192])، ولذا كان هذا الخلق المشين من الأخلاق التي تفشو في آخر الزمان، لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح»، قال ابن حجر رحمه الله عند قوله: «ويلقى الشح». "المراد إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم؛ حتى يبخل العالم بعلمه فيترك التعليم والفتوى، ويبخل الصانع بصناعته حتى يترك تعليم غيره، ويبخل الغني بماله حتى يهلك الفقير" (فتح الباري[13/17]).

أيها المؤمنون: ثاني هذه الثلاث المهلكات: هوى متبع، وتلك صفة أخرى ذميمة قد تضافرت على ذمها والتحذير منها نصوص الكتاب والسنة، وما ضل من ضل عن سبيل الرشاد والهداية وأوغل في سبيل الضلال والغواية إلا وكان الهوى العامل الأساس في ذلك، وقد حذرنا الله من اتباع الهوى في آيات كثيرة من كتابه؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: "ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف من الآية:176]، وقال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف من الآية:28]، وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم من الآية:29]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص من الآية:50]، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص من الآية:26]، فالهوى قد يؤدي بصاحبه إلى النار، كما قال الشعبي رحمه الله: "إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار" (الجامع لأحكام القرآن [16/144] للقرطبي).

أيها المؤمنون: إن الهوى ليتمادى بصاحبه ويتمكن منه حتى يعسر عليه تركه، فقد جاء في حديث معاوية في ذكر الفرق الضالة في هذه الأمة: «وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» (أخرجه أبو داود، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع،رقم [2641]).

بل إن الهوى قد يصل بصاحبه إلى أن يكون عبدًا له من دون الله، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان من الآية:43]، قال الحسن رحمه الله: "هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه"، وقال قتادة رحمه الله: "هو الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى" (جامع العلوم والحكم، ص [210]. الناشر: دار المعرفة –بيروت).

إن جميع المعاصي والبدع عباد الله إنما تنشأ من اتباع الهوى؛ كما يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص:50]، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمي أهلها أهل الأهواء"9 (جامع العلوم والحكم[389- 390]).

ولذلك فإن الهوى من أخوف ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته؛ فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى»(رواه أحمد والطبراني في معاجمه الثلاثة، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم [52])، قال علي رضي الله عنه: "إنَّ أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل، واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق" (البداية والنهاية[7/309])، وقال الشافعي رحمه الله: "لئن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خيرٌ له من أن يلقاه بشيءٍ من الأهواء" (حلية الأولياء[9/111]. الناشر: دار الكتاب العربي-بيروت)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه" (منهاج السنة النبوية [5/256]. الناشر: مؤسسة قرطبة)، ولذلك فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء» (رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم[2840]).

إنه لا نجاة من هلكة الهوى إلا بمخالفته، وسؤال الله الإعانة على ذلك، قال بعض العارفين: "إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك، داؤك هواك ودواؤك ترك هواك ومخالفته"، وقال بشر الحافي رحمه الله تعالى: "البلاء كله في هواك والشفاء كله في مخالفتك إياه" (روضة المحبين، صـ[478]. الناشر: دار الكتب العلمية –بيروت)، يقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

أيها المؤمنون: ثالث هذه الخصال المهلكة المذكورة في الحديث: "إعجاب المرء بنفسه"؛ قال المناوي رحمه الله: "أي تحسين كل أحد نفسه على غيره وإن كان قبيحاً، قال القرطبي: وإعجاب المرء بنفسه هو ملاحظة لها بعين الكمال مع النسيان لنعمة الله، والإعجاب وجدان شيء حسناً، قال تعالى في قصة قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص من الآية:78]، قال الله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص من الآية:81]، فثمرة العجب الهلاك، قال الغزالي رحمه الله: "ومن آفات العجب أنه يحجب عن التوفيق والتأييد من الله تعالى، فإن المعجب مخذول، فإذا انقطع عن العبد التأييد والتوفيق فما أسرع ما يهلك، قال عيسى عليه الصلاة والسلام: "يا معشر الحواريين كم سراج قد أطفأته الريح؟ وكم عابد أفسده العجب؟" (فيض القدير[3/307]).

وأشدّ أنواع العجب ما كان ناشئاً عن العلم والفقه, قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر من الآية:8]، قال مطرّف بن عبد الله: "لأن أبيت نائماً وأصبح نادما, أحبّ إليّ من أن أبيت قائما وأصبح معجبا" (إحياء علوم الدين[3/370])، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الهلاك في اثتين: القنوط والعجب" (المصدر السابق[3/369]).

وجاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مُرّجِلٌ رأسه أي مشطه، يختال في مشيته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل» أي يغوص وينزل في الأرض إلى يوم القيامة، وهذا ابن عمر رضي الله عنه يرى رجلاً يختال في مشيته ويجر إزاره، فقال: "إن للشيطان إخواناً"، ورأى رجل رجلا آخر يختال في مشيته, فقال له: يا عبد الله, هذه مشية يبغضها الله، فالتفت إليه الرجل، وقال: ألا تعرفني؟! قال: بلى, أعرفك؛ أولك نطفة مذرة, وآخرك جيفة قذرة, وأنت بين ذلك تحمل الخرأة (إحياء علوم الدين[3/340]).

وقد قال الشعراء شعراً في ذم العجب وأهله؛ يقول ابن عوف:

عجبت من معجب بصورته *** وكان بالأمس نطفة قذرة
وفي غد بعد حسن صورته *** يصير في اللحد جيفة قذرة
وهـو على تيهه ونخوته *** ما بين ثوبيه يحمل العذرة

وقال آخر:

يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته *** انظر خلالك فإن النتن تثريب
لو فكّر الناس فيما في بطونهم *** ما استشعر الكبر شبان ولا شيب

هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة *** وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك *** والعـين مرفضّة والثغر معلوب

يا بن التراب ومأكول التراب غداً *** أقصر فإنك مأكول ومشروب

(أدب الدنيا والدين [293] للماوردي).

فالبعد البعد عباد الله من هذه الثلاث المهلكات، والله الله في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، والتأدب بآداب الإسلام، والتخلق بأخلاقه الحميدة، والله نسأل أن يطهر قلوبنا من هذه الخصال المهلكة، وأن يعيننا على أنفسنا والشيطان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

المصدر: موقع إمام المسجد
  • 23
  • 1
  • 72,617

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً