مشروع التجديد الثقافي.. لماذا؟
إن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية اليوم لا يخالطه شك في أنها تحتاج إلى عملية واسعة من الإصلاح في كافة المجالات، فالتخلف والتراجع السياسي والاقتصادي والتقني والفكري والثقافي يُعد معلمًا بارزاً ومظهراً شاخصًا على استحقاق الإصلاح وتنمية عوامل البناء.
إن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية اليوم لا يخالطه شك في أنها تحتاج إلى عملية واسعة من الإصلاح في كافة المجالات، فالتخلف والتراجع السياسي والاقتصادي والتقني والفكري والثقافي يُعد معلمًا بارزاً ومظهراً شاخصًا على استحقاق الإصلاح وتنمية عوامل البناء، وإعادة الدور الريادي الذي فقدته في العصور المتأخرة، والبوابة الكبرى لعملية الإصلاح يكون عن طريق التجديد وإعادة الروح الواثقة، والمفاهيم الناصعة قبل تسرب الشوائب والأخلاط إليها، والتجديد الثقافي والفكري هو أول ما يجب أن يبدأ به المصلحون في عملية التجديد، فقد بدأ التخلف والانهيار منه، ولن يعود البناء إلا بإصلاحه وإعادة ترميمه.
إن التجديد هو أحد العوامل التي يحفظ الله تعالى بها هذا الدين، فقد حفظ الله تعالى الدين بحفظ مصدره الأصلي، فقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر9:]، والمراد بالحفظ حفظ لفظه من التبديل، ومنعه من التحريف، وكذلك حفظ الله تعالى دينه بوجود طائفة منصورة على الحق فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» (1)، وحفظه -أيضًا- بالتجديد فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» (2).
والتجديد المشروع هو إحياء معالم الدين، وإزالة الركام الفكري والثقافي عن مفاهيمه وقيمه وأخلاقه، وتنزيل أحكام الإسلام لأهل السنة على النوازل والأمور المستجدة وفق أصول الاستدلال، والربط بين الحكم الشرعي ومناطه الواقعي، فالتجديد جعل الشيء جديداً بإزالة الأوساخ أو بإعادة البناء، والبهاء لما درس وتقادم وبلي في واقع المسلمين وحياتهم، فهو لا يعني إضافة أمور جديدة إلى الدين، فهذه الإضافة ليست تجديداً بل هي البدع والمحدثات المنهي عنها، وهي التي تستدعي عملية التجديد، فدين الله عز وجل كامل ليس بحاجة إلى زيادة {..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً..} [المائدة3].
وعملية التجديد ليست وليدة جديدة في هذا الزمان، فهي تعود إلى القرون الأولى، وقد ظهر مجددون في تاريخ الأمة مثل (عمر بن عبد العزيز) الذي أعاد الخلافة الراشدة بعد الملك الوراثي، و(الإمام الشافعي) الذي ضبط الاستدلال بالنص الشرعي في كتابه (الرسالة) و(الإمام أحمد) في الموقف من المناهج والتيارات الفكرية الوافدة، وكذلك التجديد الجهادي مع (نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، مروراً بالشيخ محمد بن عبد الوهاب) في تحقيق التوحيد ونبذ الشرك، إلى غير ذلك من الحركات التجديدية في تاريخ المسلمين.
وإن من أهم دواعي التجديد في واقعنا المعاصر:
• غياب المنهج الفكري والثقافي الإسلامي عن المشهد العالمي، وصعود خطابات ثقافية جاهلية مادية، مما ترتب عليها شقاء الإنسان واضطرابه وتناقضه وحيرته، ودخوله في نفق من الظلام لا يعرف له نهاية، ولا يرى أملاً في النور، وبالمقابل خسر الهداية والفلاح والنور الرباني.
• الركام الهائل من الأفكار والمفاهيم البعيدة عن المنهج الرباني مما كان له أبرز الأثر في الجمود والتقليد، والتخلف والانحطاط على كافة الأصعدة.
• التحولات الفكرية السريعة والخطيرة في المجتمعات الإسلامية، وتأثر فئات من الشباب والفتيات بقيم العولمة وأخلاقياتها وأفكارها.
• عدم وجود الدعم السياسي والاقتصادي والإعلامي للخطاب الإسلامي، بل محاربته وإقصائه ومطاردته في كل مكان.
• محاولة اختطاف هذا المفهوم الإسلامي -التجديد- بظهور اتجاهات فكرية إلحادية أو بدعيّة تدعي شرف التجديد، وتمار س التبديل والتحريف للمفاهيم الشرعية الأصيلة، وتبرز نفسها كبديل إسلامي يتوافق مع العصر الحديث والحضارة الغربية الغازية، وتتلقى الدعم المباشر وغير المباشر من القوى الاستعمارية العالمية.
كلّ ذلك وغيره يؤكد الحاجة إلى (التجديد الثقافي) في الأمة، فأزمة الأمة أزمة عقدية وفكرية وثقافية، استتبعها أزمات سياسية واقتصادية وحضارية، إن هذه الأمة العظيمة تمتلك كنوزاً وثروة لا تمتلكها أيّ أمة من الأمم، ومتى ما عادتْ إلى دينها وأزالت عنه الركام، وأحسنت تطبيقه فإنها سترقى إلى معالي السؤدد، وستقدم للأمم نموذجاً فريداً من التصورات اليقينية، والقيم الفاضلة، والأخلاق الرفيعة. ولم تبتلَ الأمة إلاّ بسبب العقائد الزائفة، والقيم والأخلاق المادية، وسوء التطبيق للإسلام، وهذا هو سرّ تخلفها الحضاري المشاهد.
وبهذا يظهر لنا أن التجديد يستدعي إزالة الركام الثقافي المنحرف، وإعادة صياغة العقائد والقيم على منهج النبوة، ليس على المستوى النظري فحسب ولكن بطريقة عملية تطبيقيّة، وهذا ما يلزم منه إعادة النظر في العوائد والتقاليد، والقيم والأفكار، والمناهج السائدة ووزنها بميزان معصوم وهو الوحي الرباني، والعمل على الإجابة عن الأسئلة الحضارية الجديدة، وكيفيّة العيش في حياة مليئة بالتحديات والعقبات والأخلاط وفق منهج الله تعالى ومرضاته، إن المشروع التجديدي لا ينبغي له أن يكون ردة فعلٍ لواقع مأزوم، فيقوم بتبريره ومسايرته، لكنه يتطلب صحة في الاعتقاد التصوري، وقوة في الإرادة، ومشاركة الأمة بكافة قواها فيه، والعمل الجماعي الصادق المخلص الدؤوب.
لقد تم عرض الثقافة في العقود الماضية بصورة هزيلة مترهلة، حيث أصبحت الثقافة مجموعة فلكلورية شكلية مثل الرسوم التشكيلية، والأمتعة القديمة والمنازل العتيقة، والمسرح والموسيقى، والشعر والغناء والتصوير.. وغير ذلك، وأغفلت المفاهيم الحضارية الكبرى كالإيمان بالله تعالى، والقيم الأخلاقية والعلم، والتصور الإسلامي الحق للكون والإنسان والحياة والغيب، والإله الحق وغير ذلك، وهذا المفهوم الخاطئ للثقافة هو جزء من الركام المنحرف الذي أصاب الأمة في ثقافتها ومفاهيمها.
لقد حاول المفكر الجزائري (مالك بن نبي) أن يشخص الداء العضال الذي أصاب الأمة فرده إلى مشكلة حضارية هي (القابلية للاستعمار)، وقد صدق في ذلك لكنها في الحقيقة عرض لمرض، فما هو سرّ هذه القابلية؟ ولماذا لم تكن قابلة للاستعمار ثم أصبحت قابلة له؟ إن ردّ السبب إلى الذات -كما فعل مالك بن نبي- هو بداية صحيحة لاكتشاف الخلل، وهو منهج قرآني فريد، فالله تعالى يقول: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ..} [آل عمران 165].
لكن أزمة الأمة الحقيقية تعود في جذورها الأولى إلى (أزمة عقدية فكرية ثقافية) تلاها بعد ذلك الأزمة الحضارية الراهنة، والشعور بوجود أزمة حضارية في الأمة أصبح محلّ إجماعٍ بين كافة التيارات والمناهج، لكن الاختلاف وقع في وصف الداء وتوصيف الدواء، وقد ظهرت حركات تجديدية طالبت بأن تسير الأمة مسيرة الحضارة الغربية حلوها ومرّها، حسنها وقبيحها كما قرر ذلك (طه حسين) في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، وسار على طريقته في التبعيّة -اتجاه لا يزال مع كل الإخفاقات والشواهد الدالة على فشل هذا المشروع- ينادي بما نادى به ويراه المخلص للأمة والمنقذ لها.
وظهر من ظنّ أن الإصلاح والتجديد هو في المقاربة والتوفيق بين الإسلام والمناهج الفكرية المادية، واتخذ التجديد سلماً للتبديل الديني فقرن الإسلام بالديمقراطية والليبرالية ونحوها، كما ظهرت مشاريع ثقافية (3) تعتمد على الاتجاه الأول، تزعم أن المخرج في إعادة قراءة النص الشرعي وتفريغه من محتواه القديم، وإضافة فهم جديد يوافق الحداثة الغربية، وتتذرع لذلك بمنظومة من المناهج النقدية الجديدة.
إن هذا الخليط الغريب من الأفكار المتناقضة تدل على أهمية العناية بمشروع التجديد، وعدم السماح باختطافه، وإخراجه عن مساره، وتبين أهمية إعادة توجيهه الوجهة الصحيحة، ومن هنا فالتجديد الثقافي مشروع حضاري رائد يحتاج في صياغته إلى علم شرعي رصين، ووعي واقعي بالسنن الربانية، ومعرفة بحاجة المجتمعات وعوامل التأثير فيها، ويحتاج كذلك إلى حسن تدبير، وروح قوية واثقة بدينها وقيمته الحقيقية وبراهينه الإقناعيّة، وآفته الكبرى قيادة جاهلة أو مهزومة أمام الآخر، أو منحرفة في مفاهيمها وتصوراتها وقيمها.
إن من أهم قضايا التجديد الثقافي: معرفة المحكمات والثوابت وإحيائها في الأمة، وضبط آليات الاستدلال بالنصوص الشرعية، وإحياء القيم الأخلاقية الإسلامية، والعمل على الإصلاح الشامل (السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، والاجتماعي)، ومواجهة التيارات الفكرية المنحرفة، وبلورة مشروع إسلامي حضاري متكامل ليكون قادراً على الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية، ويستفيد من تفنيات العولمة لهداية الناس جميعاً للحق، وغير ذلك من القضايا الهامة التي لا يمكن حصرها هنا.
ـــــــــــ
الهوامش:
(1) رواه البخاري (7311، 7312)، ومسلم (156)، وأحمد في مسنده (5/ 34)،239، وغيرهم.
(2) رواه أبو داوود (291) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(2/ 150) برقم 599، ونقل تصحيحه عن عدد من الأئمة.
(3) يمثل هذه المشاريع الفكرية: مشروع محمد أركون في نقد الفكر الإسلامي، ومشروع حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، وعبد المجيد الشرفي، وغيرهم كثير، مع الانتباه لفروق منهجية بينهم، ولكن يجمعهم إطار عام وهو إخراج النص الشرعي عن مراده وتحطيم الفهم التقليدي له كما يعبرون.
- التصنيف: