القراءة الحداثِية للسنة النبوية (عرضٌ ونقد)
فقد شغلت وظيفة القراءة والفهم والإفهام الطاقات الفكرية للأمة الإسلامية، التي ظلت مشدودة بأحاسيسها، وخطراتها الفكرية إلى هذا النص قرآنًا وسنة، إلى حد لا نظير له، حيث تأسست أجواء الفهم والتحليل والتذوق؛ لقراءة هذا النص ومقاربته، باستنطاقه وتحليل إشاراته، وحراسة مدلولات ألفاظه، فهمًا وتأويلًا، وضبط علاقة اللفظ بالمعنى، وتقنين دلالة المنطوق على المضمون؛ حتى تتفادى كل تفسير مجانيٍّ أو تأويل إسقاطي لهذا النص
الْحمْدُ لِلهِ، يمْنحُ الْحوْل كُل يدٍ تمْتدُ ضارِعةً فِي صِدْقٍ، ترْجُو حوْلهُ. والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا مُحمدٍ خاتِم النبيين منْ لا نبِي بعْده، وعلى آلِهِ وصحْبِهِ الذيِن حفِظوا للإِسْلامِ عِزهُ ومجْده، وعلى حملةِ العِلْمِ الذين ينْفُون عنْهُ تحْريف الغالِين، وانْتحِال الُمْبطِلين، وتأْويل الجاهِلِين، فبلغ فِيه كُلٌ جهْده. وبعْدُ،
فقد شغلت وظيفة القراءة والفهم والإفهام الطاقات الفكرية للأمة الإسلامية، التي ظلت مشدودة بأحاسيسها، وخطراتها الفكرية إلى هذا النص قرآنًا وسنة، إلى حد لا نظير له، حيث تأسست أجواء الفهم والتحليل والتذوق؛ لقراءة هذا النص ومقاربته، باستنطاقه وتحليل إشاراته، وحراسة مدلولات ألفاظه، فهمًا وتأويلًا، وضبط علاقة اللفظ بالمعنى، وتقنين دلالة المنطوق على المضمون؛ حتى تتفادى كل تفسير مجانيٍّ أو تأويل إسقاطي لهذا النص، ووقوفًا ضد كل من يدعي قراءة النص المؤسس للشرعية في الإسلام، بعيدًا عن قوانين التأويل المتمثلة في طرق الاستنباط، بقواعدها اللغوية والشرعية، وبذلك أصبحت قراءة النص في الفكر الإسلامي، قراءة تخضع لمنهج مشدود بثوابت: مرتبطة باللسان ومقتضياته في فهم الخطاب من جهة، ومحتكمة إلى الشرع وحدوده من جهة ثانية، مما يؤدي إلى ما سماه الإمام الشافعي رحمه الله بعقْل المعاني.
ثم كانت الخطورة حينما بدأ نفر من أبناء جلدتنا، من أبناء هذه الأمة، يتناولون القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، بقراءة عرفت بالحداثية أو القراءة الجديدة للنص الديني، وهي قراءة تأويلية تستمد آلياتها من خارج نطاق التداول الإسلامي بل تأتي وفقًا للتجربة الغربية في فهم النصوص، واللاهوتية منها خصوصًا، فلا تريد أن تحصل اعتقادًا من النص، بقدر ما تريد أن تمارس نقدها عليه، واستخدامًا لنظريات لغوية حديثة (مثل: البنيوية، والتفكيكية، والسيمائية) وهي قراءات في حقيقتها اقتبست كل مكوناتها من الواقع الحداثي الغربي في صراعه مع الدين، هذا الصراع الذي آل في الغرب إلى الاشتغال بالإنسان بعيدًا عن الله (الأنسنة)، والاهتمام بالعقل خارجًا عن الوحي (العقلنة)، ومراعاة للدنيا، من غير نظر إلى الآخرة (الأرخنة)، ومن ثم ترتكز دعوتهم على ضرورة معالجة النص الإسلامي قرآنًا وسنة، داخل التقليد الكتابي الذي ينتمي إليه، أي: التقليد اليهودي- المسيحي، مما يعني فعليًا إخضاع هذا النص لمناهج النقد والتأويل التي خضعت لها الدراسات التوراتية والإنجيلية المستحدثة في إطار الفكر الغربي، الذي يصير له عند الحداثيين مرجعية غير قابلة للنقاش. وجوهر ما يؤسس هذه المرجعية بناؤها على: التحرر من سلطة النص الذي تكونت في ظله ثوابت العقل الإسلامي ومحدداته، ونزع القداسة عنه، وعلى القطيعة المعرفية بينها وبين القراءات التراثية، والفوضى التأويلية التي هي تفكيك للهوية، وضياع للمعنى. وهي ملامح ومنطلقات لا تخفى مستلزماتها التطبيقية، ولا عواقبها العلمية التي تنسجم مع فلسفة الحداثة وما بعدها!! ومن ثم أفضت تلك القراءة الحداثية للسنة النبوية إلى:
- التشكيك في السنة، فهي في الخطاب الحداثي، وقراءته التفكيكية لأصوله مجموعات نصية مغلقة ذات بنية تيولوجية- أسطورية حسب تعبير أركون قد خضعت لعملية الانتقاء والاختيار والحذف التعسفية التي فرضت في ظل الأمويين، وأوائل العباسيين، أثناء تشكيل المجموعات النصية كما أن هذه المجموعات النصية قد تعرضت لعملية النقل الشفاهي بكل مشاكلها، ولم تدون إلا متأخرًا، وهذا الوجه الشفاهي قام به جيل من الصحابة، لا يرتفعون عن مستوى الشبهات، بل تاريخهم تختلط فيه الحكايات الصحيحة بالحكايات المزورة.
- التسوية في الاستشهاد بين السنة، وسائر الخطابات الأخرى، وإخضاعها لسنن القراءة ومناهج الألسنيات الحديثة، وتحليل الخطاب التاريخي ونقده؛ باعتبارها نصًا تراثيًا شأنها في ذلك شأن بقية النصوص، وهكذا يصبح النصّ النبوي نفسه موضع المساءلة ما إذا كان حجة أم لا، فضلاً عن تضمنه رسالة للبشرية، أو كونه هدى وبشرى للعالمين.
- (عقلنة) السنة، واعتبار العقل حاكمًا وقاضيًا عليها، وكذلك اعتبار الواقع حاكمًا على النص، ومتبوعًا، لا تابعًا، فسلطة العقل، في القراءة الحداثية، هي السلطة الوحيدة التي يُتعامل على أساسها مع السنة النبوية، بل مع النصوص الدينية كافة.
ولعل أخطر ما في القراءة الحداثية، هو تلك: الفوضى التأويلية وأشكلة العلاقة بين النص ولغته إذ تعتبر القرآن والسنة خطابًا لغويًا، يخضع لآليات التفكيك والقراءة التي طبقت على مختلف النصوص بما يعرف في العلوم الإنسانية والألسنية بالهرمنيوطيقا أو التأويلية الحديثة أو نظرية تفسير النصوص و من أهم مبادئ هذه الألسنية الجديدة: التأويلات اللامتناهية، وأشكلة العلاقة بين النص المعطى ولغته، فليس لقصد المؤلف، أو النص، مكان في النظرية التأويلية الجديدة، باعتبار أن النصوص لا تحمل أي معنى إلا ذلك الذي يصنعه القارئ ويشكله، مما يؤدي إلى فوضى التفسير ولا نهائية المعنى ونسف محتوى النص وإبطال مقصوده؛ في ظل الغيبات الثلاثة التي تقوم عليها التأويلية الحديثة: (غيبة المؤلف، وغيبة المرجعية، وغيبة القصدية) وبذلك وحده سيأثر الحداثيون بتأويل النص الديني قرآنًا وسنة ويتلاعبون بفهمه وتفسيره ومدلوله، في باطنية مسرفة لا ترى في ظواهر النصوص أكثر من رموز ومؤشرات ومدلولات كوامن بواطن، هي مركز الثقل في النص، وبدل أن يكون الهوى تبعًا لمعطيات النص، يكون هو تبعًا لهوانا!!
تلك هي الرؤية التي تحكمت في الأصول الفكرية، والمنطلقات المنهجية في القراءة الحداثية. وإذا نحن دققنا النظر في تلك القراءة الحداثية التفكيكية للنص الديني، وما طرحته من إشكالات حوله، وخاصة السنة النبوية، كما تقدم، نلاحظ: أن هذه القراءة -على الرغم من ادعاء أصحابها كونها قراءة ليست تقليدية امتثالية، كما هو سائد في كليات الشريعة، وفي كل الأوساط الإسلامية دون استثناء- في الحقيقة، قراءةٌ لا تنفصل كثيرًا عن الطروحات الاستشراقية المعهودة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن تلك القراءة الحداثية قد وقعت في جملة أخطاء (آفات) منهجية، تفقدها قيمتها، كما تفقد النتائج المتوصل إليها مصداقيتها؛ وذلك فيما أسميه بالغيبات الأربع والتي يمكن تمثلها على النحو التالي:
1. غياب البُعد المصدري للنصوص (أزمة القراءة الحداثية مع النص الديني) ولا شك أن غياب البعد المصدري للنص الديني، أو تغييبه في القراءة الحداثية يعد خطأ منهجيًا، بل يمثل أزمة وخطبًا أي خطب؛ إذ النصوص الدينية لا تقبل الانفصال عن قائلها، وعن مراده، فالقرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، والحديث هو من الوحي الذي تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأي نظرة إلى كلام الله، عز وجل، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم تستبعد المتكلم تقع في محاذير كثيرة، ليس أقلها عدم إدراك عظمة مصدر النص، الذي يُتعامل معه وُيبن مراده، فهمًا وتنزيلًا، واستنباطًا واستدلالًا، ومن ثم إعطاء المشروعية لكل عمليات النقد والتخطئة والمراجعة والتصحيح، والتنقيح، وما يستوجب الحكم بالنقص أو وجود الخلل والخطأ، وهدم مصداقيته.
2. غياب القراءة الجامعة (القراءة الحداثية المتهافتة للنص الديني) وهذا واضح في تناولهم لبعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية المشرفة، التي تتحدث عن: حجاب المرأة، وميراثها، ومنزلتها في الإسلام، وإقامة بعض الحدود... وغير ذلك من أوهام وشبهات، مقتطعة من سياقها؛ فكانت قراءتهم لها قراءة متهافتة تعتمد آليات خاصة لا يستعان بها على فهم المعنى المراد للنص، ولا تؤيد الأفكار المبثوثة فيه، بقدر ما تجعله وثيقة تخدم مصالح فئة معينة، في ظروف تاريخية معينة، وهذا يخالف شرط القراءة الصحيحة، التي تعامل القرآن الكريم، والسنة الشريفة كاللفظة الواحدة وأن كل جزء من هذه اللفظة ينبغي النظر إليه في ضوء علاقته مع الأجزاء الأخرى.
3. غياب الإبداع الموصول(القراءة الحداثية وأزمة المنهج) وهذه هي مشكلة الحداثة الأولى في مقاربتها النص الديني، وهي الدعوة إلى ضرورة قراءة النص الديني، خارج تداوله أي: خارج نطاق أي قراءة أسبقية تراثية له، في فصل تام بين النص الديني الإسلامي، وكل القراءات الضابطة لفهمه وتفسيره في التراث العربي الإسلامي، وذلك لصالح المنهجية الغربية المسيحية في تحليل الخطاب، وقراءة النصوص؛ فراحوا يسقطون على النص الديني الإسلامي كل ما ظفروا به من آليات القراءة وأدواتها في نتاج الآخرين، وأطلقوا العنان لقراءة النص الديني وفهمه وتحليله، من خلالها.
4. غياب المرجعية اللغوية (القراءة الحداثية والانحراف عن معهود العرب في الخطاب) ولعل غياب المرجعية اللغوية هو الخطأ، بل الخطيئة الكبرى، ومن الإصابات الفكرية البالغة التي وقع فيها الحداثيون، في أثناء مقاربتهم النص الديني؛ فمن ضوابط القراءة الصحيحة: أن مقاربة أي نص لغوي تستدعي الوقوف على حدود لغته التي تحمل بلاغه، ومعرفة مقاصد أصحابها في كلامهم، وأن يؤول الكلام بما يوافق معهود الخطاب المتبادل بين المتكلمين وعرف المخاطِب وعاداته المطردة.
حين يؤول أمر النص الديني قرآنًا وسنة هذا المآل في قراءات الحداثيين، فإن الاحتكام إلى منهجية توجه القراءة، وتضبط مسارها، فهمًا وتفسيرًا وتأويلًا، وتحمي النص من أن يكون مجالًا للتزيد والإقحام، أو العبث واللهو، وتمكِّن من الفهم الصحيح لمقاصده، يكون أمرًا ضروريًا، فمن لم يكن مقياسه مضبوطًا كل الضبط، فإن المعاني تختلط عليه وتمتزج، ووقع في التيه الذي أدخلتنا فيه الحداثة، وما بعدها!! وهذه المنهجية محكومة بأصل عام يمثل مرجعية لها، وهو: أن تكون قراءة النص الديني الإسلامي، على طريقة العرب في خطابها ومسالكها في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها وعادات اللسان العربي في الاستعمال، وخصوصياته في توزيع المعاني على الألفاظ وأن يُفهم وفق مدلوله العربي، الذي يتبادر إلى الذهن، من دون ليٍّ ولا إغراب، ولا تعطيل لمغزى، أو إقحام لمعنى.
ومعهود العرب في كلامها ومهْيعُها في مقاربته وتلقيه أراه يقوم على الضوابط الآتية:
أولًا: سلطة النص (ضبط العلاقة بين القارئ و فقه النص): والمراد بسلطة النص هي: قدرته على تحقيق معنى ما، يتمتع بقدر من الإلزام، ويقبل التثبيت؛ حتى ينضبط الفهم، ويصح الاستنباط، من خلال المعطيات التي يقدمها النص نفسه، ومن ثم فحدود سلطة القارئ مع النص، وخاصة النص الديني، تكمن في:الإصغاء إلى النص و اكتشاف دلالاته والتفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه، وقد قننت كتب الأصول، والتفسير، وشروح الحديث آليات القراءة التفسيرية والتأويلية، ومعاييرها من خلال الضوابط الكفيلة بالارتباط بالنص والفهم عنه، واستثمار معناه، والغوص في أعماق الدلالة دلالة النص، ودلالة معقول النص حتى صار النص في الفكر الإسلامي أحد الأحباس (أي الأوقاف) التي لا يجوز التصرف فيها بحال.
ثانيًا: معنى النص (ضبط العلاقة بين نهج الاستنباط ومسألة القصد): لا أبعد إذا قلت: إن فقه البلاغ اللغوي قائمٌ في الفكر الإسلامي، على البحث عن المعنى الذي يحمله النص؛ فالمفسر يطلب المعنى، والنحوي يوفر الأداة من أجل الإبانة عنه، والفقيه أو عالم الأصول يقنن طريقة الاستنباط منه، ومنهج الفقه فيه، والجميع يبحث عن الفهم الأوفى انطلاقًا من الظاهرة اللسانية، أو البلاغ اللغوي!! يقول الشاطبي: "فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب؛ لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطاب ابتداء، وكثيرًا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة؛ فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي" (الموافقات: [2/88- 89]). فينبغي العناية بمسألة القصد الذي يُؤمُّ، ومراد المتكلم وغايته من الكلام.
ومن أهم الأمور التي توقف على مقصد الكلام: القراءة الجامعة التي تضع الجزئيات في إطار الكليات، وتردف الفروع بأصولها، والقرائن ومقتضيات الأحوال المحيطة بالنص، واستبصار ما سيق الكلام له، وما تعلق به من معان، وما هدت القرائن إليه، أو ما منعت منه وصدت عنه، والوقوف على: عرف المتكلم وعادته في خطابه.
ثالثًا: مسالك استثمار النص (جدلية العلاقة بين المنطوق والمفهوم): فالمقصود الشرعي يؤخذ من منطوق النص كما يؤخذ من مفهومه إذ قد يكون المعنى مستنبطًا بطريق الفحوى، ولزوميات الكلام، وتداعي المعاني، وهذا معناه، كما يقول الأصوليون: أنه يجب استثمار كافة طاقات النص، انطلاقًا من اللفظ، وطرق دلالته على المعنى، عبارة، وإشارة، ودلالة، واقتضاء، ومفهومًا موافقة ومخالفة؛ ومعنى ذلك: أن المعاني المستفادة من النص، نوعان: معانٍ هُن بنات ألفاظ تؤخذ من الوضع الأصلي للألفاظ، ومعانٍ هُن بنات معانٍ!! تؤخذ من فحوى الكلام وبساط التخاطب ويجب عند قراءة النص مراعاة ذلك.
رابعًا: التأويل (توجيه النص وإشكالية تعدد المعاني بين حركة اللفظ ومنطق المعنى): قد يحتمل النص تأويلات مختلفة فتتعدد فيه دروب الفهم، وتتنوع فيه المعاني ولما كان التأويل المغرض انحرافًا بالمقروء، ووقوعًا في التيه والضلال فقد تنبه المفسرون القدامى، وعلماء الأصول، وشراح الحديث إلى التأويل حين يجور على المقاصد فكان لهم ضوابط موصولة في جانب منها بقواعد اللسان وفي جانب آخر بمنطق المعنى تقوم على:
- أن التأويل ينبغي أن يكون مُنقادًا يعضده مرجحٌ قوي من دليل صحيح؛ فإذا لم يكن ثمة دليل فلا يجوز صرف الكلام عن ظاهره، كما بفعل الباطنية، قديمًا وحديثًا.
- عدم الخروج عن سنن النص في لغته، وعُرف استعمله، وتحميله ما لا يحتمله، منطوقًا أو مفهومًا، فكل تأويل للنص مقبولٌ ما لم يخرج من اللسان، فإن خرج، فلا فهم، ولا علم.
- أن يأتي التأويل ضمن العناية بمراد المتكلم، ومقاصد خطابه، والاحتكام فيه إلى منطق المعنى فالتأويل في الفكر الإسلامي ليس فلسفة للفهم المفتوح، والتعري عن مأخذ الكلام كما في القراءة الحداثية للنصوص، بل هو جهد ذهني مقيد بمنطق النص الشرعي ذاته، وإرادته من النص، ويكون جهد المتأول التردد بين المعاني المتعددة؛ لمعرفة الحكم استنباطًا، وهو ما نبه عليه الإمام ابن تيميًّة رضي الله عنه في رده على الباطنية في تأويلاتهم بعض أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقال: "والتأويل المقبول هو ما دل على مراد المتكلم. والتأويلات التي يذكرونها (أي: الباطنية) لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار -في عامة النصوص- أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات: القرامطة والباطنية، من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص، وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله، من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد" (درء تعارض العقل والنقل: [1/201]).
وبعد، ففي ضوء خصائص النص الديني، قرآنًا وسنة، جاءت قراءة علمائنا رحمهم الله له من حيث هو دينُ الله، وشرعُه، وحلالُه وحرامُه، فكانت قراءة مضبوطة و واعية لا قراءة مفجِّرة للنص، مهدرة لسياقه ومقاصده،وقد نقل العلامة الونشريسي في ذلك، وصية جامعة لمن رام قراءة النص الديني وتأويله، تضبط النظر الفقهي الشرعي، فهمًا وتعقلًا، واستخراجًا واجتهادًا، وترجيحًا وتنقيحًا، وتنزيلًا وتفعيلًا، فقال: "ولا تفت بالنص، إلا أن تكون: عارفًا بوجوه التعليل، بصيرًا بمعرفة الأشباه والنظائر، حاذقًا في بعض أصول الفقه وفروعه. واحفظ الحديث تقو حجتك، والآثار يصلح رأيك، والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول، وشفع المنقول بالمعقول، والمعقول بالمنقول" (المعيار المعرب: [6/377]).
وهذا من الفقه الثمين جدًا، الذي ينبغي أن تُربى عليه نفس المسلم، فيتهيب تأويل النص الديني دون أن يملك الأدوات التي تؤهله لذلك، وبدونه يصبح النص الديني سوقًا مفتوحًا يدخله من شاء، ليستنبط منه ما يشاء؛ كما في القراءة الحداثية، ومن ثم كانت إعادة تقويم الخطاب الحداثي، في تعامله مع النص الديني -وهو ما يقوم على بيانه هذا البحث- عملًا مشروعًا، من الناحية الدينية، ومن الناحية المعرفية أيضُا؛ لأنه قد طال زمن الغربة والضلال والتيه، وقديمًا قالت العرب في كلامها: من رام التفلُّت، طال منه التلفُّت، ويوشك أن تُرهقه المتاهات، وتتلفه العوائق!! ولله الأمر من قبل ومن بعد.
محمد بن عبد الفتاح الخطيب
- التصنيف: